تدريباتنا

عيد الأم أم عيد المرأة: بين عقلية الماضي وبناء الحاضر

بواسطة | مارس 5, 2024

كان أطفالي صغاراً وكنا في عيد الأم كل عام نذهب للاحتفال مع جدتهم، كان زوجي لا يتذكر أن يحتفي بي أو يعايدني وحين سألته عن السبب، ببساطة قال: لأنك لست أمي! حين يكبر أولادك سيحتفلون بك.

على المرأة أن تنتظر طويلا لتجد من يحتفي بها.

 جرت العادة أن نحتفل بالمرأة في عيد الأم وهو ما يشكل ظلما كبيرا أولاً لنساء لم يتزوجن ولنساء تزوجن لكن لم يرزقن بأطفال وربما لنساء بقين وحيدات بعد أن تدحرج أولادهن في شتات الحياة، وهو ظلم للأنثى في أعوامها قبل الزواج وقد تكون أصبحت خلالها امرأة ناضجة ومنتجة وأثبتت وجودها على الصعيد العام والصعيد الذاتي.

اقتصر الاحتفال بعيد المرأة على عينة من المجتمع (المثقفين) تدعي الاهتمام والتقدير للمرأة بذاتها لكنها حقيقة في الحياة اليومية ترتكب بحقها كل ما يمارسه المجتمع الذي لا يعترف بعيد المرأة. وهذا جزء من فصامنا العام فالرجل الذي لا يقدر زوجته يسعى بكل ما يمكنه لتقدير أمه. والحقيقة أن الموضوع يتعدى الاحتفال الذي يبدو تقليداً أعمى بما يحتوي من مظاهر وقشور لا تعكس حقيقة السلوك اليومي بل تأخذ طابع المجاملة وفقدان المصداقية لابتعاد السلوك العام تجاه المرأة عن مفهوم التقدير والاحتفاء واقتصار ذلك على يوم واحد لدفع الإحساس بالتقصير.

لماذا نغفل عيد المرأة؟ 

لم يكن تكريس يوم الثامن من آذار عيداً عالمياً للمرأة حدثاً من اصطناع الغرب للسيطرة على العقول لنرفضه كالعادة!

بل أعلن رسمياً كعيد عالمي من قبل الأمم المتحدة عام 1975 وهو الذي كان يحتفل به في بلدان عدة بشكل منفصل احتراماً لعاملات  النسيج  اللواتي قضين في حريق معمل النسيج  في نيويورك نتيجة العمل في شروط غير إنسانية وهن اللواتي كن قد خرجن في مظاهرات قبل ذلك لتحسين شروط العمل وتحديد ساعاته بثماني ساعات  في اليوم الواحد، إذ كانت  المصانع الحديثة آنذاك تعمد لتشغيل النساء لأنهن يقبلن العمل ساعات طويلة دون النظر لظروفهن فيعملن بحدود دنيا من شروط السلامة مقابل الحصول على أجر زهيد يمكن العائلة من الاستمرار بينما يقوم أرباب العمل بتسريح العمال الذكور لأن أجرهم أعلى. وخرجت النساء في مظاهرات عدة سنة تلو الأخرى وتم تحسين بعض الشروط لكن المعاناة بقيت مستمرة سواء بالأجور الزهيدة أو شروط السلامة التي دفعن حياتهن ثمنا لفقدانها.

 الاحتفال بعيد المرأة ثمرة لدماء دُفعت وأجساد احترقت وتمجيد لفعل حضاري حقوقي في دفاع المرأة كإنسانة عن كيانها وإنتاجيتها الفاعلة، عيد عُمد بالتضحيات والدماء. ولعل التعتيم على هذا العيد هو نوع من الرفض والتعمية على قدرة المرأة على التغيير والمساهمة في إحداث فارق، وتعتيم على تاريخ كانت فيه المرأة فاعلة وقادرة على التغيير عبر ممارسة أساليب النضال الغريبة على مجتمعاتنا وفي محاولة لإبقائها رهينة وظيفة الأمومة. إن اقتصار الاحتفال على عيد الأم هو نوع من حصر وظيفتها في الحياة بالأمومة والاعتراف بعطائها فقط في هذا المجال وهو ما يشكل تحديداً وحصراً لها في الوظيفة البيولوجية رغم أهميتها وخطورتها عليها، إذ تدفع فيها من جسدها وهرموناتها ومخزون صحتها في الحمل ثم الإرضاع ثم ما تتحمله في التربية بشكل أكبر من ضغوط لا تتوقف.

تبدأ آلام المرأة منذ فترة البلوغ وتعيش تلك التقلبات الهرمونية الضاغطة على الحالة النفسية والمؤثرة على إنتاجيتها دون أي تقدير اجتماعي أو تعاطف سواء أسروي أو اجتماعي فكل ما يحدث لها يعتبر عادياً وهو من الطبيعة التي خلقت عليها. ومن العرف أن هذا ليس مستحباً نقاشه بل يعتبر مخجلا!

وعليها أن تعيش تلك الآلام بالخفاء وتقمعها أيضاً فلو عاشت الحب أو عبرت عن رغباتها قد تقتل ويذهب دمها هباء بجريمة شرف ما زالت تتراوح ضمن القبول الاجتماعي وغض النظر القانوني إلى حد ما.

نحن ماهرون بالاحتفال بكل ماضي

عموماً لا يحتفل بالمرأة إلا كأم وهذا يعني أن يكون كل ما تعيشه قبل هذا التقدير مجانياً وغير مرئي. إنها تنتظر أن يكبر الأولاد فيتم تقدير ما فعلته بالماضي من حمل وإنجاب وتربية!  فالاحتفاء له طابع التقدير على ما تم إنجازه وليس على  واقع العمل والعطاء القائم والتميز لتحفيزه واستثارة القدرات على الابداع والاستمرار في المنح، نحن ماهرون بعبادة الماضي الذي يجعل الجنة تحت قدمي أنثى بينما هي في رحلة حياتها كانت مقموعة وغارقة بين البيت وتربية الأولاد والعمل الذي زاد أعباءها عبئاً، إذ تركض في أيامها بين العناية بالطفل وعصر حليبها الذي ينز من ثدييها في العمل ريثما تصل لرضيعها وبين أعباء الواجبات المنزلية والتعليم كل ذلك دون تقدير الجهد الراهن أو مساعدتها في المهام. وفي انتظار أن يأتي فيما بعد من يقدر عملها وإنجازها ثم يتم الاعتراف بأن ما فعلته خلال كل تلك السنوات كان يستحق الاحتفال بها كأم فاضلة.

ليس جيداً المقارنة بين عيد الأم وعيد المرأة فلا أعتقد أن على أحدهما أن يلغي الآخر ولكن علينا الخروج من عقلية الاحتفاء بالماضي إلى عقلية الاحتفاء بالحاضر بتقدير الجهود المبذولة للإنسان في حينه لنتعلم كيف نمتلك الذهنية التي ترى المستقبل بعين الحاضر فتسعى وتقدر من يبذل جهده في هذا السبيل. وينبغي تكريس عيد المرأة في أجندتنا للاحتفاء بالمرأة العاملة والمنتجة والمتميزة والمتفوقة في دراستها والمرأة الأم التي لا يمنعها الحمل والإنجاب من ممارسة عملها داخل المنزل وخارجه، نحن بهذا نبني ثقافة وذهنية جديدة وليس فقط احتفاء بأعياد رسمية مكرسة.

مواضيع ذات صلة

عبد السلام العجيلي: شيخ الأدباء وأيقونة الفرات

عبد السلام العجيلي: شيخ الأدباء وأيقونة الفرات

يمثل عبد السلام العجيلي ذاكرة تأسيسية في مدونة الأدب السوري، ذاكرة من من ذهب وضياء، ضمت في أعطافها عبق الماضي وأطياف الحاضر، امتازت بقدرته الفائقة في الجمع بين مفهومين متعارضين ظن الكثيرون أنه لا لقاء بينهما، ألا وهو استلهامه واحترامه للتراث وللإرث المعرفي المنقول عمن...

عمر البطش مدرسة متفردة في فنون الموشحات ورقص السماح

عمر البطش مدرسة متفردة في فنون الموشحات ورقص السماح

إلى جانب كونها مدينة الطرب والقدود، برعت حلب وتميَّزت في فن الموشحات، وذلك بفضل كوكبة من ملحنيها ووشاحيها المبدعين، الذين كانوا مخلصين لذلك الفن  وحافظوا على روح وألق الموشح العربي وساهموا في إغنائه وتطويره، ومن أبرزهم الشيخ عمر البطش، الذي ساهم على نحو خاص في...

شعاع من الفن التشكيلي السوري: نصير شورى (1920-1992م)

شعاع من الفن التشكيلي السوري: نصير شورى (1920-1992م)

في الخامسة من عمره حظيت إحدى لوحاته بإعجاب العديد من أساتذة الرسم، نصير شورى الذي ولد عام ١٩٢٠ والذي كان محط عنايةٍ خاصة من والديه: محمد سعيد شورى، الأديب والشاعر الدمشقي المعروف، وأمه، عائشة هانم، ذات الأصول العريقة. فكان أن تلقى تعليماً خاصاً منذ نعومة أظفاره...

مواضيع أخرى

النساء ومعاركهن المتجددة

النساء ومعاركهن المتجددة

 يتم تسويف قضايا النساء بذرائع متعددة على الدوام، مرة بذريعة الحرص على الأخلاق العامة، ومرة أخرى بذريعة عدم المواجهة مع قوى الأمر الواقع، ومرات بذرائع تنبع فجأة من خبايا السنين وتصير حاضرة بقوة مثل طبيعة المرأة البيولوجية، أو التشريح الوظيفي لدماغ المرأة، وصولاً...

مرحلة اللادولة: بين إرث الماضي ومسؤولية المستقبل

مرحلة اللادولة: بين إرث الماضي ومسؤولية المستقبل

تمر سوريا اليوم بمرحلة فارقة في تاريخها، حيث يقف الجميع أمام اختبار صعب: هل يمكن تجاوز إرث القهر والاستبداد لبناء دولة جديدة قائمة على الحرية والكرامة؟ أم أننا سنتعثر مجددًا في أخطاء الماضي، التي صنعها الخوف، الصمت، وصناعة الأصنام؟ اليوم، نحن في حالة فراغ سياسي...

قراءة في المشهد السوري بعد سقوط النظام

قراءة في المشهد السوري بعد سقوط النظام

شهدت سوريا خلال أربعة عشر عامًا من الصراع تحولًا جذريًا في موازين القوى المحلية والإقليمية والدولية. بدأ الحراك شعبيًا وسلميًا، لكنه انتهى بصراع مسلح معقد ومدعوم خارجيًا، في ظل غياب قوة سياسية مؤثرة ميدانيًا. وبينما ساندت روسيا وإيران النظام السوري، مما أطال أمد...

تدريباتنا