تدريباتنا

مُفارقات الكتابة في الكارثة السّوريّة

بواسطة | يناير 17, 2018

كلّما كبرت المأساة أصبح من الصعب هضمُها وتجاوزها، وكلّما أغرقنا في تناولها كمادة تحريضيّة لعملٍ ابداعي، أصبحت المأساة، ملهاةً سهلة! وضربةُ فلاشمؤقّتة. ربّما هكذا نشعر ونحن نقرأ نصاً عن حدث ما، تخيّلوا ذلك، هناك كتابة مخصّصّة مرتبطة بوقائع تاريخيّة، كتابة أدبيّة تامّة، أي أن المتغيرات اللّحظية هي التي تصنع الأدب، لعلّها خُلاصة فرديّة، لكنّها تَحدثُ الآن، تحدث وبسرعةٍ هائلة في بلد مفتوح على الحروب والصراعات، وإن لم تكن أحياناً على أرضه، فهي مرتبطة بأحداثه عبر أصوات أهله وأطراف الصراع فيه عبر أنحاء العالم.

لقد أصبحت الأدوات التي تصنع الأدب متشابهة نوعاً ما في مشهد الكتابة السّوريّة الرّاهنة، أو لعلّ ضجيج المعارك وقهر الشوارع  والهجرات والآلام، تجاوزوا ذلك، وبات وجودها عارية يصيب كبد الحقيقةفي لحظة، حتّى تكلّست الذائقة واختنقت العيون بملايين الصّور العاجلة واللّوحات التشكيليّة التي أعيد إنتاجها من حدث ما، كذلك الأمر مع النّصوص التي تَستخدم مفردات مرتبطة بزمن حالي أو صورة في مشهد حربي، بقصد المُعاصرةالتي يرافقها سرعة في التقاط الجُمل ثم يليها إعادة مونتاج وتسويق ببعض الإعجابات، وتصبح الحالةتجربة، وصاحب الحالة مبدعاً“!؟

إنّ الاستهلاك الافتراضي ساهم إلى جانب بُعد المجتمع السّوري عن مشاغل تعتبر ترفاً الآنكالقراءة والاهتمام بالفن والكتابة ومشاغل الثقافة، بتعزيز حضور النّكرات وأصحاب المرجعيّات السّياسيّة والحزبيّة في الانتفاضة السّوريّة، خلال شتّى مجالات الكتابة السّوريّة، فأطلقت الجوائز باسم المشاريع الأدبيّةالتي تخدم توجهاً سياسيّاً، وأصبح المسؤول في مؤسسة ثقافيّة روائيّاًفجأةً! ثم يفوز بجائزة الدولة التشجيعيّة للرواية! بينما تحوّل مدقّق اللّغة العربيّة الذي كان مسؤولاً عن معهد للغة العربيّة لغير النّاطقين بها، تحوّل إلى أديبأتعب الشّاشة من حديثه المتواضع عن احتراق مكتبته في حلب، عِلماً أن التلفزيون السّوري استقبله خلال شهرٍ واحدٍ، ثلاثة مرات أو أكثر، نظراً لنقص المواهب في بلدي وانشغالها بنصوص اليوميّات المتناسخة، وتصوير التّفاصيل في بلدان اللجوء، هكذا، وجد أصحاب الكراسي في هيئات الثقافة الرسميّةوغير الرسميّة، فرصة للوقوف على قمّة الخراب والتّباهي بالبقاء مع نصوص، كانت صفحات هواة الأدب، قبل الحرب، ترفض كتابة ردود عليها!

مع تكشّف الحقائق بعد زوال صخب الكارثة التعايش معهاتصبح النصوص التي كُتبت في حينها، مجرد فقاعات تنزلق على سلّم الضوء ومصير كتّابها وقرّائها يزول باكراً دون أن يترك مساهمة جِدّيّة في تطوير الأدب السّوري، شخصيّاً أراقب كيف أصبحت كتابة المواسم، مثل الوجبات السريعة، في متناول الجميع، لجهة التحضير والتصدير، بينما يتحوّل أهل النقدعن وظيفتهم في ترتيب فيضانات كتابة الموضةوتوكيل المهمة لبعض الرفاق في سوق النشر، ليطلقوا لنا فظائع المرحلة في تجلّي انحطاطها.

لا مبادرة أقف عندها في تطوير الكتابة، معظم ما حدث، من ملتقيات في سوريّة، ينطوي على حفلات توقيع الكتب، الخجولة، وإعادة قراءة قصائد من الماضي، صراع أحمق على الظهور في تحت الأضواء من القائمين على تلك الفعاليّات! وإطلاق شعارات مسيّسة لا يكف الإعلام الرسميأو شبه الرسميعن مصادرة حريّة هؤلاء بألا يُحسبوا على طرف من الصراع، حتّى أن فكرة الملتقيات بحدّ ذاتها راحت تعاني من الأمراض الوراثيّة في العمل الثقافي التي زرعتها الجهات الثقافية المحدودة في البلاد، داخل ذهنية المشرفين على تلك الملتقيات أو المهرجانات، فالحالة تفتقد لأبسط حدود التشارك في إدارة المشروع الثقافيلأن هذا الأخير، كمبدأ، أساساً لم تكن الدولة أو المؤسسات الثقافية، تراه مفتاحاً للوصول إلى نهضة في الكتابة السّورية أقرب إلى الإنسان السّوري المفقود في كل هذه الحرب، وأبعد عن التّوجهات العقائديّة والدينيّة والعسكريّة والحزبيّة، المتعنّتة، التي تدير هذه الخوف نحو أهل البلد!

قد يرى البعض أنّه من المبكّر الحديث عن رصد حقيقي لتطور الكتابة الأدبية في سورية، إلاّ أنّ الوقوف عند مفترق الثقافة كمفهوم مجتمعي يعالج التخلف البعثيّ في البلاد، يستحق أن نرفع إشارة الخسارة لأجله داخل سورية، وقد يكون التّقدم خارجها هامّاً، لكنّه، لن يصل إلى السّوري الذي يبحث عن حجارة جديدة يبني منها بيته المدمر، أو فرصة كريمة يبدأ منها عمله ليعيش بشرف دون أن يرفع صورة هذا القائد أو علم تلك الميليشيا! بالمحصلة كلّ ذلك هو تفكير بالبحث عن الكتابة الثقافة، السّورية التي تم جرف ماضيها ورموزها مع سقوط أول قطرة دم من السّوريين في ساحات الرفض قبل أن يُخطف الحِراك إلى أسلمة وتطرّف وفرز أعلام و اصطفافاتٍ وفصائل وولاءاتٍ لا تصبّ في مصلحة الاحتجاجات، إنّما تستثمرها في قراءة واقع المجتمع المتآكل بأفعال الأميّة السّياسيّة والأميّة الفكريّة، مجتمع روّضته السّلطة على الرعب المنظّم وفوبيا المخبرين، قبل أن تحطم انتفاضة الشّباب السّوري كلّ ذلك، لنبدأ من الصفر بالتعرّف على العمل السّياسي والمشاريع الثقافيّة والكتابة الحرّة، لكن، حتّى الآن لازالت ملامح الحرية والثّورة طور التجريب، فالرصاصة أوضح من النص، والنفوس أكثر دماراً من البلاد.

تُرى بعد كلّ ذلك، هل تستدرجنا الكارثة السّورية إلى منطقة الكتابة الموازية لحجمها وتعقيداتها الفكريّة والاجتماعيّة؟

ثمّة منجز يتشكل في الهواء الطلق، في المِهجر، مبادرات على شكل كتب وورش ثقافية تطرحها مؤسسات مستقلة دون مرجعيات موتوره!

من الداخل السّوري، هناك أصوات تخوّن معظم من في الخارج، وعلى خارطة الشّتات هناك أصوات تبرّر القتل في الداخل!

أجل إلى هذه الدرجة من المفارقات، نعيش كجيل واكب الحراك وعاش ضغوطاته. هربنا، نجونا، ونحن نصرخ للأصدقاء حول العالم وفي سورية، لا بدّ أن نكتب ونقول، فهل هناك ما يمكن فعله وفي عنوان جنسيّتنا الشّبهة: أنت سوريّ! فماذا تفعل أمام هذه الجيوش على أرض هَجَرتكَ وأنتَ في أوّل المعرفةالثورة؟

مواضيع ذات صلة

من الثورة إلى النهضة: إضاءة على فكر طيب تيزيني

من الثورة إلى النهضة: إضاءة على فكر طيب تيزيني

طيب تيزيني اسم أكبر وأهم من أن نُعرِّفه عبر سطور أو صفحات قليلة؛ لأنه جسَّد أفكاره تجسيداً عملياً، فكانت مؤلفاته تفيض من تفاصيل حياته ومواقفه الإنسانية والسياسية، وكانت حياته ومواقفه وبحق تعبيراً صادقاً عن أفكاره وفلسته، فكان فيلسوفاً بل حكيماً بكل ما تعنيه هذه...

 محمد مُحسن: صانع النجوم ومبدع الألحان الخالدة

 محمد مُحسن: صانع النجوم ومبدع الألحان الخالدة

 خلال مسيرته الفنية الحافلة بالعطاء، والتي استمرت لأكثر من نصف قرن، أبدَعَ مدرسة لحنية وغنائية متفردة وغنية ومتكاملة، تركت بصمتها المؤثرة في تاريخ الموسيقى العربية، وقد ساعدته موهبته في الغناء في فهم طبيعة الأصوات التي لَحَّن لها، فكان يُفصِّل اللحن على مساحة...

جُرح في الزوبعة

جُرح في الزوبعة

كانت حياة أنطون سعادة القصيرة (1904-1949 م) أشبه بدورة الإله بعل في الميثولوجيا الكنعانيّة القديمة، فبعل الذي يموت ويولد على نحوٍ أبديٍّ، وفقاً لـ"ألواح أوغاريت"، يرمز إلى "بلاد كنعان" أو "فينيقيا" تبعاً لتسميتها اليونانيّة القديمة، هذه البلاد التي مهما حاقَ بها من...

مواضيع أخرى

ماذا تبقى من طقوس وعادات رمضان؟  

ماذا تبقى من طقوس وعادات رمضان؟  

لشهر رمضان في سوريا عاداتٍ وطقوسِ اجتماعية وإنسانية، حرصت العائلات السورية على توارثها والتمسك بها عبر عشرات السنين، حتى تحولت إلى ما يشبه التراث الاجتماعي، ومن أشهرها "سِكبة رمضان" التي  تخلق حالة من الألفة والمحبة والتكافل الاجتماعي بين الناس، الذين يتبادلون...

“عيدٌ بأية حالٍ عدتَ؟”: غلاءٌ وعوائل حزينة

“عيدٌ بأية حالٍ عدتَ؟”: غلاءٌ وعوائل حزينة

لطالما يسخر السوريون من أنفسهم حين يكررون في كل عيدٍ الشطر الأول من قصيدة المتنبي "عيدٌ، بأية حالٍ عدتَ يا عيد؟"، ربما كان معظمهم يعلم شطره الثاني: "بما مضى أم بأمرٍ فيك تجديد"، وأنّ تشابه أيامهم بات فيه من السخرية الكثير، ولكنّ لا شك-أنّ معظمهم لم يكمل القصيدة، لا...

الجمعيات الخيرية: المنقذ الرمضاني في غياب الدعم الحكومي

الجمعيات الخيرية: المنقذ الرمضاني في غياب الدعم الحكومي

مع بدء الحرب السورية تمكنت المؤسسات والمنظمات غير الربحية المندرجة تحت مظلة المجتمع المدني من إثبات وجودها وترك بصمتها على أرض الميدان، فكانت الجمعيات الخيرية والمبادرات الفردية الإنسانية أولى الجهات غير الرسمية التي استطاعت توسيع دورها على خارطة العمل وإنقاذ الفئات...

تدريباتنا