(إذا كنتُ سوريّاً، فما العجبُ أيُّها الغريب؟
نحن نحيا في وطنٍ واحد هو العالم)
ميلاجر، شاعر سوري فينيقي
من أين أنت في سوريا؟
يربكني هذا السؤال، يجرحني في الصميم، ويُخَلْخِل تكويني، يُشعرني أنني ابن القوالب الاجتماعية القديمة، أنني أنتمي إلى ما قبل إنسان الحداثة، إلى ما قبل إنسان الحقوق والقوانين، ينبّهني إلى السجن الذي أعيش فيه، وإلى الجدران التي تخنق فرديتي بهوائها المحبوس الملوّث، ويجعلني ذرة باهته لا مرئية متراصة مع ذرات أخرى، وبالتالي يلغي اختلافي، ويُجرم بحقي. يعرّيني في قفص الحزب الواحد، والمذهب الواحد، والإيديولوجيا الواحدة.
أعشق كلمة سوري حين تكون طبيعية كالهواء الذي نتنفسه، لا يفرضها أحد عبر لعبة التصنيف أو التسمية ذات الطابع الإقصائي أو الإلغائي. وفي خضم المأساة، وفيما السوريون يموتون على الجبهات أو الطرقات أو في المنازل أو في أعالي البحار، أو يعانون في مخيمات اللجوء والمنافي، أو في بيوتهم من الظمأ والجوع والبرد والعتمة والحزن، وفي ظل هذه الحرب المدمرة التي اتخذتْ طابعاً طائفياً، والتي قادت إليها سياسات وجملة ظروف وتدخلات نجحت في تحويل حراك مدني إلى حراك عسكري ثم إلى حرب طائفية دفعت سوريا إلى حافة الهاوية، فقدت كلمة سوري قيمتها وصارت بحاجة إلى تعريف، عرّشتْ عليها الأسماء التصنيفية، وظلتْ، كما كانت، منفصلةً عن مفهوم المواطنة، وعن الحرية والديمقراطية، وعن جملة الحقوق التي تحدِّد الإنسان كإنسان حديث، ظلت كلمة مرتبطةً بانتماءات إلى أحزاب حاكمة أو تطمع بالحكم، مكيّفةً مع ولاءات فئوية مستعادة من القرون الغابرة، في سياق اجتماعي نبدو فيه كما لو أننا ننتمي إلى منظومات متباعدة زمنياً ومتجاورة كالطبقات الجيولوجية )كما عبّر المفكر عبد الله العروي(، والتي ترتبط الآن بمشاريع إقليمية ودولية الهدف منها تدمير سوريا.
كانت البداية ملحمة مدنية ألّفها جيل جديد، مغاير ومختلف، صادر عن قطيعة ثقافية مع النخب والإيديولوجيات السائدة، تظاهر مطالباً بحريته وكرامته ضمن دولة القانون والمواطنة، دولة الحقوق والحريات، لكن فتح النار على المتظاهرين، وركوب المتطرفين والغرب للموجة وعسكرة الانتفاضة، والتدخلات العابرة للحدود وأدوا الحلم في مهده، وقضوا على الجيل المدني الذي فجّر الانتفاضة، كي يخلو المكان لأصوليات شرسة، عثرت على التربة الخصبة الملائمة، وعلى الحاضنة المناسبة في البيئة التي أنشأتها البراميل المتفجرة.
ثمة من يستخدم سوريا كوقود للحفاظ على الكرسي، ويضحّي بها كلها للبقاء عليه، وثمة من يقوم بالعمل نفسه كي يستولي على الكرسي. ثمة من يحتكر سوريا في الخطاب، ويمارس القتل لترويجه، وثمة من يزجّ بسوريا بأكلمها في سجون العقائد، ويمارس الذبح باسمها، والذين يموتون هم أبناء سوريا، والقتل هو واحد سواء تم باسم الوطن أو باسم الجنة، من أجل الثأر أو من أجل العرش.
سوريا تتفكك وتنصهر لا لكي يعُاد سبكها وفق رؤية أو مشروع وطني مدني وديمقراطي، بل كي يهيمن على أشلائها النازفة أمراء الحرب، كي تتحول خريطتها إلى قطع صغيرة في أفواه ذئاب كثيرة. ففي هذه البلاد الممزقة والنازفة والمدمرة، التي شُرِّد أبناؤها، المليئة بالجرحى والأرامل والمبتورين والمعطلين والعاطلين عن العمل، تنتشر فوهات القتل على امتداد الخريطة، ويتبخر الشبان تحت شمس الهجرة، فارين من الجحيم، تائقين إلى المغادرة حتى لو كان ثمنها الموت غرقاً، لأن الحياة ضيقة، منعدمة، لأنهم يُسَاقون إلى حروب خاسرة ويُضحَّى بهم على مذابح العروش.
إن الذين يدّعون الدفاع عن الوطن يعرفون في سريرتهم أنهم لا يدافعون إلا عن السلطة واميتازاتها، ليس عن سلطة تمثلهم، انتخبوها ديمقراطياً، أو عن حقوقهم التي يدوسون عليها فيما هم يُستخدمون كأدوات لقمع من ينادي بها، وبإعلانهم عن استعدادهم لحرق البلد من أجل الكرسي، يرسّخون ثقافة الانتقام، ويحاربون بلا بوصلة، مختارين الانتحار ومضحين بأنفسهم مجاناً على مذبح السلطة. أما الذين يقولون إنهم يقاتلون من أجل الإسلام وباسمه ودفاعاً عن أغلبية الشعب فيدمرون الوطن بعقليتهم الثأرية مرسخين الهويات القاتلة. فهل لغة الثأر لغة الحضارة أم لغة البداوة؟ هل نريد “ثواراً” يقفزون فوق القانون ويرسخون شريعة الغاب، يعبّر عنهم ويسوّغ لهم مثقفون تحريضيون يصفوّن حسابات طائفية؟
سوريا السجينة في قوالب السياسة الإيديولوجية الأحادية والتطرف العسكري، في قوالب التدين النفطي المهادِن والمُشترى، في قوالب التطرف المُعَد في المخابر الأمنية، سوريا التي يتسلّل إليها القتلة عبر الحدود، ويُربى فيها القتلة داخل الحدود، ما الذي حدث فيها ولها؟ وما الذي يمكن فعله من أجلها؟
تتبلبل الأذهان وتعجز الألسنة أمام هول الدمار والقتل والتشريد والنفي والاعتقال.
اقتتال شرس على السلطة، هذا ما تشهده سوريا، والغائب الأكبر هو رؤية واضحة، خريطة طريق نحو وطن يتعانق فيه جميع أبنائه، وطن المواطنة والحرية والكرامة. هل صار هذا حلماً بعيداً؟ لا شك أنه حلم بعيد، ذلك أن سوريا على طريق الهاوية. إنها بحاجة إلى معجزة والمسؤولية جماعية.
ستنفق سوريا سنيناً طويلة في بناء بيوتها ومعالجة جراحها والشفاء من رضوضها وصدماتها، ستستغرق سنيناً طويلة للتحرر من أفكار كثيرة يسوّقها ناطقون بأسماء الجماعات المتناحرة. والآن، يدفع المجتمع السوري ضريبة حلمه المدني، وتطلعه إلى حياة حرة وكريمة، يدفعها على كل مستوياته وفي كل مناطقه، لكن بالرغم من التشرد والنفي والموت والاقتتال والدمار، سيسير السوريون إلى العناق في النهاية فوق الأنقاض، لا لكي يتصالحوا قابلين الأوضاع القائمة، بل ليتصالحوا مجمعين على استمرار سيرورة التغيير في إطار عناق مدني وحراك مدني يخرجان من أنقاض المدن والقرى نحو بناء سوريا للجميع، بعيداً عن المحاصصة الطائفية، والصفقات الإقليمية والدولية، وتسوّل التدخل الخارجي، وتسوّل التدخل العربي، وبعيداً عن كل العصبيات الدينية والإيديولوجية.
هذا هو الحلم، هذا ما يجب أن نصبوا إليه بالرغم من طبقات الألم والقهر المتراكمة، بالرغم من أسوار الكراهية التي تعلو.