تدريباتنا

مشاهدات يومية واجتماعية من السويداء: من حركة الاعتصام… إلى اغتيال البلعوس

بواسطة | أغسطس 17, 2017

أنس الأسعد

“تعود مدينة السويداء لتظهر من جديد في ساحة الخبر السوري مع مشهد اعتقال الناشط المدني والمعارض جبران سلامة مراد. الشاب الثلاثيني الذي ألقت دورية تابعة للمخابرات العسكرية القبض عليه، على الطريق بين مدينَتَي السويداءــ القريَّا، له سجلٌ حافل في النشاط السياسي والعمل على تحقيق أهداف الانتفاضة السورية في التحرر من الاستبداد، والتأسيس لحياة سياسية وديمقراطية في البلاد. فجبران ينتمي لعائلة لم تكن بعيدة عن أجواء الاعتقال والملاحقة في عهد الأسد الأب، والده سلامة مراد وعمّه حديثة مراد الوزير السابق وصاحب كتاب (تجربتان: سلطة واعتقال) قضى في السجن أكثر من 25 عاماً بعد الانقلاب الذي قاده حافظ الأسد ضد تيار صلاح جديد صبيحة 16 تشرين الثاني من عام 1970.

في التاسع من حزيران 2017 تمّ إلقاء القبض على جبران بعد عدّة اعتقالات سابقة وملاحقات لم تنتهِ حيث ما زالت السلطة الجمهوريّة المورَّثة في سوريا تواصل ممارسة سياساتها القمعية بحقّ أجيالٍ من المعارضة، وبحقّ أصحاب الرأي المختلف تحت ذريعة “الحرب على الإرهاب.”

وبفعل الحرب السوريّة التي أفقدت السلطةَ الكثير من أدوات هيمنتها وبطشها، تمكّن أفراد عائلة جبران من احتجاز عناصر تابعين للأمن راوح عددهم في أيام قليلة بين 7- 12 عناصراً. ثمّ احتشد أقارب جبران وعدد كبير من الناس التي رأت في قضية اعتقال الناشط جبران مراد قضية عامّة تستطيع من خلالها الاحتجاج على سائر التوغلات الأمنية، وبالفعل كانت الساحة أمام مبنى قيادة الشرطة هي المكان الأساسي حيث أُشعلت الإطارات وتمّ قطع الطريق على وقع وعود تفاوضية باردة من طرف السلطة، تولّتها بالمقابل قنواتٌ دينية (المؤسسة التقليدية القديمة مشايخ العقل، وحركة مشايخ الكرامة التي ظهرت بعد عام 2011) قبل أن يُصار إلى إطلاق سراح كل عناصر الأمن أو الجيش، لكنّ الخبرَ عن جبران غير مؤكّد، وكلُّ جهة أمنية تلقي بالتبعة على الأخرى 2.

لكن لا يمكن قراءة هذا الحدث الأخير معزولاً عن سياق ما جرى في المدينة خلال السنوات التي تلت الانتفاضة السورية. فرغم قربها الجغرافي من مهد الانتفاضة في درعا، احتفظت مدينة السويداء بخصوصية في الصراع السوري حيث لم تشهد دماراً أو حرباً أو تشكيلاتٍ لكتائب عسكرية معارضة كما حدث في معظم المناطق السورية الساخنة. لكن المدينة شهدت نقطة تحوّل أساسية في علاقات القوة بين أبناء المدينة من جهة وبين المدينة والمركز (دمشق) عقب اغتيال الشيخ وحيد البلعوس الذي يُعتبَر ظهوره مع حركته المسلحة “مشايخ الكرامة”، حتى اغتياله في أيلول 2015، مركزاً لكل قراءة سياسية في المدينة. وعليه لابدّ لنا من العودة قليلاً لأحداث الأعوام الماضية من أجل ترتيب المشهد ومحاولة فهمه.

-1-

لمع نجم رجل الدين الدرزي الشاب وحيد البلعوس (1972-2015) بعد عسكرة الانتفاضة السورية وتحولها إلى صراعٍ مسلح حيث خاضَ فصيلُه المعروف باسم “مشايخ الكرامة”، وبشكل مستقل نسبياً، عدّة معارك على أطراف محافظة السويداء ذات الأغلبية الدرزية، ضد قوى إسلامية محسوبة على المعارضة، كان أشهرها في صيف العام 2014. ثمّ بروزه كقوة احتجاج شعبي ومطلبي واجهت السلطة الحاكمة التي فتكت بالقوى السياسية المعارضة من جهة، وتصدّت، من جهة ثانية، لحالة الهشاشة والانكفاء التي ألمّت بهذه الكيانات والشخصيات.

في بدايات 2011 كانت الشريحة الاجتماعية في السويداء التي تلاقت مع شعارات الانتفاضة السورية، شريحة متعلّمة وذات انتماء سياسي (من الأحزاب التقليدية للمعارضة السورية). مع مرور الوقت وضمور أي دور اجتماعي لهذه الشريحة الهزيلة وسرعة مغادرتها للبلد، وتأزم الصراع المسلح ودمويته، دُفِعَ بالشيخ البلعوس إلى الواجهة، وبدأ باستقطاب شباب خابت آمالهم، وانسدّ الأفق بوجههم.
كان تبني البلعوس للمطالب الشعبية والمعيشية للناس تدريجياً وليس دفعةً واحدة، لكنّه كرجل دين صاحب توجّه إحيائي تعذّرَ معه ارتقاءُ خطابه السياسي، كما أنّ افتقادَ الصراع السوري لإطاره الوطني من جهة ثانية، وتنامي الأصوليات المقاتلة وخطابها الطائفي من جهة ثالثة، لم يساعد على حمل هذه المطالب وتحريرها من لغتها الدينية الخاصة ومقاطعتها مع مشاريع المعارضة السياسية، التي فضّل جزءٌ منها أن يستثمر بالحالة الدينية للبلعوس (كدرزي المذهب) كما هي، وسعى بمحاولات متكررة إلى فتح قنوات تواصل إعلامية وعسكرية مع حركته. في حين لم يصدر عن جزء آخر من المعارضة الداخلية (والعاملين فيها من أجل التوصّل لحل سياسي عبر صيغة توافق دولي)، أي تعليق رسمي أو اعتراف بهذه الظاهرة التي تمّ بالتالي تجاهلها.

-2-

ظلّت مدينة السويداء طيلة أربع سنوات من عمر الصراع السوري، تستوعب السوريين الذين هجّرتهم آلةُ الحرب النظامية من مختلف المدن، حرصت حركة البلعوس خلالها على ما سمّته بـ”تحريم التعدي منّا وعلينا”، وبالتالي لم تشترك مجموعته في نصب الحواجز التي أرهقت حركة النازحين، في حين لم تكن عناصر “الدفاع الوطني” التابعة لأجهزة المخابرات، لتتورّع عن الإساءة المباشرة للنازحين.

لكنّ التناقض الأبرز الذي وقع فيه حامل شعار “تحريم التعدي”، هو تولي فصيله المسلّح دون الفصائل الأخرى (وفي السويداء قرابة 17 فصيلاً بين العائلي والديني) عمليات الخطف والمبادلة سواء مع جبهة النصرة، أو قوى المعارضة الأخرى، أو حتى قبائل بدوية اتهمها البلعوس بمساندة النصرة واشتبك معهما في بلدة داما عند حصن اللجاة (أيلول 2014) وقضى بالمعركة أحد إخوته. هنا لعب العميد وفيق ناصر رئيسُ فرع الأمن العسكري في المدينة، دور “الناشط السلمي”، ليتّهم البلعوس ورجاله بإشاعة الفوضى وتهديد العيش المشترك مع الجارة درعا! بينما اتّهم البلعوس النظامَ والجيش بالتخلي عنه في هذه المعركة، لتبدأ العلاقة بينهما بالتوتر، ستصل لاحقاً إلى درجة إشاعة خبر إقالة النظام لرئيس هذا الفرع، لتهدئة الأنفس، قبل أن يعيده بعد أقل من أسبوع.

-3-

حاولت مجموعة “مشايخ الكرامة”، تأمين بديل خدمي للناس إثر تراجع الدور الخدمي للدولة، مع ذلك لم يستطع البلعوس أن يوسع قاعدته الشعبية بما يتوافق مع طموحه المذهبي، لأسباب تعود إلى حساسيات عشائرية داخل الطائفة الدرزية ذاتها، وميل قطاعاتٍ واسعة منها لعدم التورط في صراع مع النظام. بدورها اتهمت قوى المعارضة النظامَ بأنه يجيّر الأقليات عموماً لصالحه، ويتعامل مع الطائفة الدرزية من خلال زعمائها الدينيين.

أمجد (اسم مستعار) وهو شاب في منتصف الثلاثينات، اعتقله النظام لنشاطه السياسي أكثر من مرّة، وكان عضواً في إحدى تنسيقيات السويداء عام 2011، يلخص في حديثه وجهة النظر المعارضة وتخوفها من بروز العامل الطائفي في المدينة، مطلع العام 2015:

“ضَمن النظام سياسياً ولاء الرؤساء الروحيين للطائفة (مشايخ العقل: أحمد الهجري، يوسف جربوع، حمود الحناوي) إثر قرار الإبعاد الديني (أو ما يعرف بالحرم) الذي فرضه هؤلاء الثلاثة مجتمعين على البلعوس جرّاء تحطيم “مشايخ الكرامة” لحاجزٍ للمخابرات الجوية تكرّرت تعدياته على الناس، مطلع العام 2015″.

ويزعم أمجد بأنّ النظام قد أوعز “أمنياً لرئيس فرع الأمن العسكري بأكثر من ذلك خاصّة بعد أن تناول البلعوس، في تسجيلٍ هو الأشهر، رأس النظام (بشار الأسد) متهماً إياه بالتخلي عن المحافظة، مؤكداً أنه] أي البلعوس [يقول ما يقول ولا يريد غير سوريا وطناً، رافضاً أي كلام أو مشروع عن دولةٍ درزية. عندها راح الأمن العسكري يشكّل العصابات العائلية (أو ما تسمى الدروع والألوية) ويموّلها بالإضافة إلى حثالات الشبيحة”

-4-

جراء ذلك ارتفعت وتيرة المواجهة الشخصية بين البلعوس والسلطة، ثم كان رفض البلعوس الزجَّ بمجموعته في القتال إلى جانب النظام، بمعركة مطار الثعلة حزيران 2015 التي هاجمت فيها قوى إسلامية ومعارضة اللواء 52 شرقي درعا، لكن البلعوس لم يمتلك القدرة الكافية لمنع كتائب عائلية ودينية أو حتى حزبية (مثل الحزب السوري القومي الاجتماعي) من الاشتراك مع النظام. الأمر الذي أوجد تلاقٍ بشكل أو بآخر مع أوساطٍ درزية، غير سورية، على عداءٍ شديد للنظام السوري مثل الوجيه الدرزي والنائب اللبناني وليد جنبلاط. كما حدث وتلقَّت حركة البلعوس تبرعاً بالأموال من دروز فلسطين بعيد مجزرة “قلب لوزة” التي ارتكبتها جبهة النصرة بإحدى القرى الدرزية في ريف إدلب، وتزامنها مع معركة مطار الثعلة، والخوف من دخول القوى الإسلامية للسويداء. أمّا الوجوه الدرزية، غير السورية أيضاً، إنما الموالية للنظام فقد ركزت في زياراتها للمدينة على اللقاء بمشايخ العقل، كما في حالة السياسيين اللبنانيين طلال أرسلان ووئام وهاب اللذين سبق لهما أن زارا البلعوس شخصياً أو عبر وفود، في داره الكائنة بمنطقة المزرعة، سنة 2011 وما قبلها، لدعم حركته الفتيَّة آنذاك.

بعد الموقف من معركة مطار الثعلة، تعزز إيمان قطاعات من الناس بجدوى حركة البلعوس بوصفها ملاذاً لعدد كبير من الشباب الذين لم يلتحقوا بالخدمة العسكرية بصفوف الجيش النظامي، يصف ماهر (اسم مستعار)، وهو أستاذ للرسم فُصل من المدرسة التي يُدرّس بها بعد طلبه كاحتياطي وعدم التحاقه، الخدمة الإلزامية بأنّها “باتت كابوساً يلاحق الشباب السوري بشكل عام، خاصة مع توسع النظام في طلب الاحتياط وإصداره قوائمَ مطوّلة بأسماء المفصولين من عملهم والكثير من هؤلاء الموظفين لم يعبّروا أساساً عن أي موقف معارض للنظام، الأمر الذي تركهم بلا مصدر دخل، وقطع عنهم قوت يومهم”.

-5-

بالعودة إلى الوضع الخدمي، صحيحٌ أنّ المحافظة لم تدخل الصراع المسلح كأرضٍ للمعارك لكنّ تململَ الناس بدا مقلقاً للسلطة. وتبلغ التقديرات المحلية (غير الرسمية) المتداولة لعدد من فقدوا حياتهم في صفوف الجيش النظامي بما يزيد عن 2000 شاب، (يُشار إليهم محلياً بـ”أبناء المحافظة” وذلك للتمويه على الحساسية الطائفية التي تخصّ وضع الأقلية الدرزية ومصيرها).

كما تدهور الوضع المعيشي بشكلٍ كبير مع تزايد الغلاء والانقطاع المتكرر للتيار الكهربائي، الذي لم ينتظم حتى ضمن برامج التقنين المعلنة، وقد يمضي الأسبوع برمّته مقتصراً على بضعٍ ساعاتٍ من الكهرباء فقط، لكن تبقى الأزمة الخدمية الأكبر هي أزمة المحروقات (الوقود). وبعد شتاءٍ قارسٍ جداً خلال سنتي 2014 و2015، وندرة مادة المازوت أجبر الناس خلالها للاعتماد على الحطب ووسائل بدائية أخرى 3، برزت ظاهرة تبدو منافية للمنطق تماماً تمثلت بالتزايد الطردي لمحطات الوقود داخل المحافظة مع تناقص مادة الوقود الرسمي الذي توفره حكومياً! ونتيجةً لعمليات الاحتكار والتهريب تمكنت شخصياتٌ فاسدة مرتبطة بالأجهزة الأمنية وبعضها على رأس ميليشيات، أو تسخرُهم ضمن شبكاتها، من بناءٍ ثرواتٍ شخصية. اصطدم البلعوس مع بعض هذه الشبكات واستطاع أثناء العاصفة الثلجية مطلع العام 2015 من مصادرة شحنة مازوت حكومية وقام بتوزيعها على عدد من قرى الريف الغربي وقاعدته الشعبية في ناحية المزرعة 4. أستخدم مصطلح “التهريب” هنا تجاوزاً لأنه عندما كان بعض الشباب المعارض يقوم بتمرير “تهريب” الغذاء والأدوية لقرى درعا المحاصرة كان النظام يعتقل الناشطين القائمين على ذلك، أمّا عندما يقوم رؤساء عصابات بتمرير صهاريج من الوقود وقاطرات من الإسمنت (يستخدمها المقاتلون بصناعة الدشم) فإن الأرباح تُقتسم بينهم وبين السلطة والحواجز من جهة أخرى).

أمام هذا التناقض جاء تحرّك مجموعة شبابية حملت اسم “نظّف بلدك” قبل أن تتوسع وترفع شعاراً أكثر حدّة “خنقتونا” (1 أيلول، 2015) ولم تنادِ بالعنف ومثّلت صوت الناس ومطالبها المشروعة وتوقها إلى الحياة، في تأثرٍ نسبي من حيث التنظيم والشعارات بالتظاهرات المدنية التي عمّت شوارع بيروت تحت شعار “طلعت ريحتكن”. وبالفعل استمرّ الاعتصام لمدة 4 أيام أمام مبنى المحافظة، ردّت فيها السلطة على الاعتصام بقطع الانترنت والكهرباء عن المدينة. في حين صمد شباب الاعتصام والكثير منهم كان على رأس تظاهرات 2011 ويمتلك مستوى من الوعي السياسي حاول النظام طمسه لكنه فشل.

في هذه الفترة لم يحدث اعتداء على المتظاهرين من قبل تجمعات المسلحين الموالين للنظام، ونوعاً ما كانت حركة التظاهر أيسر بما لا يقارن مع مظاهرات 2011 التي حصلت في المدينة. لكن لا ينبغي النظر إلى التساهل الأمني مع هذه المظاهرات على أنّه مؤشر على تغير في سياسات النظام الأمنية أو بادرةٌ منه باتجاه انفتاحٍ سياسي تجاه المنطقة، بل لأن الجميع يدرك حجم السلاح الذي بات منتشراً بين الأهالي، والجميع يترقب ويتخوّف من الساعة التي سينفجر فيها بوجه الناس.

لم يتوقع أحدٌ أنّ اليوم الذي ارتفعت خلاله حدّة تحشيد المظاهرات وازداد عدد المشاركين في الاعتصام، مع إعلان الشيخ البلعوس استعداده لحماية القائمين عليه دون تدّخلٍ ميداني مباشر من رجاله 5، سيكون نقطة تحول فارقة في مسار الحراك السياسي والاجتماعي في السويداء. لم يتوقع أحدٌ أنّ الرابع من أيلول ( (2015سينتهي بجريمة اغتيال دموية راح ضحيتها الشيخ البلعوس نفسه في تفجير بعبوة ناسفة استهدف سيارته في طريقه من ظهر الجبل بمنطقة عين المرج، تلاها تفجيرٌ آخر داخل المشفى الوطن بلغ عدد ضحاياه 36 شخصاً.

-6-

سرعان ما اتهمت المعارضة السلطة الحاكمة بالوقوف خلف عمليتي الاغتيال والتفجير، وعمّت اضطرابات عنيفة شوارع المدينة ليلة الجمعة 4 أيلول 2015. أسقط المتظاهرون تمثال الرئيس السابق حافظ الأسد من أهم ساحة في المدينة (الصورة رقم 1)، واستلم عناصر من رجال الدين الدروز الحواجز على مدخل المدينة، في حين لم يعثر على أثر للمحافظ عاطف الندّاف، أو رؤساء الأفرع الأمنية، أو أمين فرع الحزب شبلي جنّود (الذي سيُقتل لاحقاً في ظروف غامضة 6). يزعم فايز وهو رجل دين شاب شارك في إسقاط التمثال أنّ هذه الشخصيات القيادية قد هربت إلى دمشق عشية عملية الاغتيال.

عقب الاغتيال، ساد جوٌّ من القلق والترقب بين أهالي المدنية لاسيما مع عزلها عن العالم الخارجي بقطع الإنترنت وعودة متقطعة للتيار الكهربائي، كما فاقمت الإشاعات من حدّة الخوف من قطع طريق السويداء دمشق، وكان طلاب جامعة دمشق أكثر المتخوفين من هذه الإشاعة. لكنّ الأيام التالية هدّأت من حدّة الاحتجاجات إلى حدّ كبير، مما أزعج أطيافاً من المعارضة السورية والناشطين الذين أملوا أن تكون نتائج حركة الاحتجاجات ذات جدوى سياسية أكبر من اقتصارها على إزالة تمثال وسط المدينة. وخبت آمالهم تدريجياً في الاستثمار في أي تصعيد، وتسخين الجبهات، دون أي تخطيط أو حساب لموازين القوى المجتمعية والمذهبيّة في مدينة السويداء!

-7-

بدأت السلطة بلملمة المشهد السياسي. فغياب شخصية دينية كاريزمية، مكّن من وضع حدّ لحركة “مشايخ الكرامة” بأسرها، في ظل افتقار هذه الحركة أصلاً لأي برنامج سياسي يضغط معها صوب تحقيق أهدافها، وتعويلها فقط على مفهوم “الرجولة” الأمر الذي يضعها في مهب رياح المناوأة والاستثمار على حد سواء، دون أن يكون لها هي في ذاتها شيء.

أمّا بعض الفصائل المعارضة المنخرطة بالصراع العسكري، والتابعة لجهة معارضة رسمية كالائتلاف، فقد خسرت صوتاً من الداخل. فرغم أن حركة “مشايخ الكرامة” لم تُعرّف أو تعي نفسها كحركة معارضة لكن تطوّرها التدريجي وتزايد شعبيتها كان سيفيد المعارضة السياسية في حال لو فتحت قنوات اتصال مع الحركة. أما من الناحية العسكرية، كان من شأن التحالف أن يؤدي إلى تكوين تراكم يُرجّح الميزان العسكري لصالح معاركها، ويُحرّر قوى المعارضة المسلحة “إعلامياً” من وصفها بالإسلامية أو المتطرفة بناءً على موقف تقارب مع رجل دين ينتمي للأقلية الدرزية، الأمر الذي كان من شأنه أن يُربك علاقة النظام بهذه الأقلية، خاصة أن دعاية النظام ــ بحسب زعم المعارضةــ تقوم على ادعائه بحماية الأقليات.

وبالفعل خرجت أصوات إعلامية تابعة للمعارضة لتروّج لبعض العبارات السهلة والمكررة عن التحاق المدينة بالثورة، وعن التحرير والإدارة الذاتية وتقديم الدعم العسكري. متجاهلين أنّ أقدام هؤلاء أساساً غير ثابتة في مناطق سيطرتهم المزعومة والتي تتعرض لشتى أنواع التهديد ومن أفرقة مختلفين. فلم يعد المشهد بعد عسكرة الانتفاضة السورية وتحولها إلى حربٍ طاحنة كما كان خلال الأشهر الأولى، وقد خبر ورأى معظم المدنيين بأعينهم كيف تحكم المعارضة مناطقها “المحررة” (أو بالأدق كيف لا تحكم، إنما تتركها للمتطرفين)، وسرعة قصف النظام لها بالبراميل، كما خبروا فرارَ الناس منها، على اختلاف أسبابه.

هذه القراءة الرغبوية لما جرى في السويداء آنذاك، وما يجري الآن من تنامي عمليات الخطف وتحوّلها لمصدر تمويل ذاتي للحركات المسلحة مقابل فديات مالية باهظة، يُغفل عنصراً أساسياً في تحليل ديناميكيات الصراع الأهلي المسلح. فكيف يتوّقع هؤلاء الخبراء والمحللون أن ينزلق أهالي مدينة السويداءــ وهم متخوفون من قطع طريق الشام-السويداء، والإجهاز الكامل على ما تبقى من الخدمات الأساسية الضرورية، ومن انتقال الصراع العسكري إلى شوارع المدينة التي بقيت آمنة نسبياً طيلة سنوات الحرب، ومن تصاعد الخطاب الطائفي والاستهداف المباشر (كمجزرة قرية قلب لوزة في إدلب في حزيران 2015)ــ 7 إلى مغامرة غير محسوبة العواقب وحسب وإنما أيضاً مضرّة بمصالحهم اليومية.

-8-

في أيلول 2015 هزّت الحربُ السورية السويداءَ وضربتها في قلبها، وبدا الصراع وشيكاً خلال أيام ومرشحاً للتصعيد، وشهد انتقالاً من أطراف المحافظة إلى مركزها، وبين مواطنيها أنفسهم، إلا أنّ الولاءات هنا تتوزع فيما هو أوسع ومختلِف تماماً عن ثنائية القياس المحدود بين موالي ومعارض، كما أنّ الاعترافات التي بثّها التلفزيون السوري 8 يوم الأحد (التالي ليوم الجمعة الذي وقعت فيه عملية التفجير) لمن يقال إنه المتهم الرئيسي بعملية الاغتيال (المدعو وافد أبو ترابة) قد ساهمت في نشر الشكوك والبلبلة بين “عائلات” الضحايا. وبالرغم من ركاكة الحبكة، لكنّ الأسماء التي ذكرها المتهم تمّ اختيارها لتلائم الحساسيات العشائرية ضمن الطائفة الدرزية ذاتها، وهنا يتحوّل السبب الواهي إلى سبب ضروري يتمثل باستدعاء موروثات محلية تحت اسم ‘حقن الدماء’.

مع رؤية الأمور من هذه الزاوية قلّت فُرص دخول السويداء على خط النار بالرغم من “عروض القوة” التي خوّفت بها الفصائل المسلحة الدرزية (داخل المحافظة) بعضها البعض من جهة، وتخوّف الناس أجمعين من جهة أخرى. عدا عن الأداء المعارض الهزيل وعجزه عن تقديم بديل للناس، كلُّ ما سبق لم يدفع بالمدينة للترحيب ببيانات الكتائب المسلحة المعارضة (المحيطة بالمحافظة) والتي تدعو نفسها بنفسها للدخول وتحويل أرض المدينة إلى ساحة معركة، بعد أن ضاقت مساحات المدن المهدمة عليها. بل إنّ هكذا دعوة هي بالأصل ما خاضت المعارك ضده حركة الشيخ البلعوس.

بمعنى آخر إنّ الحساسيات السياسية والأهلية التي عرضنا تجاذباتها داخل المدينة وداخل الأقلية الدرزية تبدو غير مستعدة لخوض معركة غير واضحة المعالم، على أرضها وبدماء “أبنائها”، لتفرّط بباقي ما تبقى من شبابها الميّت والمهجّر مقابل الوعود فقط. ولو أنّ خلاصةً كهذه قد تُغضب الناشطين المتحمسين الذين سرعان ما انحطّت لغتهم لمستوى من القَبَليّة لدرجة أنهم صاروا يعيّرون الأهالي بالجبن وقلة النخوة، وكأنّ هذه القيم الثابتة والجوهرانية هي المحرّك الأساسي للناس لا الظروف السياسية والاقتصادية. هذا ولم نقل شيئاً عن الخطر الذي يتهدّد الجميع ويستغله الجميع وسبق أن حاول مراراً غزو أطراف المحافظة فعلياً من ناحية البادية الشرقية، ونقصد هنا داعش.

أخيراً جرى عبر هذه الجريمة المنظّمة تصفيةُ عدة أصواتٍ لا صوتاً واحداً: كان البلعوس يتحرك باتجاه أكثر ثباتاً وقوة في معارضته الحازمة للسلطة وخلال أربعة أيام كان الحراك المدني “خنقتونا” يتطور بشكل سريع، فجاء الاغتيال ليقطع مسار تطور الاثنين ويضعنا على أعتاب مرحلة أكثر عنفاً، ليبقى الشيء الوحيد الأكيد أنّه من غير الممكن تحليل مسارات الصراع وعلاقات القوى دون الأخذ بعين الاعتبار تفاعل السكان المحليين وإمكاناتهم المادية من جهة، والمصادر التي تشكّل وعيهم من جهة ثانية، كما لن يتيسّر لأي جماعة سورية الخروج من هذا النفق إلا بإيجاد صيغة دولية لحل عادل يخلّص السوريين أجمعين ويضع حداً لمأساتهم قبل تورّط ما تبقّى منهم في دوامة الحرب والدم.

هوامش

1- ملاحظة: كُتبت هذه المشاهدات في السويداء مباشرة بعد عملية الاغتيال وتم تعديله ليتوافق مع الأحداث الأخيرة

2- تم إطلاق سراح جبران مراد أخيراً في 20 تموز بعد مرور قرابة أربعين يوماً على اعتقاله.

3- للاطلاع على تفاصيل الاحتطاب والمصادر البديلة للوقود في محافظة السويداء، يمكن مراجعة: الحناوي، معتز، ” سنديان السويداء ولعنة الحرب السورية.” جدلية، 23 حزيران، 2017

4- في الفيديو التالي المصوّر في قرية المزرعة في السويداء بتاريخ 10 كانون الثاني2015، يتحدّث الشيخ البلعوس عن أزمة المازوت وسبب الخلاف مع السلطة التي حاولت مصادرة شحنة مازوت وصلت إلى محطة خالد نصر للوقود لتغطية حاجة الأهالي خلال فصل الشتاء القارس. حاول “بعض المسؤولين،” بحسب البلعوس، في الأجهزة الأمنية مصادرة المازوت بذريعة أنه “مُهرّب” و”غير نظامي” رغم دخول الشاحنة قانونياً عبر الحدود اللبنانية-السورية لإعادة توزيعه على أقاربهم وشبكاتهم.

5- كان الشيخ البلعوس يتحاشى الاصطدام المباشر برجال الأمن وموالين النظام المسلحين الذين يعتبرهم بأنهم من “أبناء” المحافظة، وقد خَبِرتُ بناءً على مشاهدات عينية مباشرة وسمعت مراراً استخدام البلعوس لتعبير أبناء المحافظة في قرية المزرعة في السويداء. وقد أشرت إلى أنّ استخدام توصيف “أبناء المحافظة” لا يضمر حساسية دينية فقط (من هم هؤلاء الأبناء؟) بقدر ما يظهر بالمقابل نوعاً من الحرص الأبوي عليهم. وبالتالي مهما اختلف الموقف السياسي للجهة أو الشخص الذي يصدر على لسانه هذا التوصيف فإنّ الظهور بمظهر الحريص سيكسبه بالضرورة رأسمالاً شعبياً سهلاً وغير مكلف مقارنة بالمواجهات الميدانية المباشرة التي لا يضمن أحد نتائجها.

6- الديك، رفعت، ” استشهاد الرفيق شبلي جنّود أمين فرع السويداء للحزب.” البعث نيوز، 6 تشرين الثاني، 2015

7- Aymenn Jawad Al-Tamimi. (June 15, 2015). ”The Massacre of Druze Villagers in Qalb Lawza, Idlib Province.” Syria Comment.

8- SyrianTVChannels2، “التسجيل الكامل لاعتراف الإرهابي أبو ترابي 07.09.2015،” يوتيوب. (تم رفع المقابلة/”الاعتراف” على قناة التلفزيون السوري الرسمية على اليوتيوب بتاريخ 7 أيلول، 2015) “

نشر هذا المقال بنائا على شراكة مع جدلية.

[This article is published jointly in partnership with Jadaliyya.]

مواضيع ذات صلة

 محمد مُحسن: صانع النجوم ومبدع الألحان الخالدة

 محمد مُحسن: صانع النجوم ومبدع الألحان الخالدة

 خلال مسيرته الفنية الحافلة بالعطاء، والتي استمرت لأكثر من نصف قرن، أبدَعَ مدرسة لحنية وغنائية متفردة وغنية ومتكاملة، تركت بصمتها المؤثرة في تاريخ الموسيقى العربية، وقد ساعدته موهبته في الغناء في فهم طبيعة الأصوات التي لَحَّن لها، فكان يُفصِّل اللحن على مساحة...

جُرح في الزوبعة

جُرح في الزوبعة

كانت حياة أنطون سعادة القصيرة (1904-1949 م) أشبه بدورة الإله بعل في الميثولوجيا الكنعانيّة القديمة، فبعل الذي يموت ويولد على نحوٍ أبديٍّ، وفقاً لـ"ألواح أوغاريت"، يرمز إلى "بلاد كنعان" أو "فينيقيا" تبعاً لتسميتها اليونانيّة القديمة، هذه البلاد التي مهما حاقَ بها من...

زكي الأرسوزي أو أمل ضائع بأُمّة تنبعث من عبقريّة لسانها

زكي الأرسوزي أو أمل ضائع بأُمّة تنبعث من عبقريّة لسانها

تعرّض زكي الأرسوزي (1899-1968 م) لإهمال كبير، ولم يُكَرَّس في الأدبيات الفلسفيّة العربيّة إلا على نحوٍ عَرَضيّ، بصفته أحد دعاة الفكر القوميّ، ومؤسِّس فكرة حزب البعث العربيّ، التي أخذها ميشيل عفلق منه وحوّلها إلى تنظيم سياسيّ فاعل في سوريا، وتلاشى ذكر الأرسوزي مع تلاشي...

مواضيع أخرى

الدراما السورية في موسم 2024: مبالغات تخطت الحدود واستسهال واضح

الدراما السورية في موسم 2024: مبالغات تخطت الحدود واستسهال واضح

لا يختلف اثنان أنّ الدراما السورية أحدثت فارقاً وصنعت بريقاً أخاذاً في فترةٍ ذهبيةٍ امتدت ما بين عامي 2000 و2010. وتحديداً ما بين مسلسل الزير سالم الذي أخرجه الراحل حاتم علي ووضع فيه الراحل ممدوح عدوان عصارة ما يمكن لكاتب المجيء به نصاً وحواراً وأحداثاً ليجعل منه...

استنساخ المسلسلات السورية وغياب الحاضر

استنساخ المسلسلات السورية وغياب الحاضر

أهتم كثيراً بمتابعة الدراما العربية، خاصة السورية، وثمة مسلسلات سورية لامست أوجاع السوريين وما يتعرض له الشعب السوري مثل مسلسل غزلان في غابة من الذئاب للمخرجة المبدعة رشا شربتجي. هذا المسلسل أثلج قلوب السوريين كلهم لأنه حكى بصدق وشجاعة ونزاهة عن أحد كبار المسؤولين...

الأمهات في سورية: عيد ناقص

الأمهات في سورية: عيد ناقص

غدت الأمومة في سورية مهمة قاسية ومثقلة بالهموم واكتسبت أوجهاً كثيرة، إذ انتزعت الحرب دور "الأم" الأولي المناط بالعطاء والتربية والمساند المادي الثانوي، وبدأت كثير من الأمهات يلعبن دور المعيل الأساسي ومصدر الدخل الوحيد لتحمل نفقات الأسرة في ظل غياب قسري أو اختياري...

تدريباتنا