تدريباتنا

كلفة النزيف السوري

بواسطة | فبراير 5, 2018

في كل مرة يتم الحديث فيها عن كلفة الحرب في سوريا، تظهر أرقام مخيفة حول حجم خسائر سوريا نتيجة الحرب. لذا فإن الحديث عن تكلفة أي حرب لا يمكن أن يكون مجرد عملية حسابية، إذن ان الحرب لا تقتصر على حساب كلفة دمار البنى التحتية والقطاعات الانتاجية والاقتصادية،  إنما تشمل تكاليف الحرب الخسائر البشرية والمجتمعية.

رغم وجود عدد من الاحصاءات والدراسات التي تقدر كلفة الحرب في سوريا، فان إيجاد مؤشر قياسي لتحديد الكلفة بشكل دقيق يكاد يكون شبه مستحيل نتيجة استمرار الحرب والصراع، الأمر الذي أثر بشكل مباشر على حياة الناس ومعيشتهم. مع ذلك فإن فهم جوهر كلفة أي حرب وحجمها أمر ضروري للغاية لتحديد الاحتياجات الأولوية، ولإعداد خريطة لإعادة الإعمار التي يمكن البدء فيها عند ظهور أول مبادرة للاستقرار والسلام.

قد يكون حساب كلفة الحرب أمر بغاية التعقيد إذا ما اقتصر الأمر على طرح رقم كلي لمجموع أضرار الحرب، لكن يجب أن لا ننسى عند الحديث عن الكلفة بأن تكون النظرة شاملة وعامة تشمل أضرار الممتلكات والقيمة الاقتصادية المفقودة للقتلى أو المعوقين في الحرب، وتكاليف الاضطرابات الاقتصادية في زمن الحرب. وعلى عكس ذلك، فإن التكاليف “السلبية”  أي المكاسب الاقتصادية الناجمة عن الحرب – هي عوامل ينبغي أخذها في الاعتبار عند تحديد تكاليف الحرب،  ولا نغفل أن جزء من التكاليف سينقل إلى الأجيال المقبلة على  شكل رسوم فائدة على ديون الحرب، وعادة ما تستمر هذه الرسوم لفترة طويلة بعد أن تفقد الديون هويتها في مجموع الدين الوطني، في فئة مماثلة هي تكاليف المعاشات التقاعدية والمكافآت للمحاربين القدامى والرعاية الطبية للمتضررين من الحرب.

كما أن فاتورة أي حرب لا تقتصر على تكلفة الدبابات والطائرات وغيرها من الأسلحة المشاركة في الحرب بل يوجد أيضاً تكاليف يصعب تقديرها مثل العلاج الطبي والنفسي لتأهيل الجنود والمدنيين الذين أصيبوا خلال الحرب، إلى جانب الخسائر غير المباشرة الناتجة عن توقف عجلة الصناعة والتجارة والزراعة؛ وضياع سنوات من التعليم وفقدان عدد كبير من القوى العاملة التي كانت تشكل يوماً من الأيام أساساً اقتصادياً هاماً لنمو سوريا، نتيجة وجود نسبة كبيرة من فئة جيل الشباب ضمن الهرم السكاني لسوريا.

استناداُ إلى ما جاء قي في آخر تقرير صادر عن البنك الدولي قدر فيه حجم الخسائر في سورية بنحو 226 مليار دولار أميركي، شملت تلك الخسائر التي ذكرها التقرير إلى حد كبير تفاصيل عدد القتلى وحجم الدمار وتقدير كلفة الأضرار البشرية والمادية ، وما ذكره التقرير من أرقام طالت جميع القطاعات البشرية والاقتصادية يكاد يشكل رقماً مرعباً للأجيال القادمة التي ستتحمل جزء من تسديد فاتورة هذه الحرب.

من جانب آخر، تغفل بعض التقارير والاحصاءات الاقتصادية المتعلقة بحساب كلفة الحرب ، حساب خسائر الرأسمال البشري والمادي الذي تم تهجيره، حيث شهدت سوريا خلال السنوات الأخيرة هجرة كبيرة لرؤوس الأموال البشرية والمادية، على صعيد فئة الشباب خسرت سوريا نسبة كبيرة من القوى العاملة الفتية، منهم من قتل ومنهم من هجر لنجد أن غالبية القطاعات والمؤسسات العاملة تعاني من نقص لليد العاملة وللعقول الشابة. اذ خسر المجتمع  والاقتصاد السوري كوادر عديدة، أنفق عليها مبالغ كبيرة لإعدادها وتأهيلها، يضاف إليها خسارة دورها في إعادة الإعمار مستقبلا.

ولأن لكل خسارة أثرها على المجتمع نجد أن  الخسائر البشرية ترتب عليها مشكلات اجتماعية، تتعلق بوجود توازن بين عدد الذكور والإناث في المجتمع السوري، ما سيترتب عليه فقدان عدد من الإناث لفرصة الزواج، ما سيساهم بانخفاض عدد الولادات.

 من جانب آخر  دفع الأطفال ثمنا باهظا لهذا النزاع، حيث قتل مابين ٢٠ ألف طفل، جراء الأسلحة المتفجرة، أما الناجون من الأطفال فقد خسر أكثر من مليوني طفل فرصة التعليم نتيجة عدم ذهابهم إلى المدرسة، إضافة لوجود ٥.٧ مليون طفل بحاجة إلى المساعدة التعليمية. بالطبع لا تقتصر حاجة الأطفال للتعليم فقط بل هم بحاجة إلى رعاية نفسية للتعافي من سنوات إراقة الدماء التى شاهدوها. كما يحتاج الوالدان إلى الدعم المادي والمعنوي أيضا، فعندما يغرق الوالدان أكثر فأكثر في الفقر، تزداد المخاطر بالنسبة للأطفال ويضطرون للعمل ، تباع البنات في الزواج، ويحتاج الأهل إلى الاعتماد على عمل الأطفال، وهذه كارثة مستقبلية بالنسبة للجيل القادم.

في حرب مثل الحرب السورية،  لايمكن أن نتجاهل حساب كلفة تحطيم منظومة القيم العامة، التي يتطلب إعادة تكوينها الكثير من الجهد والوقت لاسيما وأن مفرزات الحرب خلقت طبقة من الناس يستسهلون العنف، والسرقة والخطف والغش والقتل. لعل كلفة هذه القيم ستخلق مظاهر مجتمعية غير طبيعية تحمل مورثاتها للاجيال القادمة لتكون بمثابة القنبلة الموقوتة المعدة للانفجار في أي وقت مستقبلاً.

كذلك واجهت سوريا أزمة انعكست على اقتصادها تمثل بهجرة مادية خارج سوريا، فقد تم نقل الكثير من المصانع والرساميل إلى الخارج، وهي بحسب أقل التقديرات لا تقل عن نحو ٥٠ مليار دولار. وهذه الهجرة مازالت تشكل تحدياً للأطراف المتنازعة في كيفية جذبها وإعادتها للداخل السوري بعد انتهاء الحرب، خاصة وأن عدم وجود استقرار واضح في سوريا سيؤخر من عملية إعادة الإعمار مستقبلاُ.

أما بالنسبة الى الأرقام المتعلقة بالخسائر البشرية، فان عدد القتلى من مختلف الأطراف لا يقل عن ٧٠٠ ألف قتيل، عدا عن عدد الجرحى المعاقين نتيجة الصراع لذين لا يقل عددهم عن نحو ١.٢ مليون شخص. هنا لابد أن نحتسب تعويضات شركات التأمين على حالات الوفاة في الحوادث، فقد كانت قيمة تعويض شركات التأمين قبل الأزمة تعادل ٧٥٠ ألف ليرة ماقيمته  ١٥ ألف دولار، بينما تبلغ قيمة التعويضات حالياً ١.٢٥ مليون ليرة أي ما يقارب ٢٥٠٠ دولار، إن وجود مثل هذه الفجوة بين قيمة التعويضات سابقا وحالياً سيطرح إشكالية حول القيمة الفعلية التي ستدفعها شركات التأمين للتعويض على حالات الوفاة، والتي يتوجب أن تبقى قيمتها تعادل ١٥ ألف دولار.

من الناحية العسكرية، نجد أن خسائر سوريا كانت فادحة في صفوف الجيش من قتلى ومصابين وجرحى ومفقودين، عدا عن عدد الانشقاقات بصفوف الجيش، وبالتالي فإن كلفة تعويض الجرحى والمصابين من الجيش مكلفة بشكل كبير وطويلة الأمد وهي أضعاف كلفة القتلى، وبالتالي ستجد سوريا صعوبةً في إعادة بناء جيشها مستقبلاً خاصة بعد الاستنزاف الذي تعرض له طوال سنوات الحرب. إلى جانب ذلك نجد أن ما تم بناءه خلال العقود السابقة من معدات عسكرية أسلحة وطائرات ومدرعات قتالية، كانت أسعارها بالسابق غير مكلفة فان الحرب ادت الى خسائر إضافية لا يمكن إنكارها حين إعداد فاتورة الحرب، فقد خسرت سوريا آلاف المدرعات ومئات الطائرات، ان اعادة بناء تلك المعدات مستقبلا سيكون مكلفا خاصة وان الاسعار لم تعد منخفضة.

بالحد الأدنى لو فرضنا أن سوريا بحاجة الى ١٠٠٠ مدرعة ودبابة لإعادة تشكيل  ثلاث فرق عسكرية مستقبلا، ووفق الأسعار الحالية نجد أن قيمة المدرعة تعادل ٥ مليون دولار وبحسبة بسيطة نجد أن سوريا بحاجة إلى ١٠٠٠ مدرعة مايعادل قيمتها ٥ مليار دولار. أما سلاح الجو لو فرضنا أن سوريا بحاجة لـ ١٠٠ طائرة حديثة فإن كلفة كل طائرة تعادل مابين ٢٠ إلى ٢٥ مليون دولار كأقل تقدير، وبالتالي فإن كلفة ١٠٠ طائرة تساوي ٢٠٠ مليار دولار، مع العلم أن الطائرات السورية هي من الجيل الثالث، يضاف لذلك ماخسرته سوريا من طيارين تكلفت بتدريبهم.

عطفا على كل ماسبق مهما حاولنا تفصيل كلفة الحرب، لكن لا يمكن أن ننكر حقيقة صعوبة اختصار كلفة النزيف السوري بأرقام  خاصة وأنه من المجحف عد وحصر  دماء السوريين  بمبلغ مادي أو برقم.

حين يخسر السوريون أمنهم ووطنهم، يصبح الحديث عن أي كلفة سواء كانت عسكرية أو اقتصادية لا قيمة لها  في حسابات السوريين الذين ضحوا بدمائهم ثمناً  لحياة حرة وكريمة.

مواضيع ذات صلة

من الثورة إلى النهضة: إضاءة على فكر طيب تيزيني

من الثورة إلى النهضة: إضاءة على فكر طيب تيزيني

طيب تيزيني اسم أكبر وأهم من أن نُعرِّفه عبر سطور أو صفحات قليلة؛ لأنه جسَّد أفكاره تجسيداً عملياً، فكانت مؤلفاته تفيض من تفاصيل حياته ومواقفه الإنسانية والسياسية، وكانت حياته ومواقفه وبحق تعبيراً صادقاً عن أفكاره وفلسته، فكان فيلسوفاً بل حكيماً بكل ما تعنيه هذه...

 محمد مُحسن: صانع النجوم ومبدع الألحان الخالدة

 محمد مُحسن: صانع النجوم ومبدع الألحان الخالدة

 خلال مسيرته الفنية الحافلة بالعطاء، والتي استمرت لأكثر من نصف قرن، أبدَعَ مدرسة لحنية وغنائية متفردة وغنية ومتكاملة، تركت بصمتها المؤثرة في تاريخ الموسيقى العربية، وقد ساعدته موهبته في الغناء في فهم طبيعة الأصوات التي لَحَّن لها، فكان يُفصِّل اللحن على مساحة...

جُرح في الزوبعة

جُرح في الزوبعة

كانت حياة أنطون سعادة القصيرة (1904-1949 م) أشبه بدورة الإله بعل في الميثولوجيا الكنعانيّة القديمة، فبعل الذي يموت ويولد على نحوٍ أبديٍّ، وفقاً لـ"ألواح أوغاريت"، يرمز إلى "بلاد كنعان" أو "فينيقيا" تبعاً لتسميتها اليونانيّة القديمة، هذه البلاد التي مهما حاقَ بها من...

مواضيع أخرى

مثل الماء لا يُمكن كسرها

مثل الماء لا يُمكن كسرها

لم أستطع أن أخفي دهشتي حين قرأت المجموعة الشعرية "مثل الماء لا يُمكن كسرها" للشاعرة السورية فرات إسبر، فالنص مدهش وغني بالتجربة الإنسانية للمرأة في علاقتها بذاتها وبالعالم حولها، ويعبر عن صوت المرأة الحرة الشجاعة والمبدعة، صوت الأم والعانس والأرملة والعاشقة. أعتقد أن...

سوريا: كسوة العيد للأطفال محكومة بالأزمة الاقتصادية الحادة

سوريا: كسوة العيد للأطفال محكومة بالأزمة الاقتصادية الحادة

حرصت عائلات سورية -في أعوام خلت- على شراء الملابس الجديدة قبيل عيد الفطر، وبخاصة للأطفال كي يشعروا بالبهجة والسرور، غير أن التضخم وتراجع القدرة الشرائية، إلى جانب تدني دخل الأسرة بفعل الأزمة الاقتصادية الحادة أثر بشكل سلبي على هذه العادة. في جولة لنا على عدد من...

ماذا تبقى من طقوس وعادات رمضان؟  

ماذا تبقى من طقوس وعادات رمضان؟  

لشهر رمضان في سوريا عاداتٍ وطقوسِ اجتماعية وإنسانية، حرصت العائلات السورية على توارثها والتمسك بها عبر عشرات السنين، حتى تحولت إلى ما يشبه التراث الاجتماعي، ومن أشهرها "سِكبة رمضان" التي  تخلق حالة من الألفة والمحبة والتكافل الاجتماعي بين الناس، الذين يتبادلون...

تدريباتنا