تدريباتنا

يوميات سورية: نواطير الأبنية-العمل المجهول

بواسطة | مايو 16, 2018

لا تتطلب البنية العمرانية التقليدية لدمشق وجوداً لمهنة النواطير، لأنّ ارتفاع الأبنية لا يتجاوز الطوابق الأربعة في الأحياء التقليدية القديمة الحديثة مثل الميدان والمزة وباب مصلى والقصور والتجارة وركن الدين ومساكن برزة وبالتالي تغيب المصاعد عن هذه الأبنية ويكون التخديم عملاً خاصاً بأهل البناء كل حسب حاجته ومقدرته. لكنّ التنظيم العمراني الجديد وبداية تنفيذ الأبنية البرجية في المزة الجديدة وفي مشروع دمر والأبنية “التسعاوية” في حي التجارة نسبة إلى عدد الطوابق، فرضت نمطاً جديداً من الخدمات يتطلب وجود ناطورٍ بشكل دائم، وتبدو الخدمة الأهم هي المصاعد من تنظيف وتشغيل وفتح عند الطوارئ.

لكن حتى في تلك الأحياء تخلّى قاطنو بعض الأبنية عن خدمات النواطير توفيراً للنقود ولعدم وجود مكان يتسع للناطور وعائلته، ويتولى أحد الجيران أو أحد أعضاء لجنة البناء مهمة متابعة المصاعد من كافة النواحي بعد التعاقد مع شركة خاصة لصيانة المصعد يتم الاتصال بها عند أي طارئ، وبالطبع يتم تقاسم كلفة الصيانة بين كافة المستفيدين، ويمكن الإشارة هنا إلى أن أبنيةً كثيرة وعدد طوابقها لا يتجاوز الأربعة قد اتفق شاغلوها على تركيب مصعدٍ خارجيٍ لم يكن موجوداً في التصميم الأساسي للبناء، وإن تمنّع أحد الساكنين عن المشاركة بتكاليف التركيب أو الصيانة يتم حرمانه من الاستخدام والاستفادة من المصعد، إما بوضع قفلٍ ومفتاحٍ للعائلات المساهمة أو بوضع رقمٍ سريٍ يتم تغييره بصورة دورية تسمح فقط للمساهمين  وضيوفهم وأهلهم بالاستفادة من خدمة المصعد، وقد يلجأ سكان البناء للتعاقد مع أحد نواطير الأبنية المجاورة لتأمين خدمتي جمع القمامة وشطف الدرج مقابل مبلغٍ ماليٍ محدد شهرياً أو أسبوعياً للراغبين في الاستفادة من هذه الخدمات.

اللافت في مهنة النواطير التغير الكبير الذي طرأ على بنية العمل ذاته، فقد سافر نواطير عتاة، أي متمرسون في مهنتهم ممن جاءوا إلى البناء شبانًاً ثم تزوجوا وأنجبوا، حتى أنّ بعضهم قد أورث عمله لأحد أبنائه. في زمن الحرب السورية،  قرر عدد كبير من النواطير اللجوء إلى أوروبا، نواطير أميون ولا يعرفون جغرافيا خارج حدود أبنيتهم، صاروا الآن جمهوراً من اللاجئين في أوروبا، فجأةً اكتشفوا بأنّ مهنتهم لا مستقبل لها، مهنة بنيت على أرضية هشة وبلا مستقبل أو تسجيل بالتأمينات الاجتماعية أو بالخدمات الطبية والسلامة المهنية، فجأة باتت الهجرة حلماً وفرصة للمستقبل!

الأهم أنّ غياب وسفر هؤلاء النواطير المتمرسين  والمتآلفين مع السكان ومع الطبيعة الخاصة لعملهم قد خلق حاجة ماسة لتوفير بدلاء عنهم، بدلاء في ظلّ حرب ٍاستهلكت رجال البلد، وخاصة الشباب، وباتت قوة العمل خارج الاكتفاء وبرزت حاجة ماسة وجديدة لسد الفراغات الكبيرة التي باتت فجوة لا وجود لمن يسدها ويفي باحتياجاتها.

كما أنّ تزايد أعداد المهجرين والنازحين من بيوتهم في الأحياء القريبة أو من الريف  الخارج عن دورة الحياة أو من المدن والأرياف البعيدة مثل ريف حلب قد أفرز أيدياً عاملة جديدة، تراجعت أعمالها بسبب الحرب أو ضاعت مقدراتها كاملة أو باتت الأراضي قفاراً وحيث لا يوجد بشر لا توجد أية حاجة للعمل الذي كان وتكوّن وارتقى بارتقاء البشرية ووجودها في الأساس. ويمكن الإشارة هنا إلى أن غالبية نواطير الأبنية  قيد الإنشاء في جرمانا مثلاً هم من ريف حلب، يحددون مساحة خاصة بهم، ستائر رثة وبطانيات رقيقة لا ترد شيئاً إلا الضوء، شبابيك عتيقة وأبواب لاتشبه الأبواب ويصير الحيز المكاني بيتاً ومدينةً وبلداً.

هل يسدّ القادمون الجدد الفجوة المتحصلة من غياب النواطير المهاجرين أو المنخرطين بالجيش؟ وكيف لهم إن تم قبولهم الانخراط بعملٍ غريب وجديد؟

عمل الناطور يتطلب سمات خاصة، طراوة  في التعامل وقدرة فائقة على تحمل الأمزجة قبل المهام، وتقبل لكافة الأعمال المطلوبة وحسن الأداء والتنفيذ، استيقاظ مبكر وتواجد مزمن في البناء أو في  منطقة البناء على أقل تقدير، استنفار كامل لعائلة الناطور ذاتها، الزوجة لشطف الدرج، الأبناء لجمع القمامة، وهذه المهام كلها من صلب العمل اليومي المتفق على أدائه مقابل الأجر الزهيد المحدد.

بالمقابل يجهد النواطير وعائلاتهم لإيجاد دخل موازٍ يعوّض ضحالة المرتب الشهري، أو مايمكن اعتباره “اقتصاد ظل!” الزوجة تفرم البقدونس والحشائش وتحفر الكوسا وتلف ورق العنب لعائلات البناء، والأطفال يحملون المتاع والحاجيات ويجلبون مواد البقالة والخبز والأدوية للسكان أيضاً، حتى أنّ إحدى الساكنات كانت تمنح أجراً أسبوعياً لابن الناطور مقابل تنزيه كلبتها وقضائها لحاجتها كل يوم مرتين في الصباح والمساء، ولابد من ذكر أن زوجات النواطير ومنذ اليوم الأول تتحولن لعاملات منزليات، تقسمن أيام الأسبوع بين الساكنات القادرات على الدفع ومن الطبيعي أن تميزن الساكنات السخيات بالمال وغير المتطلبات بالأعمال والمهام، أي مقايضة المال على حساب الجودة.

أم زياد، زوجة أحد النواطير باعت خاتم زواجها وقرطيها واقترضت من إحدى  السيدات الساكنات التي تعمل لديها ما نقصها من قيمة الغسالة الآلية الأوتوماتيكية  واشترتها لتكسب الوقت الذي تقضيه في الغسيل في العمل المنزلي وتقديم خدمات الطبخ وتحضير مكوناته، في بادرة اقتصادية ذكية ،حيث قارنت بين قيمة الوقت المشغول في الغسيل وبين ما تجنيه من عملها المتزايد لمهارتها وسرعتها في أدائه، وطبعا كانت النتيجة لصالح عملها الخاص على حساب الغسيل المضني والمضيع للوقت وللدخل.

اللافت أن نسقاً مختلفاً من النواطير قد حلّ مكان الغائبين مهما كان سبب هذا الغياب، نسق متعلم، صاحب عمل سابق، صاحب ملكية كبيت يسكنه أو قطعة أرض  تدر عليه دخلاً من زراعتها أو استثمارها بالمشاركة مع غيره أو تعهيدها مقابل حصة من الموسم، أو بيت يؤجره أو سيارة يستثمرها شهرياً أو سنوياً. نسق جديد رغب بهذه المهنة وقبل كل شيء بسبب وجود مأوى. أجل مأوى ولو كان عبارة عن غرفتين في قبو رطب أو مجرد قاعة كانت معدة كملجأ أو كمخزن لفائض الحاجات لأهل البناء.

يرتبط النواطير في منطقة محددة بعلاقات معقدة بينهم، تتراوح مابين الغيرة من أجرٍ أعلى أو تساهل أوسع من قبل السكان ولجنة البناء وما بين توافق وتكافل مميزين. يملك  الناطور أبو أحمد سيارة ينقل فيها طلاب المدارس وبعض السكان، وأثناء غيابه يتعهد ناطور البناء المقابل بأخذ مكانه لأمر قد يطرأ، وهو سلوك تبادلي بينهما، يلجآن إليه مرات عديدة في اليوم الواحد. أما ياسر الناطور الذي لا أولاد لديه فقد اتفق مع الناطور أبي مازن على أن يقوم أبناء أبو مازن بجمع قمامة البناء الذي يعمل به مقابل تعويض مالي شهري يدفعه نقداً للأب.

يقول إبراهيم الناطور أنه لا يأخذ مقابلاً من زميله الناطور في البناء المجاور حين يقله إلى السوق أو إلى الطبيب ويعتبر أن ما يفعله واجب غير قابل للتسعير، لأن النواطير تجمعهم وحدة حال ووحدة شقاء وتعب.

نواطير البناء مهنة بلا حماية، لا سجل في التأمينات ولا طبابة ولا تحسين لشروط السكن مثل الدهان أو عزل الرطوبة، والناطور معرض للطرد تحت أية ذريعة. اللافت أنه في بعض الأماكن مثل مشروع دمر يتم دفع فروغ وصل للمائة وخمسين ألف ليرة للناطور الراغب بالرحيل أو لأحد أعضاء لجنة البناء لطرده، وهذه الظاهرة نادرة لكنها تكاثرت فقط بسبب وجود المأوى، المأوى المجاني الذي بات حلماً صعب التحقيق  في بلد هضمت الحرب بيوت بشرها كما هضمت حيواتهم بخفة بالغة لا راد لها.

مواضيع ذات صلة

عبد السلام العجيلي: شيخ الأدباء وأيقونة الفرات

عبد السلام العجيلي: شيخ الأدباء وأيقونة الفرات

يمثل عبد السلام العجيلي ذاكرة تأسيسية في مدونة الأدب السوري، ذاكرة من من ذهب وضياء، ضمت في أعطافها عبق الماضي وأطياف الحاضر، امتازت بقدرته الفائقة في الجمع بين مفهومين متعارضين ظن الكثيرون أنه لا لقاء بينهما، ألا وهو استلهامه واحترامه للتراث وللإرث المعرفي المنقول عمن...

عمر البطش مدرسة متفردة في فنون الموشحات ورقص السماح

عمر البطش مدرسة متفردة في فنون الموشحات ورقص السماح

إلى جانب كونها مدينة الطرب والقدود، برعت حلب وتميَّزت في فن الموشحات، وذلك بفضل كوكبة من ملحنيها ووشاحيها المبدعين، الذين كانوا مخلصين لذلك الفن  وحافظوا على روح وألق الموشح العربي وساهموا في إغنائه وتطويره، ومن أبرزهم الشيخ عمر البطش، الذي ساهم على نحو خاص في...

شعاع من الفن التشكيلي السوري: نصير شورى (1920-1992م)

شعاع من الفن التشكيلي السوري: نصير شورى (1920-1992م)

في الخامسة من عمره حظيت إحدى لوحاته بإعجاب العديد من أساتذة الرسم، نصير شورى الذي ولد عام ١٩٢٠ والذي كان محط عنايةٍ خاصة من والديه: محمد سعيد شورى، الأديب والشاعر الدمشقي المعروف، وأمه، عائشة هانم، ذات الأصول العريقة. فكان أن تلقى تعليماً خاصاً منذ نعومة أظفاره...

مواضيع أخرى

في وقت فراغي: ستَّة نصوص لِـ(أديبة حسيكة)

في وقت فراغي: ستَّة نصوص لِـ(أديبة حسيكة)

(1) في وقت فراغي كنتُ أملأ الأوراق البيضاء بالحقول كان يبدو الفجر أقرب و السحاب يمرّ فوق الطرقات بلا خسائر..  وكان الماضي  يمتلئ  بالألوان. لا شيء مثل اللحظة حين لا تجد المسافة الكافية لتخترع أجنحة تكاد تنمو كزهرة برية.  بدأتُ أجمع صوتي من الريح و أفسّر...

فصلٌ من القهر والعذاب: كيف مضى فصل الصيف على سوريا؟

فصلٌ من القهر والعذاب: كيف مضى فصل الصيف على سوريا؟

لم يكتفِ الناس في سوريا من معاناتهم وأوجاعهم اليومية، التي فرضتها ظروف الحرب وما تبعها من أزماتٍ متلاحقة وتردٍ في الواقع الاقتصادي والمعيشي، حتى أتى فصل الصيف، الذي سجل هذا العام ارتفاعاً كبيراً وغير مسبوق في معدلات درجات الحرارة، وكان الأقسى على البلاد منذ عقود،...

عملية تجميل لوجه دمشق بجراحة تستأصل بسطات الكتب

عملية تجميل لوجه دمشق بجراحة تستأصل بسطات الكتب

رغم انتشار ثقافة المطالعة واستقاء المعلومات عن طريق الشبكة العنكبوتية إلا أن ملمس الورق ورائحة الحبر بقيا جذابين للقارئ السوري. ولم تستطع التكنولوجيا الاستحواذ على مكان الكتاب الورقي، أو منافسته. وبقي الكتاب المرجع الأساسي والحقيقي لأي بحث علمي وأكاديمي، ولم يستطع...

تدريباتنا