تدريباتنا

مأزق اليسار السوري وغياب الديمقراطية

بواسطة | فبراير 27, 2019

*ينشر هذا المقال ضمن الطاولة المستديرة ما الذي تبقى من اليسار السوري؟

حين استسلم الحزب “الشيوعي السوري” لامتيازات “الجبهة الوطنية التقدمية” التي أنشأها الرئيس حافظ أسد في 7 مارس/ آذار 1972، بقيادة حزب البعث وتشجيع من القيادة السوفيتية آنذاك، كان رياض الترك يعدّ للانشقاق الأول في تاريخ الحزب، ليقوده بعد شهر من ذلك رافضاً التحالف مع النظام.

وبهذا أعلن الترك خروجاً عن طاعة الكرملين، تنظيمياً وبرنامجياً، مؤكداً على التيمة الرئيسية لموضوعات الخلاف التي أثيرت في المؤتمر الثالث للحزب 1969، والقائمة على متلازمة الديمقراطية والمسألة القومية وخفض سقف التبعية للكرملين، وهي القضايا التي سبق سماع أصدائها في بعض أروقة الأحزاب الشيوعية الأوربية، بُعيد ربيع براغ.

لم يتأخر رياض الترك بعقد المؤتمر الرابع للحزب في كانون الأول/ ديسمبر عام 1973، حيث حافظ فيه على اسم الحزب الشيوعي مع إضافة لاحقة “المكتب السياسي”، تعبيراً عن شرعية تمثيله أغلبية أعضاء المكتب السياسي بهذا الانشقاق، إضافة لشرعية انتخابه أميناً عاما للحزب القديم/ الجديد.

وقد شكلت هذه التجربة، حالة نضالية فارقة في مسيرة اليسار السوري عموماً،تميزت بالراديكالية والكفاحية العالية في مواجهة النظام، وبشكل خاص بعد التدخل السوري في الحرب الأهلية اللبنانية، إلا أن هذه الراديكالية لم تحمِ الحزب الشيوعي- المكتب السياسي من الهزات القادمة، بل ربما بسببها، خرجت مجموعة يوسف نمر وصبحي أنطون من المكتب السياسي للحزب قبيل المؤتمر الخامس عام 1978، ليشكلوا منظمة باسم “اتحاد الشيوعيين”.

بالتوازي مع ذلك، كان الترك يطور هوية الحزب الفكرية والأيديولوجية مبتعداً عن الماركسية اللينينية، باتجاه تكريس خطاب شعبوي عروبي وإسلامي، انعكس بالضرورة على خطه السياسي، وعلى تحالفاته في تلك الفترة. وبدأت تتضح ملامح هذا الخط السياسية تدريجياً، منذ أن اكتفى الحزب بإدانة النظام في تعليقه على مجزرة مدرسة المدفعية في حلب حزيران/ يونيو 1979، باعتبار أن “رد فعل الإخوان العنيف، إنما هو بسبب قمع واستبداد النظام”، رافضاً بذلك توجيه أية إدانة لجماعة الإخوان، في سياق العنف المتبادل بينها وبين النظام على أساس الانقسامات العمودية والطائفية في المجتمع، وصولاً إلى مطالبة اللجنة المركزية لحزبه، في رسالة داخلية بتاريخ حزيران/ يونيو 1980، بتشكيل “تحالف ديمقراطي – إسلامي – شعبي”.

مقابل هذا الإصرار على التحالف مع الإسلاميين، أبدى الترك تشنجاً ورفضاً قاطعاً للتحالف أو التنسيق مع رابطة العمل الشيوعي في تلك الفترة، رغم أنها الأقرب إليه بالمعنى الراديكالي والنضالي والاستعداد للتضحية، وبالمعنى السياسي أيضاً في موقفهما الرافض للتدخل السوري في الحرب الأهلية اللبنانية. حدا هذا الموقف بالرابطة لتقديم تقريظ عالي للمكتب السياسي ضمن كراس “جدل بناء الحزب الشيوعي الثوري في الساحة السورية” 1977، اعتبرت فيه أن المكتب السياسي هو الفصيل الأقرب إليها سياسياً وبرنامجياً، مشيرة إلى حديث عن مبادرة للانضمام كأفراد فقط إلى “المكتب السياسي”، لكن قيادة “المكتب” رفضت المبادرة، وأوقفت الحوار دون أي تعليل، مكتفية ببث اتهامات سيئة في كواليس العمل السياسي، لا تتعلق بالتحليل المادي والتاريخي للواقع والسياسة.

رغم هذا، سحب المكتب السياسي الفيتو على أي تعاون أو تنسيق مع رابطة العمل، إلى مطبخ المعارضة السورية، والتي كانت بصدد تأسيس “التجمع الوطني الديمقراطي” عام 1979، حيث أصرّ رياض الترك على إقصاء الرابطة من التجمع، وفرض رأيه بقوة التعنت الديمقراطي على فرقاء التجمع الآخرين، كما أكدت عدّة حوارات لاحقة في “سجن صيدنايا العسكري”، مع أشخاص قياديين ساهموا مباشرة في تلك النقاشات التي أفضت إلى تأسيس التجمع.

انتظر المكتب السياسي طويلاً خروج كوادره، ومن ثم الأمين العام من السجن في أيار/ مايو 1998، ليبدأ التحضير لانعقاد المؤتمر السادس للحزب في نيسان/ إبريل 2005، وفجر هذا المؤتمر مفاجأة في أوساط اليسار السوري تحديداً، حيث تخلى الحزب عن تسميته الشيوعية ليصبح “حزب الشعب الديمقراطي السوري”، وتخلى رياض الترك عن الأمانة العامة للحزب لينتخب عبد الله هوشي أميناً عاماً له، تزامن هذا مع خروج مجموعة جديدة من صفوفه بقيادة محمد سيد رصاص وجون نسطه، حافظت بدورها على مسمى “الحزب الشيوعي السوري/ المكتب السياسي”.

جاءت مع ذلك ولادة “إعلان دمشق للتغيير الديمقراطي”، والذي لقي ترحيباً من أغلبية قوى المعارضة السورية والشخصيات الوطنية، كما رحبت به قيادة الأخوان المسلمين.

إلا أن رياض الترك، وبعكس نتائج المؤتمر، بدأ يعمل على تعطيل دور القيادة الجديدة وأغلب المؤسسات، من خلال الهيمنة على اللجنة المركزية للحزب، مما دفع الأمين الأول المنتخب عبد الله هوشة لتقديم استقالته بعد أشهر على انتخابه، وهو الذي سبق له قيادة العمل السري للحزب و”التجمع الوطني الديمقراطي” لعشرين سنة حين غيبت السجون رفاقه، كما كان لهوشة دور مهم في الإعداد للمؤتمر السادس للحزب الذي صنع التحول باتجاه “حزب الشعب الديمقراطي السوري”، لكنه”لم يستطع التكيف مع بقايا العقلية الستالينية في الحزب، فاستقال من الأمانة ومن اللجنة المركزية” على حدّ تعبير رفيقه في التجربة عبد الله تركماني، في نعوته للرفيق عبد الله هوشه، الذي وافته المنية في الثامن من كانون الأول/ ديسمبر 2018.

أعتقد أن سنوات الاعتقال المديد لرياض الترك ولفيف من رفاقه، حولته إلى إحدى أهم أيقونات المعارضة السورية، التي كان يمكن أن تبني خطاً يسارياً وطنياً للحراك الثوري الذي اندلع في آذار 2011، لكنه فشل في الاستجابة لحراك السوريين العفوي في تلك اللحظة، وخاض حرب إشاعات ضد “لجان التنسيق المحلية”،وكان قد تخلى عن “التجمع الوطني الديمقراطي” ليتركه في هشاشة “هيئة التنسيق الوطني”، ذاهباً بإعلان دمشق إلى خياره الأول للتحالف مع الإسلاميين، عبر تشكيل “المجلس الوطني السوري” في اسطنبول صيف 2011.

وبهذا قاد معه “إعلان دمشق” إلى ذات الفشل الكارثي، مما اضطر كوادر “الحزب” وقيادات “إعلان دمشق” لتدارس مأزق عجزها التاريخي عن بلورة آليات عمل ديمقراطية، وطبيعة تحالفاتها الكارثية، وهو ما بدأ يظهر للعلن مع تشكيل “قيادة مؤقتة” منذ عام 2014، طالبت بإسقاط الشرعية عن قيادة أو هيمنة رياض الترك، وحملته كامل المسؤولية عن سنوات الثورة العجاف.

لكن القائد -الذي لا يقبل النقد- سارع إلى معاقبة “الخراف الضالة في حزبه”، بأوامر التنبيه والإنذار، وتعليق العضوية وإسقاطها عن بعضهم، متهماً إياهم بالتآمر و”التمرد على الحزب وهيئاته القيادية وتجاوز خطه السياسي وتقاليده التنظيمية”، ولم ينس الترك أن يستعير من النظام -الذي أمضى حياته في مقارعته- الإشارة إلى تورط أطراف خارجية تدّعي تمثيلها للثورة.

إثر ذلك ذهبت “القيادة المؤقتة” إلى “لجنة التحكيم الوطنية” للاعتراض على قرارات القيادة بحقّهم، باعتبارها صاحبة الاختصاص للفصل في المنازعات الحزبية، وفقاً للنظام الداخلي، وأعلنوا قبولهم المسبق بما تصدره اللجنة من أحكام أياً كان مضمونها.

لكن القيادة التاريخية استعارت ثانية من نظام البعث مبرراً لكل تجاوزاتها للنظام الداخلي/ الدستور، بحالة الطوارئ، وفق المادة 59 من النظام الداخلي، حتى أنها فرضت إجراءاتٍ عقابية بحق “لجنة التحكيم الوطنية” نفسها، المنتخبة من قبل المؤتمر.

يكاد الحزب الآن أن يتشظى، فيما لازال يُصر رياض الترك على شرعيته البائدة، منكراً كل ما يوجه له من اتهامات، وفي أول حوار له مع صحيفة “القدس العربي:3/9/2018″ بعيد وصوله إلى فرنسا، يتنصل الترك من العسكرة والأسلمة التي حصلت في الثورة السورية بقوله:”نحن من جهتنا في الحزب وفي إعلان دمشق لم ننخرط في أي عمل مسلح، ولم نرتبط بأي جهة أجنبية، لكن غيرنا انخرط منذ البداية في العمل المسلح، وكانت له امتدادات إقليمية ودولية”!

هل نسي رياض الترك أن جورج صبرا هو الذي ردّد في لحظة انتخابه “رئيسا للمجلس الوطني السوري” مساء 8 تشرين الثاني/ نوفمبر 2012: “نريد سلاحاً نريد سلاحاً نريد سلاحاً”! وأنه في لحظة انسحاب “لجان التنسيق المحلية” من المجلس الوطني رفضاً لسيطرة الإخوان المسلمين، كان صبرا يُصرح بأن المجلس يضم أهم مكونات المعارضة السورية للنظام؟

بالتأكيد لم يكن جورج صبرا في يوم ما قاذف آر بي جي في “جبهة النصرة”، لكنه هو الذي دافع عن “جبهة النصرة” وعن سلاح النصرة، باعتباره “جهداً عسكرياً كبيراً في دعم مسيرة الثورة لإسقاط النظام والدفاع عن السوريين”.

وهل نسي رياض الترك أن صبرا مُنح الجنسية التركية لعلمانيته؟ وهل سمع بأن صبرا ما زال يراهن باسم “حزب الشعب” و”إعلان دمشق” على “المجلس الإسلامي السوري” لمهمّة إعادة إحياء “الوطنية السورية”، وأن يكونوا “المظلة التي تُنبت القيادة السورية الجديدة”؟

أليس هذا الصوت رجع الصدى لما حاكه رياض الترك سنيناً طويلة؟

أليس مفاجئاً أن يتابع الترك حملته على “لجان التنسيق المحلية” وأيقونتها رزان زيتونة، بمغالطات كالحديث عن حضور مؤتمر “أنطاليا”؟ فيما كان هو يشرف على دور ممثليه من “إعلان دمشق” في هذا المؤتمر، أنس العبدة وعبد الرزاق عيد؟

يبدو أن علينا الاعتراف ولو متأخرين، بأن الكفاحية العالية والنضالية التي تميزت بها بعض تجارب اليسار، كانت عقيمة بكل أسف، لأنها لم تقترن بالديمقراطية في مستوى التعامل مع أعضائها كأفراد ومنظمات أيضاً، أو فيما بينها كقوى سياسية، مما يفسر جزءاً من أسباب تصدعات هذه التجارب وانقساماتها المتكررة، وعجزها عن مواكبة زخم الحراك الثوري الذي اجتاح سوريا.

مواضيع ذات صلة

 محمد مُحسن: صانع النجوم ومبدع الألحان الخالدة

 محمد مُحسن: صانع النجوم ومبدع الألحان الخالدة

 خلال مسيرته الفنية الحافلة بالعطاء، والتي استمرت لأكثر من نصف قرن، أبدَعَ مدرسة لحنية وغنائية متفردة وغنية ومتكاملة، تركت بصمتها المؤثرة في تاريخ الموسيقى العربية، وقد ساعدته موهبته في الغناء في فهم طبيعة الأصوات التي لَحَّن لها، فكان يُفصِّل اللحن على مساحة...

جُرح في الزوبعة

جُرح في الزوبعة

كانت حياة أنطون سعادة القصيرة (1904-1949 م) أشبه بدورة الإله بعل في الميثولوجيا الكنعانيّة القديمة، فبعل الذي يموت ويولد على نحوٍ أبديٍّ، وفقاً لـ"ألواح أوغاريت"، يرمز إلى "بلاد كنعان" أو "فينيقيا" تبعاً لتسميتها اليونانيّة القديمة، هذه البلاد التي مهما حاقَ بها من...

زكي الأرسوزي أو أمل ضائع بأُمّة تنبعث من عبقريّة لسانها

زكي الأرسوزي أو أمل ضائع بأُمّة تنبعث من عبقريّة لسانها

تعرّض زكي الأرسوزي (1899-1968 م) لإهمال كبير، ولم يُكَرَّس في الأدبيات الفلسفيّة العربيّة إلا على نحوٍ عَرَضيّ، بصفته أحد دعاة الفكر القوميّ، ومؤسِّس فكرة حزب البعث العربيّ، التي أخذها ميشيل عفلق منه وحوّلها إلى تنظيم سياسيّ فاعل في سوريا، وتلاشى ذكر الأرسوزي مع تلاشي...

مواضيع أخرى

الدراما السورية في موسم 2024: مبالغات تخطت الحدود واستسهال واضح

الدراما السورية في موسم 2024: مبالغات تخطت الحدود واستسهال واضح

لا يختلف اثنان أنّ الدراما السورية أحدثت فارقاً وصنعت بريقاً أخاذاً في فترةٍ ذهبيةٍ امتدت ما بين عامي 2000 و2010. وتحديداً ما بين مسلسل الزير سالم الذي أخرجه الراحل حاتم علي ووضع فيه الراحل ممدوح عدوان عصارة ما يمكن لكاتب المجيء به نصاً وحواراً وأحداثاً ليجعل منه...

استنساخ المسلسلات السورية وغياب الحاضر

استنساخ المسلسلات السورية وغياب الحاضر

أهتم كثيراً بمتابعة الدراما العربية، خاصة السورية، وثمة مسلسلات سورية لامست أوجاع السوريين وما يتعرض له الشعب السوري مثل مسلسل غزلان في غابة من الذئاب للمخرجة المبدعة رشا شربتجي. هذا المسلسل أثلج قلوب السوريين كلهم لأنه حكى بصدق وشجاعة ونزاهة عن أحد كبار المسؤولين...

الأمهات في سورية: عيد ناقص

الأمهات في سورية: عيد ناقص

غدت الأمومة في سورية مهمة قاسية ومثقلة بالهموم واكتسبت أوجهاً كثيرة، إذ انتزعت الحرب دور "الأم" الأولي المناط بالعطاء والتربية والمساند المادي الثانوي، وبدأت كثير من الأمهات يلعبن دور المعيل الأساسي ومصدر الدخل الوحيد لتحمل نفقات الأسرة في ظل غياب قسري أو اختياري...

تدريباتنا