تدريباتنا

من هذا الذي يسلب السوريين ذاكرتهم ويستعد لإحلال البدائل؟

بواسطة | أغسطس 29, 2018

مرّت سنوات على تحوّل الحراك السوري لحرب باختلاف تسمياتها “أهلية، بالوكالة أو حرب ضد الإرهاب”، مايهم أكثر من التسمية هو أنها جرّت على سوريا الخراب وجعلتها من أخطر دول العالم، بعد أن عرّضت أهلها للموت وشتى أنواع الانتهاكات الإنسانية، مجبرة إياهم على النزوح واللجوء. وحتى من بقي في الداخل السوري أصبحوا يعيشون وضعاً اقتصاديّاً سيئاً وأغلبهم تحت خط الفقر.

هذا كله، لم يعط السوريين الجرأة الكافية لكشف حقيقة ما مروا به دون اعتبارات الاصطفاف لأحد الأطراف، وما يزال الأغلبية جاهلين أو متجاهلين ربما أن تقييم مع وضد من غير مهم.

منذ كارثة تحوّل المطالبة بالحرية والعدالة والديمقراطية إلى مطلب إسقاط الرئيس، بدأ تقزيم الحراك وتفريغه من مضمونه الأساسي الساعي للمواطنة المتساوية والعدالة وحقوق الإنسان، ليحل محله مضامين سطحية لا تخدم أهداف الشعب فحسب وإنما تحقق أهدافاً سلطوية لفئات وأحزاب سعت لخلق الشقاق بين السوريين بكل الطرق الممكنة، ولا يمكن إخلاء  مسؤولية أي طرف من مسؤولية تعزيز هذا الشقاق قولاً وفعلاً.

بدأ هذا الشقاق منذ تم الدفع نحو الاستهانة بالجيش ككل، مما ترك تأثيراً سيئاً عند السوريين، فأصبح العديد منهم مستعدين للتهجّم عليه دون وضع استثناءات، حدث هذا منذ البدايات قبل أن يتورط كلياً بتبني سياسة النظام العسكرية، عندها كان الجيش مؤهلاً للانقسام وهذا كان ليُضعف النظام العسكري ويجعله يخسر رهانه على سطوته على الجيش. حتى المنشقون عنه لم ينجوا من التهميش وإساءة التعامل والاستبعاد عن المشاركة في المخططات التي وُضعت لعسكرة الثورة ومزاعم بناء “جيش حر”.

وهكذا نُفذّت الخطوة الأولى لشق السوريين بين لاعن للجيش السوري بمجمله ومدافع مستميت عنه ولو كان قاتلاً مجرماً، وبهذا أصبح الجيش بكليّته موضع شبهة لدى مؤيدي الثورة، وموضع تقديس عند أنصار النظام.

وما إن تمت مهمة تحطيم الجيش كرمز وطني، جاء دور العلم السوري، فأدى استبدال العلم السوري الذي كان رمزاً جامعاً، لزيادة الانقسام السوري السوري، رغم أن النظام سبق له وأن شوهه بوضع صور الأسد الأب عليه، وأهان العلم باستملاكه له، لكن طليعة الحراك تمسكوا به وشدّدوا على قيمته الجامعة، إلى أن طرح علم جديد للثورة وتم التسويق للتمسك به باعتباره رمزاً لهم، من يحمله ثائر ومن يحمل غيره خائن ملعون، من يُقتل تحت رايته شهيد، ومن يموت تحت علم سوريا ليس إلا “فطيسة”، علماً أن أوائل شهداء الحراك جميعاً حملوه وقُتلوا تحت رايته، فهل يلعنونهم؟

تبنى أنصار النظام أيضاً الادّعاءات ذاتها نحو العلم الدخيل، فوسموا كل من يحمله بالخيانة، معتبرين من يموت تحت ظلّه “فطيسة”، لم يستثنوا أو يرحموا أحداً، وهكذا تم هدم رمز ثان كان جامعاً للسوريين.

خلال هذا بدأ مؤيدو الثورة يخفون الأسرار عن ممارسات لا تشبه تلك التي انطلق من أجلها وبها الحراك، ولم يتجرأ العديد منهم على فضح هذه الممارسات  اليومية متبنّين مبدأ “الغاية تبرر الوسيلة”.

ورغم أنهم أدركوا بعد سنوات أنهم لم يصلوا للغاية، إلا أنهم ظلّوا يهربون من الحقيقة تحت مزاعم حماية ما اصبح اسمه “ثورة” وعلى رأسهم مثقفوهم.

بعض هؤلاء المثقفين لم يتمكنوا من الخروج من عباءة أحقادهم الدفينة نحو الأسد الأب وانتهاكاته التي قام بها بحقهم، فتغلبت مشاعر الثأر فيهم على المصلحة العامة، بينما تورط بعضهم الآخر بشكل مباشر بعلاقات مشبوهة مع مجموعات ودول تدخلت بالصراع العسكري وساهمت في إيصال سوريا إلى ما آلت إليه. وبالتالي كان المثقفون الثوريون إما أدوات للتخريب أو ساعين للشعبوية، أو باحثين عن موطئ قدم في مستقبل سوريا، إن بقي لها من المستقبل شيء يُذكر.

وعلى التوازي مع كل ما يجري، أقيمت حملات تشويه سمعة وتنمر ضد كل من يعترض على العسكرة أو يحاول قول الحقيقة بهدف التنبيه والتصحيح. وتم استثمار ميول السوريين الدينية التّي اشتدت باشتداد وطأة القتل، فلم يبق لدى كثير منهم حل سوى بالبحث عن الله واللجوء إليه، وصحت طائفيتهم ليتم صبغ الحراك بصبغة دينية و يتحوّل أخيراً “جهاداً لإعلاء كلمة الله”.

ساهم في هذا موقف سياسيي ومثقفي ما أصبح اسمه “الثورة”، حين مدوا حبال الود والتآخي مع حملة شعار “هي لله” آملين بسرعة إسقاط النظام بمساعدتهم، ومنكرين لأسلمة الحراك، كما أنهم أيضاً ادعّوا أن الكارثة عبارة عن مرحلة مؤقتة ستنتهي بانتهاء النظام الديكتاتوري.

ليس خافياً أن للسلطة الاستبدادية اليد الطولى في تجريد الشعب من انتمائه للوطن، واعتباره ملكية خاصة للسلطة الحاكمة، وبهذا يعتقد المواطن أن كل ممتلكات الدولة العامة هي للسلطة، لا يعنيه منها شيء وبالتالي عبء دمارها يضر بالسلطة المافيوية وحدها وليس خسارة وطنية للشعب السوري.

وأصبح استهداف ممتلكات الدولة يعني استهداف السلطة، وبهذا تمت استباحة الممتلكات العامة ولم يتوان أي أحد عن عن تخريبها وتدميرها وسرقتها، كالمتاحف والآثار والمشافي والمؤسسات والمدارس وغيرها.

ويشهد كثيرون منذ البدايات، على عمليات نهب وتدمير طالت ما تصل له اليد، ودوما المبرر لذلك هو “رد الفعل على همجية النظام”، وكأن الدولة هي النظام والنظام هو الدولة، وهذا لا يختلف بشيء عن تبرير البعض لغض طرفهم عن إجرام السلطة وتاريخها الطويل في تدمير الدولة بحجة أنهم يواجهون معركة مع الإرهاب، فالحراك بالنسبة لهم  هو مجموعة من “الإرهابيين والقتلة”.

بهذا المنطق تم تحويل السوريين جميعاً لقتلة، وهو منطق مشوّه قائم على جهل الطرفين بما كان يجري حقيقة في الطرف الآخر، أو صمتهم عند علمهم بهذا، فمواجهة الجرائم وإدانة أصحابها سيجرد الجميع من حججهم للتستر على جرائم الطرف الذي يدعمون وفضح جرائم خصومهم.

بعد قطع آخر حبال الانتماء للوطن، واعتبار الدولة عدواً يحلّ تدميره، ربما يجب الانتقال إلى المهمة الأخطر التي نواجهها اليوم بشراسة رغم أنها بدأت منذ زمن، وهي تخريب الذاكرة السورية المشتركة.

لماذا يريد أي شخص تشويه كل من مر بالتاريخ السوري من سياسيين وكتاب وأدباء وفنانين ووسمهم بالخيانة والعمالة والاصطفاف مع الديكتاتور، وتشويه إرثهم وسحب المصداقية من تاريخهم وآثارهم بمن فيهم الموتى؟ لماذا يتم تدمير الهوية الثقافية للسوريين كاملة ، لمصلحة من وما الهدف؟

قد نفهم هذا الموقف ممن اصطف علناً مع همجية النظام وآلته العسكرية وأيد قتل الشعب واعتقاله وتهجيره، لكن لا يمكن أن نفهمه من المعتدلين الذين لم يعلنوا اصطفافهم مع “الثورة” “بعجرها وبجرها”، ولا أولئك الذين لا يرون فيها وبمن يمثلها ما يشبههم.

ليس من حقنا أن نطالب أي كان أن يكون مع “الثورة” التي لا تحمل أهدافه ولا قيمه ولا أخلاقه أو أن نتهمه بالخيانة والعمالة، كثيرون ممن يتم لعنهم علناً أو ممن يتوارون عن الأنظار، يحملون قيماً وأخلاقاً ثورية أكثر بكثير من زبد السطح الظاهر على ضفة “الثورة”، لكنها لا تمثلهم. هم يعرفون ما ننكره ونخفيه وعليه بنوا مواقفهم، كما نعرف نحن ما ينكرونه ويخفونه وعليه بنينا مواقفنا.

لم يسلم أحد من طوفان الرجم واللعن من كل الأطراف، الطوفان يأخد الجميع، وإن بقي الطريق مفتوحاً له، سيلتهم ذاكرتنا كاملة ثم يلفظها مشوهة وقميئة، دافناً إياها مع كل ما أنجزه او كتبه أو أبدعه السوريون، لنصبح بلا هوية ثقافية، وبهذا يَسهُل إحلال بديل مسخ لها.

ما يؤسف هنا، هو ردة فعل نخبة السوريين وصمتهم أو تأييدهم لما يجري، ولو بمواربة وقليل من الاستحياء، إما إرضاء  للجمهور أوحرصاً على المريدين أوحفاظاً على مكانة “ثورية”.

قاربنا ثماني السنوات من الحرب، وما زال سياسيو ومثقفو الثورة يدورون في نفس الدائرة، دون أن يتعلموا من التجربة أو يتجنبوا الوقوع في الوحل مرة تلو أخرى. هذا الوحل الذي سيشهد عليهم أنهم شهود زور وشياطين خُرس، لم يحترموا أن جلّ من يتم تشويههم ساهموا في تكوينهم شخصياً، أو كانوا رفاق درب تشاركوا الحلو والمر عبر سنوات طويلة من الاستبداد والقهر.

ويبقى سؤال، هل يوجد سوريون آخرون؟ نعم هناك من يحمل قيم الحق ويسعى للعدالة ويأمل ببناء دولة المواطنة المتساوية داخل سوريا وخارجها، من يُصدقون القول ويحسنون الحكم، يعرفون موضع الخطأ ويعترفون به بأمانة، دون تمييز أو تحيّز، هؤلاء السوريون، يواجهون الكارثة ويعلمون حجمها ساعين لوقفها، وآملين بأن يستطيعوا بناء سوريا كما يجب أن تكون، دون استبداد ولا استعمار، دولة ديمقراطية قائمة على العدالة والمساواة.

مواضيع ذات صلة

عبد السلام العجيلي: شيخ الأدباء وأيقونة الفرات

عبد السلام العجيلي: شيخ الأدباء وأيقونة الفرات

يمثل عبد السلام العجيلي ذاكرة تأسيسية في مدونة الأدب السوري، ذاكرة من من ذهب وضياء، ضمت في أعطافها عبق الماضي وأطياف الحاضر، امتازت بقدرته الفائقة في الجمع بين مفهومين متعارضين ظن الكثيرون أنه لا لقاء بينهما، ألا وهو استلهامه واحترامه للتراث وللإرث المعرفي المنقول عمن...

عمر البطش مدرسة متفردة في فنون الموشحات ورقص السماح

عمر البطش مدرسة متفردة في فنون الموشحات ورقص السماح

إلى جانب كونها مدينة الطرب والقدود، برعت حلب وتميَّزت في فن الموشحات، وذلك بفضل كوكبة من ملحنيها ووشاحيها المبدعين، الذين كانوا مخلصين لذلك الفن  وحافظوا على روح وألق الموشح العربي وساهموا في إغنائه وتطويره، ومن أبرزهم الشيخ عمر البطش، الذي ساهم على نحو خاص في...

شعاع من الفن التشكيلي السوري: نصير شورى (1920-1992م)

شعاع من الفن التشكيلي السوري: نصير شورى (1920-1992م)

في الخامسة من عمره حظيت إحدى لوحاته بإعجاب العديد من أساتذة الرسم، نصير شورى الذي ولد عام ١٩٢٠ والذي كان محط عنايةٍ خاصة من والديه: محمد سعيد شورى، الأديب والشاعر الدمشقي المعروف، وأمه، عائشة هانم، ذات الأصول العريقة. فكان أن تلقى تعليماً خاصاً منذ نعومة أظفاره...

مواضيع أخرى

النساء ومعاركهن المتجددة

النساء ومعاركهن المتجددة

 يتم تسويف قضايا النساء بذرائع متعددة على الدوام، مرة بذريعة الحرص على الأخلاق العامة، ومرة أخرى بذريعة عدم المواجهة مع قوى الأمر الواقع، ومرات بذرائع تنبع فجأة من خبايا السنين وتصير حاضرة بقوة مثل طبيعة المرأة البيولوجية، أو التشريح الوظيفي لدماغ المرأة، وصولاً...

مرحلة اللادولة: بين إرث الماضي ومسؤولية المستقبل

مرحلة اللادولة: بين إرث الماضي ومسؤولية المستقبل

تمر سوريا اليوم بمرحلة فارقة في تاريخها، حيث يقف الجميع أمام اختبار صعب: هل يمكن تجاوز إرث القهر والاستبداد لبناء دولة جديدة قائمة على الحرية والكرامة؟ أم أننا سنتعثر مجددًا في أخطاء الماضي، التي صنعها الخوف، الصمت، وصناعة الأصنام؟ اليوم، نحن في حالة فراغ سياسي...

قراءة في المشهد السوري بعد سقوط النظام

قراءة في المشهد السوري بعد سقوط النظام

شهدت سوريا خلال أربعة عشر عامًا من الصراع تحولًا جذريًا في موازين القوى المحلية والإقليمية والدولية. بدأ الحراك شعبيًا وسلميًا، لكنه انتهى بصراع مسلح معقد ومدعوم خارجيًا، في ظل غياب قوة سياسية مؤثرة ميدانيًا. وبينما ساندت روسيا وإيران النظام السوري، مما أطال أمد...

تدريباتنا