[تنشر هذه المادة ضمن ملف خاص حول التناول السردي للحرب والعنف في سوريا. للإطلاع على جميع مواد الملف اضغط/ي هنا]

الروائي السوري نبيل الملحم

قد يكون منظرو الرواية هم أسوأ الروائيين، تمامًا كما تكتب الرواية التاريخية على أيدي أسوأ المؤرخين.. فالرواية بالنتيجة ليست “الحدث”، وليست “القضية”، الرواية هي من يروي.. كيف يروي؟
وعندما تتحول القضايا الكبرى إلى عكّاز لقدم الروائي، فلن يلغي هذا كون الروائي “أعرج”.

الهزّات.. الحوادث الكبرى ليست أكثر من استفزاز لذاكرة روائية.. أو لصياغة ذاكرة جديدة تأخذ مساحتها في الرواية ففي المحصلة الرواية هي “ذاكرة”، والأهم هو كيف تتذكر؟

تتذكر بشر بما يحمل البشري من تنوع يتأرجح ما بين الفضيلة والرذيلة، الحب والكراهية، الإعصار والرماد، وهذا بالتحديد يتصل بمن يتذكر، وكيف يصيغ هذه الذاكرة، وكيف يحييها أو يميتها، فالحرب، العنف، السطوة، الاستبداد، هاجس العدالة، كلها لاتكفي أن تكون الصلصال الذي يمنح منحوتة روحها.. بالنتيجة يد النحّات هي التي تُقرر.

كل ماسبق كلام عام، كلام في الموقف من الرواية كفعل إنتاج حياة على الورق، غير أنه حين يتصل الأمر بفعل محدّد هو الحرب السورية، بما مهّد لها وآلت إليه، فمن الصعب العثور على رواية هي رواية أولًا والحرب مادتها ثانيًا، وهذه إشكالية وقعت فيها القصيدة كما وقعت فيها الرواية، وربما يكون السبب هو استجابة الروائي لمتطلبات الرأي العام لا احتياجات الرواية بما جعل الرأي العام مادة خام، والقارئ زبونًا، وبوسعي أن أحكي عن أعمال روائية محدّدة وعن روائيين محددين خارج استطلاع رأي، وإذا كان كلامي صحيحًا (كليًّا أو جزئيًا)، فلهذا معنى واحد هي أننا أمام رواية عرجاء، عكازها “قضية بساقين مكتملتين”.

هذا عن رواية الحرب، أما عن رواية الاستبداد، فالاستبداد لم ينبت اليوم، والرواية لم تستنبته، الاستبداد متراكم عمره أعتق من عمر جيلنا والأجيال اللاحقة، ولا أظن أن “كريزا الحريّة” تكفي لانتاج رواية.. الرواية تطلقها تلك الحريّة الداخلية المُعاشة، المتراكمة فينا، تنتجها الشجاعة الأصيلة في الكاتب، والذي يكتب روايته حتى ولو كان بين فكي الغول.. ونحن اللحظة، في مساحة الكلام السهل، غير المكلف، الكلام الذي لايحمل مجازفة الحياة ولا مغامرة الكتابة، وهذا سيقلّل كثيرًا من قيمة منتجنا، وحين تسألني إذا ماكان الروائي مؤرخًا للّحظة فأقول لك:”ليس من رواية تؤرخ، فللمؤرخ مقعد المؤرخ، وللروائي مقعده، وحين يأخذ الروائي مقعد المؤرخ فهو مقعد إما فضفاضًا وإما ضيّقًا وفي الحالين مسخ.. في توثيق الحادثة التاريخية ليس ثمة علامة صحيح 95 بالمئة، أو واحد بالمئة، ثمة 100 بالمئة أو صفر، فالحادث التاريخي إما أنه وقع أو لم يقع، ولا مكان لنصف أو ربع وقع، أما في الخيال الروائي فإما أنه خيال خلاّق وإما أن يكون خيال شاحب، والفوارق شاسعة ما بين المورخ والروائي، وبين متطلبات الأول ومتطلبات الثاني، وأدوات الأول وأدوات الثاني، وتبادل المقاعد يخسر التاريخ ولا يربح الرواية، ويحصل الآن هذا التبادل، يحصل بشدّة استجابة لروح الدعاية، ولمتطلبات الرأي العام، بل لمتطلبات الراعي السياسي للرواية من قوى سياسية وصحف ومواقع ترويج، بما جعل الرواية بضاعة مؤقتة تستجيب للسوق، ولا أظن أن الفعل الروائي الذي هو فعل مخاض، سيكون وفيًّا لمخاضاته إن كان السوق مُرضعته.

ثمة سؤال في ملفكم هو: “هل تكون الكتابةُ في الحيزِ الضيقِ، حيزِ المواجهةْ، طوق نجاة في مواجهة هذا الخراب العميم؟ وما أهميةُ الكتابةِ في اللحظةِ الراهنةْ؟” أجيبكم أن الكتابة ليست طوق نجاة، غير أن مطرقة الحجّار تهوي بعشرات الضربات لتكسر الصخرة الصلبة، والرواية الخلاّقة – المطرقة، هي واحدة من هذه الضربات وقيمتها بقيمة شدّتها، ويد حاملها، وزاوية الصخرة التي يكيل ضرباته عليها، فهي فعل حياة، وفعل إنتاج حياة إذا كانت هي حياة، وما قيمتها في اللحظة الراهنة؟ هو السؤال الأكثر خطورة، فاللحظة الراهنة ليست رافعة لقيم الكتابة الموجوعة، القيم التي تؤصل لما بعد اللحظة.. هي قيم الكتابة السريعة.. قيم تويتر.. فيس بوك.. الانطباعات، أكثر مما تؤصل لقيم الاستغراق في تفكيك الأسئلة التي تطال عمق وجودنا فوق هذا الكوكب.. في هذه البقعة منه.. في طوفانه.. الكتابة حزينة، والوقت ليس لحسابها.. الوقت لحساب مسخ الكتابة، لحساب سوقها.. هاجس اليوم بات السوق.. مع ملاحظة أن كل ماقلته في كلامي هذا هو في الاطار العام لما يحدث للكتابة، غير أن في اللوحة مايكسر كلامي هذا ويقول: “لا.. ثمة كتابة أخرى.. في مكان آخر.. ليست كتابة بسطات وسوق”.

*************

نبيل الملحم في سطور:

صحافي وروائي سوري من مواليد السويداء عام 1953. درس الحقوق في جامعة دمشق والصحافة في جامعة القاهرة، ويقيم حاليًا في برلين/ ألمانيا.

يكتب في العديد من الصحف والمجلات العربية، ويدير حاليًا مركز “البوصلة للدراسات والبحوث” وقد صدر عن المركز حتى هذا اليوم (27) كتابًا، آخرها: روسيا – إيران – تركيا.. شرّ البليّة مابين التكتيك والاستراتيجية”، تقديم نبيل الملحم.

أعد وقدّم عدد من البرامج التلفزيونية منها: “ظلال شخصية” عام 1996، و”الملف” عامي 1999 – 2000.

كتب مسلسلين تلفزيونيين “ليل السرار” عام 2003، و”أرواح منسية” عام 2012.

له مجموعة من الكتب المطبوعة منها: “بوليساريو – الطريق إلى الغرب العربي”، “مسرحية أنا وهو والكلب”، “سبعة أيام مع آبو”.

يصفه النقاد بـ”صحافي مشاغب وروائي مشاكس”، وفي زمن الثورة السورية المُختطفة يقول “الملحم”: “ثورتي في نصي.. فيما أكتب”. هو السارد الذي تتناسل في نصوصه الروائية الخمسة التي صدرت مابين 2011 و2013، فجيعة الشخوص على مسرح التاريخ “فالغرقى أكثر من إمكانية إحصائهم”. ولقد وجد صاحب “آخر أيام الرقص”، الذي دخل عالم الرواية وهو في الـ57 من عمره، ويعكف حاليًا على كتابة روايته السابعة “الله حين يحكي”، وجد في الكتابة احتيالًا على الموت، وفي حياة الآخرين مخزونًا لترميم ذاكرة مهددة بالنسيان.. ذاكرة مأمولة تختزن جزءًا من تاريخ عاصف بالتحولات والخيانات، وجزءًا من حيوات بشر بعضهم مضى إلى حتفه، وبعضهم خان طريقه، وبعضهم التحفه النسيان. فكان أن كتب خلال السنوات الخمس الماضية ست روايات، آخرها “خمّارة جبرا”، والتي تصدر قريبًا، وفيها يحفر الروائي عميقًا في ذاكرة دمشق/ المكان، بتحوّلاته الاجتماعية والسياسية، منذ بدايات الاستقلال إلى لحظة هتاف السوريّين للحرية. حيث يقف الشخصية الأساسية في الرواية (جاد الحق جاد الله)، أمام شاشة التلفزيون، التي تنقل أخبار القتل في سورية، ليهتف: الشعب يريد إسقاط النظام؛ فيسقط هو وتتحطّم عظامه التي لن تُجبَر أبدًا. لحظة السقوط هذه لحظة تلخيصية لكل ما مضى من عمر (جاد الحق)، ولكل ما سيأتي، وكأن الراوي يريد بحسمٍ مطلق أن يقول: “إن عظام جاد الحق هي عظام سورية الهشّة، التي لم تحتمل الوقوف والهتاف للحرية، نتيجة عقود النخر في بنية البلاد”. فبقدر ما تتقاطع براءة (جاد الحق)، مع براءة استقلال سورية، يتقاطع تشوّهه المستمر مع تشوّه سورية الإنسان والبلد.

وبقدر ما تبدو السياسة حاضرةً في الرواية، بقدر ما تبدو هامشية، فـ “خمّارة جبرا” أبعد ما تكون عن الرواية السياسية، إنما السياسة فيها مجرّد خلفية للمواقف الفلسفية والقراءة الوجودية، لقيم الحب والذاكرة، والنسيان والموت.

أما “بانسيون مريم” ثالث رواياته، فيأخذنا نبيل الملحم من تداعيات اللحظة السياسية التي يمكن التعبير عنها ببيان سياسي لطبقة أو حزب أو نخبة.. إلى عالم آخر.. إلى تحرير الروح الإنسانية.. تحرير الجنس فيها، وتحرير الأمل كما تحرير الجسد الذي يحلو له أن يرقص بعد ان أُصيب بشيخوخة طالت ثم احتجّت على نفسها.. إنها باختصلر شديد، رواية يمكن قراءتها بعين الغد لا بعيون الأمس المطفأة.

أعماله الروائية:
– “موت رحيم”، دار أطلس للنشر، بيروت 2013.
– “حانوت قمر”، دار أطلس للنشر، بيروت 2013.
– “سرير بقلاوة”، دار أطلس للنشر، بيروت 2012.
– “بانسيون مريم”، دار أطلس للنشر، بيروت 2012.
– “آخر أيام الرقص”، دار الجمل، كولن/ بيروت 2011.
– “خمّارة جبرا”، قيد الطبع.

[تُنشر هذه المقالة ضمن اتفاقية شراكة مع جدلية]
[.This article is published jointly in partnership with Jadaliyya]