قصة قصيرة

عربات الخضار في مكانها المألوف.  بندورة، بقدونس، نعنع، بامية ديرية، ملوخية، بطاطا، فاصولياء،  لوبياء، باذنجان، كوسا، كلمات تخرج من الحناجر في إيقاعات رتيبة في أفق الحي. قرب عربة أخرى بائع يصيح: “خاين يا طرخون”. المأذنة هي الأعلى في الحي. شكلها عادي، لا يعكس عراقة معمارية. السماء غبارية، تتناثر فيها غيوم قطنية. دخان السيارات مرئي بحدة في الشارع العريض. يتعالى الأذان في الجو، صريحاً آمراً ومألوفاً. تُغلق المحلات، تُغطى بعض العربات، ويذهب عدد كبير من الأشخاص إلى الصلاة، لا يتسع المسجد فتركع الحشود على الرصيف وفي الشارع، مما يوقف حركة المرور. يصطفون في خشوع ويركعون. تمتمات شفاه، حركات أيدٍ، انحناءات أجساد، تسبيحات وتكبيرات.

الجو حار والرطوبة مرتفعة، ولم يتبق إلا مائة متر في الشارع الرئيسي وبعدها انعطافة إلى اليسار في زقاق طوله مائتا متر. أُخْرجُ المفاتيح، أفتحُ باباً حديدياً يصدر صريراً مزعجاً وأدخل. كان شريكي في الغرفة يطبخ مجدّرة وبدلته معلقة إلى مسمار في الحائط. رائحة البصل المقلي تغطي رائحة بوطه العسكري. أتناول عباءتي الصيفية، أخلع ثيابي وأرتديها. أتمدد على الأرض، على الحصير وأسند ظهري إلى مسند. ذهني يقودني في اتجاهات مختلفة، اكتشفت أنني كنت جامداً طول تلك السنين السابقة، لم أفعل شيئاً، استسلمتُ للمستوى الذي أنا فيه. لم أمتلك أفكاراً عن الطموح والمغامرة، شعرت أنني ما أزال طفلاً جاهلاً، أو ربما كنت منتظراً، لأبي كي يفعل لي شيئاً، لأخي كي يخرج من أنانيته ويساعدني في إطلاق مشروع. وظيفتي الأولى كان تأمينها كالمهزلة. قريب لي يعمل في سفارة تحدث مع مدير دائرة. ذهبت إلى الدائرة، فرفض الحارس إدخالي في البداية، ثم بعد أن ألحّيت، أطلق ضحكة كريهة مفتعلة وقال بعد أن تأكد من أن المدير طلبني:

– ادخلْ، قَطْع الأعناق ولا قَطْع الأرزاق.

كانت جملته غريبة، أراد أن يمنّني بعد أن عاملني بمهانة.  طلب مني مدير مكتب المدير العام أن أوقع بعض الأوراق وأرسلني مباشرة إلى مكتب كي أباشر عملي. كان المكتب صغيراً، حُشرتْ فيه أربع طاولات وأربعة كراس. طاولتي كانت مقابل الباب الذي يبقى مفتوحاً، حيث تمر موظفة كل عشرين دقيقة.  تفعل هذا باستمرار، بإدمان، ثم تمط رقبتها وتنظر إلى الداخل. شكلها يدفع إلى النفور، ستفضّل أن تنظر إلى قطة أو كلب، ولذلك درّبْتُ نفسي على ألا أرفع رأسي عن الأوراق التي أمامي حين أسمع صوت كندرتها على البلاط وهي رائحة غادية. لم أشعر بالزمن الذي مر في الدائرة، كان التكرار هو حياتي المبددة في أعمال لا قيمة لها، وفي نهاية الشهر، كنت أنتظر في الدور ثلاث ساعات كي أقبض راتبي. ازدحام رهيب من أجل راتب تافه لا يبقى منه أي شيء بعد أن أقتسم أجرة الغرفة مع صديقي. كان صديقي الذي يؤدي خدمته العسكرية يتحدث في الليل متظاهراً بالنوم، يتحدث كثيراً، في البداية ظننته مريضاً، لكنني اكتشفت أنه يريد أن يوهمني بذلك، ويريد أن يحكي لي ما يجري معه بطريقة غريبة، تبرّئه من المسؤولية، لا بد أن هناك شيئاً في أعماقه جعله مرتاباً بي، كلنا نخفي أموراً في ظلمات النفس وطبقاتها المجهولة، هل لأننا غير قادرين على الانفصال، على التحرر، وإذا ما انفصلنا لا نستطيع أن نكون جذريين؟ لست أدري. أنا أعتزّ بصداقته، وأحبه، ولكنه عاملني بطريقة غريبة، حيرتني. في المرة الأولى التي تحدث فيها، كانت الساعة الواحدة ليلاً، وكان اليوم يوم جمعة، حيث كان لديه مبيت، سمعته يقول:

– أغمضوا أعينكم، تخيّلوا، ماذا ترون؟

ذكر الاسم، فقالوا إنهم يرونه ممتطياً صهوة جواد من نور، يخترق عوالم الظلمة، يوزع الأقمار، يعلق قمراً في سقوف الغرف، وفي كل شارع وزقاق. تنتشر الأقمار في المدينة وتنيرها. وبعد أن يجوب عوالم الظلمة يعود، وتستقبله الحشود، تجرح أيديها وتكتب له بالدم عبارات الحب: انتظرناك طويلاً، بددنا أعمارنا ونحن ننتظرك، أيها الفارس العائد من الظلمة، لك الملكوت، لك عطر العهود، لك الأبدية أيها الخالد، لك الأرض بساحلها وداخلها، لك الرجال، كرمى لك يرمون أنفسهم في التهلكة. وحيث يمرّ ترتفع قباب النور، تتدفق الأنهار بقوة، يطلع الشجر بسرعة وتجود المواسم.

صارحْتُهُ، قلت إنه يتحدث عن أمور معينة فأنكر ذلك. هل يوصل إليَّ رسالة متظاهراً بالبله أو الجنون؟ لم يكن يتوقف عن الكلام حين تنقطع الكهرباء ولا يبين أي قمر من أقمار الفارس الذي يتحدث عنه. حين أقف في صف طويل كي أشتري عشرين لتراً من المازوت أتمنى لو أن الفارس المُبدِّد للظلمة يقتحم المشهد ويفرض سحره ويملأ البيدونات المصطفة. وحين أنتظر الميكرو لمدة ساعة أحياناً وأجري مع المحتشدين كي أؤمن مقعداً، أتمنى لو أنه يجيء على حصانه ويوصلني إلى العمل، وحين أحاول تأمين جرة غاز، أفكر به كثيراً، متمنياً أن يأتي في أية لحظة وينتزع لي جرة من البائع ويوصلها لي إلى البيت على ظهر حصانه. تمنيت قدومه أيضاً حين فاضت المجارير في الحي ودخلت إلى البيوت، ووضعنا خفّافات كي نسير عليها للدخول إلى الغرفة. كانت أم صاحب البيت التي تسكن مع ابنها في الطابق الثاني مصابة بالسعال الديكي. لم تتوقف لحظة واحدة. تمنيت لو أنه جاء وأخذها إلى العلاج، كان وجهها سمحاً ويفيض بالحب والطيبة. اعتدنا على سعالها حتى صار جزءاً من وجودنا، جزءاً من إيقاع حياتنا، وبعد فترة توفيت، وساد الصمت في الليل، لم يعد هناك سعال. شعرت بحنين، بشوق إلى هذا السعال. انتابتني تهيؤات عديدة حول كائن يسعل حتى الموت، دون أن يأخذه أحد إلى العلاج. كان الابن قاضياً مشهوراً بامتلاكه للعقارات في أحياء المخالفات، كان يؤجر مستودعات وشققاً، لكن أمه كانت تسعل طول الوقت. وحين جاءت معي سلافة، وكانت أول عشيقة لي في المدينة أحبتني في ظروف لا يمكن أن يستمر فيها الحب، كان هناك استنفار في البلد وصديقي نام في القطعة، فخلا الجو بالنسبة لي. سارتْ سلافة على الخفافات كي لا تتلوث قدماها بمياه المجارير، كانت الروائح تملأ الحي. لم تقل شيئاً، لكنها قررت أن تشرب الشاي وتذهب، ظل كأسها مليئاً. تذرعت بشيء ما.

ألححت عليها كي نمارس الجنس، وكان بي ظمأ إلى ذلك، وبدأت أمد يدي وأتحسس، قالت مازحة:

– يا لك من عجوز شبق!

كان السير معها في الشارع جميلاً في ذلك اليوم، أذكر وجهها، ربما تغير الآن، دخل في شكل آخر، في قناع مرحلة أخرى من حياتها. لم تقل أي شيء عن ماء المجارير ولا عن السعال، أنا أحضرت لتر العرق وبدأت بشربه في كؤوس صغيرة. كنت أشرب كل يوم إلى أن أشعر بالاسترخاء ثم بالخدر وبعد ذلك أنام. كانت أم شريكي في السكن ترسل له المونة من الضيعة كالزيتون المرصوص والعيطون الأسود والكشك والشنكليش والمكدوس. كانت مأكولات شهية، وكان هو شهماً. لم يدقق أبداً في مصروفاتنا، لكنني شعرت أنه خائف مني، هل يتخيلني منهم؟ لماذا لا يثق بي؟ بدأت تخطر لي أفكار من هذا القبيل. لم أخنه، لم أخن أحداً، ولا أريد أن أقدّم اعترافاً حول الأمر، لم يتعرض لأي موقف من قِبلي وهذا كاف لجعله يبتعد عن هواجس من هذا النوع. أم هل لأنني من طائفة أخرى؟

– أغمضوا أعينكم، تَخيّلوا من جديد، ما الذي ترونه؟

كان مفروضاً على الجميع أن يجيبوا على السؤال. أحدهم قال إنه من نور خالص، وهذا النور يضيء الكون فيما قال آخر إنه الشمس التي تشرق كل يوم.

– أريد أكثر، ألا تفكرون إلا بالشمس والقمر!

أحدهم تلعثم قليلاً، لم يستطع أن يعبّر، عجز عن تصوير ما تخيّله في كلمات، فأخرجوه من المجموعة المتمددة على ظهورها في ساحة رملية مسورة تحت شمس حارقة، حلقوا له على الصفر وحرموه من المبيت. كانت الإهانات تنصب عليه من كل حدب وصوب، عومل كحشرة تُسحق تحت الأقدام.

مرة قلت لصديقي أن لا داعي للمناورة وأن بوسعه أن يحكي لي ما يجري معه بصراحة، وأنه يجب أن يثق بي، لكنه تظاهر بأنه لا يفهم قصدي. قبلها كنت أضع لتر العرق وأحضر بعض المازة وأبدأ بالحديث معه، لكنه كان يغيّر الموضوع، وبعد أن ينام، أو يتظاهر بالنوم، يدخل في الموضوع.

أريد أكثر، من رأى أكثر؟

جاء دور صديقي، قال عنه إنه مجترح معجزات، مرة نقل جبلاً من مكانه، وغيّر مسار نهر كي يخصب مناطق مجدبة، وفي المناطق التي لا تصل إليها المياه يلمس الأرض فتنبجس الينابيع. صارت الحناجر تهتف باسمه حتى في بعض المدن الحاقدة. لم يعد سكان هذه المدن قادرين على السيطرة على حناجرهم التي بدأت تهتف فاعترفوا بأنهم مخطئون وأن حناجرهم صادقة، وقد فعلتْ هذا من تلقاء نفسها.

حصل صديقي بعد أن قصّ ما رآه على إجازة لمدة أسبوع كجائزة له. سافر كي يزور أمه وأباه وأخوته، في الريف البعيد. بقيت لوحدي. خطر لي أن أسافر إلى بلدتي لكنني لم أشعر برغبة في ذلك فقررت أن أمضي وقتي في التسكع في مركز المدينة. ثم في المساء أعود إلى غرفتي. كان لدي بعض الكتب التي كنت أتسلى بها وحين تنقطع الكهرباء أستسلم للنوم. يجيء الصباح معتماً بين الأزقة في الحي الذي أسكن فيه. البنايات متلاصقة والأصوات متلاصقة، ولا يفصلك عن آخرين لا تعرفهم إلا حائط سمكه ٢٠ سم وأحياناً أقل. كان لون الاسمنت طاغياً، والخفّاف غير مليّس في معظم الأبينة، وكل يوم يولد بناء جديد، بسرعة البرق، قبل أن ينشف اسمنت الأعمدة. تحولت أصوات شاحنات نقل الخفاف وأكياس الاسمنت والحديد ومجابل الباطون وصيحات العمال، وقرع المسامير في خشب السقوف إلى خلفية يومية تدجنت الآذان على قبولها، وفي الليل تأتي أصوات أغنيات لمطربين جدد لم يُسمع بهم من قبل، أصوات تتناهب الأفق، تسوّره، تحجبه، ثم تتبدد في خواء المدينة.

أحياناً أنظر إلى سرير صديقي الفارغ، أحاول أن أجمع خيوط كلماته، وأتساءل لماذا يحدث هذا؟ لماذا؟ لماذا؟

في إحدى الليالي رأيت حلماً، قُرع باب الغرفة وسمعت أصواتاً غير مألوفة تنادي باسمي، فتحت الباب، كان شكلاً من النور على جواد من النور، فضح بريق النور غرفتي وأثاثها الفقير، بانت قطرميزات المكدوس والزيتون والعيطون وربطة الخبز، ظهرت الأغطية المتسخة التي لم تُغْسَل منذ فترة، انكشفت ثيابي المعلقة بالمسامير، والمرآة ذات الإطار البلاستيكي، أُضيئتْ فرشات الإسفنج غير المُلبَّسة والتي ننام عليها صيفاً وشتاء، تبدّتْ البقع الصفراء على المخدات، وكراسي البلاستيك المتسخة، وأوراق الجرائد المبعثرة.

– هل يمكن أن أدخل؟

استغربت أنه استأذن مني. دخل على حصانه إلى داخل الغرفة، ترجّل، لمسَ حصانه فاختفى، جلس وقال:

– أعدّ لي مائدة مما لديك.

شعرتُ بالخجل. ماذا يمكن أن أطعم النور؟ أشار إلى القطرميزات، فذهبتُ إليها، لكن كان عليَّ أن أجلي الصحون، وحين فتحت الحنفية لم ينزل ماء. نهض لمس الحنفية فتدفق الماء، غسلتُ الصحون وسكبت له صحن زيتون وصحن عيطون وصحن مكدوس، ذكّرني بالشنكليش فأخرجتُ له قرصاً مستوياً من قطرميز ووضعته في صحن وسكبت عليه الزيت. ثم رتبت الصحون في الطبق القشي ووضعته أمامه. طلب كأس عرق. ذهبت وأحضرت اللتر الذي كان فيه ثلاثة أرباعه. نظر بشهوانية رهيبة إلى الصحون وبدأ بالتهامها، أكل كل شيء وشرب العرق كله، ثم طلب المزيد إلى أن فرغت القطرميزات، ثم نهض دون أن يصافحني، تمتم فجاء حصانه النوراني، وفيما هو ينهض أطلق بعض الغازات، ركب عليه واختفى، وبقيتْ خلفه رائحة غازاته الكريهة. جمعتُ الصحون، كوّمتها على المجلى، وفتحت الحنفية كي أغسلها لكن الماء كان قد انقطع.

كان حلماً غريباً، غير أنني شعرت بالراحة أنه لم يكن فيه أحد يأمرني بأن أغمض عينيَّ وأتخيّل وأروي، ربما لن أجرؤ على قول ما أريد أن أتخيله، ولكن هنا، في غرفتي، في ظلمتي السرية، في الحارة البعيدة عن المركز والتي يلتهمها الاسمنت كوحش مدرّب، وتنهش لحمها الأصوات المسنونة، أمرتُ نفسي:

– أغمضْ عينيك؟ تخيّلْ. ماذا ترى؟

– هاوية، هاوية، نندفع إليها جميعاً.

[تُنشر هذه المقالة ضمن اتفاقية شراكة مع جدلية]
[.This article is published jointly in partnership with Jadaliyya]