تدريباتنا

نسْرُ لحظةٍ عابرة

بواسطة | مايو 28, 2020

نهايات

 استيقظْ.

أَتَسْمَعُ صفيرَ القطارات في حلمكَ؟

استيقظْ

ثمة سفينةٌ في المرفأ

طائرةٌ في المطار

سيارةٌ أمام الباب.

استيقظْ.

حقيبتكَ قرب الفراش

حين تُمْسك بها يدكَ وترفعها

لن تمتلك الوقت

كي تتذكّر حياتك السابقة.

هكذا كانت الأصواتُ تتحدث في داخله

بلغاتها الكثيرة

في مدينةٍ يمرُّ فيها الآلافُ كلّ يوم

تُروى قصصُ الآلاف كل يوم

تصبح اللغة فيها بحراً

تندفع أمواج كلماته كل يوم

إلى نهاياتها في الزبد.

صوت الريح

ثمة شيءٌ في الحجر

يذكّرني بنفسي.

أحياناً يتحدّثُ معي

وحين أصغي

لا أسمع إلا صوتَ الريح.

حجر

حجرٌ رماه المدُّ فوق الرمال

وغسله الضوء بمائه.

لم يومئ لي

لم يفتح حديثاً معي.

كان غارقاً في صلابته

منشغلاً بهموم من نوع آخر.

تمنيتُ أن أريحه منها

أن أمنحه لحظة اعتراف

وأصبح كاهن لحظته

لكن الحجر لم يكترث

كنت أنا الذي شعر به

حميمياً، قريباً مني

كما لو أنني أعانقه وأصغي إليه

وهو يقول لي:

تمسّكْ

تمسك بما بين ذراعيكَ

طالما أنت تسير على هذه الشاطئ.

قبور الأبناء

نتدافعُ في نفقٍ.

الضوءُ كان هنا

أو هكذا ظننا

وحين لم نتبيّن طريقنا

شعرنا أن الظلام يخرجُ من أعيننا.

ويتغذّى بأنفاسنا.

أمامنا لم تبنْ منعطفاتٌ

كان الطريقُ مستقيماً كرمحٍ

أو كسبطانة بندقية

في نهايته

لا يلوح ضوء في الأفق

لا شيء ينتظر أو يغوي

وإذا كان هناك شيء

فهو هناك

لأنه هناك.

كنا نضع أيدينا في جيوبنا

كما لو أنا نتحسّس

ذكرى معدن

أودعنا فيه أرواحنا

وبقيت سبائكه في الخزائن.

وفي الأمكنة الخالية

حيث سبق أن تعالت أصواتُنا أو ضحكاتنا

كان الهواء مسكوناً بما صنعناه بأيدينا

ونحن نحفر قبور أبنائنا

الذين لم يولدوا بعد.


نسْر
 لحظة عابرة

-1-

حين يفردُ النَسْرُ جناحيه

يأوي إليهما الضوءُ

كأنهما وطنٌ.

-2-

لم أرَ النسور إلا حين

غادرتُ مَسْقط رأسي.

تمنيت لو أن عينيْ طفولتي

سافرتا في أفق أجنحتها.

-3-

أحياناً تضيقُ السماء

على جناحيْ النسر.

-4-

في سماوات صدْره

يحلّقُ قلبُ العاشق كنسرٍ.

-5-

الذين لا يفرحون لمن يمتلك جناحين

يعيشون في الأقفاص.

-6-

كنْ نسراً في فضاء حياتكَ

لا تتوقَّفْ عن التحليق

نحو الذروات التي في داخلك.

-7-

أحبُّ الذين يحلقون بأجنحة الكلمات

الألحان

الألوان

لأنهم يشحنون الفضاء

بضوء الأجنحة.

-8-

نَسْرَ لحظةٍ عابرة

أسمّي نفسي وأنا أحلّقُ إليكِ

في بدايات الحب.

-9-

في بدايات الحب

تكون السماوات بلا نهاية

وَعْداً بضوءٍ يُسْكر الجناحين.

شجرة النار

-1-

لا تفكّر الوردةُ لمن تمنح عطرها

لا تبيعُ ولا تشتري.

كذلك الأشجارُ والينابيع.

-2-

القلبُ المليء بالحب

لا يعيش في الصدر فقط

بل يخفقُ في الأشياء كلها.

-3-

لا يأتي الحب من الشرق أو الغرب

من الشمال أو الجنوب

من الأعلى أو الأسفل

يشرقُ من الأعماق

ويوزّع ضوءه على الجهات.

-4-

الشجرةُ التي صارت حطباً في الموقد

تولد أغصانُها وأوراقُها وتموتُ في ألسنة اللهب

التي تصنع شجرة النار.

أغصانُ شجرة النار لا تعرف أنها ستنطفئ

لا تعرفُ شيئاً عن الرماد

تعيش حياتها إلى النهاية فحسب.


لغة
 الأشياء

-1-

المصباحُ المطفأ

المتدلي من السقف

يضيء الظلمة.

-2-

الشمعة تذوبُ على طاولتي

تصنع أشكالاً.

ذوبانُها نحّات.

-3-

كلبٌ يعوي

يخرج صوت العواء من فمه

كما يخرج صوت الكلام

من فم خطيبٍ على المنبر.

-4-

اللوحة المعلقة على الجدار

بابٌ دخل منه الرسام إلى نفسه

اللوحة المعلقة على الجدار

باب غادرتُ منه نفسي.

بدايةُ طريق المنفى.

-5-

العناقيد المتدليةُ من الدالية سماءٌ سوداء

حين يأتيكَ جوهرُها في كأسٍ

يُوسِّع السماء الزرقاء.

-6-

حين أسوق السيارة

وأكون وراء عجلة القيادة

أشعر أنني حيوانٌ معدني.

-7-

ما الذي يجعل العينين تتوهّجان:

إعجابهما بالشيء،

أم رغبتهما بامتلاكه؟

-4-

هل رأيتَ جثة الفرح محنطة؟

أنا رأيتُ قوماً

صنعوا إلههم من الكآبة

وقدموا فرحهم قرباناً له.

-5-

رسمتُ اليومَ لوحةً بعينيَّ،

تأملت الضوء وهو يغمر جناحيْ طائر البجع،

أو راقبت طائر البجع يغمس جناحيه في محبرة الشمس

ويكتب قصيدة الرحيل.

-6-

غادرتُ مدينتي منذ تسع سنوات.

حين أنظر إلى الخلف أقول:

كانت حياتي تزهر أحياناً

وفي كثير من الأحيان كانت

كمثل الغبار الذي يتوضع على الأشياء.

-7-

أوراقُ نَعْيٍ فوق بعضها

المدينةُ جداريةٌ للموت.

-8-

حجرٌ على الشاطئ

أحياناً يستعير لمعانه من الماء والضوء

في أحيان أخرى يستعير لحافاً من الزبد.

-9-

شمعةٌ على الطاولة

لا تملك شيئاً تقدمه للنهار.


في
 سان فرانسيسكو

في سان فرانسيسكو

لم تعد القصيدة تتجوّل في الشوارع

لم تعد تجلس في المقاهي

أو تبتسم للمشردين

الذين ينامون على أرصفة لامبالاتها.

لم تعد تمضي لياليها في البارات

أو تسير فوق الجسور

وهي تطارد بعينيها الشعاع فوق البنايات.

لم تعد تنظر في عينيْ العالم

لم تعد تكترث بقراءتهما

لم يعد يهمها انتشال الكلمات

من الآبار

حيث تسقط الأشياء سهواً أو عمداً.

في سان فرانسيسكو

يمرّ الضوء كلّ يوم

كسائق قطار على خط ثابت

ينهي نوبته جيئة وذهاباً

والبشر يخرجون من الأبواب ويدخلون

موجةً بشرية لا تكفّ عن التجمع والتلاشي

في بحر العمل.

في شقةٍ ما

أو قبْوٍ ما

تدخّن القصيدة سيجارة ماريجوانا

أو تحقن وريدها

أو تُفْرغ زجاجةً أخرى

في محاولة يائسة لسبْر وحدتها

بين دفتيْ كتاب.

توابيت

رأيت التوابيتَ مصفوفةً

في الشارع فوق الإسفلت.

الأجسادُ التي في داخلها

تنتظرُ رحلتها الأخيرة في قطار الأنفاق.

من نوافذ الشاشات

من نوافذ الصفحات

من نوافذ الأحلام

تطلُّ التوابيت

وتعوم في ماء نهر الإنترنت.

الدروب الوحيدة المشغولة

هي دروب الجنازات

الطرق الوحيدة السالكة

هي الطرق إلى المقابر.

كان الموت هو النجار الوحيد في البلاد

يجلس في منشرته الكبيرة

واضعاً ساقاً فوق أخرى

يدخن سيجاراً من الجثث

وينفث الدخان كي يصنع سماءه.


اكتشفتُ
 صوتي

اكتشفتُ صوتي على شاطئٍ

ليسَ لطفولتي آثارُ أقدامٍ على رماله.

خطفَ عينيّ

ربّاهما من جديد

وأشعرني بأنني طفلٌ

يُصْغي إلى أنفاس الأشياء

ويقرأ أحلامها.

حينَ أرى بياض أمواجه يندفع

في الفضاء ويعلو

ثم تنهار صخورهُ الزبدية

وتعود إلى أسرّتها المائية

حين أرى البياض يفتح

باباً

بابا معلقاً

لا أستطيع أن أدخل أو أخرج منه

يشعرني أنني وحيدٌ

على طرقات رياحه.


ورقة
 صفراء

ورقةٌ صفراء

عروقُها حادّة وجافة

تتوزّع إلى اليمين وإلى اليسار.

في وسطها يسري خطٌّ

كجرحٍ في القلب.

تتقلّب وحيدةً في الريح

والخريف في أوجه.

شعرتُ بأني أنا هي

وذكّرتْ جسدي،

بخطوطه وشرايينه،

أنه هاربٌ من خريفه.

كانت قوة الريح الخفية

تحمل الورقة إلى فلواتها السوداء.

وكنت أسير في تلك اللحظة

كي أتبدد كلي بين ذراعيكِ

تقودني قوة الحب.

ورقةٌ صفراء.

وجسدٌ يتورّد وهو يفكّر بكِ

كأنه تاريخٌ من الورود المتفتحة.

جسد يرقُّ

يصيرُ لمسةً

يصير همسةً

يصير مطراً من القبل

أوراقَ رغبةٍ

في ريح الحبّ الخريفية.


العبور

لم يعد يُسْمَح للدم

بالإقامة مُدّةً أطول في الشرايين.

المدنُ عالقةٌ في رمال أحلامها المتحركة

في صحراء السياسة.

الأنهارُ التي تعبرُ الخريطة بريدٌ

يرسل عبْره الموت جثثه الكثيرة.

المحاربون يحفرون الأنفاق

في جسد المستقبل.

وغداً حين تُشْرق الشمس

ويلمع ضوءها فوق شواهد القبور

وفوق الطرق المزروعة بالألغام

لن نلمحَ إلا أنقاض الجسور

أو آثارَ خطوات مهاجرين

نجحوا في العبور.


امنح
 نفسكَ

امنحْ

امنح نفسكَ هذا الهواء

الذي ينقلُ العطر

الشعاعَ الذي يسافر

في عروق الأوراق

الوهْجَ الذي يصنعُ الشجرة.

امنحْ

امنح لخطواتكَ الطريق

الذي يقودكَ إلى دهشةٍ أخرى

بحراً يتقدّم كله

كي يفتحَ لك باب النهار.

تمشي على طرقاتك البحرية

ظاناً أنك موجة قادمة من ماضيك

غير أنك تتقدم بجبروت لحظتك

بكلّ ما أنتَ.

هل تسأل الموجةُ عن بداياتها

في سرير الزبد؟

امنحْ نفسك نافذة الأفق

وأصْغ لهدير المياه

كأنه موسيقا تعزفها لك

أراغن الزرقة.

امنحْ نفسكَ

ما تحب عيناك أن تراه

ما يخفقُ له قلبك

ما تتوثّب ذراعاك لعناقه

ولا تنظرْ وراء هذا

ولا تلتفت.


مثلك،
 أيها الجسد

لا اسمَ لكِ

لا اسم لك

ودوماً تولدين.

تتقدمين إلى الشاطئ

دون أن تحسبي المسافة

بين ولادتك وموتك.

لا تفكرين أن تكوني نبعاً

أو مصباً.

هكذا،

طفرةً
ارتجاجاً

في جسد الماء،

ولادة مفاجئة

تندفعين

كما لو أنك البحر والشاطئ

الجناح والصخرة،

السماء والأرض.

مأخوذاً بكِ أيتها الموجة

أعيش أحوالكِ في جسدي.

أقول: للعبور نكهةُ فجرٍ قادم

وهذا ما تقوله أيضاً

أزهار الربيع المسائية.

هذا ما يقوله شعاعٌ

يتفتح حولها متناثراً هنا وهناك

كأنه يريد أن يمنح نفسه في أزهار كثيرة

كأنه يقول:

أنا مثلكِ أيتها الموجة

مثلكَ أيها الجسد

لا أتوقّف عن العبور.

*تنشر هذه المادة بالتعاون مع جدلية.

مواضيع ذات صلة

من الثورة إلى النهضة: إضاءة على فكر طيب تيزيني

من الثورة إلى النهضة: إضاءة على فكر طيب تيزيني

طيب تيزيني اسم أكبر وأهم من أن نُعرِّفه عبر سطور أو صفحات قليلة؛ لأنه جسَّد أفكاره تجسيداً عملياً، فكانت مؤلفاته تفيض من تفاصيل حياته ومواقفه الإنسانية والسياسية، وكانت حياته ومواقفه وبحق تعبيراً صادقاً عن أفكاره وفلسته، فكان فيلسوفاً بل حكيماً بكل ما تعنيه هذه...

 محمد مُحسن: صانع النجوم ومبدع الألحان الخالدة

 محمد مُحسن: صانع النجوم ومبدع الألحان الخالدة

 خلال مسيرته الفنية الحافلة بالعطاء، والتي استمرت لأكثر من نصف قرن، أبدَعَ مدرسة لحنية وغنائية متفردة وغنية ومتكاملة، تركت بصمتها المؤثرة في تاريخ الموسيقى العربية، وقد ساعدته موهبته في الغناء في فهم طبيعة الأصوات التي لَحَّن لها، فكان يُفصِّل اللحن على مساحة...

جُرح في الزوبعة

جُرح في الزوبعة

كانت حياة أنطون سعادة القصيرة (1904-1949 م) أشبه بدورة الإله بعل في الميثولوجيا الكنعانيّة القديمة، فبعل الذي يموت ويولد على نحوٍ أبديٍّ، وفقاً لـ"ألواح أوغاريت"، يرمز إلى "بلاد كنعان" أو "فينيقيا" تبعاً لتسميتها اليونانيّة القديمة، هذه البلاد التي مهما حاقَ بها من...

مواضيع أخرى

مثل الماء لا يُمكن كسرها

مثل الماء لا يُمكن كسرها

لم أستطع أن أخفي دهشتي حين قرأت المجموعة الشعرية "مثل الماء لا يُمكن كسرها" للشاعرة السورية فرات إسبر، فالنص مدهش وغني بالتجربة الإنسانية للمرأة في علاقتها بذاتها وبالعالم حولها، ويعبر عن صوت المرأة الحرة الشجاعة والمبدعة، صوت الأم والعانس والأرملة والعاشقة. أعتقد أن...

سوريا: كسوة العيد للأطفال محكومة بالأزمة الاقتصادية الحادة

سوريا: كسوة العيد للأطفال محكومة بالأزمة الاقتصادية الحادة

حرصت عائلات سورية -في أعوام خلت- على شراء الملابس الجديدة قبيل عيد الفطر، وبخاصة للأطفال كي يشعروا بالبهجة والسرور، غير أن التضخم وتراجع القدرة الشرائية، إلى جانب تدني دخل الأسرة بفعل الأزمة الاقتصادية الحادة أثر بشكل سلبي على هذه العادة. في جولة لنا على عدد من...

ماذا تبقى من طقوس وعادات رمضان؟  

ماذا تبقى من طقوس وعادات رمضان؟  

لشهر رمضان في سوريا عاداتٍ وطقوسِ اجتماعية وإنسانية، حرصت العائلات السورية على توارثها والتمسك بها عبر عشرات السنين، حتى تحولت إلى ما يشبه التراث الاجتماعي، ومن أشهرها "سِكبة رمضان" التي  تخلق حالة من الألفة والمحبة والتكافل الاجتماعي بين الناس، الذين يتبادلون...

تدريباتنا