!قومية زائدة… هوية ناقصة

!قومية زائدة… هوية ناقصة

امـتاز الـمجتمـع السّـوري علـى امــتداد الـقرون الطّـويلة المــــــاضية بأنّـــه جمع في تركـيبته، بين عدد غير قليل من الأقليّات القومية، التي أقامت و تفاعلت مع هذا المجتمع، و حصلت على كل مكتسبات المواطن السوري، و احتفظت أيضاً إلى حدّ بعيد  بمعـظم مُميّــزات شخصيّـتها الـثّـقافيّة، رغــــم محاولات الظّهور بمظهر الثّـقافات المنصهرة و المتفاعلة بشكل كامل و منسجم مع الهويّة العربيّة الغالبة والمسيطرة على المنطقة ككلّ، و التي نحن بصدد الحديث عنها بشكل عام كونها عـاملاً مكوّناً حاضراً وأساسياً في تشكيل الهويّة السّوريّة، مـوضوع حديثنا الـيوم عـلى وجـه الخصوص .

في بداية الأمر، لا بد لنا من المرور بشـكل أوليٍّ وسريع على بعض الاصطلاحات الـمفتاحيّة، والتي سنأتي على ذكرها تكرارا فيما بعـد استذكاراً لها وصيانةً، عن أيّ لـغط أو لَـبس في المعنى قد يذهب بـنا إلى مـفهوم خاطئ، لما في ذلك من أهمّــية قُصوى في تبـيـين الهدف المراد من العبارة.

ولا أظــنّ أنّـنا نخـتلف على أنّ اصطلاح الهويّـة المُـميزة لأُمّــة دون غيرها، ينطوي على عدّة عوامل ومكوّنات مُؤسِّسة لها: كالنّسب، والدّم، والجغرافيا، واللغة، والعرق، والثّـقافة. والــمُراد بالثَّـقـافــة هنا، معنى مُغاير تماماً لما درج عليه استعـمالها. حيث أن الغالـبـيــة يُـطـلقونها اصطــلاحاً للدّلالة عـلى مــستوىً تعلــيميٍّ عالٍ، أو بحثي علميّ. بينمـا نشير إليها بصفتها مجموعة من الأعراف والـتّــقالـيـد، والأنماط السّلوكيّة، والدّلالات اللغويّة، والخبرات التراكميّة المتوارثة لمجموعة بعينها من الــتّجمعات الــبشريّة، تُــفضي إلى رسم مـلامح شخصيّة هذه الجماعة، المُميزة لها. ولا نُغفل هنا، تداخل وتقاطـع مفهوم الثقافة مع مفاهيم أخرى، كالانتماء والمواطنة الذين يمكن أن يكونا أصـيلين في الفرد أو في الأقـليّة، أو يمكن أن يكونا مُـكتسبَــين بحكم إقــامة واستقـرار الـفرد أو الأقـليّة بين الجمــاعة الأصليّـــــة، لتُـشكِّل هـذه الإصطحلات جــميعها – إضـافة إلى ما ذكرناه سابقا – مفهوم الهويّة. مع ملاحظة نقاط التّـقاطع ونقاط الافتراق فيما بينها.

وأعتقد أنّنا لا نفشي سرَّاً، إذا أشرنا إلى أزمة هوية حقيقيّـة تُــعاني منها منظومة الدّول العربيّة. فـبينما لم تنقطع أبداً الأصـوات التي تـتـغـنّى بـفرعونيّة مصر، وأمـازيغيّة بلاد المغرب، وفيـنيقيّة بلاد الشّام، نجد أن دول هذه المنظومة تقبع تحت مفهوم مسيطر يُــزاوج بين الدّين واللغة، كمكونين وحيدين للهويّة، منذ قرون طويلة.

قال د. نصر حامد أبو زيد في كتابه (النص. السلطة. الحقيقة):

لقد تحول التّراث – الذي تم اختزاله في الإسلام – إلى هويّة.

وهذا هو تماماً، مـا أود الـولوج منه إلى موضوعنا، لأعود فأنتهي إليه كـسبب هـامٍّ وأساسيّ في ضبابيّـة هويّة وانتماء شعــوب هذه المنطقة.

دعونا نتّفق أولاً، أنّه لو استقام لنا اعتماد الدّين كعامل وحيد لتحديد هويّـة شعــب ما، لـوجب عـلينا تقسيم العالم إلى عدد من الدول لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة، بحسب الدّيانات الكبرى في العالم. ولـتوجّب عـلينا رفــع القبّـعة للكيان الصهيــونيّ، لأنّه كان سبّاقــــا في عنصريّته بسعيه لإقامة دولته على أساسٍ ديني!

ولو اخترنا عامل اللغة دون غيره، وجدنا أنفسنا محكومين باعتبار الدّول النّاطقة بالفرنسية في افريقيا: فرنسيّة، والـنّاطقة بالإنكليزيّة في آسيا: بريطانيّة. ولكانت الولايات المتّحدة الأمريكية مستعمرة بريطانيّة بامتياز، لاجتماع العاملين السابقين!

الإشكاليّة إذا، تكمن في ترتيب أولويّات الهويّة، وتراتب الانتماءات في الـوعي الــجمعيّ لـــدى عامّـة شعوب هذه المنطقة من العالم وخاصتها.  

فقد كـرّس الخطـاب الـدينيّ المُــتواتر لــدى هذه الـــمجتمعات رؤية مُـشوشّة غـلّبت العامل الدينيّ على كل العوامل الأخرى التي تساهم في تشكيل هويّتهم، وجعلها تفاصيل ثانويّة، تضمر أو تبرز بحسب حاجة العامل الرئيس وضروراته.

وهكذا أنتجت هذه الثّقافة صورة ناقصة عن الإنتماء، تجعل المسلم السُّنيّ أينما حلّ في العالم أقرب إلى أصحاب مذهبه، من مواطنيهم التاريخيّـين من غير المسلمين، أو حـتى المسلمين الـذين يـخالفونهم في المذهب. ولا أتكلم هـنا عن السُّـنة دون غيرهم، فقد فعلت كـل الفرق الإسلاميّة الكبرى ذلك أيضا. وصار من الطبيعيّ أن نـرى أفواج الشّـباب المسلم مُهاجراً للـجهاد والـموت على أرض غريبة لاهيَ تـعـرفـه، ولا نضاله على أراضيها سيعود بالخير عــلى وطنه ومواطنيه!

وليس ما سُّـمي بالـ (الأفغان العرب) إلا نتاجاً طبيعيّاً لـمثل هذا النمط من الفكر الدينيّ، رغم أن انتماءات هؤلاء المحليّة تعود إلى مجتمعات أحوج ما تكون إلى أبسط قواعد الديموقـراطية وحقوق الإنســان، وبالـتّالي فـإنّ دولـهم أَوْلـى بـنضالهم لـتحقيق الــعدالة الاجتماعيّة المَرجوّة.

وفي المُقام الثّـاني مباشرة، تمّ الـتّركيز على عامل اللغة، بصفتها الدّينيّة الـرّفيعة كلغةٍ للـقرآن الكــريم، والـتي تـكلّم بـها الــــسّلف الصّالح.  قد اكـتست هـذه اللـغة بثـوبٍ مـن الـقداسة والـتـنــزيه

حتى في عـلومها الـوضعيّـة، نظراً لعودة واضعيها للقياس عـلى الـقرآن الكريم باعـتباره المرجع الأول مـن مراجعها، كـما وأنها لغة أهل الجنّة في النّهاية. ولـسنا هنـا بصدد مـناقشة أحقّـيّـة هذه

اللغة وآدابها وجمالياتها، لكننا نتسـاءل عـن كـفايتها مـع عــامل الـدين في الـجّمع بين كلّ هـذه الشّعوب في أمّــة واحدة؟ وعلى الرّغم من أنّ بعض الـقبائل الـعربية قـد وصلت قـبل الإسلام إلى الجزيرة السّورية واستوطنتها، إلا أنّـنا نـجزم أن سـكّان المنطقة الأصليّين كانت لـديهم لغتهم الخاصة، ودَوّنوا تاريخهم وآدابهم بلغتهم، أو لغاتهم التي كانوا ينطقون بها.

وكان من الطّـبيعيّ بعــد ذلك كلّـه، انـتـقال المواطنة والانتمـاء إلى صفوف متأخرة فـي وعـي هـذه الــفئة الـتي تُـشكّل الشّـريحة العُـظمى من مــواطني هــذه الدول. واستـقرتا مـع غـيرهما من عوامل تأسيس الهوية – الدم والنسب والتاريخ – خلف العامِلَيْن الرئيسين في ثقافة عموم هذه الشعوب.

وفي سـوريا عـلى وجه الخصوص، تـبلورت كل أوجـه هــــذه الإشكاليّة الــوطنيّة وعلى كافة مستوياتها، في ظـلِّ واحـدة من أطـول الـحروب الـبشعة التي شهدتها الإنسانية على الإطلاق. فـظهرت واضحـة للعيان، هشاشة فـكرة القومية العربية عندما ارتفعت الأصوات مطالبة بالإنسلاخ عن المجموعة العربية، والاستعاضة عنها بتحالفات إقليمية بعد تعليق عضوية سوريا في جامعة الدول العربية، وثبوت ضلـوع بعض الأنـظمة الـعربية مباشرة فيما يدور على الأرض السورية. وفي الجانب الآخر برزت النزعات التقسيمية إما على أساس ديني سلفي، يتمثل في اقتطاع مساحات من الجغرافيا السورية لإقامة دولة على أسـاس ديني، أو على أساس إقليمي قومي، كـما فـعلت بـعض الـــفئات الانفصالية الكــردية. أو بتوظيف مـباشر مــن قـــوى دولـــية وإقليمية، إنما تسعى لتحقيق مكاسب ومصالح استراتيجية لها في المنطقة. وما كان كل ذلك ليحدث، لو لم يسبقه كل هذا الإبهام والالتباس في مسألة الهوية والمواطنة والانتماء. جذر المشكلة إذا موجود وكامن لدى السوريين، وكل ما فعلته هذه الحرب أنها حرضته ودفعته إلى السطح بوضوح.

وما من دليل يشهد بصحة ما أسلفنا، أوضح من اتخاذ المساجد كنقطة لانطلاق هذه الأزمة منذ سنين خلت. مما ألبسها ثوباً دينياً، جهادياً، وصبغها بصبغة طائفية ضمن الدين الواحد، وجعلها بفضل الإعلام الداعم لها، تبدو وكأنها اقتتال بين أقلية حاكمة ظالمة، وأكثرية محكومة مظلومة! مما استقدم أصحاب هذا الفكر من كل أصقاع الأرض للدفاع عن حقوق إخوتهم في الدين (مواطنيهم الدينيين).

وخبت بسرعة، كل الأصوات التي كانت تمتلك خطاباً مدنياً علمانياً، التي كانت تغرد خارج سرب السلطة، وتراجعت لصالح الخطابات الدينية الأقوى والأغنى.

وإذا كنا لا نناقش هنا مسائل دينية أو سياسية، إلا أننا نتوخى الوضوح في تداخل هذا الفكر مع الهوية وغلبته عليها.

سوف تنتهي هذه الحرب الدائرة على الأراضي السورية بالمعنى العسكري، طال أمدها أو قصر، ولكن هل سيتمكن السوريون فيما بعد، أن يتخلصوا من آثارها على المستوى الاجتماعي والنفسي؟ هذا مرهون بسعيهم نحو إعادة ترتيب أوراقهم بشكل منطقي، لتتبلور في أذهانهم مفاهيم المواطنة والانتماء والهوية بصورة أوضح.

Syria in a Week (16 April 2018)

Syria in a Week (16 April 2018)

The following is a selection by our editors of significant weekly developments in Syria. Depending on events, each issue will include anywhere from four to eight briefs. This series is produced in both Arabic and English in partnership between Salon Syria and Jadaliyya. Suggestions and blurbs may be sent to info@salonsyria.com.

 

“Soft” Strike and “Fatal” Division

9-15 April 2018

This week witnessed the eruption of a new international conflict and the formation of a US-British-French tripartite coalition to “punish” Damascus.

After the claimed “chemical” attack on Douma in eastern Ghouta last week, the United States stepped up its threats to carry out a military strike against the Syrian government as “punishment for crossing the red line,” which was set by former President Barak Obama in 2012.

France and Britain supported President Donald Trump’s approach and expressed their desire to participate in the military action. After a failed session in the UN Security Council on Tuesday, which ended in a Russian veto against a US draft resolution calling for the establishment of an investigation mechanism regarding the use of chemical weapons in Syria, President Trump said on his Twitter account that Russia should get ready for US missiles that will hit Syria.

After that, he retracted his statement through another tweet saying that he did not set a time, and that it could be very soon or not so soon. This was echoed by Russian responses, which included the demand that Trump direct his “missiles towards terrorists instead of directing them towards the Syrian government.”

This strain showed the extent of tensions in the international arena, raised the stakes for a major deterioration among the super powers, and was reflected in currency and commodity markets and global stocks.

In the face of this escalation, Damascus agreed to receive an investigation committee from the Organization for the Prohibition of Chemical Weapons, which arrived on Saturday and is set to visit the site of the attack. (Reuters)

Before the arrival of international inspectors to Douma and before the British Parliament convenes on Monday (due to Prime Minister Theresa May’s concern that she would not get support, just like what happened with her predecessor David Cameron in 2013), the three countries carried out one hundred and five strikes on Saturday that targeted the Scientific Research Center in Barzeh, Damascus, the Scientific Research Center in Hama, and a military depot in Homs.

There were contradicting statements regarding whether the missiles achieved their objectives, as the Russian Defense Ministry said that seventy-one out of one hundred and three missiles were intercepted, while the Pentagon said that no missiles were brought down and that they successfully achieved their objectives. (Reuters)

The strike was not meant to stop the war or “change the regime” instead they were meant to target the Syrian government’s ability to use chemical weapons; it was a limited strike that has achieved its objective, according to several spokesmen from the tripartite coalition. The strike received support from NATO, Canada, Israel, Turkey, Saudi Arabia, and Qatar, and was opposed by Russia, China, Iran, Iraq, Lebanon, and Egypt, illustrating the continuous international and regional contradictions regarding the Syrian issue.

However, the limited scope of the strike and the Syrian government’s readiness for it, which was manifested by the evacuation of the targeted sites, in addition to not targeting any sites of the Syrian government’s allies, rendered the previous threats of a severe strike against the Syrian government meaningless. Some observers considered that the Syrian government was able to overcome the strike with minimal losses and would not change its policies, and that it will strengthen its alliance with Russia and Iran.

Amid all these thorny and contradictory issues, which indicate that the strike was a step in the deteriorating course of the Syrian war, and with the continuation of violence and no international will to stop the violence or find an exit, this strike once again showed the gravity of war for the Syrians. This war is getting increasingly complicated as time passes by, and the fragmentation within the Syrian people was manifested by those who celebrated repelling the aggression and others who celebrated launching the attack. This is one aspect of fragmentation that will be hard to cure.

Just like in Ghouta and Afrin, Syrians have shown a fatal rupture that threatens their identity and social fabric. The contradiction lies in the fact that Syrians have long suffered from the US role that has supported Israel for decades and destroyed Iraq by invading it and crushing its structure. Many people see Trump as a far cry from the demands of freedom and justice that the peoples of the region aspire to. On the other hand, the Syrian government has launched an internal law, violating all that is forbidden internationally and popularly, refusing change by force. Profanation of life has become a friend of Syrians. The more foreign support the Syrian government gets from Russia and Iran, the more intransigent it gets.

Are choices confined to local tyranny or international tyranny?

 

Douma in the Hands of the Government

14 April 2018

The pace of the agreement between Jaish al-Islam and Russian forces accelerated after the claimed chemical attack, which was accompanied by military escalation by the Syrian government and Russian forces last week. Jaish al-Islam agreed to leave for Aleppo countryside and hand over Douma to Russian military police. On Saturday, the Syrian army command announced the restoration of Douma and the entry of Syrian police into the city. Thus, eastern Ghouta is now under the control of the Syrian government and the only enclave remaining outside its control is Yarmouk Camp and al-Hajar al-Aswad, which are partially controlled by ISIS.

The next station is expected to be in southern Damascus and then in Homs countryside, leaving the future of Idlib, Daraa’ countryside, and east of the Euphrates subject to Russian understandings with regional and international powers.

الهوية السورية على المحك

الهوية السورية على المحك

في ظل الأوضاع السياسية الراهنة وما أنتجته ومازالت تنتجه الحرب السورية القائمة منذ سبع سنوات، ظهر وبشكل جلي الانقسام الكائن ضمن المجتمع السوري والذي بقي خفيا لسنين عدة ما قبل الثورة السورية حتى اتضح للعيان وبشكل ظاهر ما بعدها. للأسف فإن المجتمع السوري أو ما يسمى بالفسيفساء السورية المتجانسة (شكليا) كانت قد بدأت تتآكل وتتباعد لتنتج جيلا منقسما، تائها ومتناثرا ما بين قوميات وطوائف وأديان عدة غير قادرة على التقارب أو الالتقاء بأي شكل من الأشكال ضمن أي إطار واضح التشكيل منذ أربعين عاما وحتى الآن. وبهذا، فإن شكل أو هوية الإنسان السوري كانت وماتزال في خطر الضياع والتناثر قبل وبعد الحرب ولكن وبشكل خاص فإن الأمر قد اشتد ما بعد موجات اللجوء التي قصدت العالم الغربي منذ عامين فأكثر. فهل للإنسان السوري حقا هوية أو مسمى؟ أم أننا تائهون منذ زمن بعيد!                                                

 يرى السوري نفسه الآن بلا وطن ولا تشكيل، ما بين من فقد بلاده وبين من فقد أسرته ومن كان قد فقد الإثنين معا، ليغدو تائها غير مستوعب لما يحدث. كما أن الغالبية العظمى من الشعب كانت قد بدأت بالبحث عن وطن بديل منذ بداية اندلاع الأزمة حتى الآن غير مدركة لعواقب هذا الاتجاه الكارثية وغير عارفة بالخلل الحقيقي الذي أصاب الإنسان السوري بالمجمل. يرى السوريون أنفسهم في الوقت الحالي كشعب منفصل وأناني غير قادر على التواصل أو التوصل لأي تفاهم حقيقي ضمن طوائفه ومذاهبه وأعراقه المتعددة.

كما يعرف السوريون أنفسهم كشعب بائس قد تآمر عليه العالم وقد رقص على جثته حيا ليغدو شعبا خارج نطاق الحياة الطبيعية المستمرة من حوله. فعلى المستوى السياسي لا يوجد من يتحدث باسم هذا الشعب كما أنه وعلى المستوى الاجتماعي لا يوجد من هو قادر على تسوية الخلافات أو من هو قادر على الوصول إلى الحلول الوسطى ما بين طرفي نقيض من معارضة سياسية إسلامية إلى نظام حكم عسكري قمعي بحت. فإذا كان الطرفان المتنازعان واللذان من المفترض أن يمثلا الشعب السوري بهذا الإهمال، فهل يلام الإنسان السوري على ما حدث ومازال يحدث؟

هل يلام الإنسان السوري على فشله في استحداث نظام سياسي واجتماعي قادر على رعايته وتمثيله؟ لقد طمح السوريون منذ بداية الصراع إلى بناء مجتمع متعاون ومتكامل وديمقراطي قادر على حماية وخدمة حقوق الأكثريات والأقليات على حد سواء، إلا أنه ومن خلال ما أنتجه الواقع على الأرض، فإن السوريين فضلوا التقوقع على أنفسهم منذ البداية مشكلين كينونات بديلة تمثل كل طرف على حدة: فقد فضل الأكراد الاستفراد بمناطقهم الشمالية الشرقية على الاندماج ضمن الغالبية السنية العظمى والتي يمثلها العرب بشكل عام. كما اختار العرب أو السنة منهم الانكفاء والانطواء ضمن جماعات إسلامية ذات توجهات بعيدة عن تطلعات الفئة الشبابية التي قامت بالثورة. بالإضافة لذلك فضلت الغالبية العظمى من الأقليات الانطواء تحت جناح النظام متعذرة بالخوف من السطوة الدينية للغالبية السنية العظمى. فضلا عن ذلك وقعت خلافات عدة بين أفراد التوجه الواحد معلنة عن ضياع الهدف الحقيقي للثورة بحد ذاتها.

من ناحية أخرى، أدت حملات الهجرة واللجوء إلى ضياع الهوية الحقيقية للإنسان السوري وذلك ابتداءً بالصدمة الحضارية التي تلقاها المهاجر أو اللاجئ في بلاد الاغتراب وانتهاءً بالإحساس الكامن بالدونية وانعدام الهدف أو الهوية ضمن مجتمعات إما قامت بالتقليل من شأن هذا الإنسان أو أنها وضعت له العصى في الدواليب بحجة الاندماج والاندراج ضمن مجتمع يختلف عنه بالثقافة والهوية. من هذا المنظور، فإن جوهر المعضلة أو الخلاف ليس سببه القمع الشديد للثورة فقط ولا سوء التمثيل الذي قامت به المعارضة الإسلامية، لا بل إن الخلاف الحقيقي والجوهري ضمن المجتمع السوري هو عدم وجود تصور مشترك لشكل الدولة ضمن الفئات الاجتماعية السورية بالإضافة لعدم وجود الوعي الكافي بمفهوم العمل السياسي أو العمل المجتمعي ضمن جميع الفئات السورية، المثقفة وغير المثقفة.

انطلاقا من هذا الواقع أيضا فإن الدولة السورية القادمة مهددة بالتشرذم والضياع لفترة من الزمن قد لا تقل عن المئة عام، كما أن شكل الخريطة السورية مهدد بالتغيير والتقسيم لصالح قوى عظمى تدعي التدخل بهدف حماية حقوق الأقليات إنما الأطماع الحقيقية من وراء ذلك اقتصادية للأسف. وبهذا فإن شكل أو إطار الدولة السورية القادمة لن يكون بنفس مكانته السابقة كما أن هيبة وأهمية ومركزية الدولة السورية لن يعود لشكله السابق لكون الدولة قد وقعت تحت السيطرة الاقتصادية والسياسية لعدة دول من ضمنها روسيا والولايات المتحدة وتركيا. أما بالنسبة للهوية السورية فإن الإيجابية الوحيدة التي كشفت عنها الثورة السورية هي حقيقة كون المجتمع السوري مجتمعاً منقسماً وطائفياً غير مدرك لنقاط القوة الكامنة ضمن اختلافاته الدينية والعرقية، كما أنها كشفت عمق التصدع الاجتماعي والعرقي والديني ضمن أفراد الفئة الواحدة والمجتمع الواحد كما والعائلة الواحدة على أبسط نحو.

لكن الأمر المؤسف هو عدم إدراك الشعب السوري لحجم هذا الصدع للأسف لا وبل إصراره في بعض دول الاغتراب أو في الداخل السوري على التمسك بهذه الأوهام البالية والأفكار المهترئة والتي أدت بالمجتمع لهذا التصدع لا بل ولوم جميع الأطراف ماعدا النفس على ما حدث وما سيحدث مستقبلا.

نعم إن الهوية السورية على المحك لا بل وأسوأ من ذلك، ولا يمكن حل هذه المعضلة إلا بتشكيل نواة اجتماعية أو جاليات تعبر عن الإنسان السوري في المهجر والإنسان السوري القابع بالداخل لتديره وتقوم بإعادة توعيته وتوجيهه كي يستطيع التفاعل ضمن مجتمعه الجديد ويستعيد القدرة على تحديد هويته المندثرة منذ أربعين عاما ضمن نظام بالي متحجر أساء للهوية السورية باختلافاتها. على السوريين دحر نعراتهم الطائفية والدينية والعرقية خارج الدولة وداخلها للتوصل لتفاهمات ترضي جميع الأطراف وذلك لبناء شكل موحد لدولتهم المستقبلية وإلا فإنهم معرضون للتشرذم أكثر مما هم عليه الآن.

حول الهويات في سوريا

حول الهويات في سوريا

لا أعتقد أنه لدينا في سوريا فعلاً هوية وطنية، رغم توفر بعض شروطها من أرض ولغة وعادات وتاريخ مشترك، وذكريات متشابكة…الخ. أعتقد أننا كنا نعيش في مجتمع هش للغاية سطحه عبارة عن صور براقة للقائد يتوسط مجموعة رجال دين وقوميات وإثنيات، بينما أعماق هذا المجتمع هي مجموعة براكين قد تنفجر بين بعضها البعض بأي لحظة، وقد جاءتْ هذه اللحظة في عام 2011 لتنفجر صراعات دموية لهويات لم تعمل هذه الأنظمة على انسجامها من خلال المواطنة فتضمن استمرار مصالحها الضيقة مع مصالح الوطن والشعب، صراعات تبدو وكأنها متناقضة بين انتماءات و ولاءات متعددة لكنها في الوقت ذاته تمثل مصالح متعددة ومتنوعة لجهات خارجية وداخلية.

مع بداية الثورة السورية، كانت الهوية الوطنية السورية في مواجهة امتحان تاريخي صعب للغاية، وأعتقد أنها قد فشلت في هذا الامتحان فشلاً مؤلماً، يدل على حجم الكذبة والخديعة التي كان يعيشها الشعب، لأن الوطن أصلاً كان بلا مواطنة حقيقية تعمل على تهذيب هوياته وتداخلها وتفاعلها معاً بشكلٍ ايجابي، يخيلُ لي أننا في سوريا بعد سنوات الحرب هذه، أننا أمام موت وطن قديم ونشوء وطن جديد، الوطن القديم جثم بكل ثقله فوق أنفاس الناس وخنقهم لعقود طويلة، أما عن الوطن الجديد: هو الآن في حالة نشوء، لكن، ما مدى إيجابية هذا الوطن الجديد؟ لا نعرف، ثمة من يتحكم خارجياً بهذه الولادة الجديدة محاولاً اختصارها إلى ما يتناسب مع مصالحه وانتماءاته الخاصة، وأعتقد أنه من المبكر تبلور جواب واضح حول الوطن الجديد.

غياب المواطنة والديمقراطية وتفاعل الهويات في المجتمع السوري، مع بداية النظام الاستبداي، أدى حالياً إلى حرب كارثية كانت بمثابة مستنقع تنمو فيه الجوانب المظلمة من كلّ الهويات، وهذه الجوانب المظلمة للهويات قضت على كل جانب مضيء بكل هوية ودخلت فيما بينها بصراع مرير.

كان يمكن للمواطنة والديمقراطية خلال عقود (لو أنها وجدت كما حدث في بعض التجارب العالمية التي خاضتها بعض الشعوب المشابهة لشعبنا بمجرد تحررهم من الاستعمار الخارجي) من أن تعلي القيم الإنسانية والأخلاقية واحترام الآخر وتقبله والتفاعل معه ضمن هوية جديدة جامعة تضمن مصالح الكل، إلا أن أنظمة الاستبداد، كانت جداراً صلباً أمام مثل هكذا مشروع لأنه لا يتناسب مع مصلحتها، وبالتالي غيبت هذه الأنظمة الاستبداية مفاهيم وقيم الديمقراطية والمواطنة إلا من الشعارات التي تُكتب على حيطان المؤسسات الحكومية، وحافظتْ على الجدران بين الهويات، وافتعلت أحياناً هذه الأنظمة بعض المشكلات بين هذه الهويات، لتطمئن أنه لا يوجد انسجام بين هويات الوطن، وبالتالي تكون الحاجة لهذه الأنظمة الاستبداية ضرورية لأنها وحدها من يحمي المجتمع من صراع الهويات.

تراجع الوعي خلال هذه العقود، مما أدى بشكل غير معلن وواضح قبل الحرب، وبشكل معلن وواضح بعد الحرب، إلى  النكوص إلى هويات قديمة، تشكلت منذ عصور بعيدة ضمن مصالح وتطورات خاصة بأزمنتها لا تتفق مع هذا الزمن.

وطبيعي أن القتل والدمار والانهيار والنزوح والتشرد والجروح لن تسمح للوعي ضمن هذه الشروط القاسية بأن يعيد تشكيل مفهوم حديث للهوية الوطنية.

دولة بلا سيادة على جزء واسع من أرضها، بنظام شمولي استبدادي، دون عقدٍ اجتماعي واضح يعكس مصالح الفئات الاجتماعية ويضمن الحريات ويحميها، كل ما سبق أدى إلى تلاشي الشعور بالوطنية الذي يقوم عادة على هوية عصرية متناسبة مع عصرها ومفاهيمه العلمية.

لم تستطع هذه الأنظمة الاستبدادية خلال عقود من ترسيخ شعور المواطنة لدى الإنسان، لهذا لم تستطع أن تنتج مفهوماً أخلاقياً جديداً للهوية الوطنية، ينافس وينسجم ويتفاعل مع الهويات القومية والدينية والطائفية والإثنية.

وحتى المعارضات لم تخرج عن التصور الخاص بالنظام للهوية، إنما أعادتْ إنتاجه بشكلٍ جديد. لتظل بهذا عاجزة (غالباً) عن إنتاج مفاهيم جديدة للهوية الجديدة (باستثناء نخب لا تمثل الواقع إلى حدٍ كبير)، وبهذا ظلتْ المعارضات مجرد (رد فعل سلبي) على فعل سلبي (نظام استبدادي) فقط لا غير.

الآن لدى السوريين مقاربات مختلفة ومتناقضة ومتصادمة حول الهوية، وكل طرف فصل ولبس هوية على قياس أحلامه وأوهامه وآلامه ونكوصه، وصار لكلّ سوري تعريف خاص نوعاً ما لسوريته الخاصة به.

أعتقد أن الأطراف المتصارعة تُمثل جزءاً جيداً من الشعب السوري، من نظام وميلشياته حتى الفصائل الإسلامية.

أعتقد أن كلّ السوريين رغم كل الاختلافات يتفقون معاً على ضرورة إنهاء الحرب، بالقوة لدى البعض أو بالمصالحات أو بالتقسيم لدى بعضهم الآخر.

ثمّة طموحات غير متشابهة لدى السوريين، لكن هناك جزءاً ليس بقليل يطمح لدولة عادلة وديمقراطية تقوم على المواطنة واحترام الإنسان.

الصراع في سوريا هو بالدرجة الأولى صراع مصالح ومشاريع مختلفة يتم إلباسها مفاهيم دينية أو قومية أو وطنية بغية تلميعها لاستمرار تسويقها لدى الناس لجني المكاسب على حسابهم، لا يمكن حصر دوافع الصراع في سوريا لأنها متعددة ومختلفة، ثمّة هدف لكل فئة ولكلّ طرف، وبعض هذه الأهداف قد تكون نبيلة لبعض هذه الأطراف.

لا يوجد الآن في سوريا إجماع على هوية معينة، هذا يحتاج لعقد اجتماعي جديد… يوجد الآن مجموعة هويات منقسمة على بعضها ـ متناحرة أحياناً متحالفة أحياناً أخرى، بحسب الحرب وتشعبها.

لا أعرف كيف سيكون شكل الهوية مستقبلاً في سوريا، من الصعوبة التنبؤ بهذا، لكن على الأقل أتمنى أن تكون هوية وطنية ديمقراطية متعددة، وألا نصل إلى ما يشبه نموذج الهوية الوطنية الطائفية كما هو الحال في لبنان و العراق الآن.

جزء جيد من الفصائل الإسلامية المعارضة تقاتل في سبيل هوية إسلامية وفي سبيل فرضها على البلاد كلّها، ثمّة فصائل أخرى قد تقاتل تحت عنوان الهوية الإسلامية، لكنها فعلياً تقاتل في سبيل منفعة سياسية واقتصادية (أمراء الحرب مثلاً).

ليس لدى النظام أي تصور مستقبلي لمفهوم الدولة سوى تصوراته القديمة والسلبية، التي لا يستطيع أن يتخلى عنها، لأنه بتخليه عنها يلعن نهايته، ويدق في تابوته المسمار الأخير.

كما قلتُ منذ قليل، ثمّة شيء يجمع عليه أغلب السوريين على اختلاف انتماءاتهم ومواقفهم وتوزعهم الجغرافي، وهو إنهاء الحرب وإعادة الإعمار(طبعاً باستثناء قلة من أمراء الحرب وتجار الحرب لأن إيقاف الحرب يضر بمصالحهم الاقتصادية والربحية).

سوريا في أسبوع، ١٦ نيسان

سوريا في أسبوع، ١٦ نيسان

ضربة “رقيقة” وانقسام “قاتل”
٩-١٥ نيسان/ابريل

أسبوع جديد اشعل الصراع الدولي في سوريا وتشكيل “حلف ثلاثي” أميركي – بريطاني – فرنسي لـ “معاقبة” دمشق.

منذ ادعاءات الهجوم “الكيماوي” على دوما في الغوطة الشرقية في الأسبوع الماضي، تصاعدت التهديدات الأمريكية بالقيام بضربة عسكرية للنظام “معاقبة له على تجاوز الخطوط الحمر” التي كان رسمها الرئيس باراك أوباما في ٢٠١٢.

وأيدت فرنسا وبريطانيا توجه الرئيس دونالد ترامب وعبرت عن رغبتها بالمساهمة بالعمل العسكري، وبعد جلسة فاشلة لمجلس الأمن يوم الثلاثاء الماضي والتي انتهت بـ “فيتو” روسي ضد مشروع قرار أميركي يقضي بإنشاء آلية تحقيق حول استخدام الأسلحة الكيماوية في سوري، أعلن ترمب عبر حسابه على “تويتر” يوم الأربعاء بأن على روسيا الاستعداد للصواريخ الأميركية التي ستضرب سوريا.

بعدها تراجع عبر تغريدة بأنه لم يحدد الوقت فقد يكون قريب جداً أو لا يكون. وقابل ذلك ردود روسية بما في ذلك الطلب من ترمب توجيه “صواريخه للإرهابيين بدلاً من توجيهها للحكومة السورية.”

وأظهر التوتر حجم الاحتقان في الساحة الدولية ورفع من احتمال انزلاق الأوضاع إلى تدهور كبير بين القوى العظمى، وانعكس ذلك على أسواق العملات والسلع والأسهم العالمي.

في مقابل التصعيد، قبلت دمشق استقبال لجنة تحقيق من منظمة حظر الأسلحة الكيماوية لزيارة موقع الهجوم التي وصلت يوم السبت. (رويترز)

وقبل وصول المفتشين الدوليين الى دوما وعودة البرلمان البريطاني للانعقاد الاثنين (بسبب قلق رئيسة الوزراء تيريزا من عدم الحصول على دعم كما حصل مع سلفها ديفيد كامرون في ٢٠١٣)٬  نفذت الدول الثلاث فجر يوم السبت ١٠٥ ضربات استهدفت مركز البحوث العلمية في برزة مركز البحوث العلمية في حماة ومستودعاً للجيش في حمص.وتناقضت التصريحات حول تحقيق الصواريخ لأهدافها حيث صرحت وزارة الدفاع الروسية أن ٧١ من أصل ١٠٣ صواريخ تم اعتراضها، بينما أشارت وزارة الدفاع الأميركية أنه لم يتم إسقاط أي صاروخ وأنها حققت أهدافها بنجاح. (رويترز)

الضربة لا تستهدف وقف الحرب أو “تغيير النظام”٬ بحسب عدة متحدثين من التحالف الثلاثي، هي لضرب قدرة النظام على استخدام السلاح الكيماوي، وهي ضربة محدودة وقد أدت غرضها. وأيد الضربة حلف شمال الأطلسي (ناتو) وكندا وإسرائيل وتركيا والسعودية وقطر، واعترضت عليها روسيا والصين وإيران والعراق ولبنان ومصر ما يوضح التناقض الدولي والإقليمي المستمر فيما يتعلق بالقضية السورية.

لكن محدودية الضربة وما يبدو كاستعداد النظام في سوريا لها من خلال إخلاء المواقع المستهدفة وعدم استهداف أي مواقع لحلفاء النظام السوري، أفرغ التهديدات السابقة بضربة قاسية للنظام من محتواها واعتبر بعض المراقبين أن النظام تجاوز الضربة بأقل الخسائر ولن يغير سياسته ووطد الحلف مع روسيا وإيران.

وضمن كل هذه القضايا الشائكة والمتناقضة والتي تدل على أن الضربة خطوة في مسار متدهور للحرب السورية حيث تأجيج العنف مستمر دون إرادة دولية لوقف العنف أو على إيجاد مخرج. أظهرت الضربة مرة جديدة خطورة الحرب على السوريين٬ فالحرب بينهم تتعمق كل يوم والتشظي ظهر بمحتفل بصد العدوان ومحتفل بشن الهجوم، هي إحدى محطات التشظي التي يصعب علاجها.

وكما في الغوطة وعفرين أظهر سوريون تمزقاً قاتلاً يهدد نسيجهم وهويتهم. ويكمن التناقض في أن السوريين عانوا من الدور الأميركي الذي دعم إسرائيل عبر عقود طويلة ودمر العراق من خلال غزوه وتهشيم بنيته، كما أن الكثيرين يرون في ترمب شخصية بعيدة عن مطالب الحرية والعدالة التي تتطلع لها شعوب المنطقة. بالمقابل فالنظام السوري فتح حربه داخلياً منتهكاً كل ما هو محرم دولياً وشعبياً، رافضاً التغيير باستخدام القوة، وأصبح امتهان الحياة صديقاً للسوريين، وكلما تقدم الدعم الخارجي من روسيا وايران للنظام تعنت داخلياً واستباح الناس.

هل الخيار محصور بين الاستبداد المحلي والاستبداد الدولي؟

دوما في قبضة للنظام
١٤ نيسان/ أبريل

تسارعت خطوات الاتفاق بين “جيش الإسلام” والقوات الروسية بعد الهجوم الكيماوي الذي ترافق مع تصعيد عسكري نهاية الأسبوع الماضي من قبل قوات النظام والقوات الروسية. حيث وافق “جيش الإسلام” على المغادرة إلى ريف حلب وتسليم دوما للشرطة العسكرية الروسية، وقد أعلنت قيادة الجيش السوري السبت استعادة دوما ودخول الشرطة السورية إلى المدينة وبذلك تكون الغوطة الشرقية تحت سيطرة النظام ويكون الجيب الوحيد المتبقي خارج سيطرته في محيط العاصمة هو مخيم اليرموك والحجر الأسود حيث تسيطر على جزء منه “داعش”.

ويتوقع ان تكون المحطة المقبلة في جنوب دمشق ثم ريف حمص٬ على ان يبقـي مستقبل ادلب وريف درعا وشرق الفرات رهن تفاهمات روسيا مع قوى إقليمية ودولية.

الهوية السورية وأسئلة الحرب المفتوحة

الهوية السورية وأسئلة الحرب المفتوحة

من بين الأسئلة التي تطرحها الحرب، تبرز إلى السطح وبشكل محايد ومستمر أسئلة الهوية، المواطنة، المصير، الانتماء، الذات، الآخر، العدالة والكرامة الإنسانية. ورغم أن هذه المصطلحات/الأسئلة، تبدو وكأنها صياغات لغوية أو فكرية تستمد بعدها المعرفي من علمَيْ الاجتماع والنفس، إلا أنها على أرض الواقع تأخذ دلالاتها المعنوية من خلال القتل، التهجير، تدمير المنازل، الاعتقال، غياب الاحترام، الطرد من العمل، غياب الفعل الثقافي، أزمات معيشية مستدامة والعيش على خط الصفر الحياتي دون ضامن والمستقبل، حتى الآنيّ منه، في حكم ضمير مجهول. وسيتلخص ذلك كله في “تفكك الهوية”.

وإن كنا ندرك بأن ما يشكل هوية شعب، هو انتماء هذا الشعب إلى أرض وثقافة أرض يبني عليها أحلامه وطموحاته، وثقافة يستمد منها عناصر القوة لدعم هذه الأحلام والطموحات. ضمن إطار مجتمعي محكوم بقانون يضمن الحقوق ويملي الواجبات، فإن هذا الانتماء سوف يشكل الميزة التي تجعل من هذا الشعب صاحب هوية، ويجعل من أفراد هذا الشعب مواطنين في وطن قائم على الاحترام. غياب هذا الانتماء سيؤدي إلى غياب المواطنة وبالتالي فقدان الهوية أو تفككها. أو ما أطلقت عليه الفيلسوفة الفرنسية سيمون فايل: “اقتلاع الجذور”.

الهوية السورية: من ضعف الانتماء إلى غيابه

إن كانت وحدة الأرض، وهي الشرط الأول للانتماء، متوفرة قبل عام 2011 في سورية، فنظرة بسيطة الآن إلى الخارطة ستكشف ليس غياب وحدة التراب الوطني فحسب، بل تشظيه فيما يشبه التقسيم غير المعلن وبشكل أقسى من تقسيمات الحرب العالمية الأولى واتفاقية سايكس بيكو. وذلك ما تُرجمَ على الأرض من مناطق نفوذ محلية ودولية وتقسيمات مفيدة وغير مفيدة! إن هذا التجزيء هو العرَض الأول لتفكك الهوية السورية.

إن من نافل القول أن نتحدث عن تنوع اثني وقومي في سورية، فثمة أديان، طوائف وقوميات مختلفة. لكن ثمة مرجعيات ثقافية لكل دين وطائفة وقومية، فكل دين هو ثقافة وكل فرط تدين هو سياسة، وإذا كنا عانينا، وما زلنا نعاني، من فقر ثقافي عام فليس سببه هذا التنوع، بل العكس وجود هذا التنوع هو دليل صحة، وهذا الفقر الثقافي مرده إلى الفقر في التكامل بين الثقافات المتنوعة في مجتمعنا الذي صُبغ ولعقود بثقافة وحيدة هي ثقافة السلطة.

يقول عبد الرحمن الشهبندر: “كل خنق للفردية قضاء على الارتقاء، والتجانس التام معناه الركود المؤذن بالتعفن والانحلال”. هذا الانحلال هو ما نعنيه بتفكك الهوية. وهذا يعني فيما يعنيه أيضاً أن الاختلاف لا التماثل هو المحرك لسيرورة المجتمع، أنا أختلف معك حول قضية إذاً أنت توسع زاوية الرؤية لهذه القضية، فأنت تكملني. لأن كل رؤية أحادية هي رؤية غير كاملة بالضرورة.

وإذا كانت التعددية السياسية تُلزم وجود أحزاب وقوى مجتمع مدني متباينة في الرؤى لتحقيق سياسة بالغة، وهي غير متوفرة، وإذا كانت التعددية الاقتصادية تُلزم وجود قطاعات اقتصادية عامة وخاصة متكاملة لتحقيق عدالة اجتماعية ورفاه مجتمعي، وهي غير متوفرة أيضاً، فهل عشنا تعددية ثقافية في سورية، وهي ما تحيل إلى الشرط الثاني للانتماء؟

في غياب التعدديتين السابقتين سيكون الجواب: لا. فعندما تكون ثمة رؤيا سياسية واحدة، ورؤيا اقتصادية واحدة سينتج لدينا مجتمع مكبوت، مجتمع يعاني من أنيميا حضارية وضعف في الانتماء.

يبدو من الإجحاف، الوصول إلى هذه النتيجة، فالمواطن السوري رغم تضافر كل العوامل السياسية والاقتصادية والثقافية التي تسلبه حق المواطنة، إلا أنه بقي سورياً وبقي متطلعاً لتحقيق وطن يكون فيه محترماً ويحيا بكرامة، ويمكننا أن نقول بأنه مُنع من تحقيق انتمائه، ونظرة سريعة إلى الأرقام التي نشرها مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية، هذه النظرة، وإن كنا نعيش واقعياً هذه الأرقام، ستكشف لنا عن عمق ما عاناه المواطن السوري المهدَّد بفقدان هويته: “بلغ عدد القتلى جراء الصراع (470 ألف حتى فبراير2016). (6.1) مليون نازح.(4.8) مليون طالب لجوء. في منتصف 2016 مليون نسمة يعيشون في مناطق محاصرة. (12679 لقوا حتفهم أثناء الاعتقال بين آذار 2011 وحزيران 2016).” رغم البرود المعلوماتي لهذه الأرقام، إلا أنها حارة جداً على الأرض، حارة وأكثر ظلماً وأسى. ماذا تعنيه هذه الأرقام بالنتيجة؟ فإذا كان الانتماء تعريفاً هو “الارتباط بالمكان”، المكان الذي يعني: وطن، الوطن الذي يكوّنه مواطنون لهم حقوق وعليهم واجبات ويحكمهم دستور، فهذه الأرقام تعني فقدان الحياة وفقدان المكان وفقدان القدرة على تحقيق الانتماء الذي يعني فقدان الهوية.

الهوية السورية: العنف والعنف المضاد

إن ما عنيناه بالانتماء هو الانتماء إلى وطن، وما عنيناه بالهوية هو عيش الشعور بالمواطنة، وما عزوناه إلى غياب التعددية على المستوى السياسي والاقتصادي والثقافي هو نقص المواطنة وحالة الاستلاب والقهر والظلم والشعور بالعجز.

وهنا سنسأل: هل العنف الذي مورس على السوريين جعلهم يخشون من تفكك هويتهم، وبالتالي جعلهم يتمترسون خلف هويات مختلفة؟ أم الخوف من فقدان هويتهم هو من دفعهم إلى العنف وحرض الروح القتالية لديهم؟ أم أنه تم استغلال قضية الهوية من قبل أشخاص لاستغلال مجاميع عريضة من الشعب السوري لتحقيق غايات سياسية أو حربية؟ عندها يصبح من المشروع أن نسأل: هل يمكن للهوية أن تكون وسيلة عنفيّة؟

مما لا شك فيه أنه تم استخدام الخوف من الآخر، والخوف على الهوية لتغذية الصراع في سورية ولتعميم الكراهية. إن تصوير الصراع على أنه صراع هويات هو إرهاب بلباس إعلامي.

لكن أية هوية تلك التي تقوقع حولها السوريون؟ أية تصانيف تم حشرهم بها؟

عندما نسمع شخصاً يقول: فلان سني سوري، أو علوي سوري، مسيحي سوري، درزي سوري إلخ… فمن البديهي أن نقول إن هذا الشخص بتصنيفه ذلك هو شخص طائفي وإن التحريض على العنف يبدأ من هنا: من التسمية. إنه يحدد هوية معينة.
إن التصنيف الذي نودي به في بداية الأحداث حول مكونات الشعب السوري هو تصنيف عنفيّ و صنف السوريين أولاً حسب المعتقد الديني (سني، شيعي، علوي، مسيحي، درزي، إلخ)، وثانياً حسب الانتماء القومي (عربي، كردي، آشوري، أرمني، إلخ…) لأن هذه التصانيف تجعل من المنتمي إلى دين أو طائفة أو قومية، تجعله يتمترس خلف دينه وطائفته وقوميته. إنها تحريض على الدفاع عن ذاته تجاه من يعتقد بأنه سيسلبه ذاته وهويته الضيقة وتجاه من يعتقد أنه في الطرف الآخر الذي هو دين آخر وطائفة أخرى وقومية أخرى.

لقد استخدمت هذه الآلية بشدة وقذارة في الصراع في سورية، فعندما يقول أحد مسؤولي السلطة بأنه يدافع عن أقليات بلده، فهذه مقولة تبطن عنفاً طائفياً. وعندما تقوم قطاعات عريضة من المعارضة بتبني صيغة مذهبية بعينها واستخدام شعارات واضحة المنشأ (التكبير مثلاً) أو تبني أسماء كتائب واضحة المدلولات، فهذا عنف طائفي أيضاً أو تحريض عليه. وعندما ترفع الميليشيات العراقية واللبنانية المقاتلة في سورية شعار “لكي لا تسبى زينب مرتين” فهذا يعني أنهم يقاتلون مدفوعين بهوية دينية طائفية وإن كانت ظاهرية إلا أنها ضرورية لحشد قطاعات من الشعوب من السهولة بمكان استثارتها دينياً. وما حدث من افتعال للقتال بين السنة والمسيحيين في حي الأرمن في حمص، أو بين السنة في درعا والدروز في السويداء، فلا شك أن هذه الحوادث ليست بريئة ومشغول عليها من قبل أشخاص طائفيين.

فالهوية الوطنية بقدر ما هي روح جامعة، تغدو الهوية المذهبية مدعاة لعنف وإرهاب أعمى.

الهوية السورية: الذات، الآخر ولعنة الإقصاء

ثمة نوع من الأسئلة يُثار دائماً، إلا أن الحرب جعلته أكثر استفزازاً وأكثر حضوراً واقعياً على المستوى الفردي وعلى مستوى التجمعات السكانية: ما الذي يحدد شكل علاقتي بالآخر، وما الذي يحكم نظرتي تجاه الآخر؟

في يوم ما من عام 2007 كنتُ في ميكروباص في ضاحية مشروع دمر، جلستْ إلى جانبي امرأة متوسطة العمر وتحمل عدادة تسبيح صينية، وتسبّح بصوت مسموع مشوّش خليطاً من بسبسة وتمتمة. شعرتُ بالضيق فطلبتُ منها بلطف أن تخفض صوتها أو أن تسبح بقلبها. نظرت إلي باشمئزاز واضح، لم تتكلم. وعندما كنتُ أغادر الحافلة، نظرت إلي وقالت: كافر. وتابع الميكروباص طريقه.

في حادثة أخرى في ذات الفترة، وتحمل ذات الدلالة، كنتُ عائداً من درعا في حافلة وأطالع كتاباً، خلفي جلس شاب يرتدي زياً باكستانياً وهو من أهل المنطقة وكان يقرأ القرآن بصوت عال ويتحرك إلى الأمام والخلف. عندما نظرتُ إليه طالباً تخفيض صوته فقط، ترفع عن الرد، هز برأسه مع نظره تحمل معنى الاشمئزاز أيضاً وتابع القراءة والاهتزاز.

في عام 2012 روى لي صديق كيف أجبر عنوةً على بيع بيته ومغادرة الحي الذي يسكنه، كان الحي أغلبية سكانه من الطائفة العلوية وكان هو سنياً، وفُهم ضمناً أنه من أنصار الحراك في سورية. بالمقابل كان هو ذات الشخص الذي اشترك في مظاهرة واشترط على المجموعة التي خرج معهم بأن لا يشتموا العلويين. نُظر إليه كشخص ضد الثورة وضد الحراك.

في الحرب الأهلية اللبنانية ظهر مفهوم: القتل على الهوية، مما أعطى معنى واحد للهوية: دينية أو مناطقية.

في المثالين الأولين، تأخذ الهوية شكلها الفردي في البعد بين الذات والآخر. فكوني أظهرتُ اختلافاً عوملت كمنبوذ مع القبول الصامت لركاب الحافلتين. الأمر الذي تعمم في المثالين الآخرين، فمن جهة أدى شعورهم الجماعي بانتمائهم إلى هوية واحدة إلى تعزيز التضامن ومن جهة أخرى أدى هذا الشعور إلى استبعاد الشخص الذي يعيش ضمن الجماعة السكانية نفسها ونُظر إليه كأنه يحمل هوية أخرى. ونفس الأمر ينطبق على المجالس الخالية من النساء، أو المدارس ذات الجنس الواحد. وهذا بالنتيجة لا يعني إلا أمراً واحداً: الإقصاء ولعنة المختلف.

الهوية السورية: هويات بديلة

لا شك بأن تعزيز قيم ومنظمات المجتمع المدني، وإيجاد بيئات تحتضن العلم وتؤمن به، ودعم توجه ديني معتدل، سيكون من شأنه تقليل أو الحد من مظاهر العنف الديني (الهوية الدينية). ومن جهة أخرى فإن إيجاد صيغ تعددية سياسية واقتصادية وثقافية أي ممارسة الديمقراطية ستحد أيضاً من مظاهر العنف السياسي (الهوية الحزبية) والذي يأخذ صيغته الواقعية بالحرب. لكن! هل هناك بالفعل هوية واحدة؟

لا أعتقد. فأنتَ صحفي ومثقف، وأنتِ مدرسة وباحثة اجتماعية، وأنا طبيب كاتب ومثقف، وهو…وهي …أليست هذه هويات؟ أليس هذا تصنيفاً سلمياً لأفراد المجتمع؟ أليست هناك هوية موسيقية، هوية رياضية، هوية علمية… ما أعتقد به هو أن مفهوم الهوية الواحدة الفريدة المتفردة هو وهم. فكل شخص يمكن أن يختار الهوية التي تلائمه. إلا أن الحرب والسياسة والدين والسيطرة هي من يجعل من “الهويات القاتلة” هويات مفردة ومتفردة يتم التمترس خلفها خوفاً من الضياع. وأنا شخصياً لستُ أخشى على الهوية الوطنية السورية من الفقدان بل أخشى على السوريين أنفسهم.

الحرب، تعطل البنادق والحل السحري

لطالما فكرتُ بأن أصحو على نبأ عاجل مفاده: تعطلتْ جميع الأسلحة في لحظةٍ واحدة في سورية. وفي غياب كل رؤية ممكنة للحل، هذا ما أستطيعه: أن أحلم.
قد يكون هذا الكلام اعتراضاً ساخراً من حربٍ ونجومها، قد يكون آليةً كلامية للرفض، وقد يكون إمعاناً متعالياً في إنكار الهزيمة. نحن المهزومين جميعاً، الجالسين على حافة كل شيء، فوق هاوية كل شيء، العالقين في المصيدة، النازفين على الأفق، الطاعنين في الصراخ، المطعونين بوجوهنا، اللاعنين الملعونين المتفرجين على اللعبة.

هذا شعر. ما الذي يستطيعه الشعر؟ ماذا نستطيعه نحن السوريين جميعاً؟ هل يمكننا تحقيق انتصار مرحلي على الحرب؟ داخلياً على الأقل؟ قد تكون الكتابة سلاحاً أزرق في وجه الاستلاب. هذا ما أجيده وما أحاول فعله. علينا أن نقيس درجة صراخنا الجوفيّ وأن نملّحَ جراحنا كي لا تفسد.