بواسطة سحر حويجة | مارس 6, 2021 | Cost of War, Roundtables, غير مصنف
* تُنشر هذه المادة ضمن ملف صالون سوريا “المعاناة اليومية في سوريا“
برر السفير الروسي في دمشق الكسندر يفيموف سبب عدم تقديم بلاده الدعم المالي للنظام السوري، وصرح أن الوضع صعب للغاية على الصعيد الاجتماعي والاقتصادي، ووصف حال الاقتصاد السوري بالاستنزاف العام، وأضاف أنه رغم أهمية الدعم متعدد الأوجه، إلا أن روسيا تعمل على تعزيز جهودها العسكرية لمحاربة الإرهاب. ونوه أن روسيا نفسها تحت تأثير العقوبات، وتعاني ركوداً اقتصادياً بسبب جائحة كورونا، على الرغم من إعلان روسيا عن مشاريع استثمارية كبيرة في سوريا والتي لم تدخل حيز التنفيذ بعد.
ليس خافياً على أحد، أن سلسلة الأهداف التي تسعى لها روسيا من تواجدها في سوريا، تذهب أبعد من النظام واستمراره. ففي الوقت الذي يشكل لها النظام ضمان استمرار المصالح الروسية وتمددها، تشير الوقائع، على أنه كلما ضعف النظام واستنزف قدراته كلما قويت شوكة روسيا وازدادت مكاسبها العسكرية والاقتصادية والسياسية، حيث لا انفكاك ولا بديل للنظام السوري عن الدعم الروسي، خاصة مع زيادة الخناق على الدعم الإيراني للنظام، سواء بسبب العقوبات والأزمة الاقتصادية التي تعاني منها إيران، أم بسبب الاتفاق على تحجيم الوجود الإيراني بالاتفاق بين أمريكا وإسرائيل وروسيا، عبر مسلسل طويل من الهجمات الإسرائيلية على المواقع الإيرانية. هذا الواقع المعقد يجعل من حلم تمدد إيران وتوسعها في سوريا كابوساً؛ فالتواطؤ الروسي مع هذه الضربات يسعى لإضعاف وتحجيم إيران، وإعادة اقتسام الغنائم لصالح روسيا.
في الوقت ذاته تعمل روسيا على احتواء إيران، ووضعها تحت جناحيها لتدور بفلكها، بعد أن سدت جميع المنافذ بوجهها، و أضعفت هامش مناوراتها. فروسيا التي تسيطر على الأرض بقواعدها العسكرية، وتتدخل على الصعيد العسكري لخلق معادلات جديدة تزيد من نفوذها وتوغلها في مفاصل الحياة السورية وتدخلها في هيكلة الأجهزة الأمنية والعسكرية بما يضمن ويعزز سيطرتها.
سلم تطور العلاقات الاقتصادية الروسية مع سوريا
منذ بداية التدخل العسكري الروسي في سوريا عام 2015عملت روسيا إلى جانب الدعم العسكري على تمتين العلاقات الاقتصادية التي كانت متواضعة بين الجانبين، وعملت على تأسيس علاقات اقتصادية طويلة الأمد. من المعروف أن دمشق احتفظت دوماً بعلاقات سياسية جيدة مع موسكو، لكن علاقاتهما الاقتصادية اكتسبت أهمية أكبر بعد اندلاع الاحتجاجات في 2011 ؛ فوفقاً لبيانات رسمية، بلغ حجم التبادل التجاري بين روسيا وسوريا في العام 2010 نحو مليار دولار أمريكي، لكنه ارتفع بعد اندلاع الاحتجاجات في عام 2011 إلى نحو 2 مليار دولار.
في عام 2013 وقعت الحكومة السورية اتفاقاً مع شركة “سيوزنفتاغاز” (Soyuzneftegaz) الروسية من أجل الحفر والتنقيب عن النفط والغاز، قبالة الساحل السوري، وفقاً لعقد يستمر لمدة 25 عاماً.
هذه الاتفاقية تحقق أحد أهداف روسيا للاستثمار في قطاع الطاقة السوري، حتى يكون لها حصة فيه بدلاً من التنافس معه، باعتبار أن سوريا مكان محتمل، لمرور شبكة أنابيب النفط والغاز إلى تركيا ومن ثم إلى أوروبا، وهو ما يهدد هيمنتها على تصدير الغاز للقارة الأوروبية.
بعد أن تمكن النظام بمساعدة حليفيه روسيا وإيران، من استعادة سيطرته على نسبة 70 بالمائة من أراضي سوريا، وفي سياق عملية التفاوض المتعثرة، دخلت روسيا في سباق التنافس مع إيران، على اقتسام الكعكة السورية، وكان واضحاً أن روسيا تقبض ثمن كل خطوة تدعم بها النظام، واتجهت بقوة نحو الاقتصاد حيث استطاعت روسيا، استمالة حيتان المال، وصبت سيولتهم المالية في بنوكها، وعقدت ما شاءت من صفقات وعقود، ترهن فيها البلد لمصالحها.
أخذت تطالب النظام بمستحقاتها من الديون قبل أن يدخل قانون قيصر حيز التطبيق، وروسيا عالمة بحجم الخلاف بين حيتان المال ورامي مخلوف في الصراع على الحصص، والتنافس على النفوذ الاقتصادي. وتبين مع الوقت كيف أن روسيا أخذت تلعب على التناقضات القائمة بين مخلوف والسلطة، لتصل الى مبتغاها ليس المالي فحسب، بل السياسي أيضاً في سوريا.
واستغلت روسيا فترة السبات الانتخابي في أمريكا التي امتدت لمدة ستة أشهر، وأصابت السياسة الأمريكية الخارجية بالشلل، لتعزيز مكانتها واستثمار نفوذها وفرض وقائع جديدة، حيث زار لافروف على رأس وفد روسي دمشق وشدد حينها على أن إعادة الإعمار في سوريا لها أولوية، بعد أن انتصرت على الإرهاب بدعم روسيا.
وبالفعل، وقعت روسيا مع النظام عدة اتفاقيات استراتيجية، في مجال التنقيب عن النفط والغاز في المياه الإقليمية السورية في البحر المتوسط، واستخراج الفوسفات من مناجم الشرقية في تدمر، كما وقعت “ترانس غاز” مع حكومة النظام اتفاقية لاستئجار مرفأ طرطوس لمدة 49 عاماً.
ولم تقتصر الاتفاقيات بين الطرفين على البترول والغاز والطاقة وحسب، بل شملت جوانب أخرى، منها الحبوب والأغذية، حيث بموجب هذه الاتفاقيات، أصبحت روسيا الدولة الأولى في تصدير مادة القمح لسوريا، إضافة إلى الاتفاق على بناء أربع مطاحن للحبوب في محافظة حمص بكلفة 70 مليون يورو، ما يعني أن القمح الذي يشكل المادة الأساسية في قوت السوريين، بات بيد روسيا بشكل شبه تام.
إضافة لذلك حازت على اهتمام القيادة الروسية عقود إعادة الإعمار، وكشفت مؤسسة الإسكان على لسان مديرها “أيمن مطلق” على أنها توصلت مع شركات روسية إلى مراحل متقدمة من النقاش حول المشاريع الإسكانية. وأعلن في وقت لاحق ممثل مركز المصالحة الروسي، على أن بلاده تقوم بدراسة مشاريع، تتعلق بإعادة الإعمار، بهدف عودة اللاجئين. وهكذا استطاعت روسيا أن تعقد من الاتفاقات ما تريد، وترهن سوريا مقابل تعهدها بدعم وجود النظام، لكن لو فرضنا أنها تخلت عن النظام، ونكصت بوعدها هل بإمكان النظام أن يفعل شيئاً! إلى أين المفر! ما يراهن عليه النظام هو أن روسيا لن تجد بديلاً أفضل منه، ولن تتخلى عنه! إلا أن روسيا التي أبرمت هذه الاتفاقيات لتصبح أوراقا إضافية بيدها، فعلت ذلك لتثبت قدرتها على التحكم بالنظام والضغط عليه لتساوم المجتمع الدولي على مستقبل سوريا، بانتظار معرفة وجلاء الموقف الأمريكي الجديد، بقيادة الرئيس بايدن. نعم أبرمت روسيا هذه الاتفاقيات مع وقف التنفيذ، بحجة قانون قيصر الذي يسلط سيف العقوبات على الدول والشركات التي تدعم النظام السوري، فهي لن تستطيع إدخال المواد والأجهزة التي تمكنها من تنفيذ هذه المشاريع! أما النظام فما دفعه إلى إبرام هذه الاتفاقيات هو الأزمة السياسية والعسكرية والاقتصادية وضرورة تحقيق الاستقرار للبدء بإعادة الإعمار، خشية من تجدد اندلاع النزاعات المسلحة خاصة مع أمريكا.
استثمار روسيا للواقع الاقتصادي المزري لخدمة أهدافها
عمل النظام السوري بشكل مستمر على نقل عبء الأزمة الاقتصادية الخانقة، والعقوبات المفروضة عليه إلى عاتق الشعب السوري، حتى أصبح أكثر من 80 بالمائة منه مهدداً بالجوع، وصارت سوريا بأسفل قائمة الدول الأكثر فقراً في العالم. حاول النظام الاستثمار بوضع الشعب المزري، ودعا إلى زيادة الدعم والمعونات سواء من الدول على شكل مساعدات أو من اللاجئين بضخ العملة الصعبة إلى أهاليهم في سوريا لإنقاذهم من الموت جوعاً، حتى أن النظام استخدم وباء الكورونا من أجل الضغط على الخارج لدعمه ورفع العقوبات عنه. إضافة لذلك استغل النظام الوضع المعيشي الصعب وانهيار الاقتصاد وتفشي البطالة، لعسكرة الشارع والتجنيد في صفوف الجيش.
أيضاً عملت روسيا على استغلال الوضع الاقتصادي المذري، لتحقيق أهدافها في التغول أكثر في المجتمع السوري، وتعزيز نفوذها العسكري والأمني. فمنذ أن بدأت روسيا تدخّلها العسكري المباشر في سوريا عام 2015 عملت على خضوع النظام السوري عسكرياً وأمنياً لقراراتها، لكن ذلك لم يمنعها من المضي في مسار موازٍ لتشكيل كيانات عسكرية تابعة لها، بصورة مباشرة، لضمان الولاء العسكري لها على المدى الطويل.
وتحقيقاً لهذه الاستراتيجية، شكلت روسيا فرقة النمر بقيادة الضابط البارز في قوات النظام سهيل الحسن، وأغدقت عليه العتاد والدعم. كما أنشأت الفيلق الخامس، الذي فتح أبوابه للمتطوعين والمنشقين سابقاً، وحتى للمقاتلين السابقين في صفوف الجيش الحر، ممن انخرطوا في التسويات والمصالحات في المناطق التي كانت يُهجَّر سكانها، وذلك كملجأ لهم يعيدهم إلى النظام، ولكنه يحميهم من انتقامه في الوقت نفسه. وبناء على ذلك يعد الفيلق الخامس تشكيلاً عسكرياً كبيراً، تابعاً للنظام السوري رسمياً، ويأتمر بأوامر قاعدة حميميم الروسية عملياً، ويتلقى من روسيا دعماً مادياً ولوجستياً وعسكرياً، ويوجد في عدة محافظات سورية.
تجنيد الشباب السوري كمرتزفة
إن البطالة والفقر المدقع والوضع الاقتصادي المزري، كانت من أهم العوامل لنجاح روسيا في تجنيد آلاف المرتزقة وإرسالهم إلى الجهة التي تريدها، بما يخدم مصالحها وسياستها التوسعية عبر العالم، حيث كشف تقرير مفصّل صادر عن منظمة “سوريون من أجل الحقيقة والعدالة”، عن قيام شركات أمنية روسية بتواطؤ مع النظام السوري بتجنيد ما لا يقل عن 3 آلاف مقاتل سوري، لغرض القتال في ليبيا، دعماً لقوات اللواء الليبي المتقاعد خليفة حفتر، ضد قوات “حكومة الوفاق”.
انتشرت عمليات التجنيد في كافة المحافظات السورية، ولاقت رواجاً كبيراً بدءاً من مدينة السويداء وانتقالاً فيما بعد إلى القنيطرة ودرعا ودمشق وريفها (جنوباً)، وحمص وحماة (وسط)، والحسكة والرقة ودير الزور (شمال شرق البلاد)
ورغم المصير الأسود الذي ينتظر هؤلاء المرتزقة، والنيل من سمعتهم وانتمائهم الوطني إلا أن الظروف الاقتصادية المزرية، والرواتب المغرية التي قدمتها روسيا لهم، كانت كفيلة بجذبهم وتجنيدهم ليشكلوا ظهيراً عسكرياً لدعم روسيا ليس في الداخل السوري فحسب، بل خارج الحدود.
الخلاصة
استنزفت روسيا النظام رغم الأزمة الخانقة التي يعيشها، حين طالبت بديونها ثمناً للسلاح الذي استخدم لاستعادة المناطق وحماية النظام. ورهنت سوريا عبر الاتفاقات والعقود والقواعد العسكرية، بالمقابل كان دعمها المالي والاقتصادي محصوراً بالقوى الموالية لها التي تأتمر بأمرها كقوات نمر والفيلق الخامس والمرتزقة. وبعد كل ما حصلت عليه وكل الوعود التي قدمتها لدعم النظام، أخذت تُحمل النظام مسؤولية الوضع الاقتصادي القائم، وتتخلى عن التزاماتها اتجاهه، لتترك الباب مفتوحاً على المساومات والضغوط بما يناسب مصالحها.
بواسطة هيفاء بيطار | مارس 5, 2021 | Cost of War, Roundtables, غير مصنف
* تُنشر هذه المادة ضمن ملف صالون سوريا “المعاناة اليومية في سوريا“
بداية قبل التحدث عن الانقطاع شبه التام للكهرباء في سوريا، لا بد للأمانة أن نذكر أن هناك تمييزاً في توفر الكهرباء في سوريا، فمثلاً مشروع دُمر في دمشق مدلل جداً إذ تأتي الكهرباء أربع ساعات متواصلة أو أربع ساعات ونصف الساعة وتنقطع ساعتين (أو ساعة ونصف)، بينما في أطراف دمشق وفي بعض الأحياء الفقيرة المغضوب عليها (لأن النظام يعتبرها انتفضت عليه) تأتي الكهرباء ثلث ساعة في اليوم كله.
بالنسبة لوطن الظلام سوريا أتابع بشكل يومي حياة الناس في ظل انقطاع الكهرباء الطويل، ويمكنني أن أعطي صورة تفصيلية عن حالة الساحل السوري (الذي يُعتبر مُدللاً نسبياً)، حيث تنقطع الكهرباء خمس ساعات وتأتي ساعة واحدة ليعود القطع خمس ساعات، وفي أحسن الأحوال تنقطع الكهرباء أربع ساعات لتأتي ساعة واحدة، وغالباً ما يتم اختزال ساعة الكهرباء إلى نصف ساعة فقط! أحد الأصدقاء في اللاذقية قال لي اكتبي عن تسونامي الكهرباء، وسألته ماذا يعني بتسونامي فقال لي: بعد انتظار خمس ساعات في ظلام مطبق جالسين في البيت مشلولين من الحركة وما أن تأتي الكهرباء نصف ساعة أو ساعة حتى ينتفض كل الشعب السوري ويصبح مثل خلية النحل، من يريد أن يشحن هاتفه الخليوي، ومن يريد أن يكون محظوظاً ويُسخن ماء ليستحم، ومن تريد أن تكمل وجبة الغسيل في الغسالة وهو منقوع فيها لعدة أيام بسبب انقطاع الكهرباء.
ويلاحظ المتابعون لكتابات السوريين في الداخل على مواقع التواصل الاجتماعي أن مشكلة انقطاع الكهرباء تحتل القسم الأكبر من التذمر والشكاوي، وقد وصل الغضب بالبعض وعدم تحمل هذا العيش في الظلام أنهم أصبحوا يكتبون شتائم فاحشة بحق وزير الكهرباء ومؤسسة الكهرباء.
طبعاً على السوري أن يجد حلاً لانقطاع الكهرباء الدائم وهنالك عدة حلول بديلة ، فالسوري الثري أو موفور الحال يشتري بطارية كهرباء سعرها قرابة مليون ليرة سورية وقد تحتاج لأجهزة إضافية (إنفيرتر)، ويصل المبلغ إلى مليون وثلاثمئة ألف، لكن حتى هؤلاء لا يستفيدون من هدر نحو مليون ونصف ثمن بطارية كهربا تضيء لهم غرفة المعيشة (أي أنها لا تستطيع تشغيل براد أو غسالة أو آلة تدفئة كهربائية)؛ فوظيفة هذه البطارية (بسعر مليون وثلاثمئة ألف) إضاءة غرفة المعيشة والمطبخ، وتستمر الإضاءة حوالي ساعتين على أقصى حد لأنه لا يوجد أساساً كهرباء كي تتمكن البطارية من شحن وتخزين الكهرباء. يضطر هؤلاء أن ينتقلوا إلى المستوى الثاني (وهو الذي يلجأ له معظم الشعب) استعمال اللدات الكهربائية التي تعمل على بطارية رخيصة نسبياً (مئتا ألف ليرة سورية)، وهذه اللدات عبارة عن كهارب صغيرة جداً وضوؤها واخز وحاد ومُخرش للعين ويُحدث أذى لشبكية العين تماماً كما يحدثه لحام الكهرباء (أي تسبب ما يشبه حروقاً في الشبكية). هذه اللدات سرعان ما ينوس ضوؤها وتنطفئ بعد ساعة أو ساعة ونصف لأن البطارية الصغيرة التي تشحنها تكون قد فرغت من الشحن أو لم تستطع أن تختزن أو تشحن كمية كافية من الكهرباء خلال ساعة أو أقل وقد سألت مختصين في تركيب اللدات الكهربائية وأجمعوا جميعاً أنه يتوجب كل شهر أو كل شهر ونصف الشهر شراء بطارية جديدة لتشغيل اللدات؛ فهذه البطاريات صناعة صينية غالباً ورخيصة جداً وسريعة العطب (وأحب أن أذكر أنني خلال عيشي في اللاذقية من 2011 وحتى 2019 اضطررت أن أشتري ثماني بطاريات).
إذاً لم يبق من حل للسوري كي يتغلب على العتمة سوى الشموع، وسعر الشمعة الواحدة بعرض الإصبع ألف ليرة سورية وتذوب تماماً بعد نصف ساعة، لذا على أسرة سورية كي تؤمن إنارة رومانسية بالشموع لأولادها كي يدرسوا أن تستهلك عشر شموع أو عشرين على الأقل أي عشرة آلاف أو عشرين ألف ليرة سورية. ومعظم الأسر السورية (حوالي 80 بالمئة) تعيش تحت خط الفقر وعاجزة حتى عن تأمين شموع ليدرس أولادها.
ثمة مشكلة خطيرة تنجم عن العيش في ظلام شبه دائم هي التأثير النفسي للظلام على نفوس الناس خاصة على الأطفال، فالكثير منهم لديهم رهاب العتمة، وكنت على تواصل مباشر مع أسر سورية فقيرة لديها أطفال يبدؤون بالبكاء والصراخ وتنتابهم نوبات ذعر حين تنقطع الكهرباء لساعات طويلة؛ فتنتابهم حالة عصبية من الهياج والصراخ وتكسير كل ما تفع أيديهم عليه. وقد أقنعت أهلهم أن يقصدوا طبيباً نفسانياً؛ لكن ذلك الذصديق قال لي يومها بأسى كبير: “لا حل لمشكلة هؤلاء الأطفال الذين يُعانون من رهاب العتمة سوى الشراب المنوم”. قلتُ لصديقي الطبيب النفسي: “يعني كأنك تعطيهم مخدراً كي يناموا!” قال: “هل عندك حل آخر؟ هل نترك هؤلاء الأطفال يتقصفون رعباً من العتم، من ظلام دامس يعمي القلوب قبل العيون”. وحكى لي عن طفل حالته شديدة من رهاب العتمة اضطر أن يعطيه أدوية مضادة للاكتئاب!
هؤلاء الأطفال يدرسون في مدارس بائسة في صفوف مُعتمة (لأن الكهرباء مقطوعة)، وبما أن الدولة العتيدة بسبب وباء كورونا قد اتخذت إجراء أن يكون هناك دوامان صباحي ومسائي كي تخفف من ازدحام الطلاب في الصف فإن العديد من الأطفال يدرسون في العتمة (أرسلت إحدى المدرسات صورة لصف في مدرسة عبارة عن لوحة سوداء تماماً)، وبعض الطلاب تعرضوا للسقوط وهم ينزلون الدرج في المدرسة وأصيب العديد منهم بكسور.
سوريا بلد الظلام (ما عدا بعض الشوارع المدعومة كمشروع دمر في دمشق) الذي يسكنه المسؤولون.
الجرائم المُروعة التي تحدث في كل مناطق سوريا والتي يكون الظلام الدامس شريكاً لها، لم نعهدها في المجتمع السوري من قبل عدا عن السرقة وأحياناً القتل بهدف السرقة فإن هناك تنوعاً مُخيفاً في تلك الجرائم. فمنذ أسابيع قام شابان بإقتحام شقة امرأة تعيش وحيدة في بناية من خمسة عشر طابقاً وهي ثرية وحاصلة على الجنسية الكندية. قاموا بربطها على كرسي وحرقها بعد أخذ كل مصاغها وأموالها وكل ما استطاعوا حمله من أثاث البيت. هذا الفحش في الإجرام (أن يقتلوها حرقاً) يدل على تشوه نفسي كبير وأحقاد مروعة أحدثتها ظروف معينة في نفوس بعض الشباب السوريين.
ليس الفقر وحده سبب هذا التوحش في الإجرام بل مظاهر التباهي والاستعراض والعهر التي يمارسها أثرياء الحرب على مرأى ناس فقراء ينتظرون ساعات في طابور الخبز ليحصلوا على خبز تعاف الدواب أكله، وحين يرى الشباب والمراهقون خاصة أن أحداً من أثرياء الحرب أحيا عيد ميلاد لابنته البالغة من العمر ثلاث سنوات وكلفه الحفل خمسين مليون ليرة سورية، وينشر صور الحفل على الفيس بوك؛ فإن هذه المظاهر من الوقاحة والتباهي بالثراء الفاحش تولد أحقاداً ونقمة في نفوس الشبان الجياع العاطلين عن العمل والذين لا يشعرون بقيمتهم وينتظرون فرصة ليهجّوا من بلد الظلام والظلم.
في الواقع لا أحد من السوريين يصدق أن مشكلة الكهرباء وانقطاعها شبه الدائم هو بسبب الحرب في سوريا والجماعات الإرهابية التي تخرب شبكة توليد الكهرباء (كما ضج خبر أن قرشاً قضم خط الإنترنيت في سوريا لذلك انقطع. الناس ليسوا أغبياء، الكل يعرف أن قطع الكهرباء غايته إذلال الناس وإلا لماذا الكهرباء متوفرة بشكل شبه دائم في مشروع دمر في دمشق! ولماذا فجأة تصبح سوريا كلها منارة بالضوء حين يكون هناك خطاب لرئيس أو شخصية سياسية مُقدسة! لا أنسى ذات يوم لم تنقطع الكهرباء في بيتي ثلاثة أيام متواصلة مع أن البناية قربي غارقة في العتمة، وأصابتني حالة من القلق والعصبية وتبين أن السبب هو زيارة السيدة وزيرة الشؤون الإجتماعية لمدينة اللاذقية لثلاثة أيام وأن الفندق الذي تقيم فيه يتشارك مع البناية التي أسكنها بخط الكهرباء، شعرت بالقهر والذل ولم أحس بالفرح أبداً.
المُخزي ما وصل إليه السوري من ذل ومهانة. كان السوري يُنفث عن قهره بشتم وزارة الكهرباء أو لعن هذا العيش الذليل حتى أن أحدهم كتب: “لا عزاء لنا سوى صور الأطفال في مخيمات النزوح أقدامهم غارقة في الثلج والوحل، هذا عزاؤنا الوحيد في بيوتنا المظلمة.”
صدر مرسوم أن كل من يتهكم ويشتم ويكتب كتابات توهن الشعور القومي للموطن السوري سيُعاقب وستعتبر كتابته جريمة إلكترونية لأنه يوهن عزيمة الأمة (ويا لها من عزيمة مُصانة بالكهرباء والغاز والراتب الذي يؤمن حياة كريمة وحرية التعبير والكلام…) كم آلمني أن الكثيرين من السوريين ارتعبوا وتوقفوا عن كتابة يبثون من خلالها قهرهم، وقد كتبت امرأة كانت لامعه في انتقاد وضع الكهرباء في سوريا بكتاباتها الجريئة الصادقة خفيفة الظل، كتبت (وكان وقتها عيد الحب) نحن ووزارة الكهرباء غرام دائم، أحلى عيد حب مع وزارة الكهرباء.
تم التدجين بالكامل. تذكر السوريون أن للحيطان آذاناً وأن الفيس بوك مُراقب وكل كلمة يكتبونها قد تجرجرهم إلى فروع الأمن بتهمة (وهن شعور الأمة) وصارت عبارات من مثل (نيالو مات وارتاح) و (نحن أموات ولسنا أحياء…) أقوال يومية في حياة معظم السوريين .سوريا وطن الظلام وأن تقتل نور الأمل وحب الحياة في نفوس الناس وتُجرمهم على كلمات كتبوها فهذا هو الموت.
بواسطة عامر فياض | مارس 4, 2021 | Roundtables, غير مصنف
* تُنشر هذه المادة ضمن ملف صالون سوريا “المعاناة اليومية في سوريا“
بالرغم من حجم الخسائر والأذى الكبير الذي ألحقته الحرب الطويلة في الاقتصاد السوري، إلا أن الأشهر الأخيرة، التي أعقبت أزمة كورونا وتطبيق قانون قيصر، أجهزت على ما نجا من ذلك الاقتصاد وعلى الواقع المعيشي للناس، الذي يلفظ أنفاسه الأخيرة، حيث ازداد حجم التضخم بشكلٍ غير مسبوق وتوالت انهيارات الليرة السورية يوماً بعد يوم ليتضاعف سعر صرف الدولار خلال نحو عام من 600 إلى 3300 ليرة، وهو ما أعدم القدرة الشرائية عند معظم الناس وجعلهم يترحمون على السنوات الماضية التي -رغم قساوة الحرب وشبح الخوف من الموت- كانوا خلالها، على الأقل، يتدبرون لقمة عيشهم التي باتوا اليوم مهددين بالحرمان منها.
المضحك المبكي
تصدرت سورية قائمة الدول الأكثر فقراً في العالم، وتقدر الأمم المتحدة أن 90 % من الشعب السوري بات يعيش تحت خط الفقر (دخل الفرد 1,90 دولار يومياً)، ما يعني أن عائلة مكونة من أربعة أفراد ستحتاج إلى 8 دولارات (27 ألف ليرة) يومياً لتكون فقيرة، ورغم ذلك يعتبر هذا الرقم ضرباً من الخيال وحلماً مستحيلاً، فهو يعادل نصف الدخل الشهري لغالبية موظفي القطاع الحكومي، ويشكل تقريباً ربع متوسط دخل معظم موظفي القطاع الخاص.
في أحد أحياء دمشق، داخل محل لبيع الخضار والفاكهة يعلِّق موظفٌ حكومي، خلال تبضعه، ساخراً من انعدام قدرته الشرائية: “راتبي الشهري لا يشتري سوى 10 كيلو باذنجان و12 كيلو كوسا”. تؤيده سيدة كانت تدفع ثمن أربعة أكياس ضئيلة الحجم: “هذه الأكياس كلفتني ربع راتب زوجي، وإذا أكملت تسوقي اليوم فلن يتبقى من ذلك الراتب أي ليرة”.
وعن مأساة دخلها الشهري تتحدث أم ضياء (45 عاماً) وهي نازحة تقيم في دمشق وتعيل ثلاثة أطفال: “راتبي في الوظيفة الحكومية 46 ألف ليرة، يكفيني فقط ثمناً للسجائر. أما دخل عملي المسائي في محل لبيع الألبسة فهو60 ألف ليرة، يذهب بأكمله إيجاراً للمنزل البائس الذي نسكنه، لذا نعتاش فقط على بعض المساعدات المالية التي يرسلها أقاربي من الخارج”.
وبالرغم من أن دخل مدرس الموسيقى وعازف العود يزن (40عاماً) يُعد أفضل من غيره بكثير، إلا أنه يبقيه في صف الفقراء. ويتحدث بسخرية عن أجور المدرسين في المعاهد الخاصة بدمشق: “أجر ساعة التدريس 2000 ليرة في أحسن الأحوال، وهو لا يكفي لشراء سندويشة شاورما أو علبة متة، فما جنيته من عمل يومٍ كاملٍ أنفقته في شراء عشر بيضات دجاج وكيلو سكر وعلبتي سجائر من أردأ الأنواع”. ويقارن المُدرس الواقع الحالي بواقع ما قبل الحرب: “حتى عام 2011 كنا نتقاضى 500 ليرة (10 دولارت) لقاء ساعة التدريس، ولو أنني اليوم أمارس عملي هذا في أي دولة أخرى لأصبحت من الأثرياء”. لكن المدرس يبرر للمعاهد عدم رفع رسم الاشتراك الشهري لطلبتها لأنها بذلك “ستغلق أبوابها وستخسر أغلب الطلاب الذين يعجز ذووهم عن دفع أي مبلغ إضافي، بعد أن أصبح تعلم الموسيقى نوعاً من الترف ورفاهية لا داعي لها”.
أساسيات تحولت إلى كماليات
بيوت السوريين التي كانت مشرعة لاستقبال الضيوف لتجود عليهم بالكثير من كرم الضيافة، خلت اليوم من أبسط متطلبات الحياة لتبخل حتى على سكانها، الذين باتوا عاجزين عن تقديم فنجان قهوة أو رغيف خبز لضيوفهم، حيث تخلى الكثير منهم عن معظم أساسيات المعيشة التي تحولت إلى كماليات، كالخضار والفاكهة التي يحدثنا أبو رامي (صاحب سوبر ماركت في مدينة جرمانا) عن واقع مبيعاتها: “فيما مضى كانت طعام الفقراء، ويزِنون منها ما يعجزون عن حمله، لكن معظم زبائننا اليوم أصبحوا يشترونها بتقشف شديد (أوقية، نصف كيلو) وأحياناً يكتفون بما يشبه العيِّنات منها (خيارتان، باذنجانة، ثلاث بصلات صغيرة، تفاحتان، رأس ثوم.. الخ). فيما يجبر المعدمون على شراء التالف منها بأسعارٍ مخفضة”. ويرى أبو رامي أن تحليق أسعارها بشكل يفوق كل التوقعات، جاء نتيجة تصديرها للخارج -كونها تحقق أرباحاً أفضل لتجار الأزمات- وارتفاع تكاليف النقل وأسعار الأسمدة والمبيدات التي لم تعد متوفرة وبات من الصعب استيرادها في ظل قانون قيصر.
“آخر مرة دخل لحم الخروف لمطبخنا كانت منذ ستة أشهر، فيما تمتعنا قبل أسبوعين بنصف كيلو جوانح (أدنى قطع الفروج سعراً). نرفه أنفسنا كل حين بشراء كيلو تفاح أو برتقال، أما الأجبان والمعلبات والموالح والأطعمة الجاهزة وبعض الخضراوات والفاكهة فقد ألغيناها من حياتنا بشكل كامل”. هكذا تصف أم محمود الواقع المعيشي لعائلتها، التي لم تقف حالة تقشفها عند ذلك الحد، حيث تضيف: “استغنينا عن التوابل وبهارات الطعام بأكملها، لنكتفي ببعض الفلفل الأسود في أحسن الأحوال. تخلينا عن عادات قلي الأطعمة لأن أسوأ نوع زيت نباتي تجاوز سعر الليتر منه 6500ليرة. نقنن في مادة السكر بشكل كبير وقد تخلينا عن صناعة الحلويات المنزلية. نضيف لعلبة اللبن الكثير من الماء لنزيد كميته. وإلى جانب ذلك اختصرنا عدد مرات شرب القهوة والشاي لمرة واحدة في اليوم بعد أن كنا نشربها لأكثر من ثلاث مرات”.
ونتيجة عجز الناس حتى عن شراء لحم الفروج، الذي وصل سعر كيلو الشرحات منه إلى 9500 ليرة، “بات بعضهم يلجأ لشراء ما يسمى بـ”الأقفاص” (الرقبة وعظم الظهر) والتي كانت تباع بسعر شبه مجاني كطعام للقطط والكلاب”. هذا ما يؤكده أبو هشام، صاحب محل لبيع الفروج، مضيفاً: “أصبحت كميات اللحوم التي نأتي بها من المسلخ قليلة جداً وذلك خوفاً من تعرضها للتلف، حيث تبقى في البراد لأيام عديدة نتيجة ضعف الاقبال على شرائها. وبعد أن كان الناس يحسدوننا على مهنتنا هذه أصبحت اليوم لا تحقق أي أرباحٍ تُذكر ولا تعود علينا سوى بالتعب والمعاناة”.
أما لحم الخاروف، الذي كان الناس فيما مضى يوزعونه بكرم في الأعياد و الأضاحي والمناسبات والنذور، فقد حرموا اليوم حتى من شم رائحته ولا يسعهم سوى النظر إليه بغصّةٍ وألم، بعد أن حلّقَ سعر كيلو الهبرة منه إلى 23 ألف ليرة، فيما بلغ سعر كيلو هبرة لحم العجل 18 ألف.
ويعود سبب الغلاء الفاحش في أسعار اللحوم بحسب أبوهشام “لارتفاع أسعار الأعلاف المستوردة وتناقص كميات استيرادها، بالإضافة لعدم توفر الأعلاف البديلة والمصنعة محلياً، وتضرر قطاع الزراعة بشكل كبير وغياب المساحات المزروعة، هذا إلى جانب نفوق أعدادٍ كبيرة من الثروة الحيوانية، نتيجة ظروف الحرب، وتصدير وتهريب جزء كبير منها، خلال السنوات الأخيرة، وهو ما قلص نسبة وجودها في الأسواق المحلية”.
وقد أكد رئيس جمعية اللحامين إدمون قطيش في حديث لإذاعة “ميلودي إف إم” أن الثروة الحيوانية في سورية آيلة للانقراض، وستستمر أسعار اللحوم بالارتفاع ما لم تتأمن الأعلاف، وتُدعم من قبل الحكومة، ويتم زراعة 80 إلى 90٪ من الأراضي من قبل وزارة الزراعة.
“فوق الموتة عصّة قبر”
لم يكتف السوريون بمعاناتهم مع تردي الواقع الاقتصادي والمعيشي بل تهافتت أزمات الوقود والكهرباء والغاز والخبز وغيرها لتضيف على حياتهم البائسة معاناة يومية لا تحصى ولتحملهم أعباءً اقتصادية إضافية. فقد أسهمت أزمة المحروقات في ارتفاع أجور المواصلات والنقل بشكلٍ مخيف، كما أثرت على دخل سائقي سيارات النقل والتاكسي، وعن ذلك يحدثنا أبو وديع ( 56 عاماً/ سائق سيارة أجرة): “نهدر وقتاً طويلاً أمام الكازيات على حساب وقت عملنا في انتظار تعبئة القليل من الوقود، ونضطر أحياناً لشرائه من السوق السوداء، ما يجبرنا على رفع تعرفة النقل، وهو ما أثر على عملنا الذي تراجع بشكل كبير، حيث تخلى الكثيرون عن خدماتنا بعد عجزهم عن دفع نفقات إضافية”.
وفي ظل تفاقم تلك الأزمة يغيب اليوم مازوت التدفئة عن معظم البيوت، حيث لم تحصل كثير من العائلات على مستحقاتها من المازوت المدعوم (200 ليتر بسعر 38 ألف)، والذي كان من المفترض توزيعه مع بداية فصل الشتاء الذي شارف على الانتهاء، وهو ما ترك الناس يعيشون تحت وطأة خيارين أحلاهما مر: تحمل ظروف البرد القارس، في ظل غياب جميع وسائل التدفئة البديلة، أو اللجوء إلى السوق السوداء كحال عائلة طارق (36 عام) الذي يصف معاناته: ” والداي العجوزان مريضان، ولأن البرد يفاقم وضعهما الصحي سوءاً، أُجبرنا على شراء 200 ليتر بسعر 1350 ليرة للتر الواحد، وقد كلفنا ذلك نحو 270 ألف ليرة، ما يعادل مجموع راتب والدي التقاعدي لستة أشهر”. ويضيف بقهر وحزن : “هذه البلاد أصبحت ملكاً لتجار الأزمات وأثرياء الحرب فقط، إذ كيف نُحرم من مازوت التدفئة فيما يتوفر بسخاء في السوق السوداء التي تجد فيها كل شيء تعجز الحكومة عن تأمينه كالبنزين والغاز والخبز وغير ذلك ؟”.
ويبقى لأزمة انقطاع الكهرباء، التي تغيب لأربع ساعات لتحضر ساعتين، الأثر السلبي الأكبر في حياة الناس، فإلى جانب معاناتهم اليومية، في انتظار شحن الهواتف والبطاريات، وتسخين الماء وتشغيل بعض الأجهزة الكهربائية المنزلية، يُجبرون على شراء لوازم الإنارة البديلة، كبطاريات الشحن والليدات، والتي قد تكلفهم راتب شهرٍ كاملاً وأكثر.
كما أدى هذا الواقع إلى شلل حركة الكثير من المهن والأعمال كورشات النجارة والحدادة والمعامل والمصانع الصغيرة وغيرها، فقد انتظر النجار أبو خالد خمس ساعات لينهي عملاً يحتاج لتشغيل المنشار الكهربائي لمدة نصف ساعة. وقد كان فيما مضى يتدبر أمر العمل بالاستعانة بمولدة للكهرباء لكن غياب المازوت حرمه من ذلك.
وفي مشهد يومي غريب نجد سامر (39 عاماً) بعد منتصف الليل منهمكاً في عمله داخل مصبغة لغسل وصباغة الثياب في محاولة لاستثمار توفر الكهرباء، التي برمج حياته معها، حيث يغادر عمله خلال انقطاعها ويعود مع قدومها، فينام نوماً متقطعاً، ولا يعرف نهاره من ليله.
ويبقى سؤال “كيف يعيش الناس في سورية؟”، الذي يُطرح كل يومٍ آلاف المراتو سؤالاً يؤرِق ويحيِّر الجميع، فهؤلاء الناس غيروا منطق الحياة وطبيعتها، إذ كيف يمكن لهم أن يبقوا أحياءً وهم لا يعيشون؟.
بواسطة طارق علي | مارس 2, 2021 | Cost of War, Roundtables, غير مصنف
* تُنشر هذه المادة ضمن ملف صالون سوريا “المعاناة اليومية في سوريا“
الطب العربي، طب الأعشاب، الطب البديل، كلها أسماء “لمصلحةٍ” واحدة، وكلها معاً، صارت هدفاً للسوريين. لا يوجد رقم دقيقعن مدى استخدام هذا النوع من الطب الشعبي، ولكن الفقر والجوع دفع بالكثيرين للجوء لهذا الطب فحسب تقديرات الأمم المتحدة أكثر من 90 بالمئة من السوريين يعيش تحت خط الفقر المباشر، أي أنّ نتاج الفرد منهم لا يتخطى دولارين في اليوم الواحد. وعلى أرض الواقع فحتى مبلغ دولارين في اليوم هو حلم بعيد المنال لمعظم المواطنين، فمتوسط راتب الموظف السوري شهرياً هو خمسون ألف ليرة سورية أي ما يعادل 15 دولاراً أمريكياً على حسابات السوق السوداء، وهي حسابات يُحظر التعامل بها في سوريا، سراً أو علانية، إلا أنها تحكم الشارع والتجارة والأسواق والحياة اليومية، فالجميع في الداخل السوري يعمل في المضاربة.
في ضوء هذا الحال، لجأ الكثير من السوريين إلى الطب البديل، لأسباب واضحة، على الصعيد العام ترتبط بالشح الدوائي الخطير في سوريا من جهة، وانهيار المنظومة الطبية من جهة ثانية، فضلاً عن ارتفاع أجور المعاينات الطبية بما لا يتناسب بأي شكل مع الدخل السوري (وصلت معاينة شريحة كبيرة من الأطباء إلى عشرة آلاف ليرة سورية)، مع الأخذ بعين الاعتبار أن الأدوية الكيميائية الموصوفة من قبل الأطباء (إن وجدت) فإنها إلى جانب المعاينة قد تكلف صاحبها راتبه كاملاً، وفي أحسن الأحول ثلثه أو نصفه.
ولتوضيح تجارب السوريين في هذا الإطار يقول سامي المعراوي الذي وجد ضالته في الطب البديل: “أقل كلفةً وعناءً ومالاً وجهداً وهو علاج طبيعي مئة بالمئة”. ويضيف عن تجربته مع المرض والأطباء والمشافي التي استنزفت مدخراته المالية: “لديّ مشكلة في الكلى، وعانيت منها طويلاً، وكلفتني الكثير من الأموال دون أن يتفق الأطباء على علاج واحد، حتى لجأت إلى أحد العطارين (العطار اسم شعبي لمن يعمل في الأعشاب) بعد أن سمعت عنه الكثير، وصف ليّ أعشاباً ومغلي الماء بالأعشاب، واظبت على الدواء، بت أشعر أنني الآن أفضل”.
وتعتبر مهنة العطارين نداً للطب التقليدي الذي يشن عليها على الدوام حرباً كبرى، إذ يرى المجمع الطبي أن الطب التقليدي والأدوية المصنعة وجدت لعلاج كل الأمراض نسبياً، في حين أنّ الطب الشعبي يعتريه ما يعتريه من النصب والسرقة والاحتيال. ويتفق الأطباء أن خلطات الأعشاب تفيد طبيعياً بحالات معينة ومؤقتة للغاية (غير مزمنة). فأعشاب كإكليل الجبل واليانسون والزعتر البري والزوفا والمليسة والميرمية والبابونج والشيح والزعفران والزنجبيل والقرفة والكمون وسواهم، تفيد في حالات معينة، كالمغص والصداع والإسهال والتشنج العضلي والمعوي والمفاصل والجيوب والقولون وآلام الظهر العضلية المؤقتة وغيرها؛ ولكنها حكماً لن تغني مريض السرطان عن الجرعات، ولن تعالج تلف الكبد، وبالضرورة فإن الديسكات التي تحتاج جراحة عصبية لن تشفى بالكمون والليمون مثلاً، ولن تكون بديلاً عن الدواء أولاً والمنفسة ثانياً في حال التدهور الصحي لمرضى الكورونا المعروف بـ كوفيد-١٩.
يعتقد المعالج النفسي بشار الماجد أنّ الأمر كلّه مرتبٌط بالحالة النفسية لمتلقي العلاج: “كثيرٌ من الناس يؤمنون بفعالية هذه العلاجات، وهي عادات متوارثة غالباً، نجدها في المجتمعات المغلقة التي تحكمها العادات والتقاليد والقصص المتوارثة، إذن، القصة كلها مرتبطة بالعامل النفسي، وحقيقةً فإن لهذا العامل دوراً كبيراً للغاية في تحسن مفترض لأي مريض، ولكنه تحسن نفسي غير عضوي وهنا المشكلة، فارتياح الشخص لا يعني أن حالته المرضية لا تتطور، وبالمقابل فمن الممكن أن يحدث العكس تماماً، كل شيء وارد”.
ويرفض العطار أبو هاشم أيّ اتهام بالنصب أو الاحتيال مشدداً “هذا ما وجدنا آباءنا عليه”، ويعتقد من وجهة نظره أنّ العلاج كله يكمن في الطبيعة، ليتساءل حول كيف كان يتعالج الأجداد والقدماء قبل وجود المستخلصات الكيميائية: “نحن طب قائم بقوة العرف، وعشرات الحالات تشفى على أيدينا وهناك الكثير من الأمثلة، نحن نبيع منتجاً طبيعياً والعلاج على ربّ العالمين”.
لبنان والدواء إلى سوريا
لعب إغلاق الحدود بين البلدين دوراً في الانتعاش المرحلي لسوق الأدوية الطبيعية، فالبلد الذي كان متنفساً دوائياً-اقتصاديا لسوريا ما عاد كذلك. فبعد حادثة المرفأ المحزنة بات لبنان نفسه يعاني أزمة دوائية خانقة.
وكان نقيب الصيادلة اللبنانيين غسان الأمين قد ذكر أواخر العام الماضي أن “هناك أدوية مفقودة من الصيدليات وذلك بسبب تهافت الناس على شرائها وتخزينها”، مشيراً الى أنه تم “وضع خطة لترشيد دعم الدواء، وتناقلتها وسائل الإعلام بكل أشكالها، الا أنه لليوم لا قرار للحكومة بتبني الخطة، ولا تبني لهذه الخطة من مصرف لبنان لذلك تتهافت الناس على شراء الأدوية وتخزينها في المنازل”.
وفي حديث للأمين لصحيفة “الشرق الأوسط” في أيلول/سبتمبر الفائت كان قد قال علانيةً أنّ “مخزون الدواء في المستودعات الذي كان يكفي لستة أشهر عادة، بات لا يكفي لأكثر من شهر ونصف الشهر”، مؤكداً حينها أنّ مشكلة فقدان الدواء مستمرة.
وفضلاً عن كل ذلك لعبت عقوبات قيصر/سيزر دورها في الملف، فلبنان الآن مهدد بعقوبات اقتصادية شاملة وقاسية في حال أجرى أي تعاملٍ اقتصاديٍ مع سوريا بحسب ما نصت بنود القانون الأمريكي، ما خلق مشكلةً مضاعفة للبلدين، فسوريا التي كانت مصدراً دوائياً للبنان في سنوات حربها الأولى باتت الآن بأمس الحاجة لأي دواء من لبنان، سيما مع توقف حركة النقل بين البلدين بشكلها الرسمي وما كان يصحبها من “تجارة الشنطة”، وهي نوع من أنواع التهريب البسيط من خلال السائقين بين البلدين، ليبقى ملف التهريب بشكله العام على المعابر غير الشرعية قائماً، ولكنه دون فائدة يمكن التعويل عليها، فلا لبنان لديه فائض دوائي، ولا سوريا لديها ما تقدمه للبنان، على الرغم من أنّ سوريا أقرت غير مرة إعفاءات ضريبية على إدخال المواد الأولية من لبنان، إلا أنّ عقوبات سيزر أثارت فوضى في الحسابات المحلية والإقليمية وحتى الدولية.
كورونا وصراع المصالح
كانت قد سجلت أول حالة بفيروس كورونا كوفيد-١٩ في سوريا قبل تطبيق القانون الأمريكي بثلاثة أشهر تقريباً، تحديداً في الثاني والعشرين من آذار/مارس الماضي، مما خلق ضغطاً إضافياً على القطاع الطبي-الدوائي في سوريا، فالبلد المحاصر ليس بمقدوره الاستيراد بأي شكل، وبالتالي برزت المشاكل الصحية التي تتعلق بالاستيعاب المرضي من ناحية، ومن ناحيةٍ أخرى تأمين منافس وأدوية مؤقتة تغطي مرحلتي الانفجار المرضي اللتين مرت سوريا بهما، ليطفو إلى السطح سؤال يتداوله الشارع السوري: أين الحلفاء؟، وهم الأفضل في المجال الطبي والتقني والنفطي. بيد أنّ مؤشر الأيام يقول أنّ هؤلاء الحلفاء لا ينظرون إلى الشعب السوري بعين المنطق التشاركي، إنما ينظرون إلى سوريا من منطلق الكعكة الواجب تقاسمها بحدّة وتعزيز المكاسب على الأرض، فالعسكر هم العسكر، وليتولى السوريون أمرهم، هذا ما يقوله الواقع، فلا المنظومة الطبية بخير، ولا القطاعات الخدمية بحال جيد، فسوريا اليوم صارت “جمهورية الطوابير”، الطوابير بمعناها الخدمي، والطوابير بمعناها العسكري.
بواسطة Firas Al Ali | فبراير 23, 2021 | Roundtables, غير مصنف
* تُنشر هذه المادة ضمن ملف صالون سوريا “المعاناة اليومية في سوريا“
أدت عوامل عديدة (كغلاء أسعار الأعلاف وخسائر متكررة ونشاط تهريب الأبقار والأغنام) إلى تكبد سورية خسارة ملحوظة من حجم ثروتها الحيوانية خلال السنوات الماضية. وأدى ما سبق إلى عزوف العديد من مربي الأغنام والأبقار في سوريا إلى ترك هذه المهنة بسبب خسائرهم المتكررة ما ينذر بحصول كارثة في قطاع تربية الحيوانات في سوريا في المستقبل القريب.
وأدت الأزمة السابقة إلى ارتفاع ملحوظ في أسعار اللحوم بأنواعها خصوصاً مع ارتفاع تكاليف التربية التي يتحملها المربي، ووصل سعر كيلو لحم الخروف إلى ما يقارب 20 ألف ليرة سورية، بينما سعر كيلو لحم العجل إلى قرابة 7000 ليرة سورية، أما سعر كيلو الفروج فوصل إلى قرابة 5000 ليرة سورية.
ومن خلال التواصل مع عدد من المربين في شمال سوريا، يبدو أن الأسباب كثيرة وراء أزمة الثروة الحيوانية التي لحقت أعمالهم وأهمها غلاء أسعار العلف وقلة الأرباح الناجمة عن بيع الماشية خصوصاً مع نشاط عمليات التهريب.
التهريب بين الأسباب
في كانون الثاني (يناير) الفائت، تداول ناشطون على مواقع التواصل الاجتماعي، مقطعاً مصوراً، يظهر فيه حرس الحدود التركي أثناء ضبط سيارة قادمة من سوريا كانت تهرب عدداً من الأغنام مخبأة داخل صندوق السيارة.
وليست هذه الحالة الأولى من نوعها، حيث تم تهريب آلاف الرؤوس من المواشي بأنواعها إلى تركيا خصوصاً أن بيعها على الأراضي التركية يدر على أصحابها أموالاً أكثر.
وعلى مدار السنوات الماضية، كشفت عدة تقارير محلية، منذ أيام، أن تهريب المواشي من سوريا يحصل باتجاه كل من العراق والأردن ولبنان لأسباب من بينها فارق السعر في تلك الدول وضعف القوة الشرائية في سوريا مع ارتفاع أسعار اللحوم بأنواعها.
ويبدو مما سبق أن تهريب المواشي من سوريا كان من بين الأسباب الرئيسية التي أدت إلى تدهور الثروة الحيوانية في البلاد، ففي أواخر كانون الثاني الماضي، قال وزير الاقتصاد في النظام السوري، حسان قطنا، إن “سوريا فقدت 50% من ثروتها الحيوانية عبر تهريبها ونفوقها بسبب الإرهاب إما بالقتل أو الذبح بسبب الجوع” وفق ما نقلته وكالة سبوتنيك.
تكاليف التربية والأسعار
من بين الأسباب أيضاً التي أدت إلى تدهور تربية المواشي في سوريا هو ارتفاع أسعار الأعلاف، ففي إدلب على سبيل المثال وصل سعر طن الشعير إلى 255 دولاراً أمريكياً.
ويقول أبو عبد الله (وهو أحد المربين الذين تواصلنا معهم شمال سوريا) أنه كان يملك أكثر من 300 رأس من المواشي ولكن اليوم أصبح عددها قرابة 130 رأساً معيداً السبب إلى اضطراره لبيع المواشي بسبب الأوضاع المعيشية السيئة التي يعاني منها.
ويضيف أن تكاليف شراء العلف من بين الأسباب وهو ما جعله يضطر الآن إلى الرعي بالمواشي في بعض المساحات التي تحتوي على بعض أغصان الأشجار كما أن ارتفاع أسعار الأدوية الخاصة بالمواشي من بين أسباب تدهور عمله.
واضطر البعض من الرعاة إلى ترك هذه المهنة خاصة بعد ارتفاع تكاليف التربية من جهة وقلة أسواق التسويق لما يملكونه من جهة أخرى.
وأثر ارتفاع التكاليف على أسعار المواشي بشكل عام، حيث وصل سعر الكيلو للخاروف غير المذبوح بين 8500 و8600 ليرة وسعر الكيلو للجدي بين 7200 و7800 ليرة وسعر الكيلو للعجل بين 6300 و6950 ليرة سورية، وفق الأسعار المعروضة في سوق الرحيبة للمواشي في القلمون الشرقي بريف دمشق.
النزوح والحرب لهما دور
اضطر العديد من رعاة الأغنام إلى النزوح بسبب القصف والمعارك التي حصلت بالقرب من مناطق استقرارهم، حيث أجبر البعض منهم على السير لمئات الكيلومترات بقصد الاستقرار في مناطق تناسب أعمالهم في تربية المواشي.
وأدى ذلك إلى نقصان أعداد رؤوس الماشية لدى غالبية المربين بسبب ظروف عدم الاستقرار التي شهدوا عليها خلال السنوات الماضية والمتمثلة بطرق تأمين الأعلاف وتباين الأسعار والأدوية الخاصة بالمواشي واختلاف الأسعار بالإضافة للظروف المعيشية المتعلقة بالمربين وعائلاتهم، فيما نفقت آلاف الرؤوس من الماشية إثر المعارك والقصف في مناطق متفرقة من سوريا.
وخلال بحثنا، رصدنا العديد من المقاطع المصورة لرعاة مواشي كانوا قد خسروا مصدر رزقهم جراء تعرض أماكن تربية المواشي لديهم للقصف الجوي.
آثار اقتصادية سلبية
خلال إعداد التقرير، تواصلنا مع الباحث الاقتصادي، نعيم اللومان، للاطلاع أكثر على أبرز الآثار الاقتصادية السلبية التي سببتها العوامل السابقة الذكر مثل ارتفاع تكاليف الأعلاف وعدم الاستقرار وتهريب المواشي وغيرها.
وقال اللومان خلال الحديث: “شهد سوق المواشي خلال السنوات الثلاث الماضية موجتين متعاكستين أثرتا سلباً الأولى انخفاض أسعار اللحوم وقلة أرباح المربين والثانية كانت نشاط معابر لتهريب المواشي حيث اندفع مربو المواشي إليها لتعويض خسائرهم وتحقيق الأرباح”.
وأضاف أن ما سبق أدى لانخفاض كمية المواشي وبالأخص الأغنام بشكل مهول حتى لم تعد تكفي لتسد الحاجة، وما زاد من الأزمة هو ارتفاع أسعار الأعلاف مثل الحنطة والشعير بشكل كبير هذه السنة بالإضافة لعزوف الكثير من السوريين عن شراء اللحوم فسعر الكيلو وسطياً وصل إلى 5,5 دولار أمريكي.
وأثر انخفاض الليرة السورية بالتزامن مع استمرار بيع المواشي بذات العملة إلى تؤثر المربين بشكل عام، فالمبلغ الذي كان يدفعه المربي ثمناً لخمسين رأس من الأغنام لا يشتري له اليوم سوى 20 رأساً، وفق اللومان.
ويبدو أن أزمة الثروة الحيوانية في طريقها إلى مزيد من الاتساع في ظل عدم الاستقرار الاقتصادي ومحدودية الحلول المتوفرة سواء بما يخص توفير الأعلاف أو تهريب المواشي في أنحاء البلاد.
بواسطة Hasana Saqbani | فبراير 21, 2021 | Cost of War, Reports, Roundtables, غير مصنف
* تُنشر هذه المادة ضمن ملف صالون سوريا”المعاناة اليومية في سوريا“
تعد السنة الأخيرة من أسوأ الأعوام اقتصادياً التي مرت على سوريا خلال سنوات الحرب مما زاد من تأزم الوضع المعيشي لمعظم الأسر، ووصول نسبة الفقر إلى 90 في المائة مع انعدام فرص تحسين دخل الأسرة والارتفاع الفاحش في الأسعار. أدى هذا الوضع إلى لجوء الكثير من النساء إلى بيع شعرهن أو شعر بناتهن بسبب الحاجة المادية لتغطية نفقات الاحتياجات الأساسية من توفير المازوت للتدفئة أو مستلزمات المدارس أو بسبب الحاجة لتأمين دواء وعلاج أو حتى لتوفير الطعام.
فاطمة أم لثلاث فتيات، واحدة منهن من ذوي الاحتياجات الخاصة وتحتاج إلى علاج ودواء بشكل مستمر؛ أجبرتها الظروف الاقتصادية السيئة إلى بيع شعر ابنتها البالغة من العمر 10 سنوات. وتقول السيدة الثلاثينية: “اضطررت لقصه وبيعه لأحضر الطعام والدواء لها ولأخواتها، وبسبب اضطراري للمال قبلت بيعه بثمن بخس رغم أنه كثيف وطبيعي منسدل لأسفل ظهرها، في البداية لم تقبل المسؤولة في مركز الحلاقة والتجميل شراءه بسبب العروض الكثيرة التي تأتيها من قبل النساء لبيع شعرهن، وعندما رأته وافقت على شرائه ولكن بمبلغ زهيد.” وتضيف بحرقة: “لو كان في حقيبتي ثمن ربطة خبز لما قمت ببيعه حينها.”
قبل عامين كانت تجارة الشعر الطبيعي في سوريا تقتصر على البيع والشراء في صالونات الحلاقة والتجميل وبشكل محدود. أما في الفترة الأخيرة مع تزايد عروض بيع الشعر بشكل كبير، أصبح هناك من يعمل في بيع وشراء الشعر من خلال مواقع التواصل الاجتماعي حسب “هادي” الذي يملك صالون للحلاقة النسائية في المزة والذي أضاف: “خلال السنة الأخيرة زاد بيع الشعر بشكل كبير، سابقاً كان يعرض علي شراء الشعر قرابة السبع مرات في الشهر، أما خلال السنة الأخيرة فقد بلغت عروض البيع نحو 50 مرة شهرياً من مختلف المحافظات عبر الصفحة الرسمية للمركز.”
ويشير “هادي” أنه في بداية العام الدراسي ومع تزايد المصاريف بالنسبة للعائلات السورية تزامناً مع الظروف الاقتصادية المنهارة في البلاد، تزايد بشكل ملفت عدد النساء اللواتي يعرضن شعر بناتهن للبيع، ومعظمهن كان يبيع شعر ابنته ليشتري لها المستلزمات الدراسية من قرطاسية وغيرها. ويشارك “هادي” إحدى القصص الإنسانية التي صادفته: “في بداية العام الدراسي زارتني سيدة تطلب قص شعر ابنتها البالغة من العمر 9 سنوات لبيعه. عندما بدأت في القص، بدأت الفتاة بالبكاء وقالت لوالدتها أنها سوف تشتري بكل المبلغ أغراض المدرسة، لتبدأ السيدة بالتحدث عن ظروفها المادية وحاجتها للمال وعدم وجود معيل مع الارتفاع الفاحش بالأسعار مما اضطرها لبيع كل أغراض منزلها وما تملك”.
يُباع الشعر الطبيعي بالغرام، ويختلف سعر الشراء حسب نوع الشعر، ويتراوح سعر الغرام من 200 إلى 400 ليرة شراء من صاحبة الشعر، و يباع أيضاً بالغرام من 3000 إلى 3500 ليرة سورية ( 1 دولار). أقل وصلة شعر يبلغ سعرها في السوق 700 ألف ليرة سورية (230 دولاراً) وقد تصل للمليون ليرة (330 دولاراً) في الصالونات التي تقع في الأحياء الراقية.
تشتري الوصلة من صاحبة الشعر بين 70 – 100 ألفاً وتباع بين 700 ألف إلى المليون حسب وزنها وطولها، والطلب الكبير يكون على شعر الأطفال لأنه يكون كثيفاً وغزيراً ويكون طبيعياً غير معرض لصبغ أو حرارة السيشوار، وعلى أساس ذلك يقدر نوع الشعر كنخب أول أو ثاني أو ثالث.
كان يعتمد في سوريا في صنع وصلات الشعر أو الباروكات على الشعر المستورد من الهند والبرازيل الذي يخضع لمعالجة ويقوى ويصبح صالحاً لمدة سبع سنوات؛ بينما الشعر المحلي لا يخضع لمعالجات مما يجعل استمراريته لا تتجاوز السنتين في حال تم الاعتناء به. وبسبب الظروف الراهنة وصعوبة استيراد الشعر من الخارج، وحتى في حال الاستيراد فبعد الجمركة يصبح ثمن وصلات الشعر مرتفعاً جداً مما يقلل الطلب عليها. لذلك ومع انتشار ظاهرة بيع الشعر أصبح الإقبال على الشعر المحلي أكبر حسب أحد العاملين في تجارة الشعر الطبيعي مع الإشارة إلى نوعية الشعر السوري الممتازة وانخفاض سعره مقارنة بالمستورد.
مع ازدهار تجارة الشعر الطبيعي تنتشر على مواقع التواصل الاجتماعي الكثير من المجموعات والصفحات العامة لعروض البيع والشراء، تحوي منشورات بيع الشعر الطبيعي وأغلبهم لفتيات صغيرات ترفق مع صورة لشعر الفتاة قبل قصه ويطلب تسعيره، مع إرفاق عبارات مثل “جاهز للقص عند طلب الزبونة” أو تنشر صور لضفائر شعرهن مقصوصة لإيجاد السعر الأفضل. تقول سناء (40 عاماً) والمقيمة في جرمانا في ريف دمشق، والتي عرضت شعر ابنتها للبيع مع إرفاق صورة لضفائر شعرها الذهبي الطويل: “عرضت شعر ابنتي للبيع لأجمع لها المبلغ اللازم لإجراء عمل جراحي في العين اليمنى ولم أكن أرغب بقبول المساعدات المادية من أحد، لتبدأ التعليقات السلبية والشتم من بعض الناس دون الالتفات لسبب وراء ذلك”.
يدير هذه المجموعات أشخاص يعملون كصلة وصل بين البائع والشاري، وجد هؤلاء مهنة جديدة تدر عليهم دخلاً إضافياً. فمثلاً (هدى “22 عاماً” التي تدرس في كلية الهندسة المقيمة في منطقة “دف الشوك” في ريف دمشق) أنشأت مجموعة على الفيسبوك تشتري من خلالها الشعر الطبيعي وتبيعه، وجدت من خلالها مردوداً مادياً يساعدها على تغطية نفقاتها الجامعية، وتشرح الشابة: “بعد شراء الشعر والاتفاق على المبلغ، نقوم بمعالجة الشعر وحبكه ليصبح جاهزاً لنقوم ببيعه.”
تشير الشابة إلى أن انتشار بيع الشعر الطبيعي سبب ارتفاع السعر التي تحصل عليه صاحبة الشعر عما قبل السنتين الماضيتين، لأن النساء أصبحن يعرفن أن الشعر يباع بالغرام بينما قبل ذلك كانت السيدة تبيع شعرها بالجدولة كاملة بمبلغ معين، فأصبح سعر وصلات الشعر مغرياً نوعاً ما للنساء اللواتي يعانين من ضائقة مالية.