تدريباتنا

(نايف بلوز /الماركسي المختلف (1931-1998

بواسطة | فبراير 1, 2019

*ينشر هذا المقال ضمن الطاولة المستديرة ما الذي تبقى من اليسار السوري؟

كان من أوائل الشيوعيين السوريين الذين اتسموا بثقافة موسوعية وامتلكوا منهجاً نقدياً متطوراً نقدوا من خلاله سياسة الحزب، داخلياً وخارجياً، ومواقفه من مجمل القضايا الملحة آنذاك، كما أنه من الأوائل الذين انتقدوا “عبادة الفرد”. لقد كان يحاضر في جامعة دمشق بكل ثقة دون القراءة من أي كتاب، وكان أستاذاً متميزاً مختلفاً على صعيد المعرفة والسلوك، وكان له الدور البارز في تشكيل الوعي الفلسفي لجيل من الأساتذة والطلاب، وهو من الأوائل الذين أدخلوا المنهج الجدلي الماركسي إلى قسم الفلسفة، جامعة دمشق، دون أية نزعات أيديولوجية شيوعية، وكان يسخر مما كان يسميها (النزعة التخطيطية للمنهج الماركسي المتداول)، وكان نهماً للقراءة ومقلاً جداً بالكتابة، إن مسيرته تشبه مسيرة الفلاسفة الكبار الذين لم تستوعبهم أحزابهم، مثل الياس مرقص، وروجيه غارودي وهنري لوفيفر.. وغيرهم الذين طردوا من أحزابهم الشيوعية نظراً لسعة آفاقهم المعرفية والفلسفية والعلمية والتي لا يمكن أن تتكيف مع الأطر الضيقة للأحزاب الأيديولوجية ولا لأي أيديولوجية دوغمائية.

درس في ألمانيا في مطلع الستينات من القرن الماضي، وأنجز أطروحة الدكتوراه في الفلسفة في (جامعة هومبولدث)، وهي بعنوان “الإسلام ونشأته وفرقه ومدارسه” مهتماً بالمرحلة الأولى من الإسلام، حيث كانت تتسم بالحيوية، قبل مرحلة التقديس والانقسامات، مستخدماً المنهج الماركسي بمرونته من أجل قراءة التراث العربي الإسلامي عبر تطوراته التاريخية، معتقداً أن الإسلام جاء ضمن الظروف الموضوعية التاريخية في وقته الطبيعي، وحين ظهر الإسلام في مجتمع الجاهلية العربية في أوائل القرن السابع الميلادي، لم يظهر بشكل مفاجئ منقطع الأسباب والصلات عما كان يعتمل في حياة تلك الجاهلية، أو كما كان يتحرك في ذلك المجتمع بشكل ظاهرات اقتصادية واجتماعية ودينية وبيانية، شعر، خطب، وقد آن الأوان كي يتغير ذلك المجتمع القبلي من الأساس، وكانت تلك الظاهرات، إيذاناً بالأمر المنتظر الذي سيخرج من رحم الواقع الجاهلي نفسه، لينطلق نحو العالم كله خارج شبه الجزيرة العربية، ومن هنا لم تكن المفاجأة التي حدثت، بظهور الإسلام، والتي لم تقتصر على صعيد شبه الجزيرة العربية فقط، وإن ما حدث، شكل اقتحاماً واختراقاً لأسس النظام القبلي البدائي الذي يعيش في ظله مجموعة من قبائل مبعثرة، وإن هذا التبعثر القبلي سيتحول بحكم الضرورة الموضوعية إلى كيان آخر مختلف كلياً، أي إلى زمن يتأطر فيه عرب الجزيرة بإطار من التوحيد يجمعهم نواة لشعب عربي أو يشكل إرهاصاً لأمة عربية، بهذا المعنى كان يرى أن الإسلام الأول في سياقه التاريخي شكّل نقلة نوعية تقدمية في تاريخ الفكر الديني، ومن خلال رؤيته المنهجية النقدية كان يرى بلوز، العمق الثوري للإسلام وهو ينطلق انطلاقته الكونية، منذ أربعة عشر قرناً، مستجيباً للضرورات التاريخية لحاجة أهل الجاهلية  العرب، في شبه الجزيرة إلى ذلك التحول الكبير.

كان يعتقد أن الإسلام في عصرنا لا يمكن أن يقدم أجوبة على التساؤلات التي يطرحها هذا العصر، ولا يمكن أن يكون هو الحل، للقضايا الشائكة المعقدة التي تواجه الإنسان المعاصر، ربما نستطيع تكثيف مأثرته في المحاور: السياسي والمعرفي والعلمي الأكاديمي، من خلال منهجه النقدي، المفعم بطرح التساؤلات والشك في كل شيء، في زمن -عبادة الفرد- والاستكانة إلى ما يبدو أنها حقائق نهائية، وكان موقفه نقدياً من الفكر والفلسفة والدين، وحتى من نفسه، حيث كان ناقداً لاذعاً، وقد قدم دراسة نقدية عالية الأهمية لكتاب حسين مروة “النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية” حيث كان يتساءل دوماً، بعد قراءته لذلك الكتاب، عن مدى “حيازة التقدميين العرب لكفاءة نظرية وحرية في التحرك ورحابة في الرؤية تسمح لهم بوضع منجزاتهم الفكرية ولاسيما ما يدور منها على قضايا التاريخ الإسلامي. والحاضر العربي موضع التحليل والنقد العلميين”١. وهو يرى ضرورة مواجهة الصعوبات النظرية والسياسية مواجهة صريحة غير عابئة بشيء سوى مقتضيات الدقة العلمية ومطلب الحقيقة المضيئة للفكر والعلم، وإن هذه المراجعة النقدية البناءة التقدمية، وهذا الانصباب على الذات ليس أمراً مرغوباً فحسب بل إنه حاجة ضرورية على المستوى الفكري والسياسي، وقد يكون المستقبل مرتهناً لدرجة إسهام كل من السجال النظري الديمقراطي، والانفتاح الحي على الواقع، في صنع الوعي التنويري وصياغة الاستراتيجية العربية التقدمية، بهذه الرؤى، احتل بلوز موقعه المتميز بين المفكرين العرب، من خلال سعيه إلى ربط الفكر بالسياسة، وربطهما معاً بالواقع، عقلنة الفكر العربي وتحديثه من أجل عقلنة السياسة العربية وتحديثها، من أجل عقلنة المجتمع العربي وتحديثه مؤكداً على الدور النقدي التجديدي للفلسفة كي تكون بديلاً عن النظريات التقليدية التي تسعى لفهم الواقع وامتلاكه معرفياً فقط، بينما المطلوب هو تغيير هذا الواقع، ومن هذا المنظور النقدي قرأ العلاقة التي تربط جدل هيغل وجدل ماركس، معتقداً أن نظرية ماركس الاجتماعية ليست منفصلة عن فلسفة التاريخ الهيغلية. ومفردات العقل والحرية والتقدم تدلل على وجود التقاطعات بينهما، فالفكرة القائلة بأن التاريخ العالمي له علاقة بتوغل الحرية والعقل وتطور البشرية يمكن أن نلمح لها درجة من الترابط بين ماركس وهيغل، وقد نستطيع القول “إن الفيلسوفين يؤكدان على أن العقل يسود العالم في النهاية، وإن بأشكال مختلفة، هيغل يدع العقل والحرية يحددان العملية التاريخية، لكن ماركس يعتقد وحده أن قضاء البروليتاريا على البرجوازية يمكن أن يفهم بمثابة انتصار العقل على اللاعقل والظلم في العلاقات الاقتصادية – الاجتماعية” ٢.

وقد كان بلوز يلح على الأهمية الخاصة للنشاط النقدي في دراسة النصوص ودراسة الواقع، خصوصاً في تناوله النقدي للنصوص الماركسية، فمن المعروف أن التأويلات الماركسية في الواقع العربي يمكن إجمالها في مسارين، تمثل المسار الأول في النزعة الميكانيكية التي تمظهرت من خلال التأكيد الحاسم لدور البنى التحتية (الاقتصادوية)، وينظر إلى التاريخ على أنه تقدم مطلق لا مكان للإنسان فيه، لأن الاقتصاد هو المحرك الأساسي للتاريخ، بحسب هذا المنظور. والمسار الثاني يتمثل في النزعة الإرادوية، تلك التي تجعل من إرادة الإنسان محركاً للتاريخ.

وقد سعى بلوز من خلال منظوره النقدي إلى تجاوز ثنائية الاقتصادوية والإرادوية، وإلى الكشف عن علمية النظرية الماركسية بوصفها منهجاً للبحث وعبر تميزها عن الفلسفات الميتافيزيقية، المثالية الأخرى، وأراد أن يؤكد تميز الماركسية بوصفها علماً، وهذا ما بدا واضحاً في كتابيه مناهج البحث في العلوم الاجتماعية، ومناهج البحث في العلوم الطبيعية، إضافة إلى كتابه، علم الجمال، الذي قدم فيه محاضرات من كتابه المترجم لجورج لوكاتش عن الألمانية (دراسات في الواقعية 1972).

وقد كان يطرح السؤال ما أهمية المنهج الماركسي، وماذا يمكن أن يقدم اليوم لليسار، وكان يظن أن الفكر الماركسي لا يزال محافظاً على طموح الشباب وقوتهم الحاسمة ولا يزال يمتلك حيوية وقدرة كبيرة على الإلهام والسعي للتغيير، وإن هذا الفكر ينطوي على حافز يهيب بنا أن نواجه مشاكل عصرنا كما واجه ماركس مشاكل عصره، حيث أن دور ماركس يتضمن منهجاً عاماً يكمن خلف المشكلات المعالجة ورؤية نظرية توجه أسلوب معالجة هذه المشكلات. إن المشاكل الملتهبة اليوم هي التي يمكن أن نسترشد بالمهنج المادي الجدلي من أجل معالجتها بروح الماركسية المعاصرة (ويمكن اعتبار الماركسية اليوم موقفاً معاصراً للثقافة الأوربية المحدثة) ٣، وقد تكون عودة ماركس بقوة الآن إلى المسرح الثقافي العالمي مؤشراً على موقف نقدي من الرأسمالية المعاصرة.

انطلاقاً من رؤاه السابقة جعل من الواقع السوري موضوع معرفة منطلقاً من علاقة الفكر بالواقع، زاعماً أن هذه العلاقة ليست ذاتية فحسب، بل هي علاقة ديالكتيكية بين الذات والموضوع، وقد سعى إلى تفكيك مقولات ترسخت في الثقافة السورية، ورؤانا الفلسفية والسياسية، من أجل النهوض بالمجتمع عبر كل مؤسساته وجامعاته من خلال التنوير والنقد، ورأى أن الكتابات الماركسية الدوغمائية مقولات روج لها على أنها تقدمية ومحايثة لروح العصر، بينما التمحيص الدقيق لها يكشف أنها أيديولوجية جامدة، تدعم سلطة النص المدافع عنه على حساب الفهم النقدي والمثمر للنص وللواقع، فالأساس النظري الذي انطلق منه بلوز هو المفاهيم الماركسية التي أعاد إنتاجها وأنتجها بوصفها أدوات بحثية، فتحولت لديه إلى دليل يكشف من خلاله، تجدد المفاهيم، ومنطق حركة التاريخ ومحاولة الإجابة على أسئلة الواقع المتجددة والمتجدد أبداً، كما أنه كان يعتقد أن ماركس في رؤيته لم يكن يهدف إلا إلى تحقيق حرية الإنسان، وهذا الهاجس نفسه هاجس بلوز، وانعتاقه من عبودية العمل، وجعله حقاً من حقوقه لا فرضاً عليه.

الهوامش

[1] – بلوز وآخرون، الماركسية والتراث العربي الإسلامي، دار الحداثة للطباعة والنشر والتوزيع، بيروتـ لبنان، 1980، ص167.

[2] – النهج، صيف 1998، السنة 14- العدد 51، بحث د. نايف بلوز بعنوان “البيان الشيوعي وعصرنا” ص103.

[3] – النهج، مرجع مذكور، ص130.

مراجع البحث

[1] – بلوز وآخرون، الماركسية والتراث العربي الإسلامي، دار الحداثة للطباعة والنشر والتوزيع، بيروتـ لبنان، 1980.

2- النهج، صيف 1998، السنة 14- العدد 51، بحث د. نايف بلوز بعنوان “البيان الشيوعي وعصرنا”.

مواضيع ذات صلة

من الثورة إلى النهضة: إضاءة على فكر طيب تيزيني

من الثورة إلى النهضة: إضاءة على فكر طيب تيزيني

طيب تيزيني اسم أكبر وأهم من أن نُعرِّفه عبر سطور أو صفحات قليلة؛ لأنه جسَّد أفكاره تجسيداً عملياً، فكانت مؤلفاته تفيض من تفاصيل حياته ومواقفه الإنسانية والسياسية، وكانت حياته ومواقفه وبحق تعبيراً صادقاً عن أفكاره وفلسته، فكان فيلسوفاً بل حكيماً بكل ما تعنيه هذه...

 محمد مُحسن: صانع النجوم ومبدع الألحان الخالدة

 محمد مُحسن: صانع النجوم ومبدع الألحان الخالدة

 خلال مسيرته الفنية الحافلة بالعطاء، والتي استمرت لأكثر من نصف قرن، أبدَعَ مدرسة لحنية وغنائية متفردة وغنية ومتكاملة، تركت بصمتها المؤثرة في تاريخ الموسيقى العربية، وقد ساعدته موهبته في الغناء في فهم طبيعة الأصوات التي لَحَّن لها، فكان يُفصِّل اللحن على مساحة...

جُرح في الزوبعة

جُرح في الزوبعة

كانت حياة أنطون سعادة القصيرة (1904-1949 م) أشبه بدورة الإله بعل في الميثولوجيا الكنعانيّة القديمة، فبعل الذي يموت ويولد على نحوٍ أبديٍّ، وفقاً لـ"ألواح أوغاريت"، يرمز إلى "بلاد كنعان" أو "فينيقيا" تبعاً لتسميتها اليونانيّة القديمة، هذه البلاد التي مهما حاقَ بها من...

مواضيع أخرى

ماذا تبقى من طقوس وعادات رمضان؟  

ماذا تبقى من طقوس وعادات رمضان؟  

لشهر رمضان في سوريا عاداتٍ وطقوسِ اجتماعية وإنسانية، حرصت العائلات السورية على توارثها والتمسك بها عبر عشرات السنين، حتى تحولت إلى ما يشبه التراث الاجتماعي، ومن أشهرها "سِكبة رمضان" التي  تخلق حالة من الألفة والمحبة والتكافل الاجتماعي بين الناس، الذين يتبادلون...

“عيدٌ بأية حالٍ عدتَ؟”: غلاءٌ وعوائل حزينة

“عيدٌ بأية حالٍ عدتَ؟”: غلاءٌ وعوائل حزينة

لطالما يسخر السوريون من أنفسهم حين يكررون في كل عيدٍ الشطر الأول من قصيدة المتنبي "عيدٌ، بأية حالٍ عدتَ يا عيد؟"، ربما كان معظمهم يعلم شطره الثاني: "بما مضى أم بأمرٍ فيك تجديد"، وأنّ تشابه أيامهم بات فيه من السخرية الكثير، ولكنّ لا شك-أنّ معظمهم لم يكمل القصيدة، لا...

الجمعيات الخيرية: المنقذ الرمضاني في غياب الدعم الحكومي

الجمعيات الخيرية: المنقذ الرمضاني في غياب الدعم الحكومي

مع بدء الحرب السورية تمكنت المؤسسات والمنظمات غير الربحية المندرجة تحت مظلة المجتمع المدني من إثبات وجودها وترك بصمتها على أرض الميدان، فكانت الجمعيات الخيرية والمبادرات الفردية الإنسانية أولى الجهات غير الرسمية التي استطاعت توسيع دورها على خارطة العمل وإنقاذ الفئات...

تدريباتنا