[تنشر هذه المادة ضمن ملف خاص حول التناول السردي للحرب والعنف في سوريا. للإطلاع على جميع مواد الملف اضغط/ي هنا]

الروائي السوري هيثم حسين

تسعى السلطات عادة إلى تضييق الهامش المتاح للناس، لكنّ الأدباء لا يفتؤون يجاهدون لتحدّي مسعى تلك السلطات، وتوسيع الهامش ذاك ليغدو ميدانًا رحبًا ينطلقون فيه ومنه إلى عوالمهم، يهندسون فضاءاتهم، يتحرّرون من القيود المفروضة عليهم، يقفون في خطّ مواجهة مباشر مع السلطات القامعة، يكشفون إجرامها بحقّ الإنسان والوطن، يرشّون ملحًا على الجرح كي لا يتمّ إهماله، أو التعامي عنه. وللأسف فإنّ جروح بلدنا كثيرة، دائمة النكء، لا تكاد تلتئم من شدّة العمق والإيذاء، حتّى تنزف مرة أخرى وتخلّف مرارة أشدّ.

تتمثّل محاولات الروائيّين في مواجهة الخراب عبر تصويره بطريقتهم الخاصّة، عساهم بتركيزهم عليه، وتحذيرهم منه، يساهمون بجزء بسيط في تبديده، أو التخفيف من حدّته الكارثيّة. أعتقد أنّ الكتابة حلم ورديّ بطوق نجاة مأمول للروائيّ نفسه قبل قارئه، لأنّ الخراب المعشّش ترسّخ في النفوس، ودمّر ما دمّر منها، ويكون الأمل بانتشال ما ومَن تبقّى من مستنقع الخراب مثيرًا للاهتمام، وربّما باعثًا على الشفقة ومثيرًا للرثاء في بعض الأحيان.

تكتسب الكتابة أهمّيّة في مختلف الأزمنة والأمكنة، هي مهمّة الآن بقدر أهمّيتها أمس وغدًا، فهي الشهادة الحيّة على الجريمة الماضية المستمرّة بحقّ الإنسان والبلاد معًا، هي الإشعار بالحياة في مواجهة جنون الحرب والموت والتعصّب ودعوات الثأر المستعرة. الكتابة كالأمل لابدّ أن تبقى حاضرة في كلّ الأوقات، ولولا ذلك لتركنا المجال للعتمة كي تتسيّد وتمضي بنا من هلاك إلى آخر أكثر إيلامًا وتعتيمًا.
يعيد الروائيّ صياغة الواقع بحسب رؤيته، يستلّ قلمه ويعلن رفضه للجنون المتعاظم، وبرغم أنّ الدعوات الإنسانيّة، والشهادات الروائيّة، تكون الصوت الأخفض وسط ضجيج المدافع وأزيز الرصاص، إلّا أنّها تعيد التذكير بالجانب الإنسانيّ الذي يجب أن يعود للصدارة ويقود البلاد وسط حقول الألغام الطائفية والسياسيّة التي تخلّفها الحرب.

يتبدّى تفوّق الروائيّ على الطاغية في إعلائه من شأن الإنسانيّة، والحرص على التفاصيل كلّها، يدوّنها كأنّه يوثّق تواريخ الجروح النازفة ويحصي أنفاس الشهداء، ينتصر للتاريخ والمستقبل في محنة الواقع وقهره. يسعى إلى ترميم جروح الأرواح، يكتب بإصرار وحرص ليخفّف من الدمار، ويؤكّد أنّ الأدب يبقى بوصلة الإنسان في الملمّات، وأنّ الابتعاد عن القراءة والأدب بداية الانزلاق إلى هاوية الاقتتال والحرب. القرّاء والكتّاب لا يشهرون أسلحة، إنّهم يشهرون الأفكار ويحاربون بها الرايات السوداء التي ترتفع حيث ينتعش الجهل ويتفشّى التجهيل. يشهررون “أسلحة الروح” ويحاربون بها.

الطغاة ليسوا جهلة بالتاريخ، بل هم على عكس ما يشاع عنهم، تراهم يحاولون تحدّي عجلة التاريخ ويقعون في وهم قدرتهم وجبروتهم على تغيير مساره وفق مشيئتهم، كلّ واحد منهم يتخيّل أنّه ليس كغيره، يعميهم التاريخ، يمكر بهم ويلعنهم، ثمّ يأتي الروائيّ ليصوّر عماهم ومكرهم وتعميتهم، ويعيد الاعتبار للأدب والتاريخ أمام جنون العظمة البائس الذي يقود ويعمي ويدمّر لديهم.

ما يحدث في سوريا يتفوّق على أيّ خيال إجراميّ أو قدرة أدبيّة على تخييل الكوارث والفجائع، إنّه مأساة عصر برمّته. لحظة انهيار قيم الديمقراطية ومزاعم حقوق الإنسان، ساعة انكشاف حقيقة الأنظمة المتاجرة بالبشر، خريطة تحرّك العصابات العالمية المتاجرة بالدين والسلاح، وثيقة إدانة للنفاق العالميّ، مجزرة مفتوحة على عدم يدور حول نفسه، لذلك فإنّ تداعيات هذه الحرب لن تتوقّف عند حدّ معيّن، ستظلّ دوائرها تتّسع باطّراد بمرور الأيّام وتقادمها.

وحسب أيّة رواية أن تلتقط مشهدًا صغيرًا من لوحة الأسى التي باتت مسلسلًا عالميًّا دمويًّا مرعبًا لا تنتهي حلقاته. لا شكّ أنّ هذه المأساة ستساهم بإنتاج روايات مميزة مستقبلًا، ستكون لكلّ واحد حكايته المختلفة، لن تكون هناك رواية يمكن تنسيبها إلى منتصرين في هذه الحرب، لأنّ لا منتصرًا فيها، الكلّ مهزوم بطريقة ما. وتبقى أعظم الروايات تلك التي لم ولن يتمكّن أصحابها، من الشهداء والقتلى والراحلين الغارقين، من تدوينها وروايتها.

لا أعتقد أنّ مسعى الرواية يتمثّل في الارتقاء إلى مستوى الإجرام الوحشيّ المدمّر، بل يتجلّى في تفصيل منه بانتشال ما يمكن إنقاذه من إنسانيّة مهدورة في ظلّ الانحدار المريع الحاصل، وما يجري في معمعة قاع ظلاميّ منفر تجتهد الرواية لتبديد ظلمته وظلاميّته بتسليط الأضواء على زوايا منه.

حين كنت في ريف دمشق منتصف 2012، قبل أن أغادر بلدي، كانت المعارك تحتدم بين الليلة والأخرى، بدأت بمناوشات ليليّة، ثمّ تصاعدت إلى اشتباكات دائمة في محيط البلدة؛ شبعا، وحين انتقلت إليها، شهدت لحظات مريعة، ورأيت مشاهد فظيعة، رائحة البارود كانت تزكم الأنوف في الغوطة الشرقيّة، الطائرات تقصف بلداتها، والانتقامات قائمة على قدم وساق، كانت الجثث تبقى في الشوارع لساعات ولا يجرؤ أحد على الاقتراب منها، وكان من السهل على كلّ طرف اتّهام الآخر بالخيانة وتبرير قتله.

حاولت توثيق جزء من التجربة، لكنّني وجدت الجرح أعمق من محاولة توثيقه، فانتقلت إلى إجراء دراسة عن (أدب الحرب)، وكتبت كتابي “الروائيّ يقرع طبول الحرب”، حاولت توثيق شهادات روائيّين، في الشرق والغرب، عالجوا وتناولوا وحشية الحرب وكانوا شهودًا عليها أو مشاركين فيها بطريقة ما، ولكن للأسف اكتشفت أنّنا نعيد قراءة التاريخ ولا نستقي منه أيّ عبر، نقرأ عن وحشيّة الحرب لكنّنا نتفوّق عليها بوحشيّة معاصرة. فقدت بعد ذلك عنصر الاستغراب من أيّ فعل إجراميّ فظيع قد أسمع عنه أو أشاهده. أيقنت أنّه في أوقات الشدّة، وحين تجد الموت قريبًا منك، يدور من حولك، تكتشف فداحة الخسارة التي يتعرّض لها الإنسان في حربه الخاسرة ضدّ الحياة، وضدّ الحرب نفسها.

عندما انطلقت شرارة الثورات العربية هناك من استمرأ توصيف عمله أنه استشراف الأحداث، أو قراءة المستقبل، أعتقد أنّ هذا يأتي من باب تلبيس الحدث رؤية رغبويّة بعينها، وتأويل الجاري وفق المتخيّل، وتأطير الصورة الجديدة بإطار قديم. ما حدث ويحدث فاق كلّ التوقّعات، وتجاوز خيال أيّ متشائم. ساهم بعض الروائيّين بإطلاق شهادات الرفض والاحتجاج على واقع البؤس والعنف، وناشدوا التغيير عبر لعن العنف والسجون، لكنّ زعم الاستشراف يفتقر للدقّة.

الكاتب الذي يحتفظ في رأسه بشرطيّ يحصي عليه أفكاره وأنفاسه لن يستطيع التحرّر من سطوة الأوهام وسلطة الشرطيّ المتأصّلة في روحه. الكتابة تحليق في الأعالي وتحطيم لكلّ القيود، فثورة تقتلع أساس الطغيان كلّه ولا تحرّر كاتبًا من مخاوفه لا تليق باسمها، ولا يليق ذاك الكاتب بوصفه كاتبًا. الحرّيّة شرط الإبداع الرئيس، والكاتب المسكون بقلاقل الرقابة ووساوس الاستجوابات عليه أن يكسر قلمه ويمضي إلى أقرب حانة ليسجن نفسه في دهاليزها، ويختبئ فيها هربًا من تحدّيات الواقع ورهانات التاريخ.
هناك مثل يقول “النيّات الحسنة تنتج أدبًا رديئًا”، ذلك أنّ الأدب لا يكتب بنوايا حسنة أو سيّئة، بل يكتب بجودة وأصالة، ولا يكفي أن ينتصر الأديب لقضية عادلة، أو يكتب عنها، حتّى يوصف عمله بالمتجاوز والمميّز والتاريخيّ، بل هناك أعمال ذات سويّة متدنّية تشوّه القضايا العادلة بمقارباتها الممسوخة، وتنقل صورة لا ترتقي لسويّتها، ترتهن للشعارات وتخمّن أنّها قد تضلّل القرّاء بتلك الشعارات. لا يتعلّق الأمر بمن كتب أوّلًا أو لم يكتب بعد، بل يتعلّق بروح الأدب وجوهر الإبداع.

لا يمكن انتظار الحرب حتّى تنتهي، لينكبّ الروائيّون على أعمالهم، ذلك أنّ الحرب أصبحت طقسًا يوميًّا بعد أن كانت بؤرة متفجّرة يُتوقّع خمودها في وقت قريب، فحتّى لو وضعت هذه الحرب أوزارها، ستنشب حروب جانبيّة كثيرة لأتفه الأسباب في مناطق متناثرة على خريطة الوطن، لأنّ اعتياد لغة السلاح يفقد لغة الحوار معناها، ويساهم في تضييعها وإظهار دعاتها سذّجًا في نظر المحاربين القدماء والجدد. تحتاج الحروب عادة إلى عقود كي تلتئم بعض الجراح التي تنتجها، ولا أحد يضمن أنّ تلك العقود قد تمضي بهدوء وسلام، أو تنعم بالأمن والطمأنينة، فتجارب التاريخ في الشرق لا تبشّر بخير في هذا السياق.

ولا يخفى أنّ الكتابة تحت ثقل اللحظة الراهنة تظلّ كمن يقبض على الجمر ويحاول أن يحافظ على توازنه وموضوعيّته، ويكون ذلك من الصعوبة بمكان. قد تنجو أعمال تقارب اللحظة، تتمترس بالتاريخ والممهّدات التي قادت إلى الأحداث الراهنة، لكنّ المشهد ما يزال مفتوحًا على فظائع أكثر، والروائيّ يوقف شريط الزمن ليلتقط زاوية من زوايا الحدث، ويقوم بتظهيره.

للأسف الغيوم السوداء لن تنقشع في وقت قريب، تصوّر إن كانت هناك أطراف ما تزال تحارب من أجل أحقّيّة مَن بالخلافة منذ عشرات القرون، وهناك مقاتلون يؤمنون بتلك الأفكار التي تدسّ في بنادقهم وعتادهم لتبقيها ملقّمة مصوّبة إلى الأخ المستعدَى، كيف يمكن أن تتأمّل منها أن تستدلّ إلى أيّ درب للخلاص في وقت قريب..! سنبقى في متاهة حروب الأحقّيّة والأفضليّة والثأر. وكأنّه مقدّر على الإنسان الحرب، ولا يسعنا في هذه الحالة إلّا القول على الوطن “السلام” إلى إشعار آخر، لم تلح بوارق أمله في الأفق بعد.

*************

هيثم حسين في سطور:

هيثم حسين ناقد وروائيّ ومترجم كردي سوري، من مواليد مدينة عامودا 1978 في محافظة الحسكة، سوريا، ويقيم حاليًا في أدنبرة بالمملكة المتحدة.

أسّس ويدير موقع «الرواية نت»، كما يعمل ككاتب مستقل ومتعاون مع عدد من أبرز الصحف والمواقع والمجلات العربية، وهو متخصص في النقد الروائي إلى جانب القضايا الثقافية الأخرى.

جرّب صاحب “إبرة الرعب”، مرارات الحروب والخذلان والمنفى، لكنه مع كل ذلك يرى أنّ الرواية تقدّم دواء ناجعًا وأجوبة شافية، وقد تعين في تجاوز تلك الآثار السلبية التي تتراكم بفعل المصائب التي تُحيط بنا. يقول في كتابه “الرواية والحياة”: “يطغى اعتقاد بعبثية الرواية أمام الفجائع، أمام تكاثر المآسي وتناثرها، وخصوصًا في بحر الثورات التي اجتاحت المنطقة العربية، وهنا فإن مرارة المفارقة تكون مضاعفة حين التسليم بتعديم الرواية أو تهميشها تحت زعم أنها لا تستطيع التغيير أو التأثير”.

وفي كتابه النقدي “الروائيّ يقرع طبول الحرب”، يقرع “حسين” طبول الحرب بقلمه وكتابته وتصويره لعوالم الحرب، يقرع الطبول ليوقف القرع الذي يدمي القلوب ويفتّت البشر، يقرع لينذر ويبشّر في الوقت نفسه. وفي فصول الكتاب السته، يحاول السارد أن يقدم بعين الناقد قراءات لعدد من الروايات التي “حفرت” في الحروب، سواء في الشرق أو الغرب، وقدمت شهادات ووثائق عن المراحل التي سعت إلى تأريخها.

أما في روايته “رهان الخطيئة فيعالج “حسين” إشكاليّة الحدود الواقعة بين سوريا وتركيا بأبعادها المختلفة، السياسيّة، الدينيّة، الفكريّة، والإجتماعيّة، عبر شخصيّات متعدّدة، منها مَن يرتهن لتلك الحدود ويتقيّد بها، ومنها من يتجاوزها ويتخطّى كلّ العقبات الموضوعة. ويكون التقسيم الجغرافيّ شرارة تقسيم إجتماعيّ، حيث الأكراد موزّعون على طرفي الحدود، توضع بينهم أسلاك شائكة مكهربة، وتزرع بينهم حقول ألغام أودت بالكثيرين ممّن حاولوا التخطّي من جهة إلى أخرى.

كما تتناول الرواية تأثير التحالفات العالمية والأحداث الكبرى على الأكراد، خاصة حالة أفراد يبدون مهمّشين بعيدين عن الاهتمام، في حين تقع على عاتقهم الآثار الناجمة عنها.

تتّخذ الرواية من بقعة جغرافيّة مُهمَلَة خلفيّة رئيسة تدور فيها الأحداث، وتكون الشخصيّة الرئيسة امرأة عجوزًا، تنتقل بولديها من قرية إلى أخرى لتحميهما من بطش الجهل والتخلّف، وتبعدهما عن قيم الثأر المعمول بها. وهي تتكتّم على قصّتها، قرابة نصف قرن، محاولة التغلّب على الماضي، لكنّها، وهي تحتضر، تبوح لحفيدها الوحيد بقصّة الترحال الذي فرض عليهم.

وفي روايته “إبرة الرعب” يتناول “حسين” عبر الشخصيّة الأساسيّة في العمل (رضوان)، موضع الفساد الذي عمّ مؤسّسات الدولة، وانعكاسه على المجتمع، فيحضر في سرده تفاصيل ومجريات مستوصف الخدمة الإلزاميّة، الذي تدرّب فيها أثناء خدمته، وكيف كانوا يتّجرون، بالأدوات، والمواد، وحتّى أجزاء الجسم، باشتراك الضّابط المسؤول، حتّى عندما عمل لدى المشفى الحكوميّ، والحديث الذي دار بينه وبين طبيب التخدير، وقصص كثير من هذا القبيل، لتشكل بالمحصلة حالة رعب، وهلع للمجتمع من هكذا حالات.

صدر لهيثم حسين من الروايات:
– “آرام سليل الأوجاع المكابرة”، دار الينابيع، طبعة أولى السويد 2006، ط2: دار النهرين، دمشق 2010.
– “رهائن الخطيئة”، دار التكوين، دمشق 2009. وقد صدرت حديثًا، في براغ عاصمة جمهورية التشيك النسخة التشيكية من هذه الرواية، بترجمة الأكاديمية التشيكية يانا برجيسكا، وتقديم الشاعر والكاتب التشيكي ييرجي ديدجيك، رئيس نادي القلم التشيكي. وتم اختيار عنوان مختلف لهذه الترجمة عن العنوان الأصلي للرواية وهو “أين بيتك، خاتونة..؟”.
– “إبرة الرعب”، منشورات ضفاف (بيروت)، الاختلاف (الجزائر) 2013.

ومن أعماله النقدية:
– “الرواية بين التلغيم والتلغيز”، دار نون، طبعة أولى: سوريا 2011.
– “الرواية والحياة”، صدر ككتاب مرفق مع مجلة “الرافد” الإماراتيّة، عدد آذار/ مارس 2013.
– “الروائيّ يقرع طبول الحرب”، دار ورق، دبي 2014.
– “الشخصيّة الروائيّة.. مسبار الكشف والانطلاق”، دار نون، الإمارات 2015.

وله في الترجمة:
– “مَن يقتل ممو..؟”، (مجموعة مسرحيّات مترجمة عن الكردية)، دار أماردا، بيروت 2007.

[تُنشر هذه المقالة ضمن اتفاقية شراكة مع جدلية]
[.This article is published jointly in partnership with Jadaliyya]