أجرى فريق #صالون_سوريا، دورة تدريبية عن الانواع الاعلامية والصحافة الحساسة...
تدريباتنا
ورشة تدريب صالون سوريا
يعلن فريق #صالون_سوريا، التحضير لدورة تدريبية عن الانواع الاعلامية والصحافة...
مازن أكثم سليمان
بدأ اهتمامي[1] بالنَّظَريَّات النَّقديَّة المُعاصِرَة في المرحلة الجامعيَّة الأُولى من دراستي في كلِّيَّة الآداب، وظلَّ الاطِّلاعُ على تلكَ التَّيَّارات العريضة محكوماً في دبلوم الدِّراسات العليا (قسم الدِّراسات الأدبيَّة) بطبيعةِ توجُّهات الأساتذة، ومُقرَّراتِهِم، ومرجعياتهِم المَعرفيَّة (المُتحزِّبَة) والطَّارِدَة، عند مُعظمهِم، المَناهِجَ المُتَّهمَة بالتَّغريبِ، أو المَوسومة بالإلحاد، أو المُصنَّفة بوصفِها إحدى أدوات تخريب أصالة اللُّغة العربيَّة، وآدابِها، وبوصفِها، كذلكَ، إحدى (الأسلحة الفتَّاكة) لمَحوِ هُوِيَّتنا الثَّقافيَّة والحضاريَّة المُهدَّدَة من قبَل (آخَر) يكمنُ لنا حتَّى بينَ سُطورِ مُؤلَّفاتِهِ وسياقاتِهِ التي قد نجدُ جُذورَ الكثير منها في تُراثنا القديم والغنيّ جدَّاً إلى حُدود النِّسيان في مَواضِعَ كثيرة للأسف الكبير.
على هذا النَّحو الجوهرانيّ المُغلَق، بدا (التَّخندقُ)، وأولويَّاتُ الصِّراع ضمنَ تقابَلاتٍ ثُنائيَّةٍ حدِّيَّة وتفاصُليَّةٍ عمياء (أنا والغيْر) مانِعاً قبْليَّاً لكُلِّ جديدٍ أو طريفٍ أو مُغايِرٍ في مُؤسَّساتٍ (علميَّةٍ وتعليميَّةٍ) دعَوْتُها في إحدى مَقالاتي بـِ (الأكادَمَويَّات)، حيثُ دفعتُ أكثرَ من مرَّةٍ خلالَ عشرينَ عاماً من حياتي بينَ جامعاتٍ سوريَّةٍ ثلاث ثمَنَ هذا المَوقف المَعرفيّ والفكريّ، وهيَ المَسألة التي تحتاجُ إلى مَوضعٍ آخَر للحديث عنها بإسهابٍ وتفصيل.
غيرَ أنَّ التَّحوُّل الجذريّ ظهَرَ عندي بقُوَّة أثناءَ عمَلي على بحث الماجستير المُعنوَن بـِ (الانزياح في الشِّعر الجاهليّ _ المُعلّقات أنموذجاً)، والذي انتظمتْ فيهِ قراءاتي كمَّاً ونوعاً وتوظيفاً للنَّظَريَّة النَّقديَّة المُعاصِرَة، ولمَحمولاتِها/ خلفيَّاتِها الفَلسفيَّة، وهوَ الأمرُ الذي نضُجَ أكثر في بحث الدُّكتوراه المُعنوَن بـِ (مفهوم الذّات وجماليّاتُها بينَ شِعر امرئ القيس وشِعر زُهير بن أبي سُلمى).
لكنَّ مُحصِّلَة هذا الجهد التَّراكُميّ ظهرَتْ لديَّ بجلاءٍ في مَخطوط بحثي المُعنوَن بـِ (انزياح أساليب الوجود في الكتابة الإبداعيّة بينَ مُطابَقات العولمة واختلافاتِها)، والذي تقدَّمْتُ بهِ إلى جائزَة الطَّيِّب صالح العالَميَّة للإبداع الكتابيّ، وفازَ بهذِهِ الجائزة (المركز الثَّاني) في دورتِها التَّاسِعة (13 شباط/ فبراير 2019)، وذلكَ في مجال (الدِّراسات النَّقديَّة)، حيثُ قامَتْ هيئة الجائزَة بطباعة هذا البَحث، ونشرِهِ في كتابٍ يحملُ عنوانَ المَخطوط نفسِهِ وفي العام نفسِهِ.
أُعرضُ، هُنا، اقتراحي المنهجيّ غير المنشور إلكترونيَّاً من قبْل، والذي شغَلَ جزءاً من الفصل الأوَّل في هذا الكتاب، وقد دعوتُهُ بـِ (منهج التَّأويل الأُنطولوجيّ/ الثَّقافيّ للانزياح)، وطبَّقتُهُ على رواية (حارس الفيسبوك) للكاتب المصري (شريف صالح)، وعلى قصَّة (حكاية الرُّوح التَّائهة في أوربّا) للكاتب السُّوريّ (مصطفى تاج الدِّين الموسى)، وعلى قصيدة (اللَّيل الذي يعقبُ نهاية الدِّيكتاتور) للشَّاعر المغربيّ (محمَّد بنميلود).
ويبقى هذا الاقتراح مدخلاً أوَّليَّاً مَفتوحَ الآفاقِ الزَّمنيَّةِ والمَعرفيَّةِ في ضوءِ الطُّموح الكبير بتطويرِهِ وتعميقِهِ نظَريَّاً وإجرائيَّاً، ولا سيما بمَا آملُ أنْ يتقاطَعَ عميقاً مع عمَلي الشِّعريّ والتَّنظيريّ والفكريّ، وبمَا يُواكِبَ مُتطلَّباتِ عصرنا هذا، ومفاهيمِهِ السَّائدَةِ (بغضّ النَّظَر عن مدى تبنِّيها هُنا أو نقدِها هُناك)، كمَفهوم (ما بعدَ الحقيقة) على سبيل التَّمثيل لا الحصر، ذلكَ أنَّ الحاجة إلى تعدُّديَّة منهجيَّة وثيقة الصِّلة جدَليَّاً بالأبعاد (الفنِّيَّة/ الإبداعيَّة) هيَ حاجةٌ مُتقاطِعَةُ جذريَّاً معَ الضَّرورة الإنسانيَّة الماسَّة إلى وُجود تعدُّديَّة سياسيَّة واجتماعيَّة وكيانيَّة في ظلِّ ثورةٍ تقنيَّة ورقميَّة غير مَسبوقة عبرَ التَّاريخ البشريّ.
ولهذا لا يكونُ اقتراحُ هذا المنهج مُرتبِطاً بآليَّات العولمة كمَا انطوى عليهِ كتابي، فحسب؛ إنَّما هوَ منهجٌ قابِلٌ، كمَا أدَّعي وأعتقدُ وأدعو إليهِ، للتَّطبيق على نُصوصٍ مُتنوِّعة، وغيْرِ مَحكومَةٍ بعصرٍ قديمٍ أو جديدٍ، ولا مُقيَّدَةٍ بمُحدِّداتٍ أو مُسَبَّقاتٍ مَعرفيَّةٍ أو نظَريَّةٍ أو أيديولوجيَّةٍ حاكِمَةٍ ومُتحكِّمَةٍ، فالتَّجرِبة والتَّجريب بمَا ينبسِطُ عبرَهُما من اختبارٍ وخبرَةٍ ومُراجَعاتٍ وإضافاتٍ ومُواكَباتٍ عصريَّة هُمَا المحكُّ، وهُمَا المُطوِّرانِ كمَا يُفترَضُ، وهذهِ القضيَّةُ هي إحدى أهمّ مُنطلَقات التَّسويغ (النِّسبيّ) لوَجاهَةِ تقديم هذا الاقتراح/ المشروع، والاستمرار بالاشتغال عليهِ مُستقبَلاً.
لذلكَ أستعدُّ بعدَ نشرِ هذهِ المادَّة المنهجيَّة النَّظَريَّة، أنْ أنشُرَ موادّ عدَّة مُستقلَّة أُطبِّقُ فيها هذا المنهج على بعضِ النُّصوص الشِّعريَّة والنَّثريَّة العربيَّة القديمة والحديثة، ورُبَّما بعض النُّصوص الأجنبيَّة أيضاً.
…
_ الاقتراح المنهجيّ كمَا نشَرْتُهُ في الفصل الأوَّل من الكتاب المذكور[2]:
…
العولمة، والانزياح في الكتابة الإبداعيّة
لعلَّ أيَّة دراسة نقديّة تستهدف البَحث في تأثيرات العولمة على الكتابة الإبداعيّة في هذه الحقبة، وتسعى إلى اختبار التَّحوُّلات المُستجدّة اجتماعيّاً وثقافيّاً وحضاريّاً وتقنيّاً في أجناس هذه الكتابة، تحتاجُ إلى مَنهجٍ نقديٍّ مُتماسِكٍ ومُواكبٍ لتطوُّرات عصر العولمة.
فإذا كانت تأثيرات هذه العولمة المُختلِفة قد أفضت إلى تحوُّلاتٍ مُفترَضة في الكتابة الإبداعيّة، فإنَّ دراسة هذِهِ التُّحوُّلات تبدأ من تعيين المُصطلَح والمَفهوم الذي يُترجِمُ تلكَ التَّحوُّلات عبر مُقارَبة التِّقنيّات النَّصِّيّة، ويُشكِّلُ الأداة المَنهجيّة التي تختبرُ النُّصوص الإبداعيّة إجرائيّاً، ولهذِهِ الأسباب اخترْتُ من ناحيتي مُصطلَح (الانزياح) لأتَّكئَ عليه في دراستي بغيةَ تحقيق السَّبر الدَّقيق لتأثيرات العولمة وتحوُّلاتِها في بَحثٍ عنونتُهُ بِـ (انزياح أساليب الوجود في الكتابة الإبداعيّة بينَ مُطابَقات العولمة واختلافاتِها).
اشتُقَّ لفظُ (الإنزياح) في اللُّغة العربيّة من المصدر (زيح)، الذي يعني فِعله (زاح) _ ومطاوعه انزاح _ ذهبَ وتباعَدَ[3]، وتُمثِّلُ هذه المادّة المعجميّة المُقابِل الاصطلاحيّ لمُصطلح (E’cart) الفرنسيّ الأصل، العائد إلى فاليري P. Valery، والمُوظَف بعد ذلك من قبَل النّاقد جان كوهن J. Cohen في كتابه “بنية اللُّغة الشِّعريّة” الصّادر عن دار فلاماريون 1966 في نظريّة بنيويّة تُعَدّ أكمل صياغة لسانيّة ـ بلاغيّة له[4]. إذ حاول عبرَها “تطبيق منهج علميّ _ إحصائيّ على لُغة الشعر، وذلك بغية التَّوصُّل إلى اكتشاف كُنهها، والقبض، إذا كان ذلك ممكناً، على تلك المواصفات السِّحريّة التي تجعل من نصّ ما نصّاً شعريّاً”[5].
إنَّ المُقابل الانكليزيّ لمُصطلح (E’cart) هو المصطلح (Deviation) الموجود أيضاً في اللُّغة الفرنسيّة، وحول هذه المسألة يذهب أحمد محمَّد ويس في كتابه “الانزياح في منظور الدِّراسات الأسلوبيّة” إلى القول: إنَّ “ما يغلُب على هؤلاء الذين استعملوا الانزياح هو اعتمادهم ثقافة فرنسيّة: استقاءً أو ترجمة. على حين مالَ إلى (الانحراف) في الغالب أولئك الذين غلَبتْ عليهم المصادر الإنجليزيّة، فهذه لا تحوي إلا كلمة Deviation، وهي كلمة تناسبها كلمة (الانحراف)، على حين أنّا وجدنا E’cart يُناسبها (الانزياح). وهي كلمة فرنسيّة غير موجودة في الإنجليزيّة”[6]. غيرَ أنَّهُ، على الرَّغم من اختياره لمصطلح (الانزياح) عندما يُفاضِل بينَ المصطلحين[7]، يعود ليقول: “ليسَ ثمَّة حرج في أنْ يكون عند النُّقاد مُصطلحان يتناوبان فيما بينَهما مفهوماً ما. وهو ما يتأكَّد إذا ما كان هذا المفهوم يحمل في طيّاته إشكاليّة ما، من مثل مفهوم الانزياح”[8].
لكنَّ جوهر الإشكاليّة في اعتقادنا لا يكمن مُطلقاً في قضيّة المصطلح، على أهمِّيّتها، إنّما يتَّصل بالمفهوم الخاصّ، أو بالمفاهيم الخاصّة بهذا المصطلح على وجه الدِّقّة. فمفهوم الانزياح لا يُمكِن فصله بحالٍ من الأحوال عن مفهوم “الشِّعريّة Poetics” بوصفها عِلْماً موضوعه الشِّعر بحسب تعريف كوهن الذي افتتح به كتابه “بنية اللُّغة الشِّعريّة”[9]. إلا أنَّ المسألة هُنا أبعد من ذلك، فإذا كُنّا نستطيع أنْ نقول على المستوى الإجرائيّ للمفاهيم إنَّ كُلّ انزياح حاصل مُكوِّنٌ من مكوِّنات الدّراسة في منهجيّة شِعريّة ما، فليستْ كُلّ شِعريّة انزياحاً بالمعنى الاصطلاحيّ الذي يُمثِّله منهج كوهن، الذي يُمكِن أنْ نشير إليه بِـ “شِعريّة الانزياح” كما يذهب حسن ناظم في كتابه “مفاهيم الشِّعريّة”[10].
وعلى هذا الأساس، يُمكِن وصف الشِّعريّة بأنّها النَّظريات المُتعدِّدة التي وُضِعت للكشف عن قوانين الإبداع؛ ليسَ في الشِّعر وحده فقط، إنَّما في جميع الأجناس الأدبيّة والفنِّيّة[11]. فالشِّعريَة بشكلٍ عام “هي محاولة وضع نظريّة عامّة ومُجرَّدة ومُحايِثة للأدب بوصفِه فنّاً لفظيّاً، إنّها تستنبط القوانين التي يتوجَّه الخطاب اللُّغويّ بموجبها وجهة أدبيّة”[12]. ولهذا فإنَّ الشِّعريّة، بما فيها شِعريّة الانزياح،هي منهجيات عِلميّة تتَّسم بالموضوعيّة، ذلك لأنّها تستند إلى النَّصّ الأدبيّ فقط بهدف استنباط قوانينه[13].
ولعلَّ الشَّكلانيين الرّوس هم أوَّل من بدأ هذا الطَّريق، وذلك عبرَ محاولتهم بلورة “مفاهيم كُليِّة تنطوي على قوانين الأعمال الأدبيّة”[14]. وقد استند الشَّكلانيّون الرّوس، ومن جاء بعدهم إلى لسانيّات سوسير f. de Saussure؛ فانطلَقتْ الشِّعريّات البنيويّة تحديداً من صرامة المنهج اللِّسانيّ[15]. وهو ما ينطبق على شِعريّة جاكبسون R. Jakobson، وكذلك على شِعريّة كوهن[16].
لقد منحتْ اللِّسانيّات الانزياح الشِّعريّ مُنطلَقاً لتحديد موضوعه، ولا سيما من خلال ثُنائيّاتها الشَّهيرة، التي تُفرِّق بينَ اللُّغة langue بوصفِها ثباتاً ونظاماً جمعيّاً، والكلام Parole بما هو استعمال شخصيّ محسوس يقوم على التَّفرُّد والتَّغيُّر والحركة. وعبر هذا التَّمييز أصبَحت شِعريّة النَّصّ تنتمي إلى مجال الكلام الأدبيّ، لا إلى الكلام الاعتياديّ العامّ[17]. لذلكَ وُصِفَ الانزياح بأنَّهُ لا يستمدّ تصورُّه من وضعه في الخطاب الأصغر أي النَّصّ، بل يستمدُّ هذا التَّصوُّر عبرَ علاقة الخطاب الأصغر بالخطاب الأكبر أي اللُّغة[18].
وانطلاقاً من ذلك، بدأ كوهن بتأسيس شعريته، مُعتقِداً “أنَّ الشِّعر قبل أن يكون موضوعاً للشِعريّة ينبغي أن يتبلور بصورة تعريف واضح يقبل المعيار”[19]. فاستعارَ أوَّلاً مبدأ المحايَثة اللِّسانيّة القائم على تفسير اللُّغة باللُّغة نفسها[20]؛ وهو ما يعني أنَّه اعتمدَ اتّجاهاً شكليّاً The formalist attitude في مقاربته، وعبَّر عن ذلك بوضوح، مُتَّكئاً على عبارة سوسير: “ليستِ اللُّغة جوهراً، إنّها شكل”[21]، إذ قال: “ووجهة النَّظر الشَّكليّة هذه التي تطبِّقها البنيويَّة على اللِّسان سنطبِّقها من جهتنا على الكلام؛ أي الرِّسالة نفسها. (…) وسيكون الشَّكل، وحده موضوع بحثنا…”[22].
وبما أنَّني في هذا المحور أسعى إلى تأسيس منهج يتواءَم مع التَّأثيرات والتَّحوُّلات التي أحدثَتْها العولمة اجتماعيّاً وثقافيّاً وحضاريّاً وتقنيّاً في الكتابة الإبداعيّة، يبدو لي أنَّ الاقتصار على مفهوم (الانزياح) في مَنهج كوهن اللِّسانيّ قاصِر عن الوفاء بمُتطلَّبات دراسة الكتابة الإبداعيّة في عصر العولمة للأسباب الآتية:
1_ أسّسَ كوهن توجُّهاته المنهجيّة انطلاقاً من رُؤىً مُسَبَّقة ذات أُسُس عِلميّة _ موضوعيّة، حيثُ إنَّهُ صادَرَ على هذا النَّحو طبيعةَ الانزياح الشِّعريّ المُستمَدّ أساساً من الطبيعة المَجازيّة المُلتبِسة للإبداع الكتابيّ نفسِهِ.
2_ وحتّى لا يُناقِض مُقدِّماته العلميّة المُسَبَّقة، التي يُفترَضُ أنّها تعتمِد على القوانين المعياريّة الثّابتة لتعيين الانزياح، ولأنّ تلكَ المعايير عاجزة فعليّاً عن الإحاطة بالانزياح بما هو فعلٌ ونتيجة في آنٍ معاً، فقد ثبَّتَ كوهن أُسُسَهُ العلميّة _ الموضوعيّة بقصر منهجه على الشَّكل وحده، مُدَّعياً أنَّ المعنى هو من اختصاص معارِف أخرى نفسيّة أو ظاهراتيّة[23]. وهو الأمر الذي تعود جذوره أصلاً إلى المُحاجَجة اللِّسانيّة _ البنيويّة التي تقول بالبحث عن الكيفيّة التي يتمّ بواسطتِها القول في النَّصّ الإبداعيّ بدلاً من البحث عن هذا الذي يقوله هذا النَّصّ.
3_ وإذا كان كوهن قد اضطّر في أحيانٍ كثيرة على مستوى خطابه النَّظريّ أنْ يقوم بوصف الانزياح عبر المعنى، كما حدَث في تعريفه للاستعارة بوصفِها “استدارة كلام معيَّن يفقد معناه على مستوى اللغة الأُولى، لأجل العثور عليه في المستوى الثّاني”[24]. فإنَّ التّناقض الجوهريّ الذي وقع فيه في هذا السِّياق هو أنَّهُ على الرَّغم من كونه نَفَض يده من مسألة المعنى، لكنَّهُ مع ذلك استُدرِج في مرّات كثيرة إلى تلك المنطقة، أو أُجبِر على دخولها عندما احتاجَتْ شعريتّه إلى المعنى لتثبيت بعض التَّوجُّهات، لكنْ تحت غطاء ما دعاه (شكل المعنى). وقد ظهر ذلك جليَّاً على المستوى الإجرائيّ عندما حاكَمَ السِّرياليين[25]؛ من حيث إنَّ كلامه قد انطوى بصورة غير مُباشرة على فكرة أنَّ الانزياح في جوهره تغيير شكليّ بما هو تغيير في مستوى الدَّلالة. وهذا ما نجده في قوله إنَّ خطأ السِّرياليين يكمُنُ في اعتقادهم أنَّ كلّ انزياحٍ مَجازٌ[26]، يتحقَّق عبر “المُصادفة الموضوعيّة”[27]. كما يظهر هذا الفهم أيضاً في تعليقه على قصيدة “ليْلِيٌّ عَامِّيٌّ” لرامبو، حيث يقول: “إنَّنا لا نستطيع أن نُميِّز في مثل هذا النَّصّ، الفِكرة الطُّفيليّة من الفِكرة الرَّئيسيّة، ولا أن نُعيد الخطاب إلى سببيته بحذف أو نقل ما لا يندرج فيه…. والعنوان نفسه (لَيلِيٌّ عامِّيُّ) لا يُعبِّر عن الموضوع العامّ لهذا النَّصّ. ولا يُمكن في الواقع وضع عنوان لهذه المقطوعة لأنّها تفتقر إلى موضوع يُمكِن تعيينه والإشارة إليه. يتخطّى هذا النَّصّ حدود الخطاب المُتماسِك بسبب ما يعترضه من أشياء مُتنافِرة وأشياء مُختلفة”[28].
وهُنا يبدو كوهن كأنَّهُ يقلب المُعادلة، من حيث إنَّهُ يحكُم على الشَّكل من خلال المعنى. فلا يُقِيمُ بذلكَ حُكمَهُ على الشَّكل، إنَّما على نتيجة ذلك الشَّكل؛ أي بناءً على المعنى المُستغلِق وفق رأيه، أو بناءً على عدم حدوث الانزياح بما هو تغيير في الشَّكل بسبب انتفاء المَجاز بما هو تغيير في المعنى.
4_ ولعلَّ الاضطّراب السّابق بما ينطوي عليه من دلالات يدفَعُنا لتبنّي رأي ريكور P. Ricoeur الذي يعتقد أنَّ المنهجيّات الشَّكليّة، التي تُصنَّف ضمن مناهج التّحليل البنيويّ، في أفضل أحوالها لا تعدو أنْ تكون تأويلاً في السّطح، إذ يقول في هذا الإطار: “ولكن بينَما يبدو الشَّرح البنيويّ من غير بقيّة تقريباً…، فإنَّهُ لا يُقدِّم غير ضرب من الهيكل العظميّ تكون سِمَته المُجرّدة بارزة عندما يتعلّق الأمر بمضمون مُتضافِر التَّحديد لا يتوقّف التّفكير فيه، ولا يتجلّى إلا فيما سَيَلي من المُتابَعات التي تمنَحُه التّأويل والتجديد في الوقت نفسه”[29].
5_ لمّا كان الانزياح مفهوماً مُعقَّداً وفضفاضاً ومُتغيِّراً، من حيث إنَّهُ يخضع للثَّبات والتَّحرُّك معاً، ويتعرَّض لتحوُّلات معياريّة من زمان إلى آخَر[30]، فهذا يدفعُنا إلى التَّأكيد أوَّلاً أنَّ الشِّعريّة ستبقى قضيّة مسكوتاً عنها[31]، وهو الأمر الذي يعني ثانياً أنَّ أمامَنا دائماً أُفُقاً للاستكشاف، وإمكانيّةً للاجتهاد. فالانزياح بما هو منظومة مفهوميّة _ إجرائيّة قابلة للتّشكيل المُستمرّ والتَّنقيح، يمنحُنا نسبيّة الرُّؤية المُساعِدة على إيجاد آليّات عامّة مرِنة تضعُنا على الطَّريق الجوهريّ نحو فهم خصوصيّات الإبداع الكتابيّ، في كُلّ عصر بوجهٍ عام، وفي عصر العولمة الذي نحنُ فيه بوجهٍ خاصّ.
يتبع…
[1] شاعر وناقد سوريّ، حائز دكتوراه في الدِّراسات الأدبيَّة من جامعة دمشق 2015. بدأ بنشر الشِّعر والدِّراسات النَّقديَّة منذ العام 1999. أطلَقَ سلسلة بَيانات (شِعريَّة/ نقديَّة) في الأعوام 2015 و2018 و2020، هيَ على التَّوالي: (الإعلان التَّخارُجيُّ) و(الجدَل النِّسْيَاقيّ المُضاعَف _ الانتصاليّة/ البينشِعريَّة) و(شِعريَّة المُكاتَبَة _ الشّاعرُ السّائِحُ المُستأجِرُ)، كمَا واكَبَ إطلاقَ الشَّاعر (حسَّان عزَّت) لبَيانِهِ الشِّعريّ المُعنوَن بـِ (بَيان الغضَب الشِّعريّ) الذي نشرَهُ في صفحات ومَواقِعَ إلكترونيَّة عدَّة منذُ 21 آذار/ مارس 2022، وهْوَ الذي اختارَ لهُ عنوانَهُ الرَّئيس، فضلاً عن مُساهمَتِهِ في نقاط عدَّة أُخرى في البَيان. نشَرَ عشرات القصائد والنُّصوص والمَقالات والدِّراسات النَّقديَّة والفكريَّة ومُقدِّمات الكُتُب والحوارات في الجرائد والمجلّات والمَواقِع الإلكترونيَّة بانتظامٍ منذ العام 2014، ولهُ أكثَر من مَخطوط أدبيّ (شِعر ونُصوص)، وأكثَر من كتاب نقديّ وفكريّ قيْد النَّشر. حازَ جائزة الطَّيِّب صالح العالميَّة للإبداع الكتابيّ _ مَجال الدِّراسات النَّقديَّة (المركز الثَّاني) _ دورة 2018/ 2019.
مُؤلَّفاتُهُ:
1_ قبلَ غزالة النَّوم _ شِعر _ دار الفاضل _ دمشق/ سوريَّة _ 29 آذار/ مارس 2006.
2_ حركيَّة الشّاغِلات الكيانيَّة _ مُهيمِنات شِعريَّة في زمن الثَّورة والحرب في سوريّة (2011 _ 2018) _ دراسات نقديَّة _ دار موزاييك للدِّراسات والنَّشر _ إسطنبول/ تركيا _ 29 آب/ أغسطس 2019.
3_ انزياح أساليب الوجود في الكتابة الإبداعيَّة بينَ مُطابَقات العولمة واختلافاتِها _ دراسة نقديَّة _ الشَّركة السُّودانيَّة للهاتف السَّيَّار (زين) _ الخرطوم/ السُّودان _ 2019.
4_ بعدَئذٍ قد تنجو المُصافَحات _ شِعر _ دار موزاييك للدِّراسات والنَّشر _ إسطنبول/ تركيا _ 21 آذار/ مارس 2021.
5_ مَأخوذاً بجَمالٍ ثانٍ _ شِعر _ دار خطوط وظلال للنَّشر والتَّوزيع _ عمَّان/ الأردن _ 24 كانون الثَّاني/ يناير 2023.
[2] مازن أكثم سليمان: انزياحُ أساليبِ الوُجود في الكتابة الإبداعيَّة بينَ مُطابَقاتِ العولمة واختلافاتِها _ دراسة نقديَّة (الخرطوم _ السُّودان: الشَّركة السُّودانيَّة للهاتف السَّيَّار (زين)، ط1، 2019) ص 39 _ 63.
[3] يُنظَر: أبو الفضل جمال الدّين محمَّد بن مكرم بن منظور: لسان العرب (بيروت _ لبنان: دار صادر، ط ]د.ت[) مادّة (زَيَحَ).
[4] يُنظَر: خالد سليكي: من النَّقد المعياريّ إلى التَّحليل اللِّسانيّ _ الشِّعريّة البِنيويّة نموذجاً (مجلّة عالَم الفكر: الكويت، مج23 ع1_ 2، يوليو/ سبتمبر _ أكتوبر/ ديسمبر 1994) 394 _ 395، 397.
[5] هاشم صالح: بنية اللُّغة الشِّعرية (مجلّة المعرفة: دمشق _ سوريّة، ع210 السنة 18، آب 1979) 161.
[6] أحمد محمَّد ويس: الانزياح في منظور الدِّراسات الأسلوبيّة (الرّياض _ السعوديّة: مؤسِّسة اليمامة الصحفية _ سلسلة كتاب الرّياض الشَّهريّ، ط1، ابريل 1424 هـ/ 2003 م) 64 _ 65.
[7] يُنظَر: المرجع السّابق، 52.
[8] المرجع السّابق، 65.
[9] يُنظَر: جان كوهن: بنية اللُّغة الشِّعريّة، ترجمة: محمَّد الولي ومحمَّد العمري (الدّار البيضاء _ المغرب: دار توبقال للنشر، ط1، 1986) 9.
[10] يُنظَر: حسن ناظم: مفاهيم الشِّعريّة _ دراسة مُقارنة في الأصول والمنهج والمفاهيم (بيروت _ لبنان، الدار البيضاء _ المغرب: المركز الثَّقافيّ العربيّ، ط1، 1994) 111.
[11] يُنظَر: المرجع السّابق، 5، من هامش الصَّفحة.
[12] المرجع السّابق، 9.
[13] يُنظَر: المرجع السّابق، 7.
[14] المرجع السّابق، 5.
[15] يُنظَر: المرجع السّابق، 14.
[16] خالد سليكي: من النَّقد المعياريّ إلى التَّحليل اللِّسانيّ، 385.
[17] يُنظَر: حسن ناظم: مفاهيم الشِّعريّة، 71. ويُنظَر: نعيم اليافي: أطياف الوجه الواحد _ في النَّظَريّة والتَّطبيق _ دراسات نقديّة (دمشق _ سوريّة: منشورات اتّحاد الكُتّاب العرب، 1997) 93.
[18] يُنظَر: المرجع السّابق، 91.
[19] أحمد علي محمَّد: الشِّعريّة والانزياح (مجلّة المعرفة: دمشق _ سوريّة، ع515 السَّنة 45، رجب 1427 هـ _ آب 2006 م) 66.
[20] يُنظَر: جان كوهن: بنية اللُّغة الشِّعريّة، 40. ويُنظَر: أحمد علي محمَّد: الشِّعريّة والانزياح، 71. ويُنظَر: حسن ناظم: مفاهيم الشِّعريّة، 113.
[21] هاشم صالح: بنية اللُّغة الشِّعريّة، 168.
[22] جان كوهن: بنية اللُّغة الشِّعريّة، 28.
[23] يُنظَر: المرجع السّابق، 174.
[24] المرجع السّابق، 206.
[25] يُنظَر: المرجع السّابق، 128 _ 129، 172 _ 173.
[26] يُنظَر: هاشم صالح: بنية اللُّغة الشِّعريّة، 172.
[27] يُنظَر: جان كوهن: بنية اللُّغة الشِّعريّة، 173.
[28] المرجع السّابق، 172 _ 173.
[29] بول ريكور: صراع التَّأويلات _ دراسات هيرمينوطيقيّة، ترجمة: منذر عيّاشي، مراجعة: جورج زيناتي (بيروت _ لبنان: دار الكتاب الجديد المُتَّحدة، ط1، كانون الثّاني _ يناير 2005) 85.
[30] يُنظَر: نعيم اليافي: أطياف الوجه الواحد، 104.
[31] يُنظَر: حسن ناظم: مفاهيم الشِّعريّة، 10.
مواضيع ذات صلة
مواضيع أخرى
تدريباتنا
ورشة تدريب صالون سوريا
أجرى فريق #صالون_سوريا، دورة تدريبية عن الانواع الاعلامية والصحافة الحساسة...
ورشة تدريب صالون سوريا
يعلن فريق #صالون_سوريا، التحضير لدورة تدريبية عن الانواع الاعلامية والصحافة...