الهوية السوريّة الضائعة

الهوية السوريّة الضائعة

سوريا هي تلك البقعة الجغرافيّة التي تقع عند نقطة التقاء قارات العالم الثلاث حيث يلتقي العرب بالكرد والتركمان بالأرمن والسريان بالشركس والآشوريون بالغجر، وحيث يزيد عدد الأديان والطوائف فيها على عددها في كل الاتحاد الأوروبي مجتمعة. لربما يقول قائلٌ إنّ هذا التلوّن، أو كما يقول التعبير الذي أصبح ممجوجاً، (اللوحة الفسيفسائيّة) أجمل ما في سوريا، كاد هذا أن يكون صحيحاً قبل أن تتحول البلاد لساحة صراع مفتوح تنفتح فيها جميع الاحتمالات على جميع الأصعدة ويستغل كل طرف أحد ألوان الطيف ليحقق مآربه على أكتافه، وقبل أن يصبح القتل على الهويّة، وقبل أن تتوه الأكثريّة في لعبة الجذور، وقبل أن يجيب الكردي السوري المغترب إذا سئل من أين أنت قائلاً أنا من كردستان، ثمّ ينتسب الإيزيدي لدينه لا لقوميته ولا لجنسيته حين يقول أنا إيزيدي، هنا يسأل سائل لا يعرف شيئاً عن سوريا:

من هم السوريون… السوريون فقط؟ وما هو لون العلم السوري، ومن يجب أن يجلس على كرسي مجلس الأمن ليتحدث عن سوريا، وما هي اللغة الرسمية في سوريا؟

تخيلوا أنّ هذه الإجابات أصعب من أن تتم الإجابة عليها في جلسة واحدة، فالدولة السورية اليوم هذا بعد وضع كلمة الدولة بين قوسين أصبحت تعيش أزمة هوية حقيقية، فعلى الأرض مثلاً ثمة من يطالب بسوريا علمانية و ثمة من يطالب بها إسلاميّة وثمّة من ذهب إلى أبعد من ذلك ليجعلها ولاية تابعة لدولة إسلامية تمتد حدودها من الصين شرقاً حتّى الأندلس غرباً، وثمّة من يريد أن يجعل منها مملكة شمولية يرثها الابن عن الأب ويورّثها للحفيد.

برج إيفل هو رمز فرنسا أو ما يتبادر للأذهان عند ذكر كلمة فرنسا، فما هو رمز سوريا، حذاء عسكري؟ أم حزام ناسف؟ أين هي العاصمة السورية؟ موسكو؟ طهران؟ إسطنبول؟ أم لعلها الرياض؟ هذه المعضلات التي فتحها الصراع السوري وشكل الهويّة الضائعة والكائن السوري الممزق الذي لم يعد يعرف على أيّ جانبيه يميلُ.

مما لا شكّ فيه أن 75% من شعب سوريا يريد سوريا حرة ديمقراطية تعددية مبنية على أسس حديثة وحضاريّة، ولكن حين أراد هذه العالم كله نهش قطعة من الكتف السوري استغلالاً لمطالب الشعب التي بدأت عفويّة وانتهت بما يسمّى المأساة السورية أصبح من الواضح أنّ الخيارات أصبحت أضيق مما يمكن أن نتخيل فإما الرضوخ لحكم شمولي سلطوي لم يعد كما كان في سنة 2010 بل أصبح أكثر طائفيّة وتبعيّة لمشاريع خارجية لا تمت لواقع البلاد بصلة، وإما اختيار نمط حكم إسلامي تتبع كل حارة فيه لفصيل وكل شارع لجهة ولا يعلم الله ماذا سيحدث بين تلك الفصائل فيما لو انتهى عدوهم المشترك المتمثل بالنظام وبدأ الصراع… يومها حقاً لن يعرف السوري من يقتل من ومن يريد أن يسيطر على من، وبين مشروع غربي يريد تمزيق البلاد إلى فتات بما يتوافق مع مصالحه ومصالح العدو الأكبر لسورية (إسرائيل)، وهنا سنجد أن الهوية السورية ستكون على تفصيل السيناريوهات التالية:

فيما لو انتصر النظام: وهذا ما ترجحه التوقعات فإن هذا لا يعني أن تعيش البلاد كما عاشت منذ عام 1963 على الإطلاق فإن هذا النظام لم يعد لوحده حاكماً للبلاد، هذا يعني أن سوريا بلد واقع تحت احتلال روسيّ إيراني مباشر وعلى الهوية السورية أن تكون خاضعة لمقاس هذا الجسد الجديد، والهويّة الاجتماعيّة أصبحت بين منتصر سيتفنن في تجبّره ومهزوم لا بدّ له من الهتاف من أجل الحصول على بعض الماء كما حدث بعد دخول الجيش السوري إلى الغوطة.

أمّا السيناريو الثاني وهو المشروع الأمريكي والذي يقع في المرتبة الثانية من حيث القوّة ما لم يرجحه قرار مفاجئ لرئيس أمريكي إشكالي وارتجالي في قراراته كدونالد ترامب فإنّه سيجعل الهويّة السوريّة أكثر تشتّتاً تعيش التبعية لعدّة دول وتتفرق لعدة بطاقات متوزعة هنا وهناك فمن مناطق ينطبق عليها الخيار الأوّل لمناطق تهتف (لبطل الأمّة الجديد) كما يروج له رجب طيّب أردوغان، لمناطق تعيش تحت الذراع الأمريكيّة ويتم تغيير أسمائها وفقاً لمشيئة الأكراد الذين يمثلون المشيئة الأمريكية في سوريا كما حدث في (منبج) التي أرادوا إطلاق اسم مابوك عليها.

أما السيناريو الأخير الذي انحسر كثيراً وبدأ يتلاشى فهو قيام سوريا كدولة إسلاميّة تقوم بإقصاء كل أشكال الانتماء الأخرى، وتفرض عليهم الجزية باسم الدين، والطاعة باسم الكتاب والسنّة وهنا تصبح الهوية السورية منصهرة في هوية تاريخية متجذرة في الجغرافيا لا تعطي بالاً لأي انتماء آخر ولا تحترم الألوان المختلفة، حيث تدخل في حرب فصائل مفتوحة كما يحدث في الصومال وأفغانستان، وهذا ما بدا أو ما يبدو أن سوريا نجت منه بشكل جزئي

وهذا كلّه يعني أنّ الحرب نجحت بشكل شبه كامل بتدمير الهوية السورية وتحويلها إلى ركام ضائع بين أقدام الداعمين والمستغلين وأصحاب المشاريع من غير السوريين، فهنا نجد سوريّاً يرفع العلم التركي في عفرين وسوريّاً يرفع أعلام فصائل طائفية في البوكمال وسوريّاً يرفع علم حزب الله اللبناني في بعض مناطق دمشق وجنديّاً روسيّاً يمنع من يعتبر رئيساً للجمهورية العربية السورية من التقدم والمشي بمحاذاة الرئيس بوتين وسوريّاً يرفع علم الولايات المتحدة الأمريكيّة فوق محطة لتوليد الطاقة في المنطقة الشرقية في سوريا، وكل فصيل استقدم معه كل حثالات الأرض من غير السوريين ليقاتلوا معه فمن استقدم الكتائب شيعية الانتماء الطائفي من أفغانستان ولبنان والعراق لتقاتل معه ومن استقدم رجالاً من الطائفة السنية بتوجه سلفي من أفغانستان والشيشان والمغرب وتونس وليبيا ليجعلهم أمراء حاكمين بين الناس، ومن جعل من رجال حزب العمال الكردستاني التركي حاكمين على مقدرات سوريا وبترولها، كل هذا وأكثر منه يعني ألا شكل محتمل لدولة حقيقية يلوح في الأفق السوري ولا شكل محتمل لهوية حقيقية ستجمع السوريين بعد أن تفرق جلّهم بين من يقوم بقهرهم بشكل يومي على اختلاف انتمائه وأجنداته في الداخل السوري، وبين انشغالهم بتأمين حاجات العيش في المهجر التي سلبهم كثيراً من انتمائهم القومي والوطني والاجتماعي.

!قومية زائدة… هوية ناقصة

!قومية زائدة… هوية ناقصة

امـتاز الـمجتمـع السّـوري علـى امــتداد الـقرون الطّـويلة المــــــاضية بأنّـــه جمع في تركـيبته، بين عدد غير قليل من الأقليّات القومية، التي أقامت و تفاعلت مع هذا المجتمع، و حصلت على كل مكتسبات المواطن السوري، و احتفظت أيضاً إلى حدّ بعيد  بمعـظم مُميّــزات شخصيّـتها الـثّـقافيّة، رغــــم محاولات الظّهور بمظهر الثّـقافات المنصهرة و المتفاعلة بشكل كامل و منسجم مع الهويّة العربيّة الغالبة والمسيطرة على المنطقة ككلّ، و التي نحن بصدد الحديث عنها بشكل عام كونها عـاملاً مكوّناً حاضراً وأساسياً في تشكيل الهويّة السّوريّة، مـوضوع حديثنا الـيوم عـلى وجـه الخصوص .

في بداية الأمر، لا بد لنا من المرور بشـكل أوليٍّ وسريع على بعض الاصطلاحات الـمفتاحيّة، والتي سنأتي على ذكرها تكرارا فيما بعـد استذكاراً لها وصيانةً، عن أيّ لـغط أو لَـبس في المعنى قد يذهب بـنا إلى مـفهوم خاطئ، لما في ذلك من أهمّــية قُصوى في تبـيـين الهدف المراد من العبارة.

ولا أظــنّ أنّـنا نخـتلف على أنّ اصطلاح الهويّـة المُـميزة لأُمّــة دون غيرها، ينطوي على عدّة عوامل ومكوّنات مُؤسِّسة لها: كالنّسب، والدّم، والجغرافيا، واللغة، والعرق، والثّـقافة. والــمُراد بالثَّـقـافــة هنا، معنى مُغاير تماماً لما درج عليه استعـمالها. حيث أن الغالـبـيــة يُـطـلقونها اصطــلاحاً للدّلالة عـلى مــستوىً تعلــيميٍّ عالٍ، أو بحثي علميّ. بينمـا نشير إليها بصفتها مجموعة من الأعراف والـتّــقالـيـد، والأنماط السّلوكيّة، والدّلالات اللغويّة، والخبرات التراكميّة المتوارثة لمجموعة بعينها من الــتّجمعات الــبشريّة، تُــفضي إلى رسم مـلامح شخصيّة هذه الجماعة، المُميزة لها. ولا نُغفل هنا، تداخل وتقاطـع مفهوم الثقافة مع مفاهيم أخرى، كالانتماء والمواطنة الذين يمكن أن يكونا أصـيلين في الفرد أو في الأقـليّة، أو يمكن أن يكونا مُـكتسبَــين بحكم إقــامة واستقـرار الـفرد أو الأقـليّة بين الجمــاعة الأصليّـــــة، لتُـشكِّل هـذه الإصطحلات جــميعها – إضـافة إلى ما ذكرناه سابقا – مفهوم الهويّة. مع ملاحظة نقاط التّـقاطع ونقاط الافتراق فيما بينها.

وأعتقد أنّنا لا نفشي سرَّاً، إذا أشرنا إلى أزمة هوية حقيقيّـة تُــعاني منها منظومة الدّول العربيّة. فـبينما لم تنقطع أبداً الأصـوات التي تـتـغـنّى بـفرعونيّة مصر، وأمـازيغيّة بلاد المغرب، وفيـنيقيّة بلاد الشّام، نجد أن دول هذه المنظومة تقبع تحت مفهوم مسيطر يُــزاوج بين الدّين واللغة، كمكونين وحيدين للهويّة، منذ قرون طويلة.

قال د. نصر حامد أبو زيد في كتابه (النص. السلطة. الحقيقة):

لقد تحول التّراث – الذي تم اختزاله في الإسلام – إلى هويّة.

وهذا هو تماماً، مـا أود الـولوج منه إلى موضوعنا، لأعود فأنتهي إليه كـسبب هـامٍّ وأساسيّ في ضبابيّـة هويّة وانتماء شعــوب هذه المنطقة.

دعونا نتّفق أولاً، أنّه لو استقام لنا اعتماد الدّين كعامل وحيد لتحديد هويّـة شعــب ما، لـوجب عـلينا تقسيم العالم إلى عدد من الدول لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة، بحسب الدّيانات الكبرى في العالم. ولـتوجّب عـلينا رفــع القبّـعة للكيان الصهيــونيّ، لأنّه كان سبّاقــــا في عنصريّته بسعيه لإقامة دولته على أساسٍ ديني!

ولو اخترنا عامل اللغة دون غيره، وجدنا أنفسنا محكومين باعتبار الدّول النّاطقة بالفرنسية في افريقيا: فرنسيّة، والـنّاطقة بالإنكليزيّة في آسيا: بريطانيّة. ولكانت الولايات المتّحدة الأمريكية مستعمرة بريطانيّة بامتياز، لاجتماع العاملين السابقين!

الإشكاليّة إذا، تكمن في ترتيب أولويّات الهويّة، وتراتب الانتماءات في الـوعي الــجمعيّ لـــدى عامّـة شعوب هذه المنطقة من العالم وخاصتها.  

فقد كـرّس الخطـاب الـدينيّ المُــتواتر لــدى هذه الـــمجتمعات رؤية مُـشوشّة غـلّبت العامل الدينيّ على كل العوامل الأخرى التي تساهم في تشكيل هويّتهم، وجعلها تفاصيل ثانويّة، تضمر أو تبرز بحسب حاجة العامل الرئيس وضروراته.

وهكذا أنتجت هذه الثّقافة صورة ناقصة عن الإنتماء، تجعل المسلم السُّنيّ أينما حلّ في العالم أقرب إلى أصحاب مذهبه، من مواطنيهم التاريخيّـين من غير المسلمين، أو حـتى المسلمين الـذين يـخالفونهم في المذهب. ولا أتكلم هـنا عن السُّـنة دون غيرهم، فقد فعلت كـل الفرق الإسلاميّة الكبرى ذلك أيضا. وصار من الطبيعيّ أن نـرى أفواج الشّـباب المسلم مُهاجراً للـجهاد والـموت على أرض غريبة لاهيَ تـعـرفـه، ولا نضاله على أراضيها سيعود بالخير عــلى وطنه ومواطنيه!

وليس ما سُّـمي بالـ (الأفغان العرب) إلا نتاجاً طبيعيّاً لـمثل هذا النمط من الفكر الدينيّ، رغم أن انتماءات هؤلاء المحليّة تعود إلى مجتمعات أحوج ما تكون إلى أبسط قواعد الديموقـراطية وحقوق الإنســان، وبالـتّالي فـإنّ دولـهم أَوْلـى بـنضالهم لـتحقيق الــعدالة الاجتماعيّة المَرجوّة.

وفي المُقام الثّـاني مباشرة، تمّ الـتّركيز على عامل اللغة، بصفتها الدّينيّة الـرّفيعة كلغةٍ للـقرآن الكــريم، والـتي تـكلّم بـها الــــسّلف الصّالح.  قد اكـتست هـذه اللـغة بثـوبٍ مـن الـقداسة والـتـنــزيه

حتى في عـلومها الـوضعيّـة، نظراً لعودة واضعيها للقياس عـلى الـقرآن الكريم باعـتباره المرجع الأول مـن مراجعها، كـما وأنها لغة أهل الجنّة في النّهاية. ولـسنا هنـا بصدد مـناقشة أحقّـيّـة هذه

اللغة وآدابها وجمالياتها، لكننا نتسـاءل عـن كـفايتها مـع عــامل الـدين في الـجّمع بين كلّ هـذه الشّعوب في أمّــة واحدة؟ وعلى الرّغم من أنّ بعض الـقبائل الـعربية قـد وصلت قـبل الإسلام إلى الجزيرة السّورية واستوطنتها، إلا أنّـنا نـجزم أن سـكّان المنطقة الأصليّين كانت لـديهم لغتهم الخاصة، ودَوّنوا تاريخهم وآدابهم بلغتهم، أو لغاتهم التي كانوا ينطقون بها.

وكان من الطّـبيعيّ بعــد ذلك كلّـه، انـتـقال المواطنة والانتمـاء إلى صفوف متأخرة فـي وعـي هـذه الــفئة الـتي تُـشكّل الشّـريحة العُـظمى من مــواطني هــذه الدول. واستـقرتا مـع غـيرهما من عوامل تأسيس الهوية – الدم والنسب والتاريخ – خلف العامِلَيْن الرئيسين في ثقافة عموم هذه الشعوب.

وفي سـوريا عـلى وجه الخصوص، تـبلورت كل أوجـه هــــذه الإشكاليّة الــوطنيّة وعلى كافة مستوياتها، في ظـلِّ واحـدة من أطـول الـحروب الـبشعة التي شهدتها الإنسانية على الإطلاق. فـظهرت واضحـة للعيان، هشاشة فـكرة القومية العربية عندما ارتفعت الأصوات مطالبة بالإنسلاخ عن المجموعة العربية، والاستعاضة عنها بتحالفات إقليمية بعد تعليق عضوية سوريا في جامعة الدول العربية، وثبوت ضلـوع بعض الأنـظمة الـعربية مباشرة فيما يدور على الأرض السورية. وفي الجانب الآخر برزت النزعات التقسيمية إما على أساس ديني سلفي، يتمثل في اقتطاع مساحات من الجغرافيا السورية لإقامة دولة على أسـاس ديني، أو على أساس إقليمي قومي، كـما فـعلت بـعض الـــفئات الانفصالية الكــردية. أو بتوظيف مـباشر مــن قـــوى دولـــية وإقليمية، إنما تسعى لتحقيق مكاسب ومصالح استراتيجية لها في المنطقة. وما كان كل ذلك ليحدث، لو لم يسبقه كل هذا الإبهام والالتباس في مسألة الهوية والمواطنة والانتماء. جذر المشكلة إذا موجود وكامن لدى السوريين، وكل ما فعلته هذه الحرب أنها حرضته ودفعته إلى السطح بوضوح.

وما من دليل يشهد بصحة ما أسلفنا، أوضح من اتخاذ المساجد كنقطة لانطلاق هذه الأزمة منذ سنين خلت. مما ألبسها ثوباً دينياً، جهادياً، وصبغها بصبغة طائفية ضمن الدين الواحد، وجعلها بفضل الإعلام الداعم لها، تبدو وكأنها اقتتال بين أقلية حاكمة ظالمة، وأكثرية محكومة مظلومة! مما استقدم أصحاب هذا الفكر من كل أصقاع الأرض للدفاع عن حقوق إخوتهم في الدين (مواطنيهم الدينيين).

وخبت بسرعة، كل الأصوات التي كانت تمتلك خطاباً مدنياً علمانياً، التي كانت تغرد خارج سرب السلطة، وتراجعت لصالح الخطابات الدينية الأقوى والأغنى.

وإذا كنا لا نناقش هنا مسائل دينية أو سياسية، إلا أننا نتوخى الوضوح في تداخل هذا الفكر مع الهوية وغلبته عليها.

سوف تنتهي هذه الحرب الدائرة على الأراضي السورية بالمعنى العسكري، طال أمدها أو قصر، ولكن هل سيتمكن السوريون فيما بعد، أن يتخلصوا من آثارها على المستوى الاجتماعي والنفسي؟ هذا مرهون بسعيهم نحو إعادة ترتيب أوراقهم بشكل منطقي، لتتبلور في أذهانهم مفاهيم المواطنة والانتماء والهوية بصورة أوضح.

الهوية السورية على المحك

الهوية السورية على المحك

في ظل الأوضاع السياسية الراهنة وما أنتجته ومازالت تنتجه الحرب السورية القائمة منذ سبع سنوات، ظهر وبشكل جلي الانقسام الكائن ضمن المجتمع السوري والذي بقي خفيا لسنين عدة ما قبل الثورة السورية حتى اتضح للعيان وبشكل ظاهر ما بعدها. للأسف فإن المجتمع السوري أو ما يسمى بالفسيفساء السورية المتجانسة (شكليا) كانت قد بدأت تتآكل وتتباعد لتنتج جيلا منقسما، تائها ومتناثرا ما بين قوميات وطوائف وأديان عدة غير قادرة على التقارب أو الالتقاء بأي شكل من الأشكال ضمن أي إطار واضح التشكيل منذ أربعين عاما وحتى الآن. وبهذا، فإن شكل أو هوية الإنسان السوري كانت وماتزال في خطر الضياع والتناثر قبل وبعد الحرب ولكن وبشكل خاص فإن الأمر قد اشتد ما بعد موجات اللجوء التي قصدت العالم الغربي منذ عامين فأكثر. فهل للإنسان السوري حقا هوية أو مسمى؟ أم أننا تائهون منذ زمن بعيد!                                                

 يرى السوري نفسه الآن بلا وطن ولا تشكيل، ما بين من فقد بلاده وبين من فقد أسرته ومن كان قد فقد الإثنين معا، ليغدو تائها غير مستوعب لما يحدث. كما أن الغالبية العظمى من الشعب كانت قد بدأت بالبحث عن وطن بديل منذ بداية اندلاع الأزمة حتى الآن غير مدركة لعواقب هذا الاتجاه الكارثية وغير عارفة بالخلل الحقيقي الذي أصاب الإنسان السوري بالمجمل. يرى السوريون أنفسهم في الوقت الحالي كشعب منفصل وأناني غير قادر على التواصل أو التوصل لأي تفاهم حقيقي ضمن طوائفه ومذاهبه وأعراقه المتعددة.

كما يعرف السوريون أنفسهم كشعب بائس قد تآمر عليه العالم وقد رقص على جثته حيا ليغدو شعبا خارج نطاق الحياة الطبيعية المستمرة من حوله. فعلى المستوى السياسي لا يوجد من يتحدث باسم هذا الشعب كما أنه وعلى المستوى الاجتماعي لا يوجد من هو قادر على تسوية الخلافات أو من هو قادر على الوصول إلى الحلول الوسطى ما بين طرفي نقيض من معارضة سياسية إسلامية إلى نظام حكم عسكري قمعي بحت. فإذا كان الطرفان المتنازعان واللذان من المفترض أن يمثلا الشعب السوري بهذا الإهمال، فهل يلام الإنسان السوري على ما حدث ومازال يحدث؟

هل يلام الإنسان السوري على فشله في استحداث نظام سياسي واجتماعي قادر على رعايته وتمثيله؟ لقد طمح السوريون منذ بداية الصراع إلى بناء مجتمع متعاون ومتكامل وديمقراطي قادر على حماية وخدمة حقوق الأكثريات والأقليات على حد سواء، إلا أنه ومن خلال ما أنتجه الواقع على الأرض، فإن السوريين فضلوا التقوقع على أنفسهم منذ البداية مشكلين كينونات بديلة تمثل كل طرف على حدة: فقد فضل الأكراد الاستفراد بمناطقهم الشمالية الشرقية على الاندماج ضمن الغالبية السنية العظمى والتي يمثلها العرب بشكل عام. كما اختار العرب أو السنة منهم الانكفاء والانطواء ضمن جماعات إسلامية ذات توجهات بعيدة عن تطلعات الفئة الشبابية التي قامت بالثورة. بالإضافة لذلك فضلت الغالبية العظمى من الأقليات الانطواء تحت جناح النظام متعذرة بالخوف من السطوة الدينية للغالبية السنية العظمى. فضلا عن ذلك وقعت خلافات عدة بين أفراد التوجه الواحد معلنة عن ضياع الهدف الحقيقي للثورة بحد ذاتها.

من ناحية أخرى، أدت حملات الهجرة واللجوء إلى ضياع الهوية الحقيقية للإنسان السوري وذلك ابتداءً بالصدمة الحضارية التي تلقاها المهاجر أو اللاجئ في بلاد الاغتراب وانتهاءً بالإحساس الكامن بالدونية وانعدام الهدف أو الهوية ضمن مجتمعات إما قامت بالتقليل من شأن هذا الإنسان أو أنها وضعت له العصى في الدواليب بحجة الاندماج والاندراج ضمن مجتمع يختلف عنه بالثقافة والهوية. من هذا المنظور، فإن جوهر المعضلة أو الخلاف ليس سببه القمع الشديد للثورة فقط ولا سوء التمثيل الذي قامت به المعارضة الإسلامية، لا بل إن الخلاف الحقيقي والجوهري ضمن المجتمع السوري هو عدم وجود تصور مشترك لشكل الدولة ضمن الفئات الاجتماعية السورية بالإضافة لعدم وجود الوعي الكافي بمفهوم العمل السياسي أو العمل المجتمعي ضمن جميع الفئات السورية، المثقفة وغير المثقفة.

انطلاقا من هذا الواقع أيضا فإن الدولة السورية القادمة مهددة بالتشرذم والضياع لفترة من الزمن قد لا تقل عن المئة عام، كما أن شكل الخريطة السورية مهدد بالتغيير والتقسيم لصالح قوى عظمى تدعي التدخل بهدف حماية حقوق الأقليات إنما الأطماع الحقيقية من وراء ذلك اقتصادية للأسف. وبهذا فإن شكل أو إطار الدولة السورية القادمة لن يكون بنفس مكانته السابقة كما أن هيبة وأهمية ومركزية الدولة السورية لن يعود لشكله السابق لكون الدولة قد وقعت تحت السيطرة الاقتصادية والسياسية لعدة دول من ضمنها روسيا والولايات المتحدة وتركيا. أما بالنسبة للهوية السورية فإن الإيجابية الوحيدة التي كشفت عنها الثورة السورية هي حقيقة كون المجتمع السوري مجتمعاً منقسماً وطائفياً غير مدرك لنقاط القوة الكامنة ضمن اختلافاته الدينية والعرقية، كما أنها كشفت عمق التصدع الاجتماعي والعرقي والديني ضمن أفراد الفئة الواحدة والمجتمع الواحد كما والعائلة الواحدة على أبسط نحو.

لكن الأمر المؤسف هو عدم إدراك الشعب السوري لحجم هذا الصدع للأسف لا وبل إصراره في بعض دول الاغتراب أو في الداخل السوري على التمسك بهذه الأوهام البالية والأفكار المهترئة والتي أدت بالمجتمع لهذا التصدع لا بل ولوم جميع الأطراف ماعدا النفس على ما حدث وما سيحدث مستقبلا.

نعم إن الهوية السورية على المحك لا بل وأسوأ من ذلك، ولا يمكن حل هذه المعضلة إلا بتشكيل نواة اجتماعية أو جاليات تعبر عن الإنسان السوري في المهجر والإنسان السوري القابع بالداخل لتديره وتقوم بإعادة توعيته وتوجيهه كي يستطيع التفاعل ضمن مجتمعه الجديد ويستعيد القدرة على تحديد هويته المندثرة منذ أربعين عاما ضمن نظام بالي متحجر أساء للهوية السورية باختلافاتها. على السوريين دحر نعراتهم الطائفية والدينية والعرقية خارج الدولة وداخلها للتوصل لتفاهمات ترضي جميع الأطراف وذلك لبناء شكل موحد لدولتهم المستقبلية وإلا فإنهم معرضون للتشرذم أكثر مما هم عليه الآن.

حول الهويات في سوريا

حول الهويات في سوريا

لا أعتقد أنه لدينا في سوريا فعلاً هوية وطنية، رغم توفر بعض شروطها من أرض ولغة وعادات وتاريخ مشترك، وذكريات متشابكة…الخ. أعتقد أننا كنا نعيش في مجتمع هش للغاية سطحه عبارة عن صور براقة للقائد يتوسط مجموعة رجال دين وقوميات وإثنيات، بينما أعماق هذا المجتمع هي مجموعة براكين قد تنفجر بين بعضها البعض بأي لحظة، وقد جاءتْ هذه اللحظة في عام 2011 لتنفجر صراعات دموية لهويات لم تعمل هذه الأنظمة على انسجامها من خلال المواطنة فتضمن استمرار مصالحها الضيقة مع مصالح الوطن والشعب، صراعات تبدو وكأنها متناقضة بين انتماءات و ولاءات متعددة لكنها في الوقت ذاته تمثل مصالح متعددة ومتنوعة لجهات خارجية وداخلية.

مع بداية الثورة السورية، كانت الهوية الوطنية السورية في مواجهة امتحان تاريخي صعب للغاية، وأعتقد أنها قد فشلت في هذا الامتحان فشلاً مؤلماً، يدل على حجم الكذبة والخديعة التي كان يعيشها الشعب، لأن الوطن أصلاً كان بلا مواطنة حقيقية تعمل على تهذيب هوياته وتداخلها وتفاعلها معاً بشكلٍ ايجابي، يخيلُ لي أننا في سوريا بعد سنوات الحرب هذه، أننا أمام موت وطن قديم ونشوء وطن جديد، الوطن القديم جثم بكل ثقله فوق أنفاس الناس وخنقهم لعقود طويلة، أما عن الوطن الجديد: هو الآن في حالة نشوء، لكن، ما مدى إيجابية هذا الوطن الجديد؟ لا نعرف، ثمة من يتحكم خارجياً بهذه الولادة الجديدة محاولاً اختصارها إلى ما يتناسب مع مصالحه وانتماءاته الخاصة، وأعتقد أنه من المبكر تبلور جواب واضح حول الوطن الجديد.

غياب المواطنة والديمقراطية وتفاعل الهويات في المجتمع السوري، مع بداية النظام الاستبداي، أدى حالياً إلى حرب كارثية كانت بمثابة مستنقع تنمو فيه الجوانب المظلمة من كلّ الهويات، وهذه الجوانب المظلمة للهويات قضت على كل جانب مضيء بكل هوية ودخلت فيما بينها بصراع مرير.

كان يمكن للمواطنة والديمقراطية خلال عقود (لو أنها وجدت كما حدث في بعض التجارب العالمية التي خاضتها بعض الشعوب المشابهة لشعبنا بمجرد تحررهم من الاستعمار الخارجي) من أن تعلي القيم الإنسانية والأخلاقية واحترام الآخر وتقبله والتفاعل معه ضمن هوية جديدة جامعة تضمن مصالح الكل، إلا أن أنظمة الاستبداد، كانت جداراً صلباً أمام مثل هكذا مشروع لأنه لا يتناسب مع مصلحتها، وبالتالي غيبت هذه الأنظمة الاستبداية مفاهيم وقيم الديمقراطية والمواطنة إلا من الشعارات التي تُكتب على حيطان المؤسسات الحكومية، وحافظتْ على الجدران بين الهويات، وافتعلت أحياناً هذه الأنظمة بعض المشكلات بين هذه الهويات، لتطمئن أنه لا يوجد انسجام بين هويات الوطن، وبالتالي تكون الحاجة لهذه الأنظمة الاستبداية ضرورية لأنها وحدها من يحمي المجتمع من صراع الهويات.

تراجع الوعي خلال هذه العقود، مما أدى بشكل غير معلن وواضح قبل الحرب، وبشكل معلن وواضح بعد الحرب، إلى  النكوص إلى هويات قديمة، تشكلت منذ عصور بعيدة ضمن مصالح وتطورات خاصة بأزمنتها لا تتفق مع هذا الزمن.

وطبيعي أن القتل والدمار والانهيار والنزوح والتشرد والجروح لن تسمح للوعي ضمن هذه الشروط القاسية بأن يعيد تشكيل مفهوم حديث للهوية الوطنية.

دولة بلا سيادة على جزء واسع من أرضها، بنظام شمولي استبدادي، دون عقدٍ اجتماعي واضح يعكس مصالح الفئات الاجتماعية ويضمن الحريات ويحميها، كل ما سبق أدى إلى تلاشي الشعور بالوطنية الذي يقوم عادة على هوية عصرية متناسبة مع عصرها ومفاهيمه العلمية.

لم تستطع هذه الأنظمة الاستبدادية خلال عقود من ترسيخ شعور المواطنة لدى الإنسان، لهذا لم تستطع أن تنتج مفهوماً أخلاقياً جديداً للهوية الوطنية، ينافس وينسجم ويتفاعل مع الهويات القومية والدينية والطائفية والإثنية.

وحتى المعارضات لم تخرج عن التصور الخاص بالنظام للهوية، إنما أعادتْ إنتاجه بشكلٍ جديد. لتظل بهذا عاجزة (غالباً) عن إنتاج مفاهيم جديدة للهوية الجديدة (باستثناء نخب لا تمثل الواقع إلى حدٍ كبير)، وبهذا ظلتْ المعارضات مجرد (رد فعل سلبي) على فعل سلبي (نظام استبدادي) فقط لا غير.

الآن لدى السوريين مقاربات مختلفة ومتناقضة ومتصادمة حول الهوية، وكل طرف فصل ولبس هوية على قياس أحلامه وأوهامه وآلامه ونكوصه، وصار لكلّ سوري تعريف خاص نوعاً ما لسوريته الخاصة به.

أعتقد أن الأطراف المتصارعة تُمثل جزءاً جيداً من الشعب السوري، من نظام وميلشياته حتى الفصائل الإسلامية.

أعتقد أن كلّ السوريين رغم كل الاختلافات يتفقون معاً على ضرورة إنهاء الحرب، بالقوة لدى البعض أو بالمصالحات أو بالتقسيم لدى بعضهم الآخر.

ثمّة طموحات غير متشابهة لدى السوريين، لكن هناك جزءاً ليس بقليل يطمح لدولة عادلة وديمقراطية تقوم على المواطنة واحترام الإنسان.

الصراع في سوريا هو بالدرجة الأولى صراع مصالح ومشاريع مختلفة يتم إلباسها مفاهيم دينية أو قومية أو وطنية بغية تلميعها لاستمرار تسويقها لدى الناس لجني المكاسب على حسابهم، لا يمكن حصر دوافع الصراع في سوريا لأنها متعددة ومختلفة، ثمّة هدف لكل فئة ولكلّ طرف، وبعض هذه الأهداف قد تكون نبيلة لبعض هذه الأطراف.

لا يوجد الآن في سوريا إجماع على هوية معينة، هذا يحتاج لعقد اجتماعي جديد… يوجد الآن مجموعة هويات منقسمة على بعضها ـ متناحرة أحياناً متحالفة أحياناً أخرى، بحسب الحرب وتشعبها.

لا أعرف كيف سيكون شكل الهوية مستقبلاً في سوريا، من الصعوبة التنبؤ بهذا، لكن على الأقل أتمنى أن تكون هوية وطنية ديمقراطية متعددة، وألا نصل إلى ما يشبه نموذج الهوية الوطنية الطائفية كما هو الحال في لبنان و العراق الآن.

جزء جيد من الفصائل الإسلامية المعارضة تقاتل في سبيل هوية إسلامية وفي سبيل فرضها على البلاد كلّها، ثمّة فصائل أخرى قد تقاتل تحت عنوان الهوية الإسلامية، لكنها فعلياً تقاتل في سبيل منفعة سياسية واقتصادية (أمراء الحرب مثلاً).

ليس لدى النظام أي تصور مستقبلي لمفهوم الدولة سوى تصوراته القديمة والسلبية، التي لا يستطيع أن يتخلى عنها، لأنه بتخليه عنها يلعن نهايته، ويدق في تابوته المسمار الأخير.

كما قلتُ منذ قليل، ثمّة شيء يجمع عليه أغلب السوريين على اختلاف انتماءاتهم ومواقفهم وتوزعهم الجغرافي، وهو إنهاء الحرب وإعادة الإعمار(طبعاً باستثناء قلة من أمراء الحرب وتجار الحرب لأن إيقاف الحرب يضر بمصالحهم الاقتصادية والربحية).

الهوية السورية وأسئلة الحرب المفتوحة

الهوية السورية وأسئلة الحرب المفتوحة

من بين الأسئلة التي تطرحها الحرب، تبرز إلى السطح وبشكل محايد ومستمر أسئلة الهوية، المواطنة، المصير، الانتماء، الذات، الآخر، العدالة والكرامة الإنسانية. ورغم أن هذه المصطلحات/الأسئلة، تبدو وكأنها صياغات لغوية أو فكرية تستمد بعدها المعرفي من علمَيْ الاجتماع والنفس، إلا أنها على أرض الواقع تأخذ دلالاتها المعنوية من خلال القتل، التهجير، تدمير المنازل، الاعتقال، غياب الاحترام، الطرد من العمل، غياب الفعل الثقافي، أزمات معيشية مستدامة والعيش على خط الصفر الحياتي دون ضامن والمستقبل، حتى الآنيّ منه، في حكم ضمير مجهول. وسيتلخص ذلك كله في “تفكك الهوية”.

وإن كنا ندرك بأن ما يشكل هوية شعب، هو انتماء هذا الشعب إلى أرض وثقافة أرض يبني عليها أحلامه وطموحاته، وثقافة يستمد منها عناصر القوة لدعم هذه الأحلام والطموحات. ضمن إطار مجتمعي محكوم بقانون يضمن الحقوق ويملي الواجبات، فإن هذا الانتماء سوف يشكل الميزة التي تجعل من هذا الشعب صاحب هوية، ويجعل من أفراد هذا الشعب مواطنين في وطن قائم على الاحترام. غياب هذا الانتماء سيؤدي إلى غياب المواطنة وبالتالي فقدان الهوية أو تفككها. أو ما أطلقت عليه الفيلسوفة الفرنسية سيمون فايل: “اقتلاع الجذور”.

الهوية السورية: من ضعف الانتماء إلى غيابه

إن كانت وحدة الأرض، وهي الشرط الأول للانتماء، متوفرة قبل عام 2011 في سورية، فنظرة بسيطة الآن إلى الخارطة ستكشف ليس غياب وحدة التراب الوطني فحسب، بل تشظيه فيما يشبه التقسيم غير المعلن وبشكل أقسى من تقسيمات الحرب العالمية الأولى واتفاقية سايكس بيكو. وذلك ما تُرجمَ على الأرض من مناطق نفوذ محلية ودولية وتقسيمات مفيدة وغير مفيدة! إن هذا التجزيء هو العرَض الأول لتفكك الهوية السورية.

إن من نافل القول أن نتحدث عن تنوع اثني وقومي في سورية، فثمة أديان، طوائف وقوميات مختلفة. لكن ثمة مرجعيات ثقافية لكل دين وطائفة وقومية، فكل دين هو ثقافة وكل فرط تدين هو سياسة، وإذا كنا عانينا، وما زلنا نعاني، من فقر ثقافي عام فليس سببه هذا التنوع، بل العكس وجود هذا التنوع هو دليل صحة، وهذا الفقر الثقافي مرده إلى الفقر في التكامل بين الثقافات المتنوعة في مجتمعنا الذي صُبغ ولعقود بثقافة وحيدة هي ثقافة السلطة.

يقول عبد الرحمن الشهبندر: “كل خنق للفردية قضاء على الارتقاء، والتجانس التام معناه الركود المؤذن بالتعفن والانحلال”. هذا الانحلال هو ما نعنيه بتفكك الهوية. وهذا يعني فيما يعنيه أيضاً أن الاختلاف لا التماثل هو المحرك لسيرورة المجتمع، أنا أختلف معك حول قضية إذاً أنت توسع زاوية الرؤية لهذه القضية، فأنت تكملني. لأن كل رؤية أحادية هي رؤية غير كاملة بالضرورة.

وإذا كانت التعددية السياسية تُلزم وجود أحزاب وقوى مجتمع مدني متباينة في الرؤى لتحقيق سياسة بالغة، وهي غير متوفرة، وإذا كانت التعددية الاقتصادية تُلزم وجود قطاعات اقتصادية عامة وخاصة متكاملة لتحقيق عدالة اجتماعية ورفاه مجتمعي، وهي غير متوفرة أيضاً، فهل عشنا تعددية ثقافية في سورية، وهي ما تحيل إلى الشرط الثاني للانتماء؟

في غياب التعدديتين السابقتين سيكون الجواب: لا. فعندما تكون ثمة رؤيا سياسية واحدة، ورؤيا اقتصادية واحدة سينتج لدينا مجتمع مكبوت، مجتمع يعاني من أنيميا حضارية وضعف في الانتماء.

يبدو من الإجحاف، الوصول إلى هذه النتيجة، فالمواطن السوري رغم تضافر كل العوامل السياسية والاقتصادية والثقافية التي تسلبه حق المواطنة، إلا أنه بقي سورياً وبقي متطلعاً لتحقيق وطن يكون فيه محترماً ويحيا بكرامة، ويمكننا أن نقول بأنه مُنع من تحقيق انتمائه، ونظرة سريعة إلى الأرقام التي نشرها مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية، هذه النظرة، وإن كنا نعيش واقعياً هذه الأرقام، ستكشف لنا عن عمق ما عاناه المواطن السوري المهدَّد بفقدان هويته: “بلغ عدد القتلى جراء الصراع (470 ألف حتى فبراير2016). (6.1) مليون نازح.(4.8) مليون طالب لجوء. في منتصف 2016 مليون نسمة يعيشون في مناطق محاصرة. (12679 لقوا حتفهم أثناء الاعتقال بين آذار 2011 وحزيران 2016).” رغم البرود المعلوماتي لهذه الأرقام، إلا أنها حارة جداً على الأرض، حارة وأكثر ظلماً وأسى. ماذا تعنيه هذه الأرقام بالنتيجة؟ فإذا كان الانتماء تعريفاً هو “الارتباط بالمكان”، المكان الذي يعني: وطن، الوطن الذي يكوّنه مواطنون لهم حقوق وعليهم واجبات ويحكمهم دستور، فهذه الأرقام تعني فقدان الحياة وفقدان المكان وفقدان القدرة على تحقيق الانتماء الذي يعني فقدان الهوية.

الهوية السورية: العنف والعنف المضاد

إن ما عنيناه بالانتماء هو الانتماء إلى وطن، وما عنيناه بالهوية هو عيش الشعور بالمواطنة، وما عزوناه إلى غياب التعددية على المستوى السياسي والاقتصادي والثقافي هو نقص المواطنة وحالة الاستلاب والقهر والظلم والشعور بالعجز.

وهنا سنسأل: هل العنف الذي مورس على السوريين جعلهم يخشون من تفكك هويتهم، وبالتالي جعلهم يتمترسون خلف هويات مختلفة؟ أم الخوف من فقدان هويتهم هو من دفعهم إلى العنف وحرض الروح القتالية لديهم؟ أم أنه تم استغلال قضية الهوية من قبل أشخاص لاستغلال مجاميع عريضة من الشعب السوري لتحقيق غايات سياسية أو حربية؟ عندها يصبح من المشروع أن نسأل: هل يمكن للهوية أن تكون وسيلة عنفيّة؟

مما لا شك فيه أنه تم استخدام الخوف من الآخر، والخوف على الهوية لتغذية الصراع في سورية ولتعميم الكراهية. إن تصوير الصراع على أنه صراع هويات هو إرهاب بلباس إعلامي.

لكن أية هوية تلك التي تقوقع حولها السوريون؟ أية تصانيف تم حشرهم بها؟

عندما نسمع شخصاً يقول: فلان سني سوري، أو علوي سوري، مسيحي سوري، درزي سوري إلخ… فمن البديهي أن نقول إن هذا الشخص بتصنيفه ذلك هو شخص طائفي وإن التحريض على العنف يبدأ من هنا: من التسمية. إنه يحدد هوية معينة.
إن التصنيف الذي نودي به في بداية الأحداث حول مكونات الشعب السوري هو تصنيف عنفيّ و صنف السوريين أولاً حسب المعتقد الديني (سني، شيعي، علوي، مسيحي، درزي، إلخ)، وثانياً حسب الانتماء القومي (عربي، كردي، آشوري، أرمني، إلخ…) لأن هذه التصانيف تجعل من المنتمي إلى دين أو طائفة أو قومية، تجعله يتمترس خلف دينه وطائفته وقوميته. إنها تحريض على الدفاع عن ذاته تجاه من يعتقد بأنه سيسلبه ذاته وهويته الضيقة وتجاه من يعتقد أنه في الطرف الآخر الذي هو دين آخر وطائفة أخرى وقومية أخرى.

لقد استخدمت هذه الآلية بشدة وقذارة في الصراع في سورية، فعندما يقول أحد مسؤولي السلطة بأنه يدافع عن أقليات بلده، فهذه مقولة تبطن عنفاً طائفياً. وعندما تقوم قطاعات عريضة من المعارضة بتبني صيغة مذهبية بعينها واستخدام شعارات واضحة المنشأ (التكبير مثلاً) أو تبني أسماء كتائب واضحة المدلولات، فهذا عنف طائفي أيضاً أو تحريض عليه. وعندما ترفع الميليشيات العراقية واللبنانية المقاتلة في سورية شعار “لكي لا تسبى زينب مرتين” فهذا يعني أنهم يقاتلون مدفوعين بهوية دينية طائفية وإن كانت ظاهرية إلا أنها ضرورية لحشد قطاعات من الشعوب من السهولة بمكان استثارتها دينياً. وما حدث من افتعال للقتال بين السنة والمسيحيين في حي الأرمن في حمص، أو بين السنة في درعا والدروز في السويداء، فلا شك أن هذه الحوادث ليست بريئة ومشغول عليها من قبل أشخاص طائفيين.

فالهوية الوطنية بقدر ما هي روح جامعة، تغدو الهوية المذهبية مدعاة لعنف وإرهاب أعمى.

الهوية السورية: الذات، الآخر ولعنة الإقصاء

ثمة نوع من الأسئلة يُثار دائماً، إلا أن الحرب جعلته أكثر استفزازاً وأكثر حضوراً واقعياً على المستوى الفردي وعلى مستوى التجمعات السكانية: ما الذي يحدد شكل علاقتي بالآخر، وما الذي يحكم نظرتي تجاه الآخر؟

في يوم ما من عام 2007 كنتُ في ميكروباص في ضاحية مشروع دمر، جلستْ إلى جانبي امرأة متوسطة العمر وتحمل عدادة تسبيح صينية، وتسبّح بصوت مسموع مشوّش خليطاً من بسبسة وتمتمة. شعرتُ بالضيق فطلبتُ منها بلطف أن تخفض صوتها أو أن تسبح بقلبها. نظرت إلي باشمئزاز واضح، لم تتكلم. وعندما كنتُ أغادر الحافلة، نظرت إلي وقالت: كافر. وتابع الميكروباص طريقه.

في حادثة أخرى في ذات الفترة، وتحمل ذات الدلالة، كنتُ عائداً من درعا في حافلة وأطالع كتاباً، خلفي جلس شاب يرتدي زياً باكستانياً وهو من أهل المنطقة وكان يقرأ القرآن بصوت عال ويتحرك إلى الأمام والخلف. عندما نظرتُ إليه طالباً تخفيض صوته فقط، ترفع عن الرد، هز برأسه مع نظره تحمل معنى الاشمئزاز أيضاً وتابع القراءة والاهتزاز.

في عام 2012 روى لي صديق كيف أجبر عنوةً على بيع بيته ومغادرة الحي الذي يسكنه، كان الحي أغلبية سكانه من الطائفة العلوية وكان هو سنياً، وفُهم ضمناً أنه من أنصار الحراك في سورية. بالمقابل كان هو ذات الشخص الذي اشترك في مظاهرة واشترط على المجموعة التي خرج معهم بأن لا يشتموا العلويين. نُظر إليه كشخص ضد الثورة وضد الحراك.

في الحرب الأهلية اللبنانية ظهر مفهوم: القتل على الهوية، مما أعطى معنى واحد للهوية: دينية أو مناطقية.

في المثالين الأولين، تأخذ الهوية شكلها الفردي في البعد بين الذات والآخر. فكوني أظهرتُ اختلافاً عوملت كمنبوذ مع القبول الصامت لركاب الحافلتين. الأمر الذي تعمم في المثالين الآخرين، فمن جهة أدى شعورهم الجماعي بانتمائهم إلى هوية واحدة إلى تعزيز التضامن ومن جهة أخرى أدى هذا الشعور إلى استبعاد الشخص الذي يعيش ضمن الجماعة السكانية نفسها ونُظر إليه كأنه يحمل هوية أخرى. ونفس الأمر ينطبق على المجالس الخالية من النساء، أو المدارس ذات الجنس الواحد. وهذا بالنتيجة لا يعني إلا أمراً واحداً: الإقصاء ولعنة المختلف.

الهوية السورية: هويات بديلة

لا شك بأن تعزيز قيم ومنظمات المجتمع المدني، وإيجاد بيئات تحتضن العلم وتؤمن به، ودعم توجه ديني معتدل، سيكون من شأنه تقليل أو الحد من مظاهر العنف الديني (الهوية الدينية). ومن جهة أخرى فإن إيجاد صيغ تعددية سياسية واقتصادية وثقافية أي ممارسة الديمقراطية ستحد أيضاً من مظاهر العنف السياسي (الهوية الحزبية) والذي يأخذ صيغته الواقعية بالحرب. لكن! هل هناك بالفعل هوية واحدة؟

لا أعتقد. فأنتَ صحفي ومثقف، وأنتِ مدرسة وباحثة اجتماعية، وأنا طبيب كاتب ومثقف، وهو…وهي …أليست هذه هويات؟ أليس هذا تصنيفاً سلمياً لأفراد المجتمع؟ أليست هناك هوية موسيقية، هوية رياضية، هوية علمية… ما أعتقد به هو أن مفهوم الهوية الواحدة الفريدة المتفردة هو وهم. فكل شخص يمكن أن يختار الهوية التي تلائمه. إلا أن الحرب والسياسة والدين والسيطرة هي من يجعل من “الهويات القاتلة” هويات مفردة ومتفردة يتم التمترس خلفها خوفاً من الضياع. وأنا شخصياً لستُ أخشى على الهوية الوطنية السورية من الفقدان بل أخشى على السوريين أنفسهم.

الحرب، تعطل البنادق والحل السحري

لطالما فكرتُ بأن أصحو على نبأ عاجل مفاده: تعطلتْ جميع الأسلحة في لحظةٍ واحدة في سورية. وفي غياب كل رؤية ممكنة للحل، هذا ما أستطيعه: أن أحلم.
قد يكون هذا الكلام اعتراضاً ساخراً من حربٍ ونجومها، قد يكون آليةً كلامية للرفض، وقد يكون إمعاناً متعالياً في إنكار الهزيمة. نحن المهزومين جميعاً، الجالسين على حافة كل شيء، فوق هاوية كل شيء، العالقين في المصيدة، النازفين على الأفق، الطاعنين في الصراخ، المطعونين بوجوهنا، اللاعنين الملعونين المتفرجين على اللعبة.

هذا شعر. ما الذي يستطيعه الشعر؟ ماذا نستطيعه نحن السوريين جميعاً؟ هل يمكننا تحقيق انتصار مرحلي على الحرب؟ داخلياً على الأقل؟ قد تكون الكتابة سلاحاً أزرق في وجه الاستلاب. هذا ما أجيده وما أحاول فعله. علينا أن نقيس درجة صراخنا الجوفيّ وأن نملّحَ جراحنا كي لا تفسد.

بيان من أجل الهوية السورية

بيان من أجل الهوية السورية

سأبدأ بنتيجة ماثلة وعكسية من فكرة البحث عن الهوية السورية وحقيقة التعاطي معها كواقع مادي سياسي لا يقبل المقايضة بالمعنى المبدئي المتعلق بالثمن الباهظ الذي دفعه وما زال يدفعه السوريون من أجل التعاطي بشكل جدي ونقي وذي كفاءة مع إمكانية الحصول على جوهر الهوية الجديدة وفق رؤية العام 2011.

بصراحة الذين يتحدثون عن التقسيم مثلاً هم -ومن دون القصد في تخوينهم- ممن يسعون أو يبررون التقسيم بقصد أو بدون قصد وذلك يحصل عندما يتقبلون أو يبررون شرعية المصالح الإقليمية داخل سوريا بتعريفها كجهات مزعجة للنظام ومساعدة للهدف السوري الثوري النقي، وتلك القناعة تمثل وهماً مزدوجاً سياسياً وفكرياً. دولٌ تعيش داخليا حالات قمع غير متناهية، كيف بأي حال من الأحوال ستؤمن بالمشروع الديمقراطي؟ أو أن يكون لديها رغبة بإنهاء الصراع السوري من دون أن يكون لها أجندتها الخاصّة؟ علينا أن نستيقظ من توهمنا هذا. مع العلم أن فكرة التقسيم بمعنى أن تُحوّل سوريا لدويلات، فكرة هشّة ولا تنسجم مع طبيعة أو واقع الصراع في سوريا بالرغم مما تعيشه من تمددات عسكرية توحي بذلك، ومع ذلك يبدو البت في هذا الأمر بشكلٍ جذري صعباً، والأيام المقبلة ستشي بالكثير.

ضرورة التمرّد في هذه المرحلة

أرى ضرورة بناء الثقة وتبني الشجاعة الأخلاقية التي تجعل البيئة الرافضة للنظام السوري تقوم بمراجعة شاملة مبنية على رغبة جادة في التغيير الجذري لقوى المعارضة الناطقة باسم الشارع المعارض عموما بوصفها جزءاً من المشكلة، وليست مسبباً لها،

وبالتالي اعتبار بشكل واضح وصريح وعلني أن الائتلاف السوري المعارض والتيارات السياسية الأخرى لم تستطع أن تقدم إضافة يخدم المشروع المتمدن الحضاري الذي يطمح ويؤمن به السوريون.

وأرى أنه من الضروري في هذه المرحلة تحديداً البحث عن كيان معارض منظم أكثر فاعلية وبالتالي تحديد معنى الهوية القادمة التي تلبي طموح مفكري ومثقفي الحراك السوري ممن يؤمنون حقيقةً بمشروع 2011 كواجهة حضارية قادرة وجديرة تقوم لاحقاً بتصدير أفكارها بوصفها تكريساً لكل ما هو حر في العالم كله.

إذا دققنا النظر فسنلحظ أن الصراع السوري لم يعد بكافة تبعياته ملكاً للسوريين وحسب، بل بات ملكاً لكل من يفكر بنقاء وبوجع في الوضع السوري، كلٌ منّا سيلحظ من موقعه وفي أي بلد يعيش به كلاجئ أو مقيم –حجم التفاعل مع عدد ليس بقليل من بعض الشبان والمهتمين بشأن السوري لكونه حدثاً عالمياً يفرض نفسه بقوة على الفكر السياسي العالمي شاء أم أبى والبحث عن الكيان المعارض الذي قصدته يتم عبر الإصرار على رفض الكيان الموجود حاليا بشكل علني وعبر خطاب موحد، حتى لو لم يتسن خلق كيان معارض آخر كبديل جاهز.

حقيقة لا مفر منها

من الناحية الواقعية لن يستطيع الشخص السوري المعارض أو المؤيد على حدٍ سواء تقديم طموحاته السياسية من منطق اختيار “فيدرالية مركزية” ومن باب حقه في المواطنة بينما يتم الآن في اللحظة اجتياح الشمال السوري من قبل الأتراك، مثلما تمَ ويتم سيطرة الروس والإيرانيين على مناطق دمشق وريفها، وغوطتيها، يأتي هذا بالتزامن مع تصريحات تخرج من زبائنة النظام من هنا وهناك تقول إنهم لم يعودوا يحتاجون أصلاً للحل السياسي في ظل الانتصارات العسكرية التي يحققونها.

بالتأكيد لا أبتغي تكريس حالة التشاؤم في أوساط المعارضة من دون طرح حلول أو تقديم رؤية تسترجع حالة التعبير الرافض النقي التي باتت في الحضيض، برأيي الحل يكون في تبني مبدأ -الفكرة الصادمة – بمعنى القول علنا بأن المعارضة المتواجدة وكذلك الجيش الحر الذي بات فصيلاً تركياً أكثر من أي شيء آخر، هما فصيلان معارضان رافضان للنظام السوري، ولكن لا ينتميان للبيئة الثورية العادلة التي سعينا ونسعى إليها – وهي بيئة 2011، بمعنى ليس كل من يعارض النظام له الحق بأن يمثلني…

لماذا يقاتلون مع الأتراك؟

لماذا علينا على الدوام تقبل أي تحول سياسي من دون أن نعرض أفكارنا وطموحاتنا -نحن كتيارٍ غير مرئي لكنه لم يمت هل علينا تصديق بأن الفصائل الإسلامية المتشددة تقاتل من أجل إحلال دولة القانون بسوريا! كلنا يعلم إيديولوجية هذه الفصائل ومشروعها، لماذا علينا الرضوخ والاقتناع بأنه يجب أن نبقى تابعين لبرنامج سياسي دولي لا يمت لقِيمنا الثورية ببصلةٍ؟ لنسأل أنفسنا ماذا سنترك للجيل القادم داخل سوريا؟ يجب أن يعلموا بأن ثمة جيلاً كان فعليا يطالب بحقوقٍ مشروعة.

“النظام إذا انتصر” فهو لم ينتصر على حراك 2011 وإنما على محاكاة ذلك الحراك، انتصر –إذا انتصر- على معارضة لم تعد تمثلنا عندما تبتعد عنا لذلك الحد، معارضة لم تعد جامعة، معارضة لم تعد تملك القدرة على إصدار بيان يطالب بحماية المدنيين مثلما جرى بحالة مدينة عفرين السورية، بات الائتلاف السوري المعارض جزءاً من مشروع تركي ولم يعد مشروعا يمثل كل السوريين -كغاية لـ 2011!

إحياء مبادئ 2011من جديد

سيسأل سائل من نحن كي نفرض رأينا على المجتمع الدولي، أو على الآلة العسكرية؟ هذا تساؤل منطقي… ثم يضيف ذلك التساؤل من السذاجة التحدث عن مبادئ في ظل الخراب والدمار وانعدام كل ما يمت بِصلةٍ للقيم بسوريا.

ولكني أرى بما لا يقبل الشك أن الإصرار، وتبني الفكرة الصادمة القائمة على الرغبة بالتغيير الثوري والجهر بها، وتهريب الأفكار التي تنتمي –لإحياء الثورة النقية – وتبني مبدأ الفكرة الصادمة وتشريبها إلى الداخل السوري وبكل مكان يتواجد فيه السوريون والمؤمنون بالقضية السورية في العالم، عبر كافة القنوات المتاحة كي يطلع عليها الجيل السوري الذي يحاول النظام تأليبه علينها بوصفنا إما إرهابيين أو عملاء!

فالتصميم هو أن مصطلح التمرد النقي لم يَمت، وأننا ما زلنا خصوم النظام الذين يخشاهم أكثر من غيرهم من خلال تأثيرينا على تأليب الرأي العام بسوريا في أي وقت، من خلال أرشفة الكتابات وتمريرها على الداخل، وعبر الندوات والمناقشات، وعبر الضغط الثقافي في كل مناسبة تؤكد على قيم2011، لا نطالب هنا النسق الاحتجاجي التقليدي بتأليب الشارع المنهك من جديد، نحن نطالب أنفسنا بألا نتخلى عن هدفنا المشروع وعدم الإيمان بقناعات المجتمع الدولي عبر التسليم باطنيّاً بأن النظام انتصر فكريا. ربما يقول رأي أخر بأن هذا الطرح متفقٌ عليه وأنه يتسم بطابع نظري وغير واقعي؟

أقول: لا ليس متفقاً عليه! أي عندما لا نسعى للشيء الذي نتفق عليه جميعاً فإننا غير متفقين عليه من حيث المبدأ، إذا لم نسع للحظتنا الخاصة بنا فإن هذا هو الشيء النظري وليس عكسها، علينا أن نصدّق حلمنا وأملنا وألا نخذله عبر إهماله وعدم السعي خلفه وبالتالي تدميره بتركه للبديل الذي يمثل محاكاة لحلم الأمس.  بمعنى، لماذا علينا أن نتوقع حدوث كل ما هو غريب وعبثي وسيء، وهذا يحدث في سوريا بطبيعة الحال، ولا نتوقع تحقيق شيء بسيط من الذي نؤمن به؟

عندما تشهد البلاد كل هذه الاحداث فمن الطبيعي أن يتحقق الهدف الأساسي المسبب لكل ما جرى، وهذا سيحدث بالضرورة، لكنه يحتاج لصبرٍ ووقتٍ وعمل بصمت، ولا يمكن الطلب في خضم ذلك من المناطق السورية التظاهر من جديد بينما نحن ننظّر من خارج البلاد كما يُقال، وإنما الهدف إنجاز ورقة يتم الاستناد عليها داخلياً لاحقاً على الأقل بعد رحيل الدفعة الأولى من نظام دمشق.

أرى أن الطريقة الوحيدة لنبذ ورفض حالة –الاحتلالات- التي تعيشها سوريا – روسيا-إيران-تركيا، والنظام كاحتلال داخلي، -هو العودة لإحياء الفكرة الأساسية التي خرجت الجموع من أجلها وهي: سوريا الجامعة – عبر تبديل النظام السياسي، ورفض الجيوش الإقليمية الموجودة عبر صوت واضح غر مقسّم يدعو عبر تعريف واضح ومكرر للعودة إلى الرفض النقي.

كيفّية تجاوز الحساسيات السورية

أعتقد واقعياً أنه سيتم تجاوز الحساسيات والصراعات السورية عبر صُدف وأحداث سياسية فجائية تدفع الأزمة السياسية إلى حافة سيتم عبرها فرض حل سياسي يتأقلم الجميع معه خاصة بعد الإنهاك الذي طال الناس في الداخل السوري تحديدا، وبالتالي ربما لا يكون تجاوز الصراع لدى السوريين خياراً بقدر ما هو حاجة للهدوء والأمان والتخلص من شبح الموت، على الرغم من خصوصية المسألة السورية عموماً ومكانة المنظومة الثورية سابقاً فيها إلا أنه ثمة تجارب سابقة عاشتها المنطقة تحاكي ما يحدث الآن في سوريا “كحرب لبنان مثلا” إذا فشلت محاولتنا كمتمردين نتطلع للعدالة فهذا لا يعني أننا فشلنا فعليّا بقدر ما يعني بأننا سننجح يوما ما.