تدريباتنا

وجوه أخرى للتحرش

بواسطة | أغسطس 21, 2023

عبر وسائط النقل وفي داخلها تحدث عمليات تحرش مباشرة وغير مباشرة، ويتم التعامل معها بالصمت غالباً، وكم اضطرت نساء وفتيات لمغادرة وسائط النقل لعجزهن عن لجم أو رد واقعات التحرش ومحاسبة المتحرشين. تخاف النساء من المواجهة غالباً، والأكثر مدعاة للأذى هو تحميل المجتمع والضحايا لأنفسهن المسؤولية الكاملة عن وقوع التحرش.

على أحد مواقف الحافلات تتوقف سيارة خاصة حديثة وبحالة جيدة، يشير السائق لسيدة داعياً إياها لتستقل سيارته، بات المشهد طبيعياً في ظل زحمة المواصلات الخانقة، حتى أنه صار دارجاً ومقبولاً (رغم تحفظ البعض) أن تطلب بعض النساء من أصحاب أو سائقي السيارات العابرة التوقف، وخاصة في بعض المناطق المزدحمة أو المقطوعة والتي تنعدم فيها حركة المواصلات، عدا عن ارتفاع كلفة أسعار سيارات الأجرة بصورة غير قابلة للدفع أو حتى للتقبّل.

 لم تتردد السيدة بالصعود، كانت المرأة الوحيدة على الموقف وقدرت أن صاحب السيارة قد تعاطف مع وقوفها طويلاً في منطقة مزدحمة جداً، كما أن تطابق وجهتيهما شكل دافعاً قوياً ومطمئناً لتشاركه رحلته.

فور صعودها، عرّف الرجل عن نفسه، منح نفسه لقب المهندس وصرّح باستعراض مبالغ به: بأنه صاحب مكتب سياحي للرحلات الداخلية والحجوزات الفندقية. كان التقديم سخياً، يوحي بالاكتفاء وبالنزاهة، لكن المرأة شعرت بأن هذه المقدمة كانت فخاً، هي وبشكل شخصي لا تحب المكاتب السياحية ولا أصحابها، تعرف تماماً أن نشاط بعضها يتجاوز وظيفته الحقيقية، والأهم أنها غير مضطرة للتصديق. عرفت عن نفسها وعن عملها أيضا، لكنه قام فوراً بطلب رقم هاتفها مؤملاً إياها باستعداده لأي خدمة تطلبها خاصة وأنها امرأة وحيدة، أعلنت أنها ليست وحيدة أبداً! باتت كلمة وحيدة مدخلاً للتطفل، لفرض طلبات تبدو للمساعدة أو المساندة، لكنها في الحقيقة فخ ينصب شراكه المتلاعبون.

لم يغيّر جوابها شيئاً، أصّر وبسرعة على طلب رقم الهاتف فاعتذرت، أوقف سيارته على يمين الطريق وقال لها تفضلي! كان يقصد تماماً طردها! سألته بغضب: هل كانت الدعوة لمرافقتك إلى ذات الوجهة من أجل المساعدة أم من أجل رقم الهاتف؟ رد صارخاً وهو يشير لها بالمغادرة: (أنا ما بحب النسوان يلي بتستشرف علي)!

ثمة صورة نمطية يساهم الرجال في تعميمها وهي أحقية الأغنياء بالتحرش، وأحقية الشباب أو الأصحاء بالتحرش، يبدو أن كبار العمر وأصحاب الاحتياجات الخاصة والفقراء لا يحق لهم جميعاً التحرش، فهم وببساطة لا يملكون ما يمنحونه، هكذا يميل الجميع للتعبير مع أن هذا يتعارض قيمياً مع رفض المتحرش مهما كان وضعه المادي أو سنه أو شكله.

على زاوية ساحة شهيرة يتلاعب سائق ميكرو قديم الصنع بالأضواء في عز النهار، كان يقصد سيدة بعينها تقف بانتظار واسطة نقل، سخر رجلان واقفان من هزالة الموقف، قالا لبعضهما: ميكرو مهتري وعم يغمّز كيف لو معه مرسيدس! كان للسيدة رأي مختلف ولكنه مهين أيضاً: “زمّك (يعني قصير ونحيل القامة) وختيار على عيبه”! ابتعد الجميع عن إدانة التحرش المباشر عبر الدعوة غير المبررة من السائق لسيدة لا يعرفها، اتفقوا جميعهم على تقزيم السائق المتحرش وكأنه خارج دائرة من يحق له التحرش، وكأن التحرش فعل قوة لا يملكه إلا الأكفاء على فعله. يبدو أن المجتمع يبارك علناً التحرش لكن لمن يملك حق التحرش، إنها لمصيبة كبرى! كان بودي سؤال السيدة المعترضة على شكل الرجل والرجلين الساخرين من الباص الذي يقوده ذاك المتحرش عن موقفهما من التحرش ومن الرجل ذاته إذا ما تغير شكله أو عمر ونوع الحافلة التي يقودها.

ثمة مصيبة أخرى تحمي المتحرشين، وهي اتهامهم جميعاً بأنهم مرضى نفسيين، أي وبصريح العبارة فهم لا يتحملون نتائج تحرشاتهم ولا اعتدائهم الواقع مباشرة على النساء دون أي تفكير أو رادع. إن تعميم نظرية المرض النفسي هي محاولة فاشلة لحماية المتحرشين وإفلاتهم من العقاب، فلماذا لا تقع آثار أمراضهم النفسية إلا على النساء! وعلنا وفي الأماكن العامة وكأن النساء مستباحات بمجرد وجودهن في الفضاء العام، وكأن الرجال وحدهم من يحق لهم التحكم بالفضاء العام وممارسة كل الانتهاكات القانونية والاجتماعية والأخلاقية فقط بسبب هويتهم الاجتماعية! إن فائض القوة الذي يتربى الذكور متسلحين به يمنحهم قوة ودافعاً للتحرش دونما أي توقع للردع أو للعقاب.

يجلس الرجل على المقعد الجانبي، يضع على ركبتيه كيساً من النايلون الأسود، لا يسمح ضيق الحافلة بالتخلص من احتكاك ركبتيه بركبتي السيدة المجاورة له، لكنها لوهلة شعرت أن ثمة ما هو أبعد من مجرد احتكاك فرضه ضيق المكان، بخفة حاسمة مدت يدها والتقطت يده التي يلامس بها فخذ السيدة متخفياً بكيس النايلون. أمسكت السيدة بيده الآثمة، حاول سحب يده لكنها شدت عليها وصفعت وجهه بيده، ثم صرخت بالسائق ليتوقف فلم يستجب، حاول الرجل اتهام السيدة بالجنون وبأن لها خيالاً مريضاً، قال لها بثقة: “استحي على عمرك.” كان يقصد أنها في سن تجاوزت فيه التحرش بها، وكأن التحرش فضيلة أو وسيلة لتثبت المرأة لنفسها أنها جميلة أو تستحق التحرش! تناقض مرعب تفرضه حزمة من المغالطات، كأن تقول امرأة لرجل يتحرش بها: “عيب عليك أنا في مثل عمر والدتك”، وكأن للتحرش سناً أو عتبة أو مبرراً! غضبت السيدة بشدة، صفعته بيديها الاثنتين وقالت له: “لن أسمح لك بلمسي، حتى لو كنت عجوزاً، من قال لك بأنني أنتظر شهادتك لتثبت بأني امرأة!”

يتحول الازدحام إلى مناسبة سانحة تسهّل التحرش، يستغله البعض لممارسة التحرش الجسدي المباشر خاصة وأن التهرب منه أو نفيه سهل ومبرر ويمكن عزوه إلى الازدحام لا غير. في الباص الكبير يمرر شاب متحرش كف يده على فخذ شابة واقفة أمامه، تشعر بذلك، يتضرج وجهها باللون الأحمر من شدة الخجل، تحاول تغيير وضعية وقوفها لكن الازدحام الشديد لا يسمح لها بذلك والمتحرش لا يتوقف عن التحرش، بل يمنحه ارتباك الصبية ومحاولة الدوران في المكان فرصة للالتصاق بمساحة أوسع من جسدها. تتدخل امرأة جالسة في مواجهة الشاب، لكن كل ما تفعله هو أن تنادي الشابة لتقف بجانبها. تدخّل هش وضعيف، لا يعاقب الشاب ولا يردعه ولا حتى يفضحه، بل يدعوه وبثقة بالغة لينتقل إلى ضحية أخرى بعد نصف متر من مكان واقعة التحرش الأولى، تصرخ الفتاة به، لكنه لا يتأثر أبداً، ولا يظهر أي استجابة وكأنه غير معني بتاتاً بما يفعله من اعتداء صارخ، تغادر الفتاة الباص مرغمة والصمت سيد الموقف.

تتحول وسائط النقل إلى بيئة خصبة للتحرش، تعاني النساء من التحرش ومن الصمت على المتحرشين، تفتقد النساء بشكل عام إلى كل وسائل الحماية والدعم في مواجهة المتحرشين. ويصل التحرش حدوده القصوى عندما يستغل سائقو وسائل النقل حتى العامة وظيفتهم لحجز أماكن محددة لنساء أو فتيات محددات، وربما يطلبون بعدها أرقام هواتفهن الخاصة وقد يعرضون عليهن خدمات خاصة مقابل تنازلات من النساء أيضاً.

وليس مستغرباً أبداً، أن يتدافع الركاب للفوز بمقعد في حافلة عامة بينما يقوم السائق بحجز المقعدين الأماميين لنساء لا يعرفهن من قبل أبداً، لكنه وبسبب الازدحام وصعوبة تأمين مقعد يبرر لنفسه دعوة نساء بعينهن للجلوس في هذه المقاعد دونا عن غيرهن، فقط لأنهن شقراوات مثلاً! و الطامّة الكبرى هي أن يتحول التحرش إلى امتياز، لا تعيه النساء وربما وإن وعينه يعتبرنه غير مكلف أبداً ولا ينتمي للتحرش كفعل اعتداء صريح وواضح لكنه مغلف بالصدفة أو بالرغبة بالمساعدة أو فعل الخير.

من المؤسف والضار جداً هو التعامل مع التحرش في وسائل النقل عامة أو خاصة وكأنه حل أو إجراء تلقائي وبسيط وبريء، وقد يخفف من سوء الأحوال العامة وخاصة أزمة النقل والمواصلات.

للتحرش وجه مباشر وصارخ وله آلاف الوجوه غير المباشرة والمتلاعب فيها وبالنساء من خلالها وخاصة التعامل معهن وكأنهن طرائد وقوعها محتم في حبائل المتحرشين، وجوه أخرى يتضافر فيها الاستخفاف مع ضعف النساء وخاصة في ظل سوء الأحوال العامة وغياب كل آليات الحماية والوقاية.

مواضيع ذات صلة

عمر البطش مدرسة متفردة في فنون الموشحات ورقص السماح

عمر البطش مدرسة متفردة في فنون الموشحات ورقص السماح

إلى جانب كونها مدينة الطرب والقدود، برعت حلب وتميَّزت في فن الموشحات، وذلك بفضل كوكبة من ملحنيها ووشاحيها المبدعين، الذين كانوا مخلصين لذلك الفن  وحافظوا على روح وألق الموشح العربي وساهموا في إغنائه وتطويره، ومن أبرزهم الشيخ عمر البطش، الذي ساهم على نحو خاص في...

شعاع من الفن التشكيلي السوري: نصير شورى (1920-1992م)

شعاع من الفن التشكيلي السوري: نصير شورى (1920-1992م)

في الخامسة من عمره حظيت إحدى لوحاته بإعجاب العديد من أساتذة الرسم، نصير شورى الذي ولد عام ١٩٢٠ والذي كان محط عنايةٍ خاصة من والديه: محمد سعيد شورى، الأديب والشاعر الدمشقي المعروف، وأمه، عائشة هانم، ذات الأصول العريقة. فكان أن تلقى تعليماً خاصاً منذ نعومة أظفاره...

نذير نبعة: رسام الحياة ومؤرِّخ الألوان السورية

نذير نبعة: رسام الحياة ومؤرِّخ الألوان السورية

 "كنت أحلم بلوحةٍ تستطيع أن تخاطب بجمالياتها شريحة أوسع من الناس، لوحة تستطيع تجاوز مجموعة الجمهور التي تتكرر في حفل الافتتاح لأي معرض". ربما توضح تلك الكلمات، وهي للفنان نذير نبعة، مدى تبنيه وإخلاصه للفن، الذي كان رفيق دربه لأكثر من ستين عاماً، فهو الفنان الذي...

مواضيع أخرى

عملية تجميل لوجه دمشق بجراحة تستأصل بسطات الكتب

عملية تجميل لوجه دمشق بجراحة تستأصل بسطات الكتب

رغم انتشار ثقافة المطالعة واستقاء المعلومات عن طريق الشبكة العنكبوتية إلا أن ملمس الورق ورائحة الحبر بقيا جذابين للقارئ السوري. ولم تستطع التكنولوجيا الاستحواذ على مكان الكتاب الورقي، أو منافسته. وبقي الكتاب المرجع الأساسي والحقيقي لأي بحث علمي وأكاديمي، ولم يستطع...

التجربة المؤودة للمسرح الجوّال في سورية

التجربة المؤودة للمسرح الجوّال في سورية

بقي الريف السوري محروماً من المسرح إلى أن أنشأت مديرية المسارح والموسيقى في وزارة الثقافة ما أسمته "المسرح الجوال" عام ١٩٦٩، والذي بدأ عروضه بنشر الوعي المسرحي في الريف والمناطق الشعبية والنائية. صارت الصالة في كل مكان  والجمهور ضمنها، وكان كسر الحواجز بين...

“وفا تيليكوم”: اتصالات إيرانية على أراضٍ سورية

“وفا تيليكوم”: اتصالات إيرانية على أراضٍ سورية

ينتظر السوريون في الأسابيع المقبلة بفارغ الصبر وفق تصريحات حكومية انطلاق المشغل الخلوي الثالث "وفا تيليكوم" المرتبط بإيران التي ستدخل على خط الاستحواذ في قطاع الاتصالات الحساس والذي ظلّ حكراً على متنفذي السلطة لعقود. من خلال التواصل المباشر مع مصادر متعددة من داخل...

تدريباتنا