تدريباتنا

يوميات سورية: مواسم الحصرم

بواسطة | سبتمبر 6, 2018

دمشق

وافق أمجد، الذي يعمل كـ”طورنجي” سيارات، على الالتحاق بالدراسة كطالب بالصف السابع رغم أن عمره تجاوز السابعة عشرة، فهو يدرك عدم إلمامه بالمعلومات الأساسية واللازمة للتقدم لامتحان الشهادة الإعدادية. وجد أمجد مكانه في صف دراسي بمركز تعليمي أعدته جمعية أهلية تراعي ظروف النازحين والمهجرين والمتسربين من التعليم، وتقدم لهم الدروس والمستلزمات المدرسية إضافة للحوافز لتشجيعهم على متابعة الدراسة.

الأزمة الاقتصادية التي تعصف بالسوريين كافة تلعب دوراً أيضاً في زيادة حركة التسرّب من المدارس، والتي يحاول الأهالي والتجار التحايل عليها للاستمرار، ففي مواسم المدارس تبيع العديد من البقاليات الدفاتر والأقلام بالدين دونما فائدة (ليتم دفع المبالغ لاحقاً)، كما أن السوريين باتوا خبراء بتدوير ما لديهم وما يحتاجونه بمهارة عالية، كأن يشتري الأهل علبة أدوات هندسية واحدة لكافة أبنائهم الطلاب، وكذلك علب التلوين والمساطر الرقمية أو الآلات الحاسبة وسواها من المستلزمات المدرسية غالية الثمن.

تقول خلود وهي معلمة رسم بمدرسة ابتدائية حكومية، بأنها سألت تلميذا عن علبة الألوان الخاصة به، فاستأذنها ليحضرها من أخيه في الصف الأعلى، لأنهما يتشاركان علبة تلوين واحدة . “أذكر أيضاً طفلاً جاء إلى المكتبة ليبيع علبة الألوان التي منحوه إياها مجاناً في نادي للنشاطات، ليشتري بثمنها علبة من قطع الجبنة الصفراء.” تروي خلود مضيفة، “كان بمتسعه المحافظة عليها للموسم المدرسي، لكن الجوع أولى بتدابير إسعافيه تضحي بعلبة الألوان مقابل لفافة جبنة تحولت إلى حلم عصي على التحقيق، فليس المهم الوصول إلى الموارد وتصريح أن مليون طفل حصلوا على علب تلوين مجانية، بل المهم هو قدرة الطفل على التحكم بهذه الموارد وضمان ديمومتها.”

لا يبدو هذا خارج السياق العام في سوريا، ففي بلد يعاني ثمانون بالمئة من أهله من الفقر، ويصل متوسط الأجور لأقل من ثمانين دولاراً شهريا، يبدو منطقياً أن تغدو الحقيبة المدرسية حلما مترفا، لكن إن تمكن الأهل من التحايل على ابنهم الأصغر بحمل حقيبة الابن الأكبر، ماذا سيفعلون بالممحاة؟ الدفتر؟ قلم الرصاص؟ الألوان وغيرها…

في موسم المدارس، نشرت المؤسسة السورية للتجارة والمعروفة سابقاً باسم “المؤسسة العامة الاستهلاكية” إعلاناً تقدم فيه عرضاً بمنح قرض مقداره خمسون ألف ليرة دون فوائد يتم دفعه بالتقسيط لمدة عشرة أشهر، أي بواقع خمسة آلاف ليرة شهريا. آثار هذا الإعلان ضجة على مواقع التواصل الاجتماعي وخاصة أهالي الطلاب، وركزت التعليقات على فداحة الواقع الاقتصادي للطلاب وذويهم والذي يضطرهم للتقدم لهكذا قرض. كما تم اتهام الجهات المسؤولة بتجاهل الحال الرث الذي وصله الوضع الاقتصادي السوري، ليس للطلاب والتلاميذ وذويهم فحسب وإنما لمجمل السوريين الذين يمضون أيامهم بصعوبة، محاولين سد احتياجاتهم الأساسية، بينما تقوم طبقة صغيرة منهم بالنهب وصرف الملايين بطريقة باذخة واستعراضية تثير السخط والحقد معا.

وإضافة لإظهار القرض للعمق الحقيقي للأزمة الاقتصادية التي تعصف بالسوريين، فإنه يهدف لتسويق بضاعة مؤسسات السورية للتجارة، وكسر حالة الكساد التي تعاني منها نتيجة لضعف القوة الشرائية ونقص التسويق مما ينتج عنه العجز عن سداد رواتب وأجور العمالة الفائضة عن الحد في هذه المؤسسات، لذلك غالبا ما تلجأ تلك المؤسسات لعرض بعض مراكزها للاستثمار “الضمان” على تجار من خارج الوزارة وخاصة في منافذ بيع الخضار والبقالة التابعة للمؤسسة المذكورة. وغالباً ما تكون أسعار المواد فيها أعلى من السوق المحلية التي يتحكم تجارها بحركة خفض الأسعار حسب قوة العرض والطلب أو نقصهما.

ساهم هذا القرض أيضاً بزيادة صعوبة الوضع الإقتصادي على أصحاب المكتبات، يقول أبو أيمن وهو صاحب مكتبة معروفة في جرمانا الكثيفة السكان والطلاب “كان موسم المدارس العام الفائت خاسراً بامتياز.” فقد حرمه القرض  من الزبائن الطلاب من أبناء الموظفين والعاملين في الدولة. وامتنع تجار القرطاسية عن البيع بالتقسيط الأسبوعي نظرا لانخفاض سعر الدولار، وتخوفهم من ارتفاعات أو انخفاضات متتالية أو مفاجئة تغير من قيمة ما باعوه وتقلّص من قدرتهم على شراء المزيد، وتعويض المستودعات بما فقدته من استجرار كبير في الشهر الأول للعام الدراسي، والشهر الأول هو ذروة الموسم المكتبي والقرطاسية وملابس المدارس الموحدة. كما دفع التغير الحاصل بالقوة الشرائية العديد من أصحاب المحال والمكتبات لإغلاقها بشكل تام ونهائي.

يغفل القرض والمؤسسة أيضاً الجانب الإنساني  المرتبط بالتنمية، وهو حرية اختيار الدفاتر والأقلام والحقائب، وهو جانب ضروري لاكتساب شعور الرضا بالتعامل مع القلم والدفتر والممحاة، من أجل سلامة العملية التعليمية والتربوية. ففي منافذ بيع المؤسسة لا خيارات تذكر، كما سلة الإعانة، على الطالب وأهله شراء المتوفر جيداً كان أم سيئاً، مريحاً أم لا، لا خيار إذ عليك اختيار ما هو هنا ودفعة واحدة لكل ما يتوفر.

يقول البعض إن أجدادنا درسوا وهم يحملون كيساً من القماش “و أكبر بروة قلم الرصاص امتلكوها كانت بحجم الإصبع” متسائلين “لماذا كل هذا البطر الاستهلاكي؟”

إذن لماذا توزع المنظمات الأممية حقائب ملونة للطلاب بدلاً من أكياس طحين قماشية يحولها الأهل لحقائب؟ والموضوع هنا ليس للتندر، بل لتبيان حجم الهوة العميقة التي تصل حد الإدانة لكل من يبحث عن دعم وتطوير العملية التربوية والتعليمية شكلاً ومضموناً لتحقيق هدف التنمية في توسيع خيارات البشرية.

حاول البعض أن يوفر هذه الخيارات شخصياً، فبعض المغتربين أرسلوا مستلزمات مدرسية ملونة وأنيقة لأطفال قريتهم، كما قامت سيدة بإرسال مبلغ مائتي يورو كلفة مواد مدرسية لعشرة طلاب من مدينتها بعد أن وجهت دعوة على صفحتها على وسائل التواصل الاجتماعي، لكافة المغتربين أو القادرين للمبادرة لسد عوز الأطفال الآخرين.

المشكلة قائمة إذن، ولن يحلها قرض أو تقسيط أو منح أو حقيبة توزع أو تصريح يعج بأرقام بلا روح وبلا أفق. زاد من المشكلة أن الدوام المدرسي تزامن مع موسم المونة وفصل الشتاء المُكلفة للأسر السورية المتوسطة الدخل. هذا عدا عن المدارس الخاصة وتكاليفها التي تصل وسطيا إلى الثلاثمائة ألف ليرة سنويا لستة أشهر من أيام الدراسة الفعلية، إضافة لمشكلة تأمين مواصلات لنقل الطلاب في المدارس العامة والخاصة والتي تتراوح كلفتها مابين الخمسة آلاف والعشرة آلاف شهرياً عدا عن سوء هذه الخدمة وفقدان عوامل الأمان وزج الطلاب  وبأعداد مرتفعة في مكان ضيق.

ونحن نحترف غش أنفسنا بأننا نحيا، وبأننا في وضع ممتاز، والرسالة ظاهرة من العنوان، الآباء يأكلون الحصرم والأبناء يضرسون، حتى الحصرم ولد هذا العام محروقا ويابسا، بفعل المطر الحامضي الذي أحرق المواسم كلها، لتصير وجبة الحصرم علقما واخزا وأوهاما  خادعة.

مواضيع ذات صلة

عبد السلام العجيلي: شيخ الأدباء وأيقونة الفرات

عبد السلام العجيلي: شيخ الأدباء وأيقونة الفرات

يمثل عبد السلام العجيلي ذاكرة تأسيسية في مدونة الأدب السوري، ذاكرة من من ذهب وضياء، ضمت في أعطافها عبق الماضي وأطياف الحاضر، امتازت بقدرته الفائقة في الجمع بين مفهومين متعارضين ظن الكثيرون أنه لا لقاء بينهما، ألا وهو استلهامه واحترامه للتراث وللإرث المعرفي المنقول عمن...

عمر البطش مدرسة متفردة في فنون الموشحات ورقص السماح

عمر البطش مدرسة متفردة في فنون الموشحات ورقص السماح

إلى جانب كونها مدينة الطرب والقدود، برعت حلب وتميَّزت في فن الموشحات، وذلك بفضل كوكبة من ملحنيها ووشاحيها المبدعين، الذين كانوا مخلصين لذلك الفن  وحافظوا على روح وألق الموشح العربي وساهموا في إغنائه وتطويره، ومن أبرزهم الشيخ عمر البطش، الذي ساهم على نحو خاص في...

شعاع من الفن التشكيلي السوري: نصير شورى (1920-1992م)

شعاع من الفن التشكيلي السوري: نصير شورى (1920-1992م)

في الخامسة من عمره حظيت إحدى لوحاته بإعجاب العديد من أساتذة الرسم، نصير شورى الذي ولد عام ١٩٢٠ والذي كان محط عنايةٍ خاصة من والديه: محمد سعيد شورى، الأديب والشاعر الدمشقي المعروف، وأمه، عائشة هانم، ذات الأصول العريقة. فكان أن تلقى تعليماً خاصاً منذ نعومة أظفاره...

مواضيع أخرى

النساء ومعاركهن المتجددة

النساء ومعاركهن المتجددة

 يتم تسويف قضايا النساء بذرائع متعددة على الدوام، مرة بذريعة الحرص على الأخلاق العامة، ومرة أخرى بذريعة عدم المواجهة مع قوى الأمر الواقع، ومرات بذرائع تنبع فجأة من خبايا السنين وتصير حاضرة بقوة مثل طبيعة المرأة البيولوجية، أو التشريح الوظيفي لدماغ المرأة، وصولاً...

مرحلة اللادولة: بين إرث الماضي ومسؤولية المستقبل

مرحلة اللادولة: بين إرث الماضي ومسؤولية المستقبل

تمر سوريا اليوم بمرحلة فارقة في تاريخها، حيث يقف الجميع أمام اختبار صعب: هل يمكن تجاوز إرث القهر والاستبداد لبناء دولة جديدة قائمة على الحرية والكرامة؟ أم أننا سنتعثر مجددًا في أخطاء الماضي، التي صنعها الخوف، الصمت، وصناعة الأصنام؟ اليوم، نحن في حالة فراغ سياسي...

قراءة في المشهد السوري بعد سقوط النظام

قراءة في المشهد السوري بعد سقوط النظام

شهدت سوريا خلال أربعة عشر عامًا من الصراع تحولًا جذريًا في موازين القوى المحلية والإقليمية والدولية. بدأ الحراك شعبيًا وسلميًا، لكنه انتهى بصراع مسلح معقد ومدعوم خارجيًا، في ظل غياب قوة سياسية مؤثرة ميدانيًا. وبينما ساندت روسيا وإيران النظام السوري، مما أطال أمد...

تدريباتنا