موسيقا الشباب في سوريا بين «كورونا» والحرب

موسيقا الشباب في سوريا بين «كورونا» والحرب

* تُنشر هذه المادة ضمن ملف صالون سوريا “المعاناة اليومية في سوريا

مهرجان موسيقى الجاز، مهرجان الموسيقى الصوفية والموسيقى الشرقية، فعاليات قلعة دمشق، مهرجان آلة العود والبزق، يوم الموسيقى العالمي، موسيقى على الطريق، المهرجانات المتعلقة بالموسيقى الكلاسيكية وغيرها الكثير والكثير من الفعاليات الموسيقية التي كانت دمشق وغيرها من المحافظات تحتفي بها، قبيل الحرب، بشكل دوري، لتستقطب العديد من الفرق الموسيقية المتنوعة من بلدان عربية وعالمية مختلفة. وكان لتلك الفعاليات أثر إيجابي كبير على موسيقيي سورية آنذاك، إذ كانت تمنحهم فرصة المشاركة فيها كعازفين، وتبقيهم على اطلاعٍ دائمٍ ومكثّفٍ على تجارب الثقافات والحضارات الموسيقية المختلفة، التي تغني ذائقتهم وتجربتهم وخيالهم الإبداعي. وإلى جانب ذلك كانت أبواب السفر متاحة أمام جميع الموسيقيين،  خاصة طلاب المعهد العالي، ليسافروا بشكل دائم  لإحياء الحفلات في أصقاع البلاد مع الفرق المختلفة، السورية وغير السورية، ضمن العديد من المهرجانات العربية والعالمية، التي جعلتهم على احتكاكٍ وتفاعلٍ دائم، مع الموسيقا المعاصرة، وعلى صلة وثيقة بالمسرح، على اختلاف أنماطه وتوجهاته، وما ينتج عنها من تراكمٍ في الخبرات والمهارات.

 تلك المرحلة الذهبية لم تعد اليوم متاحة أمام الموسيقيين الشباب الذين امتهنوا الموسيقى خلال الحرب، إذ لم يشهدوا سوى تدهور واقع الفن والثقافة في البلاد، وحرموا من ممارسة أي دورٍ فاعلٍ في حركة الموسيقى في سورية التي لم يغادروها إلا نادراً، فيما لم تقدم لهم مسارحها خلال السنوات الماضية سوى بضع حفلات متفرقة لبعض الفرق الرسمية والمحلية التي تكرر الأعمال الموسيقية ذاتها وتضم العازفين ذاتهم، الذين يتنقلون فيما بينها، بعد أن خسرت خيرة عازفيها الذين غادروا البلاد. أما الفرق غير السورية فلم يكن لها سوى حضور خجول جداً ضمن بعض الحفلات البسيطة التي لا تكاد تذكر.

وبينما كان المعهد العالي للموسيقى، قبل الحرب، ينعم على طلابه  بخيرة الكوادر التدريسية والخبراء الأكاديمين في مختلف الاختصاصات، إلى جانب إخضاعهم للكثير من ورشات العمل مع خبراتٍ موسيقية مختلفة الجنسيات، بات اليوم يبخل عليهم  حتى بتوفير مدرسين للآلات، بعد أن خسر أغلب خبرائه، كالخبراء الروس: فيكتور بابينكو  وسيرغي خودييف وفلاديمير زاريتسكي، والخبير الأذربيجاني عسكر علي أكبر، وغيرهم الكثير. هذا إلى جانب خسارته لعدد كبير من الكوادر والخبرات التدريسية- التي خرَّجت أجيالاً من الموسيقيين المحترفيين- كمدرس آلة العود وقائد  فرقة الموسيقى العربية عصام رافع، ومدرسة الغناء الأوبرالي ورئيسة قسم الغناء الشرقي لوبانا القنطار وغيرهم .

 كل ذلك ترك آثاره السلبية على الموسيقيين الصاعدين، الذين لم يحصلوا على الخبرة والكفاءة اللازمة ولم يدخلوا عالم الموسيقى من بابه الأمثل والناجع، وكان عليهم أن يعتمدوا على ذاتهم وقدراتهم الخاصة وأن يثقفوا أنفسهم بأنفسهم ويشقوا طريقهم الفني بعناءٍ وتعبٍ كبيرين ليتحدوا جميع ظروف الحرب التي دمرت أحلامهم، علَّهم يبتكرون بصمتهم وهويتهم الإبداعية الخاصة.

لا منابر تحتضن الموسيقيين  

  قصر العظم ، خان أسعد باشا، مكتب عنبر، المركز الثقافي الروسي، الفرنسي والإسباني، البيوت الدمشقية العريقة، الغليريهات وصالات الفنون، حديقة القشلة والسبكي والفورسيزن وغيرهم من الحدائق، العديد من الساحات والشوارع التي كانت تحتضن فعاليات موسيقى على الطريق. تلك بعضٌ من المنابر  الكثيرة التي كانت متاحة  أمام جميع الموسيقيين، بمن فيهم الهواة، ليقدِموا موسيقاهم ويعرِّفوا الناس بولادة فرقهم الواعدة. لكن أغلب تلك المنابر أغلقت أبوابها في وجههم خلال الحرب، ولم  يتبق  سوى بضعة أماكن تستقطب فئة محددة من الموسيقيين دون سواهم، تحكمها الشللية والمحسوبيات والاعتبارات السياسية.

وبعد جائحة كورونا انعدمت الآفاق أكثر، فحتى البارات والمقاهي التي كانت خلال الحرب ملاذاً للبعض ضاقت هي الأخرى في وجههم، فيما أدت الجائحة لحرمانهم من السفر لإقامة حفلاتٍ في الخارج، بل ومن التنقل بين المحافظات السورية، وهو ما أدى لشلل نشاطهم الموسيقي بشكل كبير. وقد أدت العوامل السابقة لتغييب صوت الشباب ونتاجهم الإبداعي عن المشهد الموسيقي السوري، في ظل تراجع وجود البيئات الحاضنة لهم وغياب أي محفزات تدفعهم ليلتقوا ويتفاعلوا فيما بينهم. فبينما كانت البلاد قبل الحرب تكتظ بعشرات الفرق الموسيقية الشابة كفرقة جين، حرارة عالية، إطار شمع، ارتجال، وجوه وغيرها، نلاحظ اليوم تراجعاً كبيراً في حجم ولادة  الفرق الشبابية الجديدة، التي لم تسجل خلال السنوات الماضية سوى حضور خجول لم يخلق أي بصمةٍ فنية أو علامةٍ فارقة تُذكر.

وعن تجربته مع أزمة كورونا يحدثنا عازف الغيتار سومر (35 عام) قائلاً : “قبل كورونا كنت وأصدقائي نعزف في بارين ومقهى، بمعدل ثلاث حفلاتٍ أسبوعياً،  ونتيجة قرارت الإغلاق وقواعد التباعد الاجتماعي، التي فرضتها الأزمة، إلى جانب ما خلَّفته من آثارٍ اقتصادية، تراجع عملنا بشكل كبير ليقتصر على حفلاتٍ شبه شهرية لا تكاد تذكر، وذلك نتيجة ضعف إقبال الناس، بعد تردي واقعهم المعيشي، على المقاهي والبارات وعجز أصحابها عن دفع أجور العازفين”. ويضيف ” كنت أسافر بشكل شبه دوري إلى لبنان والأردن ودول أخرى في حفلات متفرقة بصحبة مطربين وفرق موسيقية مختلفة، لكن منذ نحو عام لم أغادر دمشق أبداً، وأصبحت أكتفي بعزف الموسيقى في منزلي الذي أصبح مسرحاً وحيداً، لا جمهور فيه سوى بعض الأصدقاء”.

العقبات الاقتصادية تحاصر حلم الموسيقي

في ظل أزمة التضخم وتردي الواقع الاقتصادي وانعدام القدرة الشرائية بات شراء آلة موسيقية احترافية حلماً يصعب تحقيقه عند معظم الموسيقيين الصاعدين. وعن ذلك يحدثنا عازف العود عمران (24 عام): ” قبل أزمة كورونا كنت أدخر المال، من عملي في تدريس الأطفال والعزف في المقاهي، لكي أجمع مبلغ 200 ألف ليرة لشراء عودٍ جيدٍ، ثم جاءت الأزمة وما نتج عنها لتدمر ما سعيت إليه، حيث تجاوز اليوم سعر ذلك العود المليون ليرة، وهو مبلغ بات يستحيل عليَّ جمعه في ظل تراجع عملنا كموسيقيين وتدني مستوى دخلنا بشكل يثير الشفقة”.

لم تستطع يارا (20 عام) أن تقتني آلة البيانو التي حلمت بها فاكتفت باقتناء  كيبورد (أورغ) مستعمل، لا تشعر معه بأي نوع من الشغف أو المتعة في العزف، ولا يطور مهاراتها وقدراتها المهنية، ولا يلبي رغباتها وطموحاتها الموسيقية، ولكنه كان خيارها الوحيد بعد أن أصبح حلمها  يحتاج لملايين الليرات.

وبينما يعجز الكثيرون عن شراء آلة موسيقية، يُجبر آخرون- نتيجة للظروف الاقتصادية ذاتها-  على بيع آلاتهم كحال عازف الدرامز حازم (26 عام)، الذي باع آلته مكتفياً بصناعة درامز تدريبي يُبقيه على تواصلٍ ما مع الموسيقى، على أمل أن يقتني آلة احترافية بعد سفره الذي يسعى إليه.

الواقع ذاته أجبر عازف الكمان حسام ( 34 عام) على ترك مشروعه الموسيقي، حيث يقول :” كنت أفرِّغ يومياً نحو أربع ساعات من وقتي لكي أتدرب وأفكر في مشروعي الموسيقي الذي أسعى لتأليفه، لكن تدهور الواقع المعيشي وتراجع مستوى دخلي من التدريس في المعاهد الخاصة أجبرني على زيادة ساعات العمل  والتوجه للعمل في المقاهي والمطاعم لكي أتمكن من تأمين متطلبات حياتي ودعم عائلتي، وهو ما سرق مني كل وقتي فأدى إلى ابتعادي عن تحقيق حلمي”.

العقبات الاقتصادية تقف أيضاً في وجه من يحاول إنتاج الأعمال الموسيقية، كحال الملحن وعازف الغيتار ضياء (37 عام) الذي لحَّنَ عدداً من الأغاني ووزَّعها، لكنه لم يتمكن من تسجيلها، وعن ذلك يقول: “يستحيل علي اليوم أن أتدبر نفقات التسجيل الذي بات يحتاج إلى ملايين الليرات بعد ارتفاع أجور الموسيقيين وأجور استديوهات التسجيل وما يتبعه من عمليات المونتاج والمكساج والنسخ والطباعة وغير ذلك”. ويضيف: “حاولت اللجوء إلى حلول أخرى فقمت بتسجيل أغنيتين في منزلي، بواسطة برنامج تسجيلٍ على الكومبيوتر، مستعيناً فقط بغيتاري وبصوت فتاةٍ هاوية،  لكن النتيجة التي حصلت عليها لم تكن مرضية فعزفت عن ذلك الأمر”.

ضغوط الحياة اليومية تقتل الإبداع

يحتاج الموسيقي إلى راحة نفسية وجسدية وحالة من الإسترخاء والصفاء الذهني ليتمكن من تطوير قدراته المهنية وتفجير طاقاته الإبداعية، لكن ضغوط الحياة اليومية والمزاج النفسي العام يمنعه من ذلك. وتلخص عازفة البيانو ياسمين (29 عام) ذلك الواقع بقولها: ” كيف يمكننا أن نبدع وخيالنا محاصر ونعيش حالة دائمة من القلق والتوتر وانعدام الأفق والخوف من المستقبل؟. كيف سنوجِّه طاقاتنا نحو الموسيقى ونحن غارقون في آلاف التفاصيل اليومية المؤلمة، التي تشتت تركيزنا، كانتشار الفقر وارتفاع الأسعار الجنوني، مشاهد الفقراء والمتسولين الذين يملؤون الشوارع ويبحثون في حاويات القمامة عن طعام، الانشغال  بتأمين الغاز والمازوت والخبز، وانتظار قدوم الكهرباء والماء… الخ؟”. وتضيف بيأس وقهر” لقد أصبح قصارى حلمنا فقط أن نجد فرصة سفرٍ تنقذنا من هذا الواقع، فكل شيءٍ حولنا يرهقنا ويؤذي مزاجنا ويقتل شغفنا وحماسنا ليحرمنا من تحقيق حلمنا الموسيقي”.

 معاناة مشابهة يعيشها عازف العود علاء (27 عام) الذي يسكن في قبوٍ تملؤه الرطوبة، حيث يقول: “البرد يخترق جسدي ويجمِّد أصابعي- في ظل انعدام أي وسيلة للتدفئة-  فأشعر أنني مقيد الحركة وأصابعي مشلولة لا تقوى على العزف. انشغالي بتدريس الموسيقى لساعات طويلة، من أجل تأمين لقمة العيش، يُشعرني بالتعب والإجهاد ويؤثر على طاقتي ومزاجي الإبداعي. صوت مولدات الكهرباء التي تزعق طوال النهار في حارتي تؤذي أذنيَّ وتشتت تركيزي وتجتاح عالمي الخاص. وفي الليل تُشعرني الإنارة الخافتة في ظل انقطاع الكهرباء- بالاكتئاب وتمنعني من قراءة كثير من الكتب والمراجع والنوتات الموسيقية، فيما ينفذ شحن اللابتوب الذي أستخدمه لتدوين بعض الجمل الموسيقية التي تحضر إلى رأسي، كل ذلك يعرقل ما أسعى لتحقيقه”.

 وخلال أزمة كورونا وفي ظل غياب الحفلات الموسيقية لجأ ويلجأ اليوم بعض الموسيقيين إلى مواقع التواصل الاجتماعي التي صارت وسيلتهم الوحيدة لإيصال صوتهم الإبداعي ونشر ما يعزفونه على الجمهور، لكن تلك الوسيلة لم تخلُ أيضاً من العقبات، إذ يصعب على بعضهم تحميل مقاطع الفيديو التي يسجلونها نتيجة ضعف سرعة الانترنت وانقطاعه الدائم إلى جانب انقطاع الكهرباء الطويل وما يخلفه من آثار سلبية تسهم في زيادة تلك العقبات.

” لا أمل لأي إبداع هنا” هي مقولة بات يتبناها الكثير من الموسيقيين الصاعديين الذين يؤجلون مشاريعهم وأحلامهم الموسيقية إلى ما بعد السفر، ليحذوا بذلك حذو من سبقوهم من أقرانهم، الذين فجروا طاقاتهم الإبداعية في أوروبا وغيرها من بلاد الاغتراب.

غلاء المعيشة يغير تقاليد عيد النوروز

غلاء المعيشة يغير تقاليد عيد النوروز

* تُنشر هذه المادة ضمن ملف صالون سوريا “المعاناة اليومية في سوريا

تزامن عيد النوروز (الذي يصادف الحادي والعشرين من آذار في التقويم الميلادي) هذا العام مع ظروف اقتصادية صعبة ومعيشية متردية من جهة، وفيروس كورونا من جهة ثانية، ولمن لا يعرف هذا العيد، فهو عيد رأس السنة الفارسية والسنة الكردية، ويوافق يوم الاعتدال الربيعي وبدء دورة الحياة الجديدة، حيث تعني “نو” جديداً بالفارسية، أما “روز” فتعني يوماً، فتأتي “نوروز” مجتمعة بمعنى “اليوم الجديد.”

فتيات يرتدين الزي الفلكلوري المضرج بالألوان الزاهية كأيام الربيع، وجوه ملطخة بالأحمر والأخضر والأبيض، حلقات متماسكة لأيدي متشابكة إيذاناً بالدبكة، خيم منصوبة في عراء الطبيعة، أناشيد وأهازيج تصدح في السماء، أغطية ممددة على العشب تُفرش عليها المأكولات، هذه بعض من مشاهد احتفال أكراد مدينة الحسكة. هذه المشاهد التي تضج بالحياة والفرح تعبر عن إصرار أكراد الحسكة على إحياء العيد الذي له مكانة خاصة لديهم، بالرغم من الأوضاع المعيشية السيئة التي تمر بها سوريا، والتي تلقي بظلالها على شتى مظاهر الحياة، وتؤثر حتماً على شكل الاحتفالات بعيد النوروز.

تقول آنا شبيبه وهي إحدى المشاركات في الفرق الراقصة والمسرحية معاً: “هذا العيد مقدس بالنسبة للجميع، لما فيه من رمزية ثورية، ففي هذا اليوم تحرر الفكر الكردي، نقضيه بعرض المسرحيات الثورية الهادفة وحلقات الدبكة والموسيقى والأشعار”. تعتبر الشابة أن مجرد إحياء العيد هو تحدي كبير بالنسبة للأكراد، خاصة في ظل الظروف المادية الراهنة، مضيفة: “الغلاء المستعر أثر بشكل كبير على الاحتفال، حيث غير من العادات الاستهلاكية للعديد من الأهالي الذين اضطروا إلى التقنين في الطعام، إذ جرت العادة بأن يقوم المحتفلون بتحضير طبق المشاوي الذي يعد أساسياً، لكن بسبب ارتفاع الأسعار، انصرف البعض منهم عنه ليستبدلونه بأطباق صغيرة غير مكلفة يحضرونها من منازلهم”.

الزي الرسمي الفلكلوري بات عبئاً مادياً مضافاً ولم يعد بمقدور الجميع تكبد نفقاته، وحول هذه النقطة تقول شادن: “اعتدنا شراء الملابس التراثية الخاصة بهذه المناسبة كل عام، كان لا يمر عام دون زي جديد، أما الآن فقد تغير الوضع، بات سعره غالياً، حيث يصل سعر الزي الواحد ما لا يقل عن 100 ألف ليرة سورية”. وتتابع حديثها: “ارتدى غالبية المحتفلين ملابس العام الماضي، وهناك من تبرع بزيه القديم الذي لم يعد بحاجة إليه، أو عمد الناس إلى الاستعارة  من بعضهم بعضاً حيث أطلقت العديد من المجموعات على مواقع التواصل الاجتماعي مبادرات إيجابية لتبادل واستعارة الأزياء الشعبية بين الفتيات الكرديات، بالنسبة لي استعرت الزي من صديقة لي”.

فرض فيروس “كورونا” نفسه على العالم أجمع، ووضع شروطه الخاصة، فجاء النوروز هذا العام في ظروف استثنائية، خاصة في ظل اشتداد الموجة الثالثة التي تشهدها سوريا، إلى جانب تكاليف المعقمات ومواد التنظيف، ويوضح نوجدار: “العائلة بأسرها ستخرج للاحتفال  دفعة واحدة وبالتالي شراء المزيد من الكمامات والكحول، والكثير من الازدحام، صحيح أنها تكاليف إضافية وتحدي كبير لنا، لكن الأمر يستحق العناء، فهو يوم واحد في السنة ولا يجب تفويته أبدا”.

هذا وتقام الاحتفالات بعيد النوروز وسط إجراءات أمنية احترازية مكثفة خشية من تكرار الحوادث المأسوية التي وقعت عام 2015 بعد أن نفذ تنظيم “داعش” تفجيرين مزدوجين في حي المفتي بمدينة الحسكة، أسفرا عن قتل ‏35 شخصاً وعشرات الجرحى.

مبادرتان خاصتان في عيد النوروز

أطلقت  مجموعة  جميلات روج آفا التي تضم آلاف الفتيات والنساء مبادرتين على مواقع التواصل الاجتماعي، الأولى لجمع أكثر من 100 زي كردي من العائلات الميسورة والتبرع بها، أما الثانية لتوزيع كميات من اللحوم على العائلات الفقيرة ليتمكنوا من الاحتفال في عيد النوروز. وعن هذه المبادرة تقول مؤسسة المبادرة هيلين عثمان: ” جمعنا تبرعات مالية من داخل الجزيرة وخارجها، حيث وزعنا حوالي 300 فستان فلكورلي خاص باللباس الكردي التراثي على الفتيات مجاناً نظراً لغلاء القماش وارتفاع أسعار الفساتين وأجور الخياطة، كما وزعنا لحوم بقيمة مليونين و380 ألف على الأسر المحتاجة، خاصة أن المشاوي تُعد طبقاً أساسياً في طقوس عيد النوروز”.

قصة عيد النوروز

ترمز قصة النوروز الكردية إلى الانتصار على الظلم، حيث تقول الأسطورة الكردية إن رجلاً يدعى “كاوة الحداد” قام بثورة على الملك الظالم “الضحاك” الذي كان “يأكل الأطفال” من خلال اثنتين من الأفاعي ربطتا على كتفه، ليعمد كاوة إلى إشعال ثورة استعان فيها بأطفال أنقذهم من الموت ودربهم في جبل كانوا يحتمون به، لذلك تعد النار بالنسبة للأكراد مقدسة.

ويحتفل الأكراد بهذا العيد، ويعدونه عيداً قومياً، حيث يقومون في ليلة العشرين والتي يطلقون عليها “وقفة العيد” بإشعال الشموع وإحراق الدواليب والقفز فوقها لوداع آخر شروق للشمس في السنة، مع ترديد ترانيم خاصة مثل: “يا نار خذي لوني الأصفر” (في إشارة منهم لذهاب  الأمراض)  ثم القول “امنحيني لونك الأحمر” (في إشارة إلى منحهم الصحة).

وفي اليوم الحادي والعشرين، أي ليلة النوروز يفتتحون العيد بالحديث عن الأوضاع السياسية والعسكرية التي تشهدها المنطقة، ونبذة عن  قائدهم عبد الله جيلان.

وجدير بالذكر أن مائدة النوروز تحتوي أطباقاً خاصة تسمى “هفت سين” أو السينات السبعة وهي مكونة من الثوم (سير)، و السنابل أو الورد (سنبل) والخل (سيركة) وعملة معدنية (سكة) والخضروات (سبزي أو سبزه) وحلوى (سمنو) و ثمرة (سنجد) البرية.

عمال المياومة: أكثر المتضررين من الأزمة الاقتصادية السورية

عمال المياومة: أكثر المتضررين من الأزمة الاقتصادية السورية

* تُنشر هذه المادة ضمن ملف صالون سوريا “المعاناة اليومية في سوريا

يعيش عمال المياومة أزمة اقتصادية خانقة لحقت بهم خلال السنوات الماضية، فساعات عملهم المرهق الطويلة مقابل أجور لا تفك متطلبات المعيشة لنصف يوم بل أحياناً قد تلبي احتياجات أحد أفراد الأسرة فقط دون بقية الأفراد. ورغم أن الأعمال لم تنقطع إلا أن عمال المياومة كانوا من بين أوائل ضحايا الأزمة الاقتصادية في سوريا خصوصاً أن أجورهم المتدنية لم تعد تلبي متطلبات المعيشة لديهم.

وتتنوع أعمال هؤلاء العمال بين العمل في الزراعة أو نقل وتحميل الأثاث المنزلي أو مواد البنك أو قطف المحاصيل مقابل أجر يومي يتفق عليه مع صاحب العمل. وحسب ما أفاد به عدد من عمال المياومة، فإن القليل منهم تصل أجورهم اليومية إلى قرابة 7000 ليرة سورية بينما يحصل الغالبية على أجور تكاد تتوسط 3000 ليرة سورية أي باتت أجورهم لا تتعدى 2 دولار أمريكي.

ويبدو أن العديد من عمال المياومة اضطروا منذ سنوات إلى ترك أعمالهم واتجهوا إلى البحث عن وظائف تمنحهم أجوراً أفضل من تلك التي يتقاضونها لقاء أعمالهم الاعتيادية.

دخل زهيد

يضطر عمال المياومة إلى البحث يومياً عن عمل ما يوفر لهم دخلاً زهيداً بالكاد يغطي لهم المصاريف المعيشية، ويقول البعض منهم إنهم مضطرون للعمل في هذا المجال بسبب قلة فرص العمل.

وخلال إعداد هذا التقرير، تواصلنا مع أمجد (38 سنة) وهو أحد عمال المياومة في شمال سوريا، حيث يقول لنا: “نعمل من أجل توفير رغيف الخبز لا أكثر، أجورنا قليلة لا تتجاوز 15 ليرة تركية (قرابة 2 دولار أمريكي) ولا تكفي لسد متطلبات الحياة خصوصاً إن كان لدى العامل عائلة”.

ويضيف، المشكلة أيضاً أن عملنا ليس مستقراً، نعمل أحياناً لعدة أيام ومن ثم نبحث عن عمل آخر وأحياناً ننقطع عن العمل لأيام فكيف لنا أن نغطي مصاريفنا اليومية مع غلاء المعيشة!

وعن طريقة تحديد الأجور، فإن عدداً من عمال المياومة أفادوا بأن صاحب العمل يعرض عليهم طبيعة العمل مثل تحميل مواد بناء أو نقل أثاث منزل أو غير ذلك والمبلغ الذي سيدفعه وإن وافقوا يأخذهم لمكان العمل، وبمجرد إنجاز العمل يتقاضون أجورهم.

ويؤكد أمجد، أنه نادراً ما يحصل البعض منهم على فرصتي عمل يومياً ليتقاضى لقاء ذلك مبلغاً جيداً قد يصل إلى ما يعادل 4 دولارات في يوم واحد.

عمل ثابت

اتجه العديد من عمال المياومة إلى البحث عن أعمال ثابتة تجعلهم على الأقل غير عاطلين عن العمل في بعض أيام الشهر محاولين توفير قوت يومهم في ظل غلاء السلع والخدمات وارتفاع تكاليف متطلبات المعيشة.

ويبدو أن الأعمال الثابتة رغم الرواتب القليلة التي يتقاضاها العاملون لقاء عملهم إلا أنها أفضل من عمل المياومة المتقطع، حسب إفادات عدد من العمال في شمال سوريا.

وفي لقائنا مع عدد من عمال المياومة ومن بينهم أبو جهاد (31 سنة) الذي يعمل الآن في أحد محال الحلويات بريف حلب، أوضح لنا تجربته: “الراتب قليل لكنه أفضل من العمل المتقطع، كنت أحياناً أعمل وأحياناً اضطر للجلوس في المنزل، على الأقل في العمل الثابت يمكنني توفير إيجار منزلي شهرياً”.

ويتابع، كان لدي سيارة قبل سنوات ولكنني اضطررت لبيعها والآن أعمل كل شهر بشهره فما أحصل عليه في شهر يكاد يوفر لي ولعائلتي مصروفنا الشهري.

وليست حالة أبو جهاد الوحيدة من نوعها بل هناك الكثير من السوريين الذين تأثروا بالأوضاع الاقتصادية السيئة التي رافقها الغلاء المعيشي وقلة مدخول فرص العمل المتوفرة.

تحت خط الفقر

تشير الأرقام الواردة في الدراسات والأبحاث التي أنجزت عن الملف الاقتصادي في سوريا إلى مدى الآثار السلبية التي لحقت بالسوريين في شتى المجالات.

وفي تصريحات صدرت عن المدير الإقليمي للشرق الأوسط في اللجنة الدولية للصليب الأحمر، فابريزيو كاربوني، منذ أيام، قال خلالها: إن “ما يقارب من نصف الشباب السوري فقدوا دخلهم بسبب الصراع في سوريا، ونحو ثمانية من كل عشرة أفراد يواجهون صعوبات من أجل توفير الطعام والالتزامات الضرورية الأخرى” وفق ما نقلته وكالة رويترز.

وأضاف أيضاً، النساء السوريات تعرضن أيضاً لأزمة اقتصادية حيث يوجد 30% من النساء لا يمتلكن أي دخل على الإطلاق لإعانة عائلاتهن.

في المقابل، حذر برنامج الأغذية العالمي، الشهر الفائت، من تفاقم كارثة غذائية تشهدها سوريا، حيث أكدت أرقام البرنامج الأممي، أن 90% من السكان تحت خط الفقر مقابل ارتفاع أسعار السلع الغذائية لأكثر من 200% خلال أقل من عام.

وتضرر معظم السوريين من الأزمة الاقتصادية الخانقة وفي مقدمتهم العمال الذين يتقاضون أجوراً قليلة بما فيهم عمال المياومة.

هل من حلول؟

لا يبشر الواقع الاقتصادي في سوريا في أية حلول مستقبلية قريبة من شأنها أن تحسن الأوضاع المعيشية لدى السكان خصوصاً مع عدم استقرار الليرة السورية في ظل استمرار تدهور قيمتها خلال السنوات القليلة الماضية.

وفي اتصال هاتفي مع محمد أبو بلال وهو أحد السوريين المهتمين بالمشاريع الاقتصادية، يقول لنا: “لا توجد بيئة استثمارية مستقرة في سوريا وهذا يعود لأوضاع البلاد الأمنية، حيث يؤثر ذلك بالدرجة الأولى على صعوبة توفير الموارد الأولية ومتطلبات التشغيل وآليات التوزيع والتصريف خصوصاً للمشاريع الكبيرة”.

ويتابع، من الملائم للعمال السوريين أن يؤسسوا لأنفسهم في الوقت الحالي مشاريع صغيرة توفر دخلاً إضافياً لهم ولو كان محدوداً، على الأقل يغطي تكاليف معيشتهم.

وعن كيفية الوصول إلى أفكار لمشاريع صغيرة بالنسبة للسوريين المتأثرين بالأوضاع الاقتصادية يُجيب، هناك عدة عناصر يجب التركيز عليها مثل الحاجة للمنتج أو الخدمة المقدمة والقدرة على منافسة السوق وسهولة وصول المواد الأولية.

الانتحار في سورية: أزمة حرب أم ظاهرة طبيعية

الانتحار في سورية: أزمة حرب أم ظاهرة طبيعية

* تُنشر هذه المادة ضمن ملف صالون سوريا “المعاناة اليومية في سوريا

أثار انتحار شاب وفتاة سوريين خلال أسبوع واحد، جدلاً واسعاً على وسائل التواصل الاجتماعي، في البلاد التي تعاني منذ عشر سنوات من حرب طاحنة، ترافقت مع أزمة اقتصادية خانقة، دفعت الأمم المتحدة للتحذير من أن 10 ملايين سوري يعانون من انعدام الأمن الغذائي، وباتوا غير قادرين على إطعام أسرهم.

وانقسم السوريون بين من يرى أن هذه الحالات طبيعية وتحدث في كل الدول، وبين من يرى أنها من مفرزات الحرب التي قلصت مساحة الأمل لدى الشباب، ولم تترك لهم سبيلاً للخلاص إلا الانتحار. سجلت العاصمة دمشق أول حالة انتحار في 3/3/2021، وتعود للشاب حسين شماس (18 عاماً) وهو طالب في المرحلة الثانوية، إذ أقدم على شنق نفسه في منزله، تاركاً رسالة مؤثرة لأصدقائه وأقاربه، طالبهم فيها بألا يشعروا بتأنيب الضمير لعدم قدرتهم على تقديم المساعدة له، لأنه هو ذاته غير قادر على تقديم المساعدة لنفسه.

وكتب الشماس على صفحته قبل أيام من انتحاره: “لم أستطع أن أفهم اللعبة لذلك قررت تسجيل الخروج”. كما شارك منشوراً جاء فيه أن: “الاغتراب ليس الابتعاد عن مسقط رأسك، بل الاغتراب الحقيقي هو شعورك بأن المكان الذي توجد فيه غير مناسب لنموك وتحقيق أحلامك”.

وغصّت صفحة الشماس على “فيسبوك” بآلاف التعليقات على منشوراته أظهرت حقيقة الانقسام السياسي والثقافي الحاد في سوريا، كما وصلت الأمور إلى حد السخرية منه، كقيام البعض باستخدام جملته الأخيرة حول عدم فهم اللعبة دون أي داع ومبرر كنوع من الاستهزاء والاستخفاف به.

لا تقتصر حالات الانتحارعلى العاصمة دمشق، ففي محافظة القامشلي مثلاً قررت الشابة مهى النزال (17 عاماً) إنهاء حياتها، بإطلاق النار على نفسها مِن مسدس حربي داخل منزلها في المدينة. وقعت هذه الحادثة بعد ثلاثة أيام من تاريخ الواقعة الأولى، فيما أكد نشطاء على مواقع التواصل الاجتماعي أن حادثة انتحار الفتاة حصلت في الأسبوع الأخير من شهر شباط.

وكتبت الفتاة وصيّةً لعائلتها بخط يدها، أوضحت فيها أسباب انتحارها، وهي أن الحياة ليس جميلة ولا تحبها، وتشعر دائماً أنها على خطأ في هذا العالم، داعية من يحبها إلى مسامحتها.

حالات الانتحار هذه تركت الباب موارباً حول صحة بعض الأخبار المتداولة عن قصص مشابهة، فقد تداول السوريون المقيمون خارج البلاد صورة لشاب على أنه انتحر وترك رسالة للشعب السوري، يقول فيها إنه قرر قتل نفسه لكي تذهب حصته من الطعام إلى أخوته، ليتبين فيما بعد أن الخبر كاذب، وأن الصورة المتداولة هي لشاب مصري يدعى محمد المنشاوي، وهو يعيش في النمسا حيث ظهر على صفحته لينفي ما تم تداوله عنه.

بدوره، نفى مدير هيئة الطب الشرعي السورية الدكتور زاهر حجو في وقت سابق في تصريح رسمي له على القنوات الرسمية السورية وجود أي ازدياد في حالات الانتحار كما يشاع، مشيراً إلى وجود انخفاض في عدد الحالات المسجلة مقارنة بذات الفترة من العام الماضي.

وأوضح حجو أن “سورية سجلت حتى الآن 31 حالة انتحار في العام 2021، بينما سجلت في الفترة ذاتها من العام الماضي 35 حالة انتحار”، مؤكداً أن “سورية تعد من الدول ذات معدلات الانتحار المنخفضة، فالنسبة لا تتجاوز 1 من كل 100 ألف رغم الحرب التي تعاني منها وتبعاتها، في حين حسب إحصائيات منظمة الصحة العالمية فإن النسبة العالمية تتراوح ما بين 5 إلى 10 من كل 100 ألف”.

وأوضح حجو أن عدد المنتحرين من الذكور أكثر من الإناث، فبلغ عدد الذكور 24 في حين تم تسجيل انتحار 7 إناث، مشيراً إلى أن ” 21 منهم انتحروا شنقاً و5 بطلق ناري و2 سقوط من مرتفع شاهق ومثلهما انتحرا بالسم” مشيراً إلى أن ” أكثر المحافظات التي تم تسجيل فيها حالات انتحار هي ريف دمشق 7 حالات بعدها دمشق 6 حالات وحماة 4 وذات العدد في طرطوس.”

وأعربت العديد من الهيئات الصحية عن قلقها من تعمد العديد من الأشخاص والمواقع الإخبارية، نشر أخبار كاذبة عن ضحايا وهميين أو حوادث ملفقة، بهدف استقطاب القراء والمعجبين على وسائل التواصل الاجتماعي، محذرة من قيام البعض بتغليف أخبار الانتحار الحقيقية بقالب من التعاطف الوهمي، الذي قد يشجع المراهقين الذين يعانون من مشاكل نفسية، إلى التفكير بالانتحار والإقدام عليه، بعدما يتم تسويق هذا الفعل على أنه الحل الوحيد والبطولي.

من جهته، كتب أستاذ الطب النفسي أسعد الخليل على صفحته على مواقع التواصل الاجتماعي منشورا منبهاً إلى “أن حالات الانتحار ناجمة عن اضطرابات نفسية، ومن الخطير اليوم أن نرى هذا الكم من التبريرات غير الواقعية لفعل الانتحار”. وأضاف الخليل “لا شك أن الحرب وما رافقها من أزمات تركت آلاماً وكوارث كبيرة يجب معالجتها، ولكن التركيز يجب أن يكون على السبب الرئيسي وهو الاضطراب النفسي ومن ثم تقديم الدعم النفسي لكل محتاج”.

بدوره قال الطالب الجامعي جورج حنا في حديث معنا: “كم هو مؤلم أن نرى كل هذا الثناء على شاب أقدم على الانتحار بسبب مرض نفسي، ما فعله حسين ليس بطولة أو شجاعة، أو موقفاً يستحق عليه الثناء، ما فعله مأساة حقيقية”.

وقال المعارض المقيم في ألمانيا أحمد قزموز: “إن كل مواطن داخل سوريا بات قنبلة موقوتة ستفجر نفسها أو ستنفجر بوجه غيرها، وهذا كله بسبب تمسك النظام السوري بالسلطة” حسب تعبيره.

من جهتها، قالت الطالبة في كلية الاقتصاد بجامعة دمشق سارة بوظو “إن السبب الوحيد لتمسكنا بحياتنا المقرفة كسوريين هو أن الانتحار حرام، أيامنا مليئة بالذل والهوان، ولا مستقبل مشجع ينتظرنا”. وختمت بوظو بالقول: “بمعنى آخر لو كان الانتحار محللاً دينياً لما بقي سوري على قيد الحياة”.

الخبز الذكي” و الليبرالية الجديدة الحمقاء”

الخبز الذكي” و الليبرالية الجديدة الحمقاء”

* تُنشر هذه المادة ضمن ملف صالون سوريا “المعاناة اليومية في سوريا

يرتبط مفهوم الأمان تاريخياً بالنسبة للعائلة السورية بشرط لازم وواجب وهو تأمين الخبز. وظلت عبارة “تأمين الخبزات” مزروعة في وجدان كل رب أسرة عندما يعود إلى منزله بعد انتهاء عمله. وليست من قبيل الصدفة أن يأخذ الارتباط اللفظيّ بين الأمان والتأمين ارتباطاً وجدانياً، ولن نكون مغالين إذا قلنا ارتباطاً وجودياً. وعندما يصبح هذا التأمين مهدَّداً، تظهر كل أعراض عدم الأمان من خوف وقلق ورعب يهدد الوجود نفسه.
عندما تجد بضع حبات من القمح في جرة تعود إلى ما قبل التاريخ، عندما تشاهد رجل يزيح كسرة خبز يابسة عن الطريق كي لا تدوسها الأرجل، عندما تراقب امرأة وهي بكامل الولع تلف الخبز، تعرف مدى القداسة (التي لن تكون دينية بالضرورة) بل قداسة إنسانية لهذا المنتج الإنسانيّ: الخبز.

لأجيال عديدة ظلت هذه البلاد زراعية الهوية الاقتصادية، وتنتج ما يكفي شعبها، وتصدر ما يزيد عن حاجتها، وشكل القمح المحصول الاستراتيجي للدولة. لكن المتتبع والمعايش لما يحصل في سورية اليوم من نقص حاد في المحصول وصعوبة تلبية حاجة الشعب من الخبز يدرك كم فقدت هذه البلاد من هويتها.
في الفقرات التالية سنحاول ربط الماضي بالحاضر من خلال الأرقام الإحصائية لإنتاج القمح في سورية معتمدين على إحصائيات وزارة الزراعة والإصلاح الزراعي في سورية وأرقام منظمة الغذاء والزراعة التابعة للأمم المتحدة، لا لنعمق المأساة بل لنكشف حجمها، متتبعين حركية المحصول والقرارات المتعلقة به.

اقتصاد السوء الاجتماعي

في عام 2006 وفي خطوة وصفها الاقتصاديون بـ” المتسرعة” أو “غير المدروسة”، جرى تبديل شامل في سياسة الدولة الاقتصادية. وتم الانتقال من اقتصاد مركزيّ موجَّه يعتمد على الخطط الخمسية إلى ما دعي بـ اقتصاد السوق الاجتماعي. كانت الخطوة ارتجالاً وتحولاً مفاجئاً نحو الليبرالية الاقتصادية وتحرير الأسواق، صفق لها البنك الدوليّ!
وبسرعة وُزّعت الامتيازات حسب الولاءات، وأُسّست الشركات القابضة ذات الصيغ العائلية، وبدا الانفتاح براقاً وواعداً! وأصبح الاستثمار في المشاريع السياحية والخدمية هو الموجة الجديدة. وغزت مشاريع الفنادق مراكز المدن ومشاريع القرى السياحية والفلل تلال دمشق وأخواتها. كان المنظر باهراً على أتوستراد حرستا ووزعت السيارات بالتقسيط. بينما هُمشت الزراعة والصناعات المرتبطة بها، وأغرقت الأسواق بالصناعات الصينية الرخيصة متدنية الجودة، في حين ساهم انتشار البضاعة التركية في تهميش البضاعة الوطنية. هُجرت الحقول وزادت الهوة بين من يملكون ومن لا يملكون، وانتقلت سورية من بلد زراعيّ إلى بلد متحوِّل اقتصادياً. إن كلمة متحول لا تعني التغيير نحو الأفضل أو انتهاج تعددية اقتصادية، بقدر ما تعني انتهاج سياسات مصلحية يلعب فيها الامتياز والولاء الدور الأساسي. إنها تعني غياب النظام الاقتصادي وغياب الهوية. لم تتم خصخصة القطاع العام بل تم تأسيس قطاع خاص جداً كانت غايته الوحيدة على ما بدا إحداث شلل في القطاع العام وتهميشه وإفقاره. لقد تم إغلاق المعامل الوطنية المرتبطة بالزراعة، فأغلق معمل السكر في تل سلحب بسبب الخسائر وتراجع إنتاج الشوندر السكري تدريجياً والآن لم تعد حماه تنتج أي حبة شوندر سكري بعد أن تم إيقاف زراعة الشوندر السكري نهائياً بقرار حكومي. وأغلقت معامل الكونسروة في درعا والورق في دير الزور، ومعامل الصابون وأقلام الرصاص في دمشق، وتركتْ الدولة الساحةَ لطبقة صناعية طحلبية همها فقط الإثراء على حساب موت القطاع العام أو تمويته.

“وقمح..”

مهما قيل عن القمح السوري بأنه قمح قاس، يبقى أكثر طيبة من متخذي القرارات وصانعي السياسات الاقتصادية في هذا البلد القمحيّ بامتياز. يمتاز القمح السوري بـ”كبر الحبة وتشعب السنبلة والهيئة البلّورية واللون العنبري الأصفر وتأقلمه بشكل واسع مع البيئات المختلفة لحوض البحر الأبيض المتوسط بنسبة 60% قمح قاس و 40% قمح طري” وذلك حسب الهيئة العامة للبحوث العلمية الزراعية.

ومع التحول الاقتصادي جاء موسم 2007-2008 فقيراً بالأمطار ومنذراً بالجفاف، إذ سجلت محافظة الحسكة هبوطاً حاداً في معدل الأمطار بلغ 121.7 ملم بانخفاض 100ملم عن المعدل السنوي، علماً بأن الحسكة تقدم 60% من المحصول القومي للقمح في سوريا. وسجلت دير الزور معدل 56.3 ملم بانخفاض 90 ملم عن المعدل السنوي . وسجلت حماه 284 ملم بانخفاض بلغ 90 ملم.
وبالتزامن مع موسم الجفاف، قامت الحكومة في نيسان 2008 برفع سعر المازوت من 7 ليرات للتر إلى 25 ليرة، وقامت بتحرير سعر السماد. وبات المازوت يوزع عن طريق القسائم التي آذنت بظهور ظاهرة الطوابير في سوريا. وأدت هذه القرارات مع موسم الجفاف إلى نزوح عدد كبير من الفلاحين إلى المدن وهُجرت الحقول. بلغ إنتاج القمح في ذلك الموسم 2.1 مليون طن بانخفاض 2 مليون طن عن الموسم السابق. بررت الحكومة رفع سعر المازوت لسد العجز في الميزانية، لتعود وتخفض سعر اللتر 5 ليرات في بداية 2009.
سجل الموسمان التاليان معدل هطول مطري جيد، ووصل إنتاج القمح موسم  2011 إلى 3.9 مليون طن. في عام 2014 ضربت سوريا موجة جفاف جديدة متزامنة مع نقص المازوت وانقطاع الكهرباء وانعدام الأمن مما شكل صعوبة كبيرة في وصول الفلاحين إلى أراضيهم. وحسب تقرير منظمة الغذاء والزراعة FAO في 23 كانون الثاني 2013″45 % من الفلاحين لا يستطيعون الوصول” وسجل الموسم انخفاضاً قياسياً في إنتاج القمح بلغ حسب تقديرات المنظمة 1.3 مليون طن، قدرته الحكومة السورية بـ 1.7مليون طن.
ورغم الموسم المطري الجيد في 2015 فلم يتجاوز المحصول 2.4 مليون طن بعجز قدره 900 ألف طن عن الحاجة السنوية. وسجل تقرير الـ FAO في 23 تموز 2015 بأن “9.8 مليون سوري يعانون من انعدام الأمن الغذائي.”
وسجل عام 2016 ارتفاعاً طفيفاً بمعدل الإنتاج بلغ 2.9 مليون طن، ليعود وينخفض إلى مستويات قياسية في الأعوام اللاحقة (2017: 1.8مليون طن؛ 2018: 1.2مليون طن؛ 2019: 1.2مليون طن)، لتبدأ مسألة استيراد القمح الروسي الأقل جودة من القمح السوري وتبدأ أزمة الخبز بالظهور.

خبز ومازوت وقهر

في نيسان 2020، أُدخل الخبز على نظام البطاقة الذكية، بعد شهر على ظهور أزمة الخبز. عللت الحكومة الأزمة بعدة أسباب: عدم إرسال روسيا لكميات القمح المتفق على شرائه (بلغت كمية القمح المستوردة من روسيا 1.3 مليون طن عام 2017 و1.1 مليون طن عام 2019)؛ انخفاض كمية القمح المسلمة للدولة من قبل الفلاحين (بلغت كمية الحبوب المسلمة إلى الحكومة 500 ألف طن عام 2017؛ 1مليون طن 2019؛  500ألف طن 2020)؛ ضبط الاستهلاك المحليّ بحجة أن الطحين يهرب إلى المخابز الخاصة والسياحية ومعامل المعكرونة وإلى مربي الحيوانات بسبب نقص مادة العلف وإلى دول الجوار، والذي يشير إجمالاً إلى حجم الهدر والفساد في مؤسسات الدولة نفسها.
على نظام البطاقة الذكية، قدرت وزارة التجارة الداخلية حصة الفرد بـ 19.5كغ شهرياً، وقسمت الأسرة السورية إلى أربع شرائح حسب عدد أفراد الأسرة المسجلين على البطاقة (1-2  شخص ربطة واحدة يومياً، 3-4 أشخاص ربطتين يومياً، 5-6أشخاص ثلاث ربطات يومياً، 7 أشخاص وما فوق أربع ربطات يومياً). لقد أدت كل العمليات الفنية من استخراج بطاقة ومن ثم تعديل البيانات العائلية إلى أزمة طوابير أضيفت إلى الأزمة الأساسية وبات المواطن السوري من طابور إلى طابور وأعيد إلى نقطة الصفر ولم تنجح البطاقة في حل الأزمة بل أصبح القهر ملازماً لكل خطوة.
في عامي  2011و2012 كان سعر ربطة الخبز 15 ل.س وتزن 1800غ بـ 8أرغفة. ارتفعت في 2013 إلى 19ل.س، بينما بيعت في المناطق المحاصرة بأرقام تراوحت بين  600إلى 2500 ل.س. في الشهر السابع  2014ارتفع السعر إلى 25 ل.س وفي الشهر العاشر 2015 إلى50  ل.س. في حين ارتفع سعر لتر المازوت إلى 135 ل.س وسعر أسطوانة الغاز إلى 1800 ل.س.
في الشهر السادس 2016 أعلنت الحكومة ارتفاع سعر المازوت إلى 180 ل.س للتر وأسطوانة الغاز إلى 2500 ل.س في حين كان سعر صرف الدولار  470 ل.س.
واعتباراً من منتصف عام 2019 سيبدأ سعر الليرة بالهبوط أمام الدولار بوتيرة متسارعة وبحلول آذار من عام 2020تم رفع سعر ربطة الخبز من  50إلى 75 ل.س ونقص وزنها إلى 1100غ. لتعود وترتفع في تشرين أول من نفس العام إلى  100 ل.س مع كيس نايلون. كان ذلك السعر على البطاقة فقط ويحتاج المواطن إلى الوقوف ساعات طويلة في الطابور، مما أدى إلى ظاهرة بيع الخبز الحر، حيث تباع الربطة أمام الفرن مباشرة ب 500 و750 ل.س. ترافق ذلك مع وصول سعر ليتر المازوت بالسوق السوداء إلى 1200 ل.س ومع ذلك التدهور السريع في الخدمات من قطع جائر للكهرباء وعدم العدالة في توزيع المازوت على البطاقة وذل “تأمين الخبزات” وغلاء فاحش في الأسعار مع وصول سعر صرف الدولار إلى    4000 ل.س، بات المواطن السوري بعيد جداً عن نقطة الصفر المعيشي وأصبح تحت الصفر بدرجات. لقد أصبحت الأزمة مستدامة.

عام القمح

مع وصول الوضع المعيشي إلى مستويات متدنية، وارتفاع الأسعار غير المسيطر عليها والمتزامن مع ارتفاع سعر صرف الدولار، بقي مستوى الدخل ثابتاً أو مجمداً عند حدوده الدنيا، وبات المواطن السوري يشعر بالضياع وهو يستسلم لكارثة تحدق به من كل الجهات. ليست تلك الأرقام التي أوردناها مجرد أرقام، هي واقع يعيشه السوري بكل تفاصيله العشرية. إن العجز الحكومي والفساد الحكومي في سوريا ظاهرةٌ تدرَّس.
ومع ذلك تطلق وزارة الزراعة، في حملة دعائية وإعلامية، على موسم 2020-2021عام القمح معلنة بأنها تخطط لزراعة 1.8 مليون هكتار من القمح، وحددت سعر شراء القمح بـ 450 ل.س للكغ مع مكافأة تسليم 100 ل.س لكل كغ. ثم عادت في آذار 2021 لترفع سعر الشراء إلى  800ل.س لكل كغ.
ويبدو أنه من المستحيل الوصول إلى الأرقام القديمة 4 مليون طن مثلاً؛ فالحسكة وأراضيها والرقة وريفها وريف حلب وريف إدلب وجزء من ريف حماه خرجت من الناتج النهائي لمحصول القمح ولا يمكن تعويضها وسهل الغاب تحول إلى زراعة التبغ ليلبي نهم معامل الدخان العائمة قبالة الساحل السوري. ويبدو أن أسعار الخبز في طريقها للتحرير، فقد خرجت مديرة التخطيط والتعاون الدولي في المؤسسة العامة للمخابز بتصريح لجريدة الوطن في 10 آذار 2021لتقول:”إن بيع الخبز المدعوم يعتبر من الصعوبات التي تعرقل العمل وتسبب خسائر مالية للمؤسسة” مبررة ذلك بأن المادة “مسعَّرة اجتماعياً”!
هذا المصطلح لا يحتاج إلى تفسير. إن عملية الخنق جارية ومحاصرة للمواطن في أعز ما يملك، أي كرامته، التي باتت هي المستهدفة. والسوق السوداء هي التي تحكم.

 

جيل ضائع” بإدلب بين تسرب التلامذة وهجرة الاساتذة”

جيل ضائع” بإدلب بين تسرب التلامذة وهجرة الاساتذة”

* تُنشر هذه المادة ضمن ملف صالون سوريا “المعاناة اليومية في سوريا

لم تكن فاطمة كردي ابنة الأحد عشر ربيعاً تعلم أن هناك على الجانب الآخر من وطنها، أطفالاً يواصلون دراستهم في غرف صفية نظيفة، ويتمتعون بالدفء، دون أن يتسلل البرد إلى عظامهم، ويحظون برعاية أسرهم ومجتمعاتهم، فهي لم  تدرك، حتى الآن ماذا يعني أنها تركت المدرسة في سن صغيرة وهي التي ولدت قبل عام واحد من عمر أزمتنا السورية. تحدثنا معها، وكانت أجوبتها بسيطة وعفوية، فتكلمت عن القصف المتواصل الذي طال مناطقها، وأن صوت الطائرة، بات جزءاً أصيلاً  ضمن مخيلتها، لا يحمل معه غير صفة الدمار والتشرد. وتسرد فاطمة ذكرياتها بحرقة وألم طفولي، وكيف نزحت مع أسرتها لأكثر من مكان، حتى استقرت  في أحد مخيمات أريحا شمال سوريا، وتؤكد بكلماتها المتناثرة بأن توقفها عن الدراسة في الصف الثالث الابتدائي (كما أخوتها الثلاثة الآخرين) لم يكن بإرادتها، بل بسبب الظروف القاسية التي أحاطت بها، فاضطرت مع أخوتها بأن تلتحق بسوق العمل في سن مبكرة، لتساعد  والدها. فعملت عند أصحاب الأراضي الزراعية في المنطقة التي تقطن بها، ورغم ابتعادها عن جو الدراسة، ما يزال لدى فاطمة حلم بامتلاك حقيبة مدرسية ودفتر وألوان، لكي تواصل دراستها كأقرانها ممن هم بعمرها. لكن يبدو أن الكارثة التي ألمت بسوريا، صنعت أطفالاً مشردين مسلوبي الحقوق والإرادة ، يعانون مرارة الحرمان والقهر.

إن الأرقام التي ترشح عن منظمات دولية وإقليمية ومحلية، لظاهرة الطلاب المتسربين من المدارس أو التلاميذ غير الملتحقين بالمدرسة أساساً، تدعو للقلق، وتعطي صورة قاتمة لمستقبل هذه الشريحة الهامة ضمن المجتمع السوري. ووفق إحصائية صدرت عن منظمة اليونسف لعام 2019 تخص الجانب التعليمي للأطفال من هم في سن التعليم، فقد قدرت المنظمة الدولية  عدد الأطفال غير الملتحقين بالمدرسة بأكثر من 2.4 مليون طفل، منهم 40 في المائة تقريباً من الفتيات، وهذه الأرقام لم تبق على حالها، بل ارتفعت، نتيجة تأثير جائحة كوفيد-19 التي أدت إلى تفاقم تعطّل التعليم في سوريا، بينما تغيب عن الأطفال القادرين على الالتحاق بالمدارس، المرافق الرئيسية، كانعدام شبكات الصرف الصحي والكهرباء والتدفئة والتهوية. كما لا يقتصر التعليم على المدارس المنشأة، بل ظاهرة التعليم في الخيام باتت منتشرة بكثرة في مناطق المخيمات بعد الدمار الهائل الذي لحق بالمنشآت المدرسية، نتيجة الحرب السورية الدائرة منذ أكثر من عشرة أعوام.

وفي تحقيقنا الاستقصائي ستتمحور عينة البحث على منطقة الشمال الغربي السوري (إدلب وريفها) وتسليط الضوء على واقع ظاهرة الطلاب المتسربين من المدارس في هذه المناطق، بعيداً عن المناطق التي يسيطر عليها النظام السوري التابعة إداريا لمحافظة إدلب، حيث تعيش منطقة الشمال الغربي السوري ظروفاً صعبة من حيث غياب الناحية الأمنية والوضع المعيشي الصعب، الذي يعتبر  ضاغطاً على الكثير من الأسر التي عمدت على الامتناع عن إرسال أبنائها إلى المدارس وتشغيلهم في العديد من المهن وأبرزها العمل في الأرض، ما أدى إلى تعميق ظاهرة العمالة المبكرة للأطفال. وأيضاً لا ننسى أن مشكلة الزواج المبكر للفتيات من الأسباب الرئيسية للتسرب المدرسي، إلا أن جوهر المشكلة في هذه الظاهرة يبقى في الوضع الأمني والعمليات العسكرية الواقعة ضمن هذا القطاع الجغرافي، واستمرار القصف من قبل النظام السوري والقوات الروسية، ما أدى إلى تخوّف الكثير من الأهالي وامتناعهم عن إرسال أبنائهم للمدارس، علاوة على الظروف المناخية السيئة في فصل الشتاء والتي فرضت أيضاً إيقاعها على مشكلة التسرب.

النطاق الجغرافي للتحقيق

تعمل مديرية تربية إدلب (غير الخاضعة لسيطرة النظام السوري) على مساحة جغرافية تتضمن مركز المحافظة وريفها إضافة إلى بعض المناطق في ريف حلب الشمالي ويوجد عدة تجمعات ونقاط تعليمية حيث المناطق التي تغطيها تعليميا المديرية هي مجمّعات: حارم، جسر الشغور، الدانه، المخيمات بأكملها، أريحا، إدلب، ومجمع معرة مصرين. وتكمن أهمية معالجة قضية التسرب المدرسي للتلاميذ السوريين وخاصة في (إدلب وريفها) في أنها تسلط الضوء على ظاهرة اجتماعية خطيرة، ناتجة عن فقدان التعليم لشريحة اجتماعية هامة داخل المجتمع السوري وهي واحدة من أخطر الكوارث، لأن انهيار التعليم وغياب الحلول الاستراتيجية للقطاع التعليمي، لتدارك هذه الكارثة التي تشمل ثلث السوريين المؤهلين للدراسة، سيضع مصير جيل كامل في المجهول.

تساؤلات مشروعة

إن أي معالجة لظاهرة داخل المجتمع، لا بد أن يسبقها مجموعة من التساؤلات قبل الخوض في تفاصيلها وتشعباتها من أجل تقديم إجابات معمقة لفهم المشكلة المطروحة:

  • ما الأسباب الرئيسية وراء ظاهرة تسرب تلاميذ المدارس؟
  • هل الظاهرة تقتصر على مناطق إدلب وريفها الخارجة عن سيطرة النظام السوري، أم تمتد على كامل الجغرافية السورية؟
  • ما الآثار التي يمكن أن يتركها غياب التعليم عن شريحة كبيرة من أطفال سوريا؟
  • أين دور المنظمات الدولية والمحلية في توفير الدعم لشريحة هامة من المجتمع السوري؟
  • هل توجد استراتيجية تعليمية شاملة، لإعادة تأهيل الطلاب الذين فاتهم قطار التعليم، سواء التعليم التقليدي أو التعليم المهني الفني ؟
  • متى يتحرك المجتمع الدولي، ويعي حجم الكارثة التي يعيشها أطفال سوريا في ظل مستقبل غير واضح المعالم؟

أرقام مُحبطة

قبل عام وفي شهرشباط\فبراير من العام 2020 أقرت المديرة التنفيذية لليونيسف هنريتا فور أمام مجلس الأمن في حديثها عن وضع الأطفال في سوريا أن الحرب السورية سلبت فرصة التعليم بوحشية بالنسبة لـ 280 ألف طفل في الشمال الغربي السوري، وهناك حوالي 180 مدرسة لا تصلح للعمل نتيجة تدميرها أو تعرضها للضرر أو استخدامها كملاجئ. بالمقابل فإن الأرقام المحبطة التي أرسلها لنا فريق (منسقو استجابة سوريا) عن الواقع التعليمي في المناطق التي تشمل محافظة إدلب وريفها، وهي حديثة وصادرة خلال العام الجاري 2021 توضح حجم كارثة قطاع التعليم في هذه المناطق، حيث تتضمن الإحصائيات بحسب فريق منسقي استجابة سوريا مجموعة من النقاط حول عدد التلاميذ والمدارس والكادر التعليمي كما تبين الوثيقة أدناه.

وثيقة من “منسقو استجابة سوريا” توضح وضع التعليم في محافظة إدلب وريفها

ويقول الدكتور المهندس محمد حلاج مدير (منسقو استجابة سوريا) : “إن التعليم في ادلب بشكل عام يعاني من مشاكل كثيرة، حيث لا يوجد استقرار بشكل كامل فيما يتعلق بالتلاميذ ولدينا نقص كبير بوجود الكوادر التعليمية، علاوة على الدمار الكبير للمدارس حيث الكثير منها متضرر جزئياً، وهذا كان له أثر سلبي على ارتياد التلاميذ  للمدارس. وبالنسبة للمخيمات فإن الوضع التعليمي أشد سوءاً ويكون مرتبطاً بالكوارث الطبيعية التي تحدث بالمخيمات نتيجة انقطاع الطرقات أثناء الأمطار. كما أن المخيمات لا يوجد فيها مدارس كافية، مما يساهم في كثافة أعداد الطلبة ضمن الغرفة الصفية الواحدة.”

216 ألف تلميذ متسرب

الأرقام التي حصلنا عليها من مديرية التربية في محافظة إدلب -التابعة للحكومة السورية المؤقتة- لعدد التلاميذ المتسربين في المناطق الجغرافية التي تغطيها التربية قد تكون مختلفة قليلاً مقارنة مع الأرقام السابقة التي تم استعراضها من قبل منسقو استجابة سوريا”، ويمكن تبرير ذلك أنه لا يوجد مركز إحصائي متخصص في سبر الأرقام الحقيقية، كما أن المعطيات المتغيرة على الأرض في تلك المناطق وعدم الاستقرار نتيجة الظروف الأمنية المضطربة، لا تساعد في الوصول إلى رقم دقيق.

وفي حديث مع الأستاذ محمود الباشا رئيس دائرة التعليم الأساسي في مديرية التربية بإدلب أوضح أن عدد الأطفال المتسربين في المنطقة التي تشرف عليها مديرية التربية في إدلب حسب إحصائية العام الحالي 2021 يبلغ حوالي 216 ألف طفل متسرب. طبعاً هؤلاء الأطفال مسجلون في المدارس لكنهم انقطعوا عن الدوام، بينما الأطفال غير المسجلين في النفوس أو المدارس، فأعدادهم قد يتجاوز الأعداد المعلن عنها بالأساس. بينما الصعوبات التي تواجه الطلاب في هذه المنطقة هو النقص في عدد المدارس والتجهيزات، مما يسبب ضغطاً كبيراً  على المدارس في منطقة المخيمات والدانة، ويوجد في الفصل الدراسي الواحد أكثر من 50 طالباً.

 ويرجع الباشا أسباب التسرب لمجموعة من الأسباب أبرزها أن أهالي الأطفال يقومون بتشغيل أبنائهم بورشات للعمل من أجل مساعدتهم، كما أن الأطفال الذي يعيشون ضمن الخيم المتفرقة وهي بعيدة عن التجمعات ولا يمكن الوصول إليهم بسبب وعورة المنطقة، ولا تساعدهم على إيصال التعليم لهم، فمن المستحيل تفريغ معلم لتدريس طفل أو طفلين في هذه الخيم، فمديرية التربية تعمل على كل تجمع يوجد فيه حوالي 60 تلميذاً، ويوضع له خيمة تعليمية حيث تكفل منظمة إغاثية هذه الخيمة، الذي يدرس فيها مدرس اسمه معلم قائد أو جوال وممكن أن توفر المديرية مدرسة من الخيام إذا كان عدد التلاميذ يفوق 100 تلميذ وتكفلها منظمة تطوعية.  والمنهاج الذي تدرسه مديرية التربية الحرة يتوافق مع منهاج السوريين، مع اختلاف طفيف في بعض المواد المتعلقة بالتربية القومية، وتتكفل طباعة الكتب مؤسسة  قطر الخيرية.

المزيد من القصص الإنسانية المؤلمة

قصة عائلة عليوي من  معرة مصرين تشبه الكثير من قصص حرمان الأطفال من التعليم،   فهذه العائلة التي لديها ثمانية أطفال خارج المدرسة، وبأعمار تبدأ من خمسة أعوام إلى خمسة عشر عاماً، تخبرنا عنهم أم عبادة عليوي التي تقطن مع أبيها ووالدتها في إحدى المدارس في ظل الظروف الأمنية الصعبة التي تعيشها العائلة أسوة بالكثير من العائلات في المنطقة، الأمر الذي ساهم في عدم ارتياد أولاد أخيها الخمسة  للمدرسة، والانتقال للعمل مع والدهم، كما أن  أختها التي لديها ثلاثة أولاد ليسوا أحسن حالاً من أولاد أخيها، فجميعهم  لم يتم تسجيلهم بالمدرسة، ويعيشون على  المساعدات التي تأتيهم من المنظمات الدولية أو ما يتبرع به أصحاب الخير.

بينما أبو إبراهيم بكري من منطقة جسر الشغور لديه ولدان خارج المدرسة، فيبرر عدم ارتياد أولاده للمدرسة بمجموعة أسباب وأولها الوضع المعاشي الصعب، مما يضطره لأخذهم للعمل في الحقل، كما أن المسافة ما بين منزله والمدرسة تتجاوز 600 متر، وفي فصل الشتاء يكون قطع هذه المسافة صعباً، وكثيراً ما يعلق الدوام في مـدارس المخيمات، فهذه الأسباب يعتبرها غير مشجعة لإرسال أبنائه إلى المدرسة.

هجرة المدرسين

إن هذه الحالات التي تم استعراضها ليست سوى غيض من فيض، فنسبة  التسرب المدرسي، في الشمال السوري عالية جداً، ويقول المدرس السابق محمد الحسين الذي ترك مهنة التدريس منذ أكثر من عام وكان يدرس ضمن مديرية التربية والتعليم في إدلب: “إن نسبة تسرب الطلاب في محافظة إدلب وريفها والمناطق المجاورة تتجاوز 35%، أي ما يزيد عن 240  ألف طالب خارج العملية التعليمية، علماً أن عدد طلاب محافظة إدلب بلغ العام الماضي بحدود 414 ألف طالب من المرحلة الابتدائية إلى الثانوية.” أما عن أسباب التسرب فيرجعها الحسين إلى أسباب عديدة وأبرزها الأوضاع الأمنية غير المستقرة، وخاصة عمليات القصف والتدمير التي طالت المدارس والمنشآت التعليمية المختلفة في المناطق الشمالية. كما أن المدارس المدمرة رافقها عدم استقرار في العملية التعليمية وخوف الأهالي من إرسال أبنائهم إلى المدارس إضافة إلى قلة الكوادر التعليمية المؤهلة بسبب الهجرة والتشرد وعدم وجود الدعم المادي لهم وهذا عامل رئيسي. كما أن الكثير من المدرسين فصلوا من عملهم، وظلوا بدون رواتب لعدم دعمهم من المنظمات التعليمية، حيث اضطروا للذهاب إلى أعمال حرة من أجل تأمين لقمة العيش لأسرهم.

تهديد استقرار المنطقة

وفي هذه النقطة  يؤكد الدكتور فايز نايف القنطار أستاذ سابق في جامعة دمشق في كلية التربية  أن أول ضحايا هذه الحرب الإجرامية المستمرة هم الأطفال. ويتساءل القنطار كيف يمكن أن يعيش في القرن 21 هذا الجيل الذي حرم من التعليم وهو أبسط حقوق الطفل وهذا الخطر لا يشمل سوريا فقط بل يهدد أمن واستقرار المنطقة. ويحذر أن هؤلاء الأطفال المتسربين يمكن أن يصبحوا مرتعاً خصباً للتطرف والاستقطاب من قبل المنظمات الإرهابية؛ فالطفل الذي يترك المدرسة سيكون عرضة للاستغلال، وعرضة للعمل المبكر وعرضة لكل أشكال الإذلال والاهانة وسيكون الطفل مضّطرباً وغير متوازن ويعيش مهمشاً.

غرف صفية بدون أسقف

بينت نتائج تقرير أعدته وحدة إدارة المعلومات IMU (في وحدة تنسيق الدعم ACU) خلال عام 2019  لتقييم التعليم المشترك الخاص بالأطفال خارج المدرسة JENA في شمال غرب سوريا في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام السوري أن 66% (1.130.299 طفلاً) من الأطفال في شمال غرب سوريا ملتحقون بالمدارس؛ فيما كان 34% (582.239 طفلاً) منهم خارج المدرسة (متسربون من المدارس). كما رصد التقرير ظروف المخيمات الصعبة حيث تنقطع الطرقات في فصل الشـتاء في فتـرات هطـول الأمطار ممـا يجعـل وصول الطلاب إلى المدارس صعبـاً. وتشـير المعلومات أن ضمن مـدارس مخيمات الشـمال السـوري غـرف اسـمنتية مسـقوفة بلـوح توتيـاء (صفائح معدنيـة)؛ كما تواجدت مدارس مكونة من غرف اسـمنتية بدون أسـقف ويتم تغطيتهـا بعوازل مطريـة فقط؛ إذاً من خلال ما تقدم في معطيات التقرير، نجد أن البنية التحتية للمدارس في مناطق الشمال الغربي السوري لا تحقق المعايير الحقيقية في توفير بيئة تعليمية مناسبة للدراسة.

جيل في مهب المجهول

وبما أن البيئة التعليمية غير متوفرة في تلك المناطق، فإن للتسرب المدرسي آثاراً سلبية نفسية واجتماعية واقتصادية خطيرة على المجتمع. وتفشي هذه الظاهرة في سوريا، يثير قلق منظمات المجتمع الدولي، لما سوف تتركه من آثار كارثية ليس على المتسرب فقط بل على المجتمع ككل. فالتسرب يزيد من معدل البطالة وانتشار الجهل والفقر وغير ذلك من المشكلات الاجتماعية والاقتصادية، لذلك يرى الدكتور طلال عبد المعطي المصطفى أستاذ علم الاجتماع في جامعة دمشق سابقاً والباحث في مركز حرمون للدراسات المعاصرة خلال حديثنا معه بأن كارثة التعليم هي واحدة من أخطر الكوارث التي ضربت المجتمع السوري، فانهيار التعليم الكمي والنوعي، وانخفاض عدد الكادر التدريسي المؤهل، وانعدام حوافز العملية التعليمية وضبابية أهدافها، بالإضافة إلى فقدان التمدرس الذي يشمل ثلث السوريين المؤهلين للدراسة حاليا، سيضع مصير جيل كامل في مهب المجهول، ويضع مصير وطن ممزق أمام المزيد من الأزمات والانقسامات المقبلة.

 ويصف المصطفى كارثة التعليم بالكارثة المزدوجة بمساريها الفردي والمجتمعي، وهي من الكوارث التي تترك آثاراً مديدة وتمتد إلى أجيال لاحقة لما يترتب عنها من تبعات اقتصادية واجتماعية ونفسية على المديين القصير والمتوسط، وربما على المدى الطويل أيضاً، لذلك  فردم الفجوة الحاصلة في التعليم هي من أولى المهمات لإعادة البناء البشري والمادي، وهي الاستثمار الحقيقي الأمثل القادر على ردم الفجوات الاقتصادية والاجتماعية، وخلق قاعدة صلبة يمكنها المساهمة الفعالة في عملية التعافي وإعادة البناء، وقهر العجز للوصول إلى حالة التنمية المستدامة.

تحديات

نحن أمام قضية خطيرة، قضية الأطفال المتسربين وجيل تم تجهيله بأكمله، وعلى ما يبدو أن هذا الأمر مقصود ومسيس بعد مرور10  أعوام على الأزمة السورية، فالأطفال الذين عاشوا الحرب بتفاصيلها وتركوا التعليم سيكونون لاحقاً عرضة للانحراف في ظل الفوضى الموجودة والسلاح المنفلت. ومن المؤكد أن الآثار التي ستنتج عن شريحة الأطفال غير المتعلمين ستكون كارثية وخطيرة وسيشكلون عالة على المجتمع في حالة عدم حصولهم على إعادة التأهيل والتدريب لهذه الفئة المتسربة من المدارس في مرحلة معينة وبالتحديد في مرحلة استمرار الحرب وتعطيل الحل السياسي، لذلك هذه الشريحة المغيبة إذا استمر الوضع على حاله سيرسخ لديها الميل إلى العدوانية والعنف الزائد، في ظل فقدان كامل للرعاية الأسرية اللازمة في هذا السن المبكر، أضف إلى غياب دور المنظمات الدولية، وعدم  تخصيص شبكة ضمان اجتماعي خاصة بالأسر للحد من استغلال أطفالهم لغرض الأعمال التي لا تتناسب مع أعمارهم وشخصيتهم. أما في حال حصول الحل السياسي وبالتالي السلام، فمن المفترض أن يكون هناك إعادة بناء في سورية على كافة الصعد ومنها الصعيد التعليمي والتأهيلي، وبهذه الحالة وبحكم العمر المتقدم لهؤلاء المتسربين من الضروري أن يخضعوا لدورات تعليمية مكثفة للكبار وتأهيل مهني حتى لا يكونوا ضمن الفئة المهمشة في المجتمع.