صاحبة القبو تشكو دوماً، تكرّر الكلمات نفسها كلما جاءت لقبض الأجرة في نهاية الشهر. لديها أربع شقق تؤجرها، في أربعة أحياء في دمشق. تفترض أن المستأجر مليء، تنبت على رأسه نقود بدل الشَّعر. حين سألتُها عن الدهان الذي يهرُّ من السقف، وعن رائحة رطوبة قديمة في الزوايا كما لو أن النوافذ لم تُفتح منذ عام، وعن الحنفيات التي تسرّب الماء، وعدم وجود لمبات في السوكات المتدلية من السقف، سدّت أذنيها، مدعية الطرش، ثم غيرت الموضوع وتحدثت عن ابنها، استجدتْني من أجل تأمين أي عمل له.
قلتُ لها إن بلاطات الأرضية مخلخلة، وثمة بقايا لفئران وصراصير ميتة فحلفت أنها شطفت القبو البارحة. شعرتُ أن الرائحة قديمة، متوارثة، كما لو أنها جزء من عملية الاستئجار، وقد كافحتها طويلاً بالمنظفات حتى طردتها. حين أسمعها تشكو يخطر لي أن أخرج من جيبي مبلغاً وأحشره في فمها كي تخرس. لم تكن تشبه النساء. حاولت أن أتبين في شكلها عرق أنوثة، ذكرى حسية. لا بد أنها كانت تفعل كل شيء مع زوجها في الظلام. أما ابنها فيخلو من الرجولة، لا أذكر إلا طريقة كلامه التسوّلية، وكان عليَّ أن أدفع إجرة القبو، وأعطيهم من ملابسي وأغراضي.
استأجرتُ القبو وفرشتهُ بأثاث اشتريته بالتقسيط، وبدأت التأقلم مع الحي بصعوبة. كان أول من تواصل معي صاحب بقالية، طرق الباب وقال: “جار، حان موعد الصلاة، هل ستذهب معنا؟” لم أفتح له الباب فرحل بعد أن قرعه بشكل ملح ومزعج. في اليوم نفسه، وبعد أن عدت من العمل وتناولت غدائي المؤلف من بيض مقلي، وقرص شنكليش مع الزيت، وقطعتي مكدوس وبعض حبات الزيتون المرصوص، نادتني صبية. أتى صوتها من الشرفة التي أترك بابها مفتوحاً من أجل تنقية الجو، وهي الفسحة الوحيدة غير المسقوفة لكن الجلوس فيها خطر، بسبب رمي القمامة من الطوابق العليا. كانت أكياس القمامة تتطاير في الحي في كل الاتجاهات، ولم يكن سكان الطوابق العليا يتعبون أنفسهم في النزول إلى الحاوية الوحيدة للحي، والتي تكدست فيها القمامة على ارتفاعات عالية، وتخيلت أحياناً القمامة تعلو وتبز البنايات، وأن أكياس القمامة جبال يعيش الناس في سفوحها. حين خرجت إلى الشرفة لمحتُ رأس فتاة فوق الحائط الفاصل. كانت قد وضعت كرسياً ووقفت عليه كي تتمكن من التحدث معي: “جار، هل عندك قهوة؟”. دخلت وأنا أنظر نحو الأعلى حذراً من سقوط كيس قمامة طائش، ملأت لها كأساً متوسط الحجم بالبن وأعطيته لها. نادت في اليوم التالي أيضاً:” جار، هل عندك رغيف خبز زيادة؟” بدأ الطلب يتكرر كل يوم. لم يلفت صوتها أو وجهها نظري. كان صوتها كغيره من الأصوات ووجهها كغيره من الوجوه، لكنني كنت أمنحها كل ما تطلبه من أشياء، هذه هي العادة المتبعة، غير أنه كان من الصعب أن أفهم إن كانت تريد شيئاً آخر. زوجها خياط، ووالد زوجها خياط، وكل أخوته خياطون. لديهم ورشة في الحي، ويعملون في المنزل أيضا، إذ إن أصوات آلات الخياطة لا تتوقف. والجميع يعيشون في القبو المجاور لقبوي. الأب والأم، الأخوة وزوجاتهم وأولادهم، واختلط الأمر عليَّ كثيراً إذ لم أستطع التمييز بينهم أحياناً. وفي الليل كنت أسمع أصواتاً مكتومة، ثم صوت شخير، ثم صوت تدفق مياه من الصنابير، وكانت المياه تنقطع كثيراً، ويضطر الجميع إلى الاستيقاظ في الليل كي يملأوا الآنية حين يُفرج عن الماء من سجون التقنين الأبدية، ومن أجل هذا اشتريت من البقالية المجاورة بيدونين من البلاستيك، واحداً للاستحمام والآخر للشرب والطبخ والشاي والقهوة . وحين تنقطع الكهرباء أشعل شمعة وأجلس أحياناً صامتاً لفترة طويلة.
كان الحي الذي أسكن فيه بعيداً عن مركز المدينة، سِحْنتهُ رملية صحراوية، والتلال المحيطة به جرداء، يمنحك الغبار، و يشعرك بالانفصال، ورغم أن الطريق يمرّ في مساحة من الخضرة حيث تكثر المطاعم والمتنزهون إلا أن انقطاع الماء والكهرباء اليومي يشعرك بأنك من سكان الصحارى. نعم الصحارى، هذا إذا تخيّلنا الكتل الاسمنتية خياماً، وكل مجموعة من الخيام قبيلة، وفي وسط أرض كل قبيلة بئر ماء. وكان يجب أن أذهب إلى إحدى الكتل كي أملأ البيدونين كل يوم. “بالدور يا جماعة”. “هنا دور النسوان”. “النسوان أول شي”. يأتي دوري، يتدفق الماء،الأعين تراقب الصنبور، ألمح قشاً في المياه المتدفقة، أوساخاً سوداء، ربما يجب أن أغلي الماء لكنني غالباً ما أنسى ذلك. النساء بلا رؤوس وأعني أن شعرهن مغطى، لا أعرف كيف يحدّقْنَ بالصنبور، وأي انعكاس لمنظر الماء وصوته على وجوههن. أضع البيدون الثاني تحت الصنبور، الذي يخف ماؤه قليلاً ثم يتدفق بقوة أكبر. أحمل البيدونين وأعود، أتخيل نفسي من سكان الزمن القديم، لكن في الزمن القديم كان هناك ضفة نهر أو بحيرة، مساحة رحبة للمياه، وليس ماسورة معدنية مستقيمة تُخرج الماء كما لو أنها تطلق عليك النار وأنت في صف، محكوم عليك بالإعدام ظمأ.
في أحد الأيام بعد أن فتحتُ الباب ودخلتُ وضعت البيدونين في المطبخ الضيق. وما أن ملأت الركوة كي أغلي القهوة حتى سمعت صوتاً من فوق الحائط لكن النبرة مختلفة هذه المرة. شيء ما في الصوت شدني. كان صوت فتاة تطلب مني بعض القهوة، غير تلك الفتاة التي طلبت أول مرة. ثمة عذوبة هائلة في صوتها، لم يسبق أن سحرني صوت بهذه الطريقة، فيه بحة غريبة، إيقاعات قادمة من أعماق النشيد، من كثافة جمال الصوت الأنثوي، كما لو أن العذوبة تنتقل عبر الدم إلى الصوت. ملأتُ لها كأساً بالبن وناولته لها. “يسلمو جار”. كان لكلماتها وقع خارق للمألوف جمّل المكان حولي وشحنه بالألفة، خفَّ اغترابي داخل البيت وقويتْ علاقتي به. بعد ساعتين جاء شخص آخر، ربما زوجها أو أخوها، من الصعب معرفة الأمر، وطلب مني بعض السجائر وقال إنه مقطوع. كنت وقتها أدخن الحمراء لأسباب اقتصادية. كنت على وشك أن أقول له: سأعطيك السجائر لكن شرط أن ترسل صاحبة الصوت الجميل كي تطلبها، لكنني تمالكت نفسي. طال غيابها. صرت أسترق السمع علّني أسمع صوتها في الليل، علّ نثرة إيقاعٍ من صوتها تصل إليَّ. أين صوتك؟ كنت أهذي في الليل. خذوني إلى حيث أسمع صوتها.
في أحد الصباحات، سمعت الصوت يناديني: “جار!” الجيم والألف والراء خرجوا من حنجرتها كدواء أنعش وجودي بعد أن كان ميؤوساً منه. أسرعت إلى الشرفة حيث الحائط الملاصق لشرفتهم. نظرت إلى الأعلى. كان في العينين سطوة سحر، دعوة عالم من الدهشة والإغواء. أمعنتْ النظر في وجهي والتفتت إلى الخلف كما لو أنها تتأكد أن لا أحد يراها. “جار، هل يمكن أن أستعير بعض البن؟” تخيلتها تشرب القهوة معي وتبصّر لي، تقرأ مستقبلي في خريطة البن داخل الفنجان. لم يكن قد مضى على سكني في هذا القبو شهران. اعتادوا عليَّ بسرعة. وكرمى لصوتها صرت حريصاً على أن تكون الأشياء متوفرة دائماً. يجب أن يكون كيس البن ممتلئاً على الدوام، والثلج جاهزاً في الثلاجة حين لا تكون الكهرباء مقطوعة. كنت وقتها أتلقى راتباً تافهاً من عملي في محطة إذاعية، أعمل على تصحيح الأخطاء والتخلص من الركاكة وعلى صياغة الأخبار، لكنني لم أشعر أنني أنتمي إلى المكان أبداً. كان كريهاً وكنت دوماً أشعر بضيق نَفَس فيه. وكان قلمي مغمّساً بحبر الكذب ويداي مصبوغتين به. أكاذيب لم أشغل نفسي بتفكيكها كثيراً. كنت بحاجة إلى الراتب التافه الذي بالكاد كان كافياً للدفع لصاحبة القبو التي لا تتوقف عن الشكوى. كنت أعتبر زيارتها في نهاية الشهر كابوساً، لم أكن أطيق كلماتها، ولا طريقة ابنها في التحدث. حين يدخل يعرض خدماته: أستطيع أن أشطف، أن أجلي، أن أغسل وأكوي. جميع أنواع الخدمات، مقابل مبلغ تافه. كانوا يعبدون النقود، ومنفرين، مثل الجمل التي كنت أحاول صياغتها مرغماً كي تتقبلها الآذان المفترضة، الآذان التي تفضل محطات إذاعية أُخرى، أو أَخْرى.
ناولتها القهوة، امتدت أصابعها! يا إلهي! لقد خطفني البياض والرشاقة واللون القرمزي على الأظافر، أي وجود مكتمل مكتنز بالحياة هنا! أية رقّة مكثّفة لا تُضاهى! أية نعومة في ظلمات القبو قربي وأنا أعيش وحيداً، فيما وراء الجدار حديقة أنوثة تتفتح أزهارها وتنصب فخاخ عطرها في طريقي!. حين أمسكتْ بالكأس المليء بالبن والتفّت أصابعها عليه تخيلت ما الذي سيحدث لي لو أن هذه الأصابع مرت على بشرتي، لا شك أنني سأعيش الفردوس بكل نعيمه في لحظات مقطرة تنعش وتحيي في ظل واقع صعب لا يُحتمل. “شكراً جار! عمبنغلّبك معانا”، قالت هذه الكلمات وابتسمت، لا بد أنها شعرت بأنني أتلقى رسائل منها، لكنها بدت حذرة وخائفة ومتحفظة وكنت أشطح في تخيلي. كانت تلفّ شعرها بإشارب. منحني هذا وقتاً جميلاً كي أتخيل لون شعرها، أهو أشقر أم أسود؟ هل يصل إلى أسفل ظهرها؟ هل هو سابل أم مجعد؟ هل هو طويل أم قصير؟ أسئلة لا تنتهي تلهب مخيلتي في الليل، وفي الصباح يقودني الشوق إلى سماع كلمة:”جار!” أجمل كلمة في القاموس الدمشقي! أجمل جيرة في المدن التي تتحدث لغات غامضة غير قابلة للفهم إلا في لحظات إشراق معينة.
في أحد الأيام بقيت صامتاً طيلة الوقت في مكتبي في الإذاعة التي كنت أعمل فيها، مما لفت نظر أحد الموظفين، فبدأ يتهامس مع ضيف لديه من دائرة أخرى. الضيف كان ينظر من البداية إليَّ ويركز على شعري ثم ما لبث أن تحدث:
– أستاذ، أريد أن أسألك سؤالاً لو سمحت.
– تفضّل.
– ما المادة التي تستخدمها لشعرك كي يبقى طويلاً ومنتعشاً هكذا؟
نظرت إليه وضحكت، تخيّلت ماء الصنبور المتّسخ يتدفق على رأسي كي يزيل رغوة لوح صابون الزيت. لم أكن أستخدم الشامبو وقتها. ولم يخطر في بالي أبداً أن يُطرح عليَّ سؤال كهذا، وكان يبدو متجهاً نحو الصلع. ركزت على عملي، ثم غادرت وأنا أطلق ضحكة رنانة. تخيلت وقوفي أمام صنبور الماء في الصيف وصنبور المازوت في الشتاء والأوقات التي تبددت بينهما، كما لو أن أعمارنا تسيل من صنابير الزمن وتُسفَح على الطرقات ويُداس عليها في العبور، كما لو أننا أشباح، أو نسائم عابرة مثقلة بروائح التلوث غير قادرة على أن تبث رسائل بهجة وانتعاش.
عدتُ إلى البيت في السرفيس. كان انتظاره كارثة من نوع آخر، تشعر كما لو أنك حيوان يُحمّل كيفما اتفق، أو ربما صندوق أشياء تالفة أو كيس قمامة. يتدافع الجميع كقطيع، يدوسون على بعضهم ويدخلون حاشرين أنفسهم وعليك أن تكون جزءاً من هذا، ومن أنت كي لا تكون جزءاً من هذا؟ نجحت في دخول ميكرو وهو يسير، أي لم يصفّ بشكل طبيعي ليستقبل الركاب. أحتاج إلى الوصول بسرعة فقد اتخذتُ قراراً، يجب أن أتحدث معها، بعد أن تتفوه بكلمة جار، الكلمة التي تلهبني بإيقاعاتها الخارجة من فم ساحر، من بين شفتين تختزنان تاريخ الوردة الجورية. بعد أن وصلت لم يحدث شيء. لم تأت. لم يطلب أحد منهم شيئاً. خيم الليل، نمتُ واستيقظت. أمضيتُ اليوم التالي كله، وكان يوم جمعة، أي يوم عطلة، منتظراً أن أسمع صوتها يناديني، لكنني لم أسمع، كنت أسمع أصوات تحريك أثاث، أصوات مكانس تعمل على الأرض، فتخيلت أنهم ربما يشطفون المنزل، وربما سيحتاجون إلى بعض الماء أو سائل الجلي، أو أي من سوائل التنظيف، أو قد يقومون باستراحة وتناديني كي تطلب بعض البن كي تعد لهم القهوة، لكنها لم تأت. خيم الليل من جديد، وفي الحلم جاءني صوتها في حديقة من الورود، على درب محاط من جانبيه بالوردة الدمشقية، تجسّد صوتُها في شكلها وحين مددت يدي نحوها اختفت من جديد وبقيت كلمة جار تتردد في الهواء، كما لو أنها تخرج من بين تويجات الورود. وفجأة تصحّر كل شيء، صار الحي الذي أسكن فيه خياماً واتسعت الصحراء، جفت المياه في الصنبور، ووجدت نفسي في خيمتي وحيداً دون حائط يفصل بيني وبينها، أو بيني وبين صوتها. استيقظت فجأة على صوت سيارة مندفعة، كان الفجر قد قارب الطلوع. فتحت كتاباً لكنني لم أستطع التركيز. وضعت شريطاً في المسجلة لكنني انتبهت إلى أن الكهرباء مقطوعة. بحثت عن بطاريات فتبين أنها مستنفذة. اللعنة! ما من مشكلة، الصباح يقترب، وستأتي الجملة الساحرة: “جار! هل لديك قهوة؟”
قرع الباب في الثامنة صباحاً، هل هي يا ترى؟
فتحتُ الباب فإذا بصاحبة البيت ووراءها ابنها، دخلا دون أن أطلب منهما ذلك.
– خير!
– خير إن شاء الله!
– نريد شخصاً مثلك، أكابر!
– ولماذا؟
– كي نؤجره القبو الثاني!
– أي قبو ثان؟
– هذا المجاور لك؟
– لكنه مسكون
– لا لقد تركوا.
أسرعتُ إلى الشرفة مذهولاً. نظرتُ إلى الحائط فرأيت فوقه وردة جورية تويجاتها مدارة نحوي. حملت الوردة ودخلت. خرجتُ من الباب الرئيسي، صعدتُ الدرج إلى الشارع، كانت الشاحنة قد بدأت بالانطلاق، وكانت هي هناك مع النساء الأخريات جالسة بين الأثاث، وفي اللحظة التي انتبهتْ فيها إلى وجودي انعطفت الشاحنة إلى اليمين وغابت عن البصر. عدتُ وأنا أصارع حزني وأروّضه، كما لو أنني قبر من الأحزان المدفونة. كانت الوردة في يدي، كانت تويجاتها تتفتّت في يدي.