تدريباتنا

لشو بتشتاق “رزق الله عسنة الـ٢٠١٠”

بواسطة | مايو 11, 2021

* تُنشر هذه المادة ضمن ملف صالون سوريا “في العقد الجديد، إلى ماذا يشتاق السوريون؟

“مشتاقة لشارع النهر بدير الزور، لمدرستي، لبيتي، لرفقاتي، مشتاقة لمجتمعي أنا اليوم بلا مجتمع. مناسباتنا صارت مأتم منتذكر فيها إننا بحالة نزوح دائمة، بشتاق لأتسوق من الدير.” هذا حال آلاء ابنة دير الزور التي أجبرتها الحرب على ترك مدينتها والاستقرار بدمشق، دمشق التي كانت تحبها، لكنها لا تعني لها اليوم أكثر من مجتمع أجبرت على الاستقرار به.

“مشتاقة لأيام زمان، مشتاقة ارجع ربة منزل، مشتاقة لأيام زمان.” هذا حال رشا 35( عاماً) والتي تعمل في تنظيف البيوت منذ أن هُجِرت من منزلها المنظم في ريف دمشق، لغرب العاصمة حيث العشوائيات.

تنهدت رشا بنفس خرج من منتصف الصدر، تلته ابتسامة خفيفة مع دمعة سقطت سهواً، لتعقب ماذا ينفع الحنين غير القهر!

منذ أول سنوات الحرب في سوريا، يتردد على لسان أبناء المجتمع كلمة: “اسئالله، اسقالله، رزق الله”، تختلف اللكنة المحكية، لكن المعنى واحد والمضمون رغبة من القلب للعودة إلى ماقبل2011، في هذا التقرير أقدم تقريراً حول بعض مايشتاقه السوريون اليوم.

 مصيبة الذاكرة الواعية!

عاشَ السوريون مرحلتين من الحياة في البلاد، وخصوصاً جيل الثمانينات على حد تعبير بعضهم، الجيل الذي ذاق ويلات “أحداث الإخوان المسلمين”، وعندما بدأ الشباب يلوح له بأفق الحياة عاشوا ويلات الحرب الحالية. في لقائي مع عدد من السوريين في دمشق ومدن وأرياف أخرى، اختلفت الإجابات عند سؤالهم إلى ماذا يشتاقون؟ ومن مصباح علاء الدين كلٌ منهم طلب مكنوناته الداخلية، أبو محمد تاجر خضار و فواكه يعيش بمنطقة العشوائيات “المزة 86″، اشتاق لأن يعود كيلو البندورة بـ 5 ليرات سورية، والموز بأغلى أثمانه عام 2010 بـ 250 ليرة سورية. بينما تشتاق مها وهي صحفية من ريف دمشق: “للخير اللي كان بالناس قبل 10 سنين”. ولو خرج لها مصباح علاء الدين يوماً، فستطلب منه أن يزيل العشر سنوات السابقة من حياتها.

بينما تعقب لما صحفية من مدينة طرطوس على حديث مها قائلةً: “بشتاق لـ2010 لوقت كنا نقول فيه أنا الصحفية الفلانية وفوراً يقولوا تفضلوا”! وتتشابه معها في طلبها من المارد السحري.

مع كل سنة تعارك سورية حرباً جديدة اقتصادياً وعسكرياً واجتماعياً، وتزيد حالة الحنين إلى الماضي (النوستالجيا)، كمدخل للهرب من الواقع، ذلك تماماً الذي شبهه محمود درويش بأنه استرجاع الفصل الأجمل في الحكاية، تشير الاختصاصية النفسية الدكتورة رندة رزق الله:  “أن البشر مسكونون بالماضي، هي حقيقة لا يمكن إنكارها، فالإنسان يتميز عن باقي المخلوقات بالذاكرة الواعية، والذاكرة الانفعالية، أي تلك الذاكرة التي تسترجع الأحداث كصور وإحساس، فكل حدث يعيشه الإنسان يترافق مع حالة انفعالية، ويخزنه في مراكز الذاكرة الواعية، التي تتذكر تسلسل الأحداث والأسماء والأماكن والأشكال. مركز الذاكرة الانفعالية مسؤول عن مشاعر كالفرح والحزن والغضب والقرف وغيرها، لذلك عندما يشعر الناس بالحنين إلى الماضي
أي إلى العواطف والحالة الانفعالية التي رافقت أجزاء من ذلك الماضي كأماكن محددة، وصور، وأشخاص، وروائح وطعام وجلسات معينة، والإحساس بالفرح والراحة والأمان في الماضي. لذلك عند استرجاع الذكريات يشعر الفرد بمزيج من المشاعر بين الحزن لفقدانها والفرح لتذكرها، ووفق بنية الشخص النفسية يتم التفاعل مع هذه الذكريات؛ فالمكتئب يستدعي الذكريات ويحن للماضي حزيناً على فقدانه ومبرراً كآبته الحالية.”

ربما هذا مايبرر سبب شعور الكآبة التي تعيشه أم فادي وهي من ريف حمص، حيث هاجر كل أبنائها إلى أوروبا، وبقيت مع زوجها في منزل فيه 4 غرف. ومع ضحكة مصطنعة تقول إنه لو لديها مصباح علاء الدين فستطلب منه أن يعودَ كل أبنائها وتعود لتطبخ بأكبر طنجرة لديها.

يُردد كثير من الناس في سوريا خلال أحاديثهم اليومية عبارات تحسد من فقد الذاكرة من مثل: “أحسنلوا ماعد تذكر شي،” كمؤشر على رغبة الناس على الهروب من الحاضر.

رزق الله ع العربيات!

“يالطيف وين صرنا”! جملة تسمعها صباحاً أمام طابور للحصول على إحدى الحاجيات الأساسية كالخبز، أو خلال ساعات الانتظار لوسيلة نقل ما، وفي هذا السياق يشتاق فجر ابن مدينة السويداء وخريج الفنون الجميلة، لأن يجلس في “السرفيس بكرامة” كما قبل 2011، ويشتاق لأن يدفع 100 ليرة أجرة التكسي، ويضيف: “رزق الله ع العربيات”. بينما اشتاقت صفاء من الحسكة لطفولتها الهنية يوم كانت أقصى الهموم شراء لعبة أطفال جميلة. أما آية ابنة ريف جبلة فتشتاق لجمعات العائلة والحنان الموجود سابقاً في بيوت الأجداد، وتشتاق لأقرباء شباب توفى الله بعضهم والآخرون هاجروا. هنا لا يمضي يوم على المواطن السوري دون ذكر قبل الحرب، والشوق، الغالبية يشتاق لبيت هجره، وأخٍ فقده، وأصدقاء هاجروا، لحب سببت الحرب بانتهائه بالانفصال عنوةً بسبب تطرف المواقف أو تطرف القدر الذي أفقد أحد الطرفين حياته، وهذا شعور المهندسة هلا (33 عاماً) والتي تشتاق لحبيبها السابق الذي أخذه القدر منها في معارك إدلب، وبالطبع في الضفة الأخرى صبية تستذكر حبيباً كان ضحية ذات الجبهة العسكرية.

ما بشتاق!

يهرب البعض من التفكير بالماضي القريب رغم ندرتهم، تشير فرح (27 عاماً) وهي مدرسة لغة إنجليزية، أن فترة قبل الحرب هي مرحلة زمنية بعيدة جداً، لا تستطيع أن تعود بذاكرتها لها، لأنها ستمر على مرحلة القذائف والمفخخات في العاصمة وغيرها. بينما لا تحن آية (25 عاماً) من مدينة حلب لشيء أبداً قبل الحرب، لذلك تحاول أن تفكر بيومها فقط. وهنا تنوه الاختصاصية النفسية رندة رزق الله أن في الحروب يعيش الإنسان حالة مؤلمة لا يرغب بشيء سوى الخلاص منها، وخصوصاً الشباب والشابات الذي يكون ماضيهم مكوناً من سلسلة أحداث مؤلمة ومخيفة ومقلقة لن يفكروا بالعودة إليها يوماً، وستبقى بقعة سوداء مظلمة يسعون كل باقي حياتهم للتخلص من آثارها. وتنوه رزق الله إلى أن للحرب أيضاً دورها في حالة عدم الشوق الذي يعيشه بعض الناس عبر حالة انفصال عن الماضي وكأنه صدمة متطاولة، غير معروفة النهاية، وهذا تماماً ما كانت تعانيه رشا (40 عاماً) وهي تعمل كربة منزل وتؤكد أنها لا تشتاق لشيء فلم يكن هناك شيء جميل سابقاً ولا اليوم سوى ابنها التي تربيه “كل شبر بندر”.

شبيك لبيك!

في قصة مصباح علاء الدين يصيح المارد من شاشات التلفزيون “شبيك لبيك أنا بين إيديك”، ليأخذ المشاهدين بالخيال لمشهد محبب، لكن جلّ طلبات من التقيناهم لو صادفوا مارد مصباح علاء الدين في حياتهم الواقعية اقتصرت على أمنية الاستقرار الاجتماعي، والعودة لبيت دمرته الحرب، والعودة لزمن فيه قيمة شرائية للخمسين والعشرين ليرة . وفي هذا السياق تُشير الاختصاصية الاجتماعية سمر أيوب أنه في حالات الحرب والفقدان تكون العودة للماضي مريحة للتكيف الاجتماعي بالحاضر، وخصوصاً إن شاهد المرء أو صادف عزيزاً على قلبه، لكن أحياناً تحتاج هذه المرحلة الشوق والحنين للماضي “النستولوجيا” لتدخل الاختصاصي النفسي.

منذ عشر سنوات، كان الحنين في سورية يقتصر على الاشتياق لطبخة تراثية في قرية أو مدينة سورية، نسيتها النساء حديثات العهد بسبب تطور الثقافات واختلاطها. في ذلك الزمن كان حنين العشاق يقتصر على جلسة سمر مع أم كلثوم وحبر رسالة على ورقةٍ بيضاء دون مسنجر وماشابه ذلك من طقوس رومانسية. أما منذ سنة 2011 وحتى الآن فتغير الحنين مع رياح البلاد السياسية وأصبح لأشياء تبدو بعيدة المنال لكنها كانت اعتيادية عقداً مضى من الزمن.

مواضيع ذات صلة

من الثورة إلى النهضة: إضاءة على فكر طيب تيزيني

من الثورة إلى النهضة: إضاءة على فكر طيب تيزيني

طيب تيزيني اسم أكبر وأهم من أن نُعرِّفه عبر سطور أو صفحات قليلة؛ لأنه جسَّد أفكاره تجسيداً عملياً، فكانت مؤلفاته تفيض من تفاصيل حياته ومواقفه الإنسانية والسياسية، وكانت حياته ومواقفه وبحق تعبيراً صادقاً عن أفكاره وفلسته، فكان فيلسوفاً بل حكيماً بكل ما تعنيه هذه...

 محمد مُحسن: صانع النجوم ومبدع الألحان الخالدة

 محمد مُحسن: صانع النجوم ومبدع الألحان الخالدة

 خلال مسيرته الفنية الحافلة بالعطاء، والتي استمرت لأكثر من نصف قرن، أبدَعَ مدرسة لحنية وغنائية متفردة وغنية ومتكاملة، تركت بصمتها المؤثرة في تاريخ الموسيقى العربية، وقد ساعدته موهبته في الغناء في فهم طبيعة الأصوات التي لَحَّن لها، فكان يُفصِّل اللحن على مساحة...

جُرح في الزوبعة

جُرح في الزوبعة

كانت حياة أنطون سعادة القصيرة (1904-1949 م) أشبه بدورة الإله بعل في الميثولوجيا الكنعانيّة القديمة، فبعل الذي يموت ويولد على نحوٍ أبديٍّ، وفقاً لـ"ألواح أوغاريت"، يرمز إلى "بلاد كنعان" أو "فينيقيا" تبعاً لتسميتها اليونانيّة القديمة، هذه البلاد التي مهما حاقَ بها من...

مواضيع أخرى

ماذا تبقى من طقوس وعادات رمضان؟  

ماذا تبقى من طقوس وعادات رمضان؟  

لشهر رمضان في سوريا عاداتٍ وطقوسِ اجتماعية وإنسانية، حرصت العائلات السورية على توارثها والتمسك بها عبر عشرات السنين، حتى تحولت إلى ما يشبه التراث الاجتماعي، ومن أشهرها "سِكبة رمضان" التي  تخلق حالة من الألفة والمحبة والتكافل الاجتماعي بين الناس، الذين يتبادلون...

“عيدٌ بأية حالٍ عدتَ؟”: غلاءٌ وعوائل حزينة

“عيدٌ بأية حالٍ عدتَ؟”: غلاءٌ وعوائل حزينة

لطالما يسخر السوريون من أنفسهم حين يكررون في كل عيدٍ الشطر الأول من قصيدة المتنبي "عيدٌ، بأية حالٍ عدتَ يا عيد؟"، ربما كان معظمهم يعلم شطره الثاني: "بما مضى أم بأمرٍ فيك تجديد"، وأنّ تشابه أيامهم بات فيه من السخرية الكثير، ولكنّ لا شك-أنّ معظمهم لم يكمل القصيدة، لا...

الجمعيات الخيرية: المنقذ الرمضاني في غياب الدعم الحكومي

الجمعيات الخيرية: المنقذ الرمضاني في غياب الدعم الحكومي

مع بدء الحرب السورية تمكنت المؤسسات والمنظمات غير الربحية المندرجة تحت مظلة المجتمع المدني من إثبات وجودها وترك بصمتها على أرض الميدان، فكانت الجمعيات الخيرية والمبادرات الفردية الإنسانية أولى الجهات غير الرسمية التي استطاعت توسيع دورها على خارطة العمل وإنقاذ الفئات...

تدريباتنا