أجرى فريق #صالون_سوريا، دورة تدريبية عن الانواع الاعلامية والصحافة الحساسة...
تدريباتنا
ورشة تدريب صالون سوريا
يعلن فريق #صالون_سوريا، التحضير لدورة تدريبية عن الانواع الاعلامية والصحافة...
ترجمة: أسامة إسبر
سبّب الزلزال الذي ضرب تركيا وسوريا وكردستان في السادس من شباط 2023 خسائر بشرية كبيرة ودماراً مادياً غير مسبوق وفشلت الحكومة التركية فشلاً ذريعاً في احتواء الكارثة متخلية عن عشرات الآلاف من الناس كي يموتوا تحت الأنقاض وعن ملايين الناجين الذين تعرضوا للصدمة وتساءلوا يائسين: “أين الحكومة؟“.
حتى بعد مرور اثنتين وستين ساعة فشلت هيئة إدارة الكوارث في تركيا (أفاد) في القيام بعمليات إنقاذ للعالقين تحت الأنقاض في محافظة هاتاي التي تعرضت للضربة الأقوى. وكان الموقف مشابهاً في تسع مدن أخرى وأكثر سوءاً في الأرياف. وأدى سوء إدارة الطوارئ الحكومية وصرخات الاستغاثة من المناطق التي استهدفها الزلزال في الإعلام الاجتماعي إلى تعبئة تلقائية وسريعة في أنحاء البلاد لمد يد العون للمنكوبين. ونظمتْ شبكات التضامن، ومنظمات المساعدة المتبادلة، والبلديات التي ترأسها المعارضة، التي فتح عليها الأردوغانيون طويلاً نار النقد ونعتوها بصفة ”إرهابية“، حملة كبيرة لإنقاذ الناس العالقين تحت الأنقاض ولتعبئة المساعدة التي يحتاج إليها ضحايا الزلزال. واستجابت الأسرة الدولية بسرعة لنداءات الاستغاثة وانبرت للمساعدة أيضاً كلٌّ من اليونان وأرمينيا وكردستان العراق (الدول التي تُشيطَن عادة كأعداء للدولة التركية) ومعها كثير من الدول الغربية التي اتهمتها الحكومة على نحو متكرر بالتآمر ضد وحدة تركيا وسلامة أراضيها.
يمكن أن يذهب الظن بالمرء إلى أن الحكومة التركية رحّبت بجهود الإغاثة المجتمعية أثناء هذه الأزمة، وتحركت بسرعة كي تدمج هذه الجهود في إطار جهود استجابة الدولة المنظمة للكارثة إلا أن الحقيقة هي أن حكومة حزب العدالة والتنمية اعتبرت حملة التضامن التي قادتها المعارضة تهديداً وشنت حملة عدوانية لقمع الأفعال الجماعية التي هدفت إلى تقديم المساعدة لضحايا الزلزال.
كيف نشرح العداء الشديد الذي تكنه حكومة حزب العدالة والتنمية لمنظمات المجتمع المدني التي تنظمت من أجل المساعدة المتبادلة بعد الزلزال؟ ما الذي يفسر رفض الحكومة التركية للعمل مع المجتمع المدني لتنظيم إغاثة المنكوبين في الكارثة ولجوءها إلى الذعر الأخلاقي العنصري ضد ”من يقومون بعمليات النهب“ والمهاجرين السوريين؟
طرأ على الدولة التركية تحوّل نحو الاستبداد في العقد الأخير، ذلك أن الحكومة ركزت بصورة رئيسة على دعم مؤسسات الدولة القسرية (الشرطة، الجيش، والاستخبارات) على حساب مؤسسات تقوم بوظائف غير قسرية (إدارة الكوارث، الصحة، والتربية)، وقد تكشفت هذه السيرورة من خلال سلسلة من الأحداث الجماعية المثيرة للجدل، شملت انتفاضتين في (2013-2014)، وحرب المدن (2015-2016) ومحاولة انقلاب (2016) في الوطن، بالإضافة إلى ثلاث عمليات عسكرية عابرة للحدود في سوريا (2016- 2019). وفي أثناء ذلك الوقت، أبدت الحكومة بشكل متزايد براعة في التعامل مع الطوارئ السياسية عن طريق إدارة حملات تهدئة.
تغلّب أردوغان في هذه الأحداث المثيرة للجدل على التحديات التي واجهت حكمه عن طريق تعبئة القومية العرقية التركية لحشد الدعم الشعبي وتوحيد الجسم السياسي وتقويض المعارضة زاعماً أنه يقاتل ضد أعداء داخليين وخارجيين في آن واحد (١). من ناحية أخرى، حين نشأت الحاجة لمواجهة الطوارىء العامة كالوباء وحرائق الغابات، ومؤخراً الزلزال، لم تتمكن وكالات الدولة المعنية من مواجهة هذا التحدي بفعالية، ما أدى إلى غضب شعبي واسع النطاق وتجريم الأصوات المعارضة و\أو الأقليات.
بصرف النظر عن السبب الكامن وراء طارئ، وظّفتْ الحكومة التركية حالات الطوارئ في إطار التنافس السياسي من أجل الشرعية. وتساوقَ رد فعل الحكومة على الزلزال الذي حدث مؤخراً مع تصورها المسيس بشكل مفرط لحالات الطوارئ. وبعد أن واجهتها أزمة شرعية نتيجة لفشلها في حماية حياة مواطنيها، لجأت الحكومة التركية إلى حملة تهدئة، مستغلة مشاعر العداء للسوريين التي انتشرت على نطاق واسع في محاولة لإضعاف حملة التضامن. وعوضاً عن مجرد استعادة الشرعية، هدفت جهود التهدئة الحكومية أيضاً إلى إنشاء أوضاع من أجل التمهيد لمشروع ضخم لإعادة بناء المناطق التي ضربها الزلزال في غضون سنة.
سوابق خطيرة وسياسة إدارة الكارثة
لا شك أن قوة الزلزال زادت من الدمار الذي نجم عن الكارثة. وقد كانت الديناميات البنيوية التي أسهمت مباشرة في التكاليف البشرية والمادية العالية، من ناحية أخرى، قيد التشكل منذ أن تولى حزب العدالة والتنمية السلطة في 2002. ذلك أن استراتيجية تراكم رأس المال لدى حزب العدالة والتنمية تعتمد بشكل كبير على النمو السريع في قطاع البناء والتسامح البيروقراطي مع الانتهاكات المنهجية للقواعد والقوانين على كل من المستويين الوطني والمحلي، وخاصة حين يمتلك المتعاقدون صلات مع الشبكات السياسية الصحيحة. وفي سياق كهذا، إن أي لجوء إلى مصطلح ”فساد“ تبسيطي ومضلل، ذلك أن تفشي هذه الانتهاكات المنهجية يبيّن أن المشكلة كامنة في نموذج النمو الخاص بحزب العدالة والتنمية وناجمة عنه. فبحسب تقرير أعده اتحاد غرف المهندسين، إن نصف الأبنية تقريباً التي انهارت أو تأذت بسبب الزلزال بُني بعد عام 2000.
ثمة عامل آخر مهم أسهم في ارتفاع حصيلة القتلى هو فشل الحكومة في بناء وكالة لمواجهة الكوارث تعمل بفعالية بعد تفكيك البنية التحتية السابقة التي كان يقودها الجيش في 2009. فقد استند توجّه حزب العدالة والتنمية لمنع الجيش من استغلال حالات الطوارئ إلى مخاوف شرعية. منذ الستينيات حتى أوائل القرن الحادي والعشرين، كان الجيش التركي الوطني العلماني قادراً على إدارة البلاد بشكل مباشر أو غير مباشر عن طريق استغلال حالات طوارئ حقيقية أو مفبركة، وقد استتبع هذا إدراجاً دائماً لمبادئ مكافحة التمرد في هياكل الحكم. وأنتج مشروع حزب العدالة والتنمية لتمدين إدارة الكوارث وكالة أقل فعالية في التعامل مع الكوارث في الأعوام التالية. واندمجت جميع منظمات الإغاثة في حالات الكوارث التي كانت موجودة في 2009 تحت مظلة هيئة إدارة الكوارث التركية (أفاد). وبعد مدة وجيزة، تم تطويق إدارة الكوارث والطوارئ من قبل بيروقراطية تنسيقية متعددة الطبقات أخضعت الإغاثة في حالات الكوارث لسيطرة سياسية أكبر، وقُوضت بالتدريج سلطتها المستقلة في صناعة القرار كي تعمل بسرعة في حال حدوث كارثة. علاوة على ذلك، قامت هيئة ”أفاد“ الحكومية بإعادة هيكلة منظمات الإغاثة في أوقات الكوارث كالهلال الأحمر كي تولّد قوة ناعمة عن طريق إرسال مساعدة إنسانية إلى الخارج على حساب كوارث محلية.
كان من أسباب عجز حكومة حزب العدالة والتنمية عن بناء بنية تحتية لمواجهة الكوارث أيضاً هو توجّه تركيا الاستبدادي واستثمارها الكبير في مؤسسات القسر الحكومية. فعلى مدى العقد الأخير، خصّصت الحكومة التركية على نحو متزايد قسماً كبيراً من مواردها لبناء دولة بوليسية لقمع الانشقاقات الداخلية وبناء جهاز صناعة حرب كي تعزز أجندتها الإمبريالية في كردستان وسوريا والعراق، والشرق الأوسط الأوسع. ومنذ 2009، ركزت ”أفاد“ في معظم الأحيان على إدارة معسكرات اللاجئين في تركيا والمناطق التي تحتلها تركيا في سوريا فجرّدها هذا من القدرة على مواجهة كارثة ”طبيعية“. وفي ظل غياب مؤسسات غير قسرية فعالة في الوطن، فاقم طموح النخب السياسية التركية لبناء قوة إقليمية في الشرق الأوسط التأثيرات المدمرة للزلازل. وعلى نحو مشابه، لا تزال استجابة الحكومة للكوارث المسيسة بشدة تتشكل من خلال الإيمان بهيمنة الدولة على المجتمع، علاوة على الدروس السياسية المستمدة من التاريخ الحديث للكوارث الكبرى.
الحكومة التي في جميع الأمكنة وليست في أي مكان
عجّلتْ أزمتان متعاقبتان صعود حزب العدالة والتنمية الإسلامي إلى السلطة في 2002. كانت الأولى هي فشل حكومة الائتلاف في حماية حياة المواطنين وتقديم المساعدة الفعالة في أعقاب زلزال إزمير في 1999. وكان هذا ملفتاً للنظر على نحو خاص لأن الجيش التركي تصرف بسرعة في الساعات الاثنتين وسبعين الأولى كي ينظم الاستجابة للكارثة. وبسبب الإمكانية المحدودة للدولة، لم تكن جهود الإغاثة فعالة إلا جزئياً، بينما كان التأثير الاقتصادي للزلزال شديداً بعد أن ضُرب القلب الصناعي لتركيا. وأشارت أزمة 2001 الاقتصادية إلى نهاية ”تركيا القديمة“، التي كان يحكمها الجيش العلماني بشكل غير مباشر . ورغم أن الجيش هدف إلى شرعنة هيمنته القسرية أثناء التسعينيات عن طريق تصوير الحركتين الكردية والإسلامية بوصفهما تشكلان تهديداً للدولة والأمة، فإن هاتين الأزمتين مهّدتا الطريق لحزب العدالة والتنمية كي يفوز بانتخابات 2002.
أوضح هذا التحول أيضاً كيف أن الكوارث التي تُدار على نحو سيء تدمر ثقة المجتمع بحكومة البلاد، ومؤسسات الدولة، والقيادة. وعلى نحو مشابه، كشف زلزال 2023 مسبقاً عجز الحكومة عن حماية مواطنيها بينما قدم أيضاً للمعارضة فرصة بنيوية كي تزيد من تقويضها لحكم أردوغان الاستبدادي. في ضوء ما قلناه، يتطلب فهم كيف أن الزلازل يمكن أن تعيد تشكيل المشهد السياسي في تركيا فحصاً أكثر شمولاً لمقاربة الحكومة لسياسة الطوارىء.
كانت وكالات الدولة التركية غير موجودة تقريباً في المناطق الأكثر تضرراً في الأيام التي أعقبت الزلزال الأول في 2023 لكن هذا لا يعني أن الآلة الاستبدادية الأردوغانية كانت معطلة. فمنذ السادس من شباط 2023، ركزت الحكومة على إدارة التداعيات السياسية للأزمة وليس على الكارثة نفسها. وفي غياب مؤسسات فاعلة تستجيب بفعالية لكوارث كهذه، اتسمت قواعد اللعبة الأردوغانية الاستبدادية للتعامل مع الكوارث ”الطبيعية“ الخطيرة باللجوء إلى استراتيجية التهدئة، إلى سيرورة امتصاص الغضب الجماعي من الحكومة المنتشر على نطاق واسع عن طريق مزيج من التكتيكات القمعية العنفية واللاعنفية.
إن الهدف الجوهري لقواعد اللعبة الأردوغانية هو تخفيف التكاليف السياسية للاستجابة غير الملائمة للكوارث إلى الحد الأدنى. ويمكن أن تُدعى مقاربة أردوغان بأنها ”إدارة الكوارث كتهدئة“. ويمكن أن تكون استراتيجية كهذه فعالة إلى درجة أن الحكومة تصبح قادرة على أن تحمّل قوى خارجية المسؤولية عن تكاليف فشلها في حماية مواطنيها إلى درجة أنها يمكن أن تقمع شبكات التضامن والمجتمع المدني المعبأة من أجل الاستجابة المجتمعية للطوارئ. إن التهدئة في هذه النقطة شرط أساسي لأردوغان كي يتمكن من إطلاق مشروعه الضخم في المناطق المتضررة من الزلزال، والذي سيبدو مرة أخرى بأنه يمنح أولوية للسرعة على حساب الأمان. في هذا السياق، تهدف الحكومة إلى إبعاد شبكات التضامن من المدن المدمرة، وإسكات الأصوات المعارضة على المستوى الوطني، وأيضاً منع ازدياد محتمل في التعبئة السياسية في المستقبل القريب.
إن محاولة ربح القلوب والعقول عن طريق مزيج من التكتيكات العنفية واللاعنفية ليست ظاهرة جديدة في تركيا. ذلك أن مؤسسات الدولة القسرية في تركيا هي امتداد لحملة التهدئة في شمال كردستان القائمة منذ 1984. بالتالي، تعتمد مؤسسات الدولة بشكل كبير على تكتيكات مكافحة التمرد كي تتغلب على أية تحديات رئيسة لشرعية الدولة، ليس فقط في إقليم كردستان بل في أنحاء تركيا. ولعبت ممارسات مكافحة التمرد دوراً مهماً في انتقال تركيا إلى الاستبداد بعد انتفاضة جيزي في 2013، خاصة بعد أن دخل حزب العدالة والتنمية في تحالف مع نخب مكافحة التمرد في التسعينيات فيما كان يوجه الضربة القاضية إلى عملية السلام الكردية (2009-2015). وعلى مدى العقد الأخير، أدى استخدام النخبة الحاكمة المستمر لتقنيات مكافحة التمرد إلى نعت نصف السكان تقريباً ب“الإرهابيين“.
حين يحصل طارئ حقيقي في الدولة، يصبح مزج القسر بأنشطة بناء الشرعية محورياً لذخيرة التهدئة كما فعلت الحكومة منذ 2015. ويمكن أن تتنوع العمليات السيكولوجية للحكومة بحسب نوع الطارئ، لكن هدفها المحوري هو أن تسترضي الأغلبية التركية المهيمنة عن طريق تجريم مجموعات ثانوية تنتمي إلى الأقليات. وفي سياق الكوارث، صارت عملية التحويل الاستراتيجية التي تقوم بها الدولة لجماعات الأقليات إلى أكباش فداء استجابة إلهائية منهجية حين يُسلط الضوء على عدم كفاءة الحكومة. على سبيل المثال، بسبب الافتقار إلى طائرات مكافحة الحرائق، صارعت حكومة حزب العدالة والتنمية لأسابيع لإطفاء سلسلة من حرائق الغابات بدأت في آب (أغسطس) 2022 نتيجة لأزمة المناخ. وبدأ الإعلام الذي تسيطر عليه الحكومة على الفور بنشر نظريات المؤامرة والمعلومات المضللة لائماً الحركة الكردية ومتهماً لها بالوقوف وراء حرائق الغابات من دون أي تبرير. أدى هذا السعار العنصري الكبير إلى سحل وقتل أكراد ولاجئين سوريين في المناطق المتضررة، بينما خفض أيضاً إلى درجة كبيرة التكلفة السياسية لفشل الحكومة في احتواء الكارثة. ولجأت الحكومة التركية إلى أفعال قمعية مشابهة في الأسبوع الأول بعد كارثة الزلزال، وتمت جهود التهدئة على حساب استجابة للكارثة أكثر فعالية كان يمكن أن تنقذ حياة آلاف الأشخاص الآخرين.
تهدئة شبكات التضامن
سعى أردوغان بعد الكارثة مباشرة إلى استرضاء قاعدته الدينية زاعماً أن الزلزال صنيعة القدر. وأدركت الحكومة بسرعة حدود هذا التوصيف، وركزت على الحجة القائلة بأن الزلزال كانا شديداً على نحو استثنائي وأن أية جهود للتخفيف من الكارثة عاجزة عن منع الدمار الذي لا مفر منه. إلا أن الحكومة التركية ارتبكت من السرعة التي قامت بها شبكات التضامن ومنظمات الإغاثة والبلديات التي تقودها المعارضة بحملة التعبئة الفعالة فشنت حملة تهدئة. وكان هذا جلياً في السابع من شباط (فبراير) 2023 حين أعلنت الحكومة ”حالة الطوارىء“ لثلاثة أشهر في المدن العشر التي تضررت من الزلزال كي تمنح المزيد من سلطة حرية التصرف للشرطة والجيش. (قامت الحكومة سابقاً بتحديد المناطق التي ضربها الزلزال بوصفها ”مناطق كوارث“ من أجل تقديم تمويل إغاثة خاص وكبير لمواجهة الكارثة).
حاولت الحكومة التركية في الثامن من شباط (فبراير) أن تحجب تويتر وتيك توك اللذين كانا جوهريين لجهود الإغاثة المجتمعية. وفي اللحظة التي غصّ فيها تويتر التركي بالدعوات إلى الإنقاذ الفوري في مناطق معينة، لم تعكس عملية الحجب الوحشية هذه غياب الكفاءة لدى الحكومة فحسب بل عرّضتْ أيضاً جهود الإنقاذ لخطر شديد. ومن اللافت أن الحكومة أُجبرت على التراجع بعد تسع ساعات بسبب الغضب الشعبي الذي انتشر على نطاق واسع، ما أشار إلى عمق الأزمة التي بزغت في قلب استجابة حزب العدالة والتنمية للكارثة. وفي الأيام التالية، بدأت الشرطة التركية باعتقال المقاولين المشتبه في ارتكابهم انتهاكات للقواعد والقوانين في محاولة لتحميل آخرين مسؤولية الفشل في احتواء الكارثة والحد من تكاليفها. ورغم ذلك، وبالمقارنة مع حجم وإلحاحية الأزمة الإنسانية المتواصلة، لم يكن لأي من هذه الإجراءات الحكومية تأثير كبير على الغضب العام المستمر. فقد تفاقمت الأمور بسرعة وتم الإبلاغ عن عدد قليل نسبياً من عمليات النهب. لكن بينما برر الرئيس أردوغان الحاجة لسلطات طوارئ، بذر بذور الذعر الأخلاقي متعهداً بشن حملة على اللصوص والمجرمين في الأماكن المتضررة من الزلزال. وشُنت حملة تضليل قوية في الإعلام الاجتماعي لتضخيم ”تهديد النهب“ بالتعاون مع أحزاب ”المعارضة“ التي تتبنى أجندة عنصرية معادية للمهاجرين. وظهرت صُور ”اللصوص السوريين“ المزعومين الذين عذبتهم الشرطة التركية بشكل غامض وبدأت تنتشر بكثافة في الإعلام الاجتماعي.
بعد أن واجهت الحكومة أزمة شرعية تعمّقت نتيجة استجابة للكارثة عُبئت بصورة مستقلة عن الدولة، اضطرت إلى اختراع ”الخطر“، (اللصوص) بينما زعمت أيضاً أنها ”الدرع“ (عنف الدولة) ضد التهديد كمحاولة لبناء الشرعية عن طريق سياسة القانون والنظام. ولم تشمل الهستريا العنصرية التي رعتها الدولة حول عمليات النهب تعذيب لصوص مزعومين فحسب بل أدت أيضاً إلى سحل ثلاثة أشخاص حتى الموت وإلى قتل شخص آخر على يد الجندرما (قوة الشرطة الريفية). وعَسْكرَ الإرهاب الذي رعته الدولة مسبقاً المناطق المتضررة من الزلزال، بهدف طرد شبكات التضامن في المستقبل القريب.
كانت مصادرة المساعدات التي نظمتها حركة التضامن هدفاً محورياً لاستراتيجية التهدئة أيضاً. فقد ألحت الحكومة على أن كل مساعدات الإغاثة في حالات الكوارث يجب أن تُرسل للناجين من الزلزال عن طريق مراكز التنسيق التابعة لهيئة ”أفاد“. ولجأت الحكومة إلى قوات الشرطة لمصادرة المساعدات التي أمنتها منظمات المجتمع المدني الكردي وحزب الشعب الديمقراطي وعينت حاكم مقاطعة بوصفه ”وصياً“ على مركز منظمة إغاثة في منطقة بازارجيك، في كهرمان مرعش. وأفيد عن حوادث مشابهة في عرقلة وصول المساعدات في محافظة شرناق ومنطقة غوجلوكوناك وملاطية.
وفي عملية تخدم الهدف نفسه، اعتقلت الشرطة عشرة عمال مساعدات من الحزب الشيوعي التركي، وكان هذا كما تبيّن جزءاً من محاولة لتخويف الناشطين في المناطق التي ضربها الزلزال. علاوة على ذلك، هدّد مسؤولو حزب العمل الوطني المتحالف مع الحكومة مراراً وتكراراً بالاستيلاء على التبرعات المقدمة لمجموعة ”أحباب“ وهي إحدى أبرز منظمات الإغاثة في أوقات الكوارث في تركيا. علاوة على ذلك، بعد أن رأت حكومة حزب العدالة والتنمية كيف نجح طلاب الجامعات في تنظيم مساعدات شاملة للأمة في الأسبوع الأخير، قامت باللجوء استباقياً إلى استراتيجية لمنع طلاب الجامعات من التنظيم والتعبئة في الحرم الجامعي معلنة أنه يجب إخلاء جميع الغرف الجامعية التي تديرها الدولة لإيواء ضحايا الزلزال، ما جعل التعليم من خلال الحضور الشخصي في الجامعة مستحيلاً في نهاية العام الجامعي.
بدأت الاحتجاجات المتنامية في أنحاء البلاد ضد الحكومة تكشف لماذا لجأ أردوغان إلى الإجراءات الاستباقية. فقد طالب عشرات الآلاف من جماهير أكبر أندية كرة القدم في تركيا باستقالة الحكومة في 26 شباط في رد على الاستجابة للزلزال. وهوجم أكثر من مائة ناشط من حزب العمال التركي بشكل وحشي واحتُجزوا في اسطنبول بعد القيام بمسيرة للاحتجاج على عجز الحكومة عن تقديم الخيام لضحايا الزلزال.
وبحسب الأدبيات المتنامية حول التهدئة، يشير المصطلح إلى ما هو أكثر من سحق المعارضة، فالتهدئة هي أيضاً نتاج القوة وتمكّن من إنشاء أجهزة شرطة جديدة، ومشاريع اقتصادية وأنظمة اجتماعية. وقد وعد أردوغان في الأسبوع الثاني من حملة التهدئة التي قادتها حكومته بأن يبني جميع المدن المدمرة خلال عام واحد. وبصرف النظر عن مسائل محتملة أخرى، يجب أن يتغلب أردوغان أولاً على تحدي جديد هائل يتمثل في صعود القوى الاجتماعية الجديدة من أسفل عن طريق جهود التضامن التي تدفع أحزاب المعارضة إلى توحّد أوثق ضد الائتلاف الحاكم.
هوامش
١- من أجل دراسة جديدة حول الطريقة التي لجأ إليها أردوغان لتعبئة القومية العرقية التركية لمواجهة الهزيمة الانتخابية لحزب العدالة والتنمية في ٢٠١٥ وصعود الحركة الكردية في روجافا، انظر:
أنور غوناي وإردم يوروك: اضطرابات عرقية: الإسلام السي اسي والصراع الكردي في تركيا، منظورات جديدة حول تركيا ٦١ (تشرين الأول ٢٠١٩)، ص ٩-٤٣.
*هارون إركان عالم اجتماع سياسي متخصص في علم اجتماع الدولة، الحرب والصراع والاستبداد والحركات الاجتماعية والعرق، جامعة ولاية نيويورك.
مواضيع ذات صلة
مواضيع أخرى
تدريباتنا
ورشة تدريب صالون سوريا
أجرى فريق #صالون_سوريا، دورة تدريبية عن الانواع الاعلامية والصحافة الحساسة...
ورشة تدريب صالون سوريا
يعلن فريق #صالون_سوريا، التحضير لدورة تدريبية عن الانواع الاعلامية والصحافة...