تدريباتنا

كيف يستحم أهل دمشق؟

بواسطة | يناير 20, 2022

بالكاد خرجت من فمه عبارة “مسا الخير”، بينما كانت الابتسامة هاربة من وجهه. هكذا كان حال “أحمد” عندما أتى الى لقاء أصدقاء له في مقهى شعبي على أطراف دمشق، رغم أنه معروف بطبعه المرح ونكاته الظريف.
الوجوم الطاغي على وجه الطالب الجامعي، أثار الفضول لدى أصدقائه لمعرفة ما به، وما الذي قلب حاله، إذ بادروا بعد جلوسه على الكرسي مباشرة إلى توجيه الأسئلة إليه لمعرفة ما به ومنها: “شبك يا رجل؟، حدا معكر مزاجك؟، حدا زعجك ؟ رحلك شي؟، حدا من العيلة صرلوا شي؟، بدك شي؟، روّق يا زلمة. انسى، صحتك بالدنيا”.
صمت الشاب وعدم رده على الأسئلة، أثار فضول أصدقائه أكثر لمعرفة ما به، ومع إلحاحهم عليه، رد “أحمد” بالقول، “الحياة صارت كتير زفت. كتير مقرفة. يا جماعة حتى الحمّام (الاستحمام) صار بالزور. صار حلما”، ويضيف: “مي مافي، وإذ جبت مي مافي كهربا ولا مازوت ولا كاز ولا غاز، وشلون الواحد بدو يتحمّم”، ويتابع: “يا جماعة صرّلي تلت (ثلاثة) أسابيع بلا حمّام. ريحتي طلعة وصرت استحي من الناس”.
أحد الجالسين على الطاولة، بادر للتخفيف عنه بالقول، “روّق يا زلمة. كلو متلك. صحتك بالدنيا (…) بدك تنسى الحمّام صار رفاهية ممنوعة علينا. نيالك يلي عم تلحق تشرب مي، نحنا مية الشرب مو لحقانيين، وبمية يا ويلاه عم نعبّي كم قنينة”.

قائمة طويلة
“الاستحمام” الذي يبدو أنه أُضيف إلى قائمة أساسيات كثيرة خرجت من استهلاك وعادات الدمشقيين، ومنها “الإنارة الجيدة، وكأس ماء بارد في لهيب الصيف، والشعور بالدفئ في شتاء برده ينخر العظام، وطبخة محترمة، وملئ بطونهم بالطعام، ومشاهدة حلقة من مسلسل تلفزيوني، وكوي بنطال أو قميص، وركوب تكسي ووو”. وتشير تصريحات الحكومة إلى أنها كانت تحسدهم عليها وتمنّ عليهم بها على اعتبار أنها “رفاهيات”، سبب خروجه الرئيسي هو حصول أزمة حادة في توفير المياه للمنازل عبر الشبكة الحكومية، وزياد طين معاناة الأهالي بلة، بسبب انقطاع التيار الكهربائي في معظم أحياء المدينة لفترة طويلة تصل ما بين 6 – 10 ساعات (حسب تصنيف الحي وطبيعة سكانه)، ووصله لساعة يتخللها عدة فترات انقطاع، تمتد كل واحدة ما بين 5 – 10 دقائق، وذلك في بلد كانت المياه فيه قبل عام 2011 تصل إلى المنازل على مدار اليوم ، وتلبية الطلب على الكهرباء فيه عند مستوى 97 في المائة، لتنخفض حاليا إلى مستويات غير مسبوقة وتصل إلى نحو 15 في المائة، بحسب خبراء.
الحكومة التي دأبت على تحميل العقوبات الغربية مسؤولية أزمات توفر مقومات العيش الأساسية للمواطن الذي صارت حياته كلها أزمات “خبز، بنزين، مازوت، كهرباء، غاز منزلي، مياه، دواء، مواصلات، متابعة الدراسة، ثلج وووو”، أعلنت منذ فترة بعيدة عن برنامج تقنين للمياه في دمشق وريفها، بحيث تضخها إلى المنازل في أحياء العاصمة بشكل يومي لمدة أربع ساعات تختلف فترتها من حي لأخر، على حين يتحدث سكان من ريف دمشق بأن المياه لا تصل إلى منازلهم إلا يوم واحد أو يومين في الأسبوع ولمدة ساعتين أو ثلاثة، وتحل الطامة الكبرى على الأهالي إن كانت الكهرباء التي لا يرونها إلا ساعة واحدة كل يومين أو ثلاثة مقطوعة في فترة ضخ المياه.

شكوى بحرقة
“أم سمير” ربة منزل ولديها بنت وطفلان، تشكو بحرقة من عدم وصول المياه إلى منزلها في الطابق الثالث من البناء الذي تسكن فيه بأحد أحياء دمشق الجنوبية، وتقول بحسرة لـ”صالون سوريا”: “احيانا بتجي الكهربا نص ساعة لما بيكون دورنا بالمي، و(حينها) الجيران بتتسابق على تشغيل الميتورات (مضخات المياه)، لتعبئة الخزانات ونحنا بنشغل الميتور بس ما بتطلع المي لعنا لأنو ضعيفة، ومنروح نترجى هاد الجار وهادك الجار لنعبي من عندون كم بيدون للشرب والطبخ ودورة المياه”.
“المصيبة أنو مع قلة الحمام صارت الأولاد تهرش بحالها، وتحك برأسها وتنق بدها تتحمم” على حد تعبير ربة المنزل التي تضيف، “ما عندي قدرة أعبي كل يوم من الصهاريج (500 ليتر بـ5 آلاف ليرة)، وكل أسبوع أو أسبوعين ببعت واحد على بيت عمو وواحد على خالتو أسمو ساكنين بالأرضي بتجي المي عندون والكهربا أحسن شوي من عنا، وبتحمموا على الماشي، وأنا بدبر راسي كمان عند خواتي”.
الحال عند “فريدة” وهي أم لأربعة أطفال، وتعيش في حي يقع غرب العاصمة، أفضل نوعا ما، ذلك أنها تقطن في الطابق الأرضي وتتمكن “بطلوع الروح” في فترة ضخ المياه من الشبكة الرئيسية إلى المنازل من تعبئة حوالي نصف الخزان، لكنها تشكو لـ”صالون سوريا” من عدم تمكن أفراد العائلة من الاستحمام في يوم واحد وتقول، “مازوت ما عنا لنحمي الحمّام، وبنص ساعة كهربا ما بتلحق المي تسخن ودوبا تفتر فتور، وبحمّم كل يوم واحد بسطل مي، والله وكيلك طول (فترة) الحمّام الولد يصيح من البرد، وبس بدو يخلّص ويروح يلف حالوا بحرام. يعني الواحد شو بدو يعمل بعين الله”.

اربع خناقات
“أم وليد” لم تجد حرجا في الإفصاح لـ”صالون سوريا” عما يحدث في منزلها بسبب قلة المياه وصعوبة الاستحمام، وتقول “كل يوم عم تصير أكتر من 4 خناقات بالبيت والصياح بيصل للسما على دور الحمّام (الاستحمام)، بين الأولاد وبينهم وبين أبوهم، كلون بدون يتحمّموا بنفس اليوم، وأنا بقول للكل: هيك ما بيمشي الحال لا في مي تكفي ولا في كهربا ولا مازوت ولا غاز نسخن المي”، وتضيف “واحد بتحجج أنو بدو يروح على الجامعة، ووحده بقول بدها تروح لعند رفقاتها البنات، والزلمة بقول خلو شوية مي مشان الوضوء، وبالزور لحتى يهدى الوضع، ويتحمّم صاحب النصيب”.
الوضع السابق لا ينسحب على كافة السوريين، الذين تؤكد منظمات دولية وأبحاث ودراسات أن 94 في المئة منهم يعيشون تحت خط الفقر، فالنسبة المتبقية تتكون من الأغنياء القدامى و”أمراء الحرب” و”أثرياء الحرب” و”حديثي النعمة” و”المسؤولين الفاسدين”، وهؤلاء من البديهي أنهم يمتلكون مولدات كهربائية ضخمة وبعضها وضع أمام الأبنية في الشوارع لأنه لا مجال لوضعها داخل المنزل بسبب ضخامتها، وهم يمتلكون النفوذ الكافي للحصول على الوقود اللازم لتشغيلها، وبالتالي الحصول على كميات الماء التي يريدونها في ساعات الضخ وتسخين المياه من خلالها والاستحمام ببرميل وليس بسطل ماء، هذا إن لم يذهبوا إلى حمامات السوق التي تصل فيها أجرة الاستحمام للشخص الواحد ما بين 10 – 15 ألف ليرة.

* الصورة من “فرانس برس” في 16 ديسمبر

مواضيع ذات صلة

من الثورة إلى النهضة: إضاءة على فكر طيب تيزيني

من الثورة إلى النهضة: إضاءة على فكر طيب تيزيني

طيب تيزيني اسم أكبر وأهم من أن نُعرِّفه عبر سطور أو صفحات قليلة؛ لأنه جسَّد أفكاره تجسيداً عملياً، فكانت مؤلفاته تفيض من تفاصيل حياته ومواقفه الإنسانية والسياسية، وكانت حياته ومواقفه وبحق تعبيراً صادقاً عن أفكاره وفلسته، فكان فيلسوفاً بل حكيماً بكل ما تعنيه هذه...

 محمد مُحسن: صانع النجوم ومبدع الألحان الخالدة

 محمد مُحسن: صانع النجوم ومبدع الألحان الخالدة

 خلال مسيرته الفنية الحافلة بالعطاء، والتي استمرت لأكثر من نصف قرن، أبدَعَ مدرسة لحنية وغنائية متفردة وغنية ومتكاملة، تركت بصمتها المؤثرة في تاريخ الموسيقى العربية، وقد ساعدته موهبته في الغناء في فهم طبيعة الأصوات التي لَحَّن لها، فكان يُفصِّل اللحن على مساحة...

جُرح في الزوبعة

جُرح في الزوبعة

كانت حياة أنطون سعادة القصيرة (1904-1949 م) أشبه بدورة الإله بعل في الميثولوجيا الكنعانيّة القديمة، فبعل الذي يموت ويولد على نحوٍ أبديٍّ، وفقاً لـ"ألواح أوغاريت"، يرمز إلى "بلاد كنعان" أو "فينيقيا" تبعاً لتسميتها اليونانيّة القديمة، هذه البلاد التي مهما حاقَ بها من...

مواضيع أخرى

مثل الماء لا يُمكن كسرها

مثل الماء لا يُمكن كسرها

لم أستطع أن أخفي دهشتي حين قرأت المجموعة الشعرية "مثل الماء لا يُمكن كسرها" للشاعرة السورية فرات إسبر، فالنص مدهش وغني بالتجربة الإنسانية للمرأة في علاقتها بذاتها وبالعالم حولها، ويعبر عن صوت المرأة الحرة الشجاعة والمبدعة، صوت الأم والعانس والأرملة والعاشقة. أعتقد أن...

سوريا: كسوة العيد للأطفال محكومة بالأزمة الاقتصادية الحادة

سوريا: كسوة العيد للأطفال محكومة بالأزمة الاقتصادية الحادة

حرصت عائلات سورية -في أعوام خلت- على شراء الملابس الجديدة قبيل عيد الفطر، وبخاصة للأطفال كي يشعروا بالبهجة والسرور، غير أن التضخم وتراجع القدرة الشرائية، إلى جانب تدني دخل الأسرة بفعل الأزمة الاقتصادية الحادة أثر بشكل سلبي على هذه العادة. في جولة لنا على عدد من...

ماذا تبقى من طقوس وعادات رمضان؟  

ماذا تبقى من طقوس وعادات رمضان؟  

لشهر رمضان في سوريا عاداتٍ وطقوسِ اجتماعية وإنسانية، حرصت العائلات السورية على توارثها والتمسك بها عبر عشرات السنين، حتى تحولت إلى ما يشبه التراث الاجتماعي، ومن أشهرها "سِكبة رمضان" التي  تخلق حالة من الألفة والمحبة والتكافل الاجتماعي بين الناس، الذين يتبادلون...

تدريباتنا