بواسطة Arwa Ghassan | أبريل 4, 2018 | Roundtables, غير مصنف
“أنا سوري” ربما باتت هذه الكلمة هي الوحيدة التي تجمع بين السوريين، في وقتٍ اختلفت فيه المواقف والآرء، وكثرت فيه المصطلحات والانتماءات الطائفية والدينية والعرقية.
إذن في زحمة كل التعصبات والتحزبات التي طفت على السطح بعد الثورة السورية، لازال الذي بقي في البلد أو ذلك المُهجّر قسراً أو المدني أو المقاتل ، يجيب -وبشكل فطري-بـ “أنا سوري” عندما يسألونه من أين أنت.
انتظر… فقد تستمر الحالة اللاشعورية لثوان معدودة، ولكن لا بد للنزعة المناطقية أن تخرج هنا، وهذه المرة بالحالة الشعورية ومع سبق الإصرار والتصميم، ليعود السوري ويقول لك إنه “شامي”… أو حمصي أو حلبي أو درعاوي أو جزراوي مثلاً.
وهنا تبدأ دوامة أخرى من التفاصيل التي لاتنتهي، ومحاولة إثبات حسن الحسب والنسب والتفوق على أبناء المناطق الأخرى، وهذه الحالة قديمة صراحة نستطيع اختصارها، بمصطلح “برا السور وجوا السور” المقصود هنا سور دمشق القديمة، هذا إن كان المدعو من دمشق تحديداً، أو ابن الريف والمدينة في الحالات المتبقية.
عندما يُعرّف السوري بنفسه، فإنه لايحكي عن طبيعة موقفه السياسي إلا إذا سُئل عن ذلك، وما أكثر من خاب ظنهم بما تبقى اليوم من سلطة ومعارضة، فالسوريون وجدوا أنفسهم لوحدهم، ولم يكن معهم في معاناتهم اليومية داخل البلاد وخارجها، فمن الغلاء إلى التهجير، إلى القتل والحصار والتجويع، والذل على أبواب السفارات والقنصليات.
لم ننته بعد… فها أنت وحيد إلا من منفاك، ها أنت وحيد إلا من عذابك، تحمل ذكرياتك عبر زمان لن يعود يوماً، تستذكر في الأزقة الأوروبية ملامح حارتك القديمة، تغمض عينيك للحظة، فلا تجدها، يا للغربة المفتوحة.
متى سنعود، وإلى أين سنعود، يطرق هذا السؤال بال معظم السوريين، دون وجود إجابة واضحة، ربما كان السوريون في السنوات الأولى من الثورة يعوّلون على المؤتمرات الدولية وقدرتها على الوصول إلى حل ينهي المأساة، ولكنها ذهبت كما أتت، فلا الأسد غادر السلطة، ولا المعارضة أثبتت فاعليتها على الأرض، فيما يزداد عدد العناصر والميليشيات والدخلاء في المناطق السورية يوماً بعد يوم.
في سبيل الحرية… هذا ما خرجت لأجله الثورة السورية عام 2011، وهذا ما صرخت به الحناجر آملةً في نيل المنشود، ولكن في دولة البعث كان المنشود غير موجود، والأكثر من ذلك أن مؤيدي النظام السوري أصبحوا على عداء تام مع كلمة حرية، حتى أنها لا تدور في أحاديثهم اليومية، ولايسمحون لأنفسهم باستخدامها أبداً، وصارت تعني لهم بشكل أو بآخر قوى المعارضة، مقابل تمسّك الأخيرة بالكلمة رغم دخول الثورة عامها الثامن.
مصطلح الثورة، بات أيضاً تهمة تُجرّم من يقولها في ظل حكم نظام الأسد، كذلك حمل مؤيدو الأخير عداء كبيراً تجاه المصطلح، وبات يعني لهم الخراب والتدمير.
بالمقابل شكّلت كلمة “إلى الأبد” عقدة مزمنة لدى المعارضة بقدر ما تحمله الكلمة من زمن غير منته، فأبرز شعارات حزب البعث قامت على هذا المصطلح، في إطار ترسيخ فكرة بقاء آل الأسد في السلطة إلى ما لانهاية، ولكن المعارضة قامت بنسف المفهوم تماماً وأطلقت شعاراً مضاداً لطالما استُخدم في المظاهرات، وهو “ما في للأبد… ما في للأبد… عاشت سوريا ويسقط الأسد.”
الصراع في سوريا، لم يُبنَ فقط على اختلاف الموقف السياسي فحسب، وإنما لعب الاختلاف الديني دوراً كبيراً في إذكاء نار الصراع، ولكن إلى حد الآن لا يُعرّف السوري نفسه بناء على طائفته، إلا في حال سُئلَ عن ذلك بشكل مباشر، وهنا لابد من القول إن الانتماءات الطائفية بلغت أوجها بعد عام 2011، حتى أن الانتماء السياسي بات يُحسب في بعض الأحيان على أساس الطائفة، فمثلاً وحسب النظرة الشعبية، ابن الطائفة العلوية مؤيد بالضرورة لنظام الأسد، والكردي شخص انفصالي لامحالة، وابن الطائفة السنية هو معارض، وبأحوال أخرى “داعشي… إسلامي…”
وبحسب نفس النظرية الجديدة بات ابن الطائفة المسيحية مؤيداً بالغالب، أو غير منتمِ بأحوال أخرى، فيما عزز سفر قسم كبير من أبناء الطائفة المسيحية خارج البلاد مع بداية الأحداث هذه النظرية.
التشرذم الكبير في الحالة السورية، تعمّق أكثر مع موجات اللجوء المليونية خارج حدود الوطن، التي أدت إلى اختلافات جذرية في الشخصيات والنفسيات تبعها بالضرورة تغييرات في طريقة التعبير عن الآخر وعن النفس وعن المجريات المحيطة، فبينما استكشف السوريون الذين غادروا البلاد أن الحيطان ليس لها آذان، لازال سوريو الداخل “يمشون الحيط الحيط … ويارب السترة”، بمعنى أن الخوف من الحديث في المواضيع السياسية بدأ يختفي تدريجياً من حياة غالبية سوريي المهجر، بينما بقي مسيطراً على قلوب وعقول أهل الداخل.
تغير مفهوم الوطن اليوم بعد العذابات والقهر والكبت الذي ذاقه السوريون داخله، فأصبح الوطن هو جواز السفر الأوروبي، أو الفيزا، أو المكان الذي يمنح السوري الأمان، ويحفظ كرامته ويصون حريته.
الكل بات يقاتل اليوم من أجل البقاء، نعم هكذا باتت تُحسب الأمور، أما النظام فلا يهمه من بقي ولا من ذهب، فالدولة هي دولة العسكر، دولة السوط والحذاء والبندقية، فرغم كل ما حصل لم يغير النظام أسلوبه في التعامل مع المواطنين، لابل أن الظلم والفساد يزداد تشعباً، في الوقت الذي يزداد فيه المشهد الدولي قتامة وضبابية، إزاء ما يحدث في سوريا.
ما يريده السوريون صعب جداً ويختلف من فرد إلى آخر، ولكن مهما اختلفت الآراء والتوجهات، فهم يحنّون أبداً للعودة إلى لمة الأسرة السورية البسيطة في منزل الجدة الحنون، التي جسّدها مسلسل “الفصول الأربعة”، أفضل تجسيد عندما عُرضَ بجزئه الأول عام 1999، في وقت كان راتب موظف الدولة فيه لايزيد عن خمسة آلاف ليرة سورية، في وقت كانت فيه رفاهية المواطن أن يجد مقعداً فارغاً في ميكرو “دوار شمال”، أو “مزة جبل-اوتستراد.”
“أنا سوري… آه يانيالي…” أغنية لطالما رددناها بالصغر، أما اليوم انقلبت المعادلات والموازين وبتنا نقول “أنا سوري… آه يا ويح قلبي!”
بواسطة Rania Mostapha | أبريل 3, 2018 | Roundtables, غير مصنف
عندما تتصاعد الأزمات الاجتماعية وتصل إلى المستوى السياسي العميق، كالثورات والحروب الناتجة عنها، يتصاعد الحديث عن شكل الدولة ودستورها، ويحضر نقاشٌ الهوية، والتي يجب أن تطابق هوية المجتمع حتى تعبّر عنه.
في الحالة السورية، استطال الصراع بين النظام والمعارضة، وتشابك وتعقد مع التدخلات الإقليمية والدولية؛ وبعد فشل الإيديولوجيا القومية البعثية في خلق هوية سورية جامعة، تبين أن لا هوية سورية ناجزة تعبّر عن كل الشعب، في ظل تصاعد هويات قديمة دينية وطائفية وعشائرية وقبلية، وأيضاً هويّات قومية.
هناك آراء عديدة ترى أن تلك الهويات القديمة المتصاعدة هي ميّزة من ميزات المجتمع السوري، أو ما اصطُلح تسميته بالنسيج السوري الفسيفسائي، وأن المجتمعات العربية غير قادرة على الولوج في عالم الحداثة وقيمه، وبالتالي يجب أن يطابق العقد الاجتماعي هذه الخاصية، أي يعترف في نصوصه بأن المجتمع طوائف وقوميات وعشائر وإثنيات، وأن الديمقراطية المناسبة لسورية هي ديمقراطية تمثيل هذه التصنيفات. أو هناك من يطرح فيدرالية الطوائف والقوميات، وهناك من يذهب إلى أبعد من ذلك، أي التقسيم على أساسها؛ وقد رأينا أن الطروحات الأخيرة سقطت، إذ لا إرادة دولية، لمجمل الدول المتحكمة، بتقسيم سوريا.
ورغم ترسيخ نظام البعث، واستغلاله المسألة الطائفية، لكنه لم يشجّع على تشكّل زعامات طائفية في سورية، وهي لم تكن موجودة من قبل كالحالة اللبنانية. هذا جزءٌ من سياسته في التفرد في الحكم، وليبقى هو الضامن الأوحد لتماسك تلك البنى القديمة، وتخويفها من التفجّر ضدّ بعضها.
الطوائف انشقاقات فكرية متقادمة عن الأديان، في المبادئ والقيم والعبادة، وقد تحولت إلى بنى مجتمعية مع انهيار الدولة العربية الإسلامية. لكن المنطقة لم تعرف استقراراً حقيقياً يؤدي إلى دخول مجتمعاتها في عالم الحداثة وقيمه السائدة في أوروبا، وبما يقطع مع تلك البنى القديمة ويعيد القصة الطائفية والدينية عموماً إلى الحيز الفكري والإيماني؛ فقد عاشت المنطقة تحت حكم الدولة العثمانية لفترة طويلة، حيث حافظت على تلك البنى، وتلاها الاحتلال الفرنسي الذي استغل الوضع الطائفي، ضمن سياساته في ترسيخ تخلف هذه الشعوب للسيطرة عليها. وتليها فترة عدم الاستقرار، في ظل سلسلة من الانقلابات العسكرية، مدعومة بالبرجوازيات المدينية المتنافسة، والتي لم تحمل مشروعاً نهضوياً حداثياً، كحال كل البرجوازيات العربية في الدول الكولونيالية.
ثم جاءت فترة استلام البعث القومي العربي الطويلة للسلطة، والتي رغم شعاراتها التقدّمية والاشتراكية والتحرّرية، لم تقطع مع البنى التقليدية للمجتمع، بل حافظت عليها، خاصة بعد السبعينات، عبر اعتماد تحاصص طائفي وعشائري وقومي في كل دوائر الدولة ونقاباتها وفي الحزب نفسه. واستغل النظام هذه البنى في قمع معارضيه مرات عديدة، في حرب الثمانينات ضد الإخوان، وفي انتفاضة الأكراد 2004، وفي الثورة السورية.
وصول البعث إلى الحكم جاء في سياق صعود الأحزاب القومية في البلدان العربية التي كانت تحت سيطرة الاستعمار القديم. فمنذ مطلع القرن العشرين، تصاعدت لدى العرب الهوية العروبية كرد فعل على سياسة التتريك العثمانية. ولم يكن هذا الصعود العربي مؤدلجاً، بل كان شعوراً جامعاً لأبناء المنطقة العربية، أساسه وجود لغة تواصل مشتركة، وبالتالي ثقافة وتقاليد مشتركة، مما ولّد شعوراً بوحدة المصير، ورغبة في الارتقاء، والتحرر من سلطة العثمانيين المتخلفة. وبالتالي لم تدخل الهوية العربية في صراع مع الهويات القومية الأخرى في المشرق العربي، إلا بعد تسلّم الأحزاب القومية الحكم، وما ترتّب على أدلجة الهوية القومية العربية في فكرها. لكن ترافَقَ صعود الهوية القومية العربية، ثم تشكل الأحزاب المؤدلجة لها، مع صعود تيارات إسلامية تتمسك بالخلافة، ومنها ظهرت جماعة الإخوان المسلمين في مصر وبقية دول المنطقة، لكنها حينها لم تكن مسيطرة، إذ كانت الرغبة العربية في التحرر من الاستعمار العثماني هي الطاغية.
حزب البعث العربي لم يكن يرى سورية إلّا وطناً مؤقتاً، وأنّه ناتج عن تقسيم المنطقة عبر سايكس بيكو، وهو ما كان يتوافق مع المشاعر العربية في سورية عموماً. لكن بعد السبعينات، أي بعد ترسيخ الديكتاتورية، بات كلّ فكر البعث مجرد شعارات، وباتت الهوية الوطنية تمنح أو تُسحب من الأفراد، حسب الولاء لنظام الأسد الأب، والذي بات شمولياً؛ أي يمكن القول أن الهوية السورية في ظل نظام الأسد باتت مبنية على الولاء، في دولة الولاء.
تمكن انقلاب البعث العسكري من تثبيت حكمه، بعكس الانقلابات التي سبقته، عبر أمرين أساسيين: الأول أنه حقق بعض التقدّم للفئات المهمّشة، وكسبَ ولاءها في الجيش والحزب وإدارة مؤسساته؛ والثاني في تحالفه مع الطبقة البرجوازية المتوسطة وجزء من القديمة.
حمل فكر البعث مشروعاً تقدمياً وتحررياً عروبياً بنكهة اشتراكية، تمثّل في تبنّيه القضية الفلسطينية، والتي كانت قضية العرب الكبرى، وفي قانون الإصلاح الزراعي وتأميم بعض الشركات، وإنشاء أخرى، وقوانين تتعلق بمجانية التعليم، والعمالة الكاملة، والطبابة المجانية… واستفادت منه الفئات المهمشة في الأرياف خاصة، والتي سارعت إلى الانتساب إلى الحزب والجيش والعمل في مؤسسات الدولة. لكن البعث لم يستمر فيما بدأ عليه؛ فمع استلام حافظ الأسد للسلطة، وميله إلى التفرد بها على مراحل، انتهى حكم البعث إلى حكم الدولة الأمنية، وما يرافقها من فساد وميل إلى النهب، خاصة من الفئات الحزبية التي أتت من أصول مهمشة وأصبحوا مسؤولين ومدراء عامين لفترات طويلة. فتلك الفئات كانت طامحة إلى تحسين وضعها، وأظهرت ميلاً أيضاً إلى النهب واستغلال المناصب، وبالتالي تفشّى الفساد والمحسوبية والبيروقراطية، التي كانت ضرورية لاستمرار هذا النهب، مع استمرار مراعاة التوزيع الطائفي ضمن مؤسسات الدولة. من هنا توقفت أية إمكانية للتطور والتحديث، وبالتالي بناء علاقات مجتمعية قائمة على الفرد (المواطن)، بدلاً من الطائفة والمذهب والعرق والقومية… ولم يتحقق القطع مع البنى التقليدية المتخلفة، وبات من السهل العودة إليها بقوة، وهو ما ظهر خلال الثورة السورية.
تحالُفُ البعث مع البرجوازية المتخلفة، والعاجزة عن تحقيق التقدم، منذ الحركة التصحيحة، له أثر كبير أيضاً في الحفاظ على البنى التقليدية. فقد كان هذا التحالف أساسياً في ترسيخ الحكم، لكنّه مشروط بالإبقاء على بناها القديمة؛ فهذه الطبقة مدينية، مترابطة عضوياً، عبر صلة القرابة، مع المؤسسات الدينية الكبرى المتقادمة في دمشق وحلب، والمسيطرة على المجتمع “السني” خصوصاً في تلك المدن. وهذه الارتباط العضوي المتحالف، مع المؤسسات الأمنية، مؤثر بشكل فعال في كل سياسات النظام الداخلية، خاصة الاقتصادية والاجتماعية. فإذا كانت رغبة الفئات الريفية، التي ساهمت في ترسيخ النظام، في تحقيق التقدم والارتقاء تجعلها قادرة على تقبّل قيم المواطنة والعلمانية، فإنّ شرط الفئات البرجوازية كان عكس ذلك، أي رفض العلمانية، والإبقاء على البنى القديمة، وهو ما يُفسّر أنّ دساتير البعث، وبالمثل ما سبقه من دساتير، اضطرت إلى الحفاظ على تفاصيل تدلّ على الهوية الإسلامية، كدين الرئيس، وأن الإسلام أحد مصادر التشريع. والواقع أنّ الإبقاء على الهوية الإسلامية في دساتير البعث هو ليس من باب تمسّك الأكثرية الطائفية بالهوية الإسلامية كما يحلو لكثيرين تفسيره، ولكنّه نزولٌ عند رغبة الفئات البرجوازية المشاركة في الحكم، والتي في نفس الوقت تموّل وتدعم المؤسسات الدينية. ومن هنا يمكن فهم تحالف نظام الأسد مع مؤسسة كفتارو مفتي النظام، ودعمه لها، مقابل مبادلتها الدعم أيضاً، كمصلحة متبادلة، وبالمثل علاقة النظام بالخزنويين ومنهم محمد سعيد رمضان البوطي، ولاحقاً تقارب بشار الأسد من جماعة زيد الدمشقية، التي كانت ممنوعة بسبب مشاركة أفراد منها في حرب الثمانينات إلى جانب الإخوان المسلمين، والسماح بعودتها، وزيارته لأحد زعمائها، الشيخ سارية الرفاعي.
إذاً بنية نظام البعث لم تكن طائفية، بل هو استغل كل تناقضات المجتمع السوري لترسيخ حكمه، وهو مجموعة من التحالفات السياسية والاقتصادية والأمنية، والتي تعرضت لإعادة هيكلة مع قدوم الأسد الإبن إلى الحكم. فقد ترافق ذلك مع انتقال النظام إلى المزيد من الانفتاح الاقتصادي وبشكل رسمي، بضغط من الفئات الإدارية القديمة، من حزبيين ووزراء ومدراء عامين، والتي رسملت بفعل النهب، وأرادت الاستثمار، عبر أقرباء لهم، في مجال الاقتصاد المكمّل لدورة رأس المال، أي المجال الريعي، وبالتالي تخلّت الدولة رسمياً عن دعم الزراعة والصناعة الوطنية، واضطرت إلى تقليص الدعم الحكومي؛ وتحول النظام بالكامل إلى حكم مافيا عائلية، تقيم التحالفات التي تحافظ على بقائها في الحكم. هذه الانتكاسة أدت إلى المزيد من عدم الإحساس بالأمان لدى الفئات المهمّشة بما فيها التي استفادت من فترة الستينيات، والتي ارتدّت إلى بناها التقليدية، من أجل الحصول على الأمان الاجتماعي، في ظل تراجع حجم إنفاق الدولة الاجتماعي، وعن تأمين فرص عمل للجميع. وبالتالي تصاعدت الهويات الدينية في ظل حكم بشار الأسد، سواء الطائفية أو الإسلامية، وكذلك تصاعدت الهويات القومية من غير العربية.
الهوية الكردية هي الأكثر تأزماً في سورية، فقد برزت بشكل صارخ خلال الثورة السورية. أكراد دمشق حصلوا على كامل حقوق العرب المدنية، بل استطاع النظام كسب تأييدهم عبر المؤسسات الدينية الكبرى التي تحالفت معه، ويقودها أكراد، كفتارو والبوطي. وبالتالي يمكن القول أن أكراد دمشق وبقية الداخل السوري مندمجون إلى حدّ كبير ضمن المجتمعات العربية، ولم يسبق أن طرحوا إشكالية الهوية القومية خارج ما يطرحه العرب.
في حين أن أكراد شمالي شرقي سوريا عانوا من التهميش ومنع الحقوق الثقافية، والحرمان من الجنسية، في ظل حكم البعث، والحكومات التي سبقته. وبالتالي ظلت الرغبة في الاستقلال أو في عودة الدولة الكردية مرافقة لهم، ولم يضيّعوا فرصة للمطالبة بها، وهو ما حصل في الانتفاضة الكردية 2004، بعد الاحتلال الأمريكي للعراق، والذي استفاد من تهميش نظام البعث العراقي للأكراد، ليكونوا أدوات لأمريكا، حيث دعمت استقلالهم في إقليم كردستان؛ لكنها لم تدعم رغبتهم في الانفصال لاحقاً.
وبالمثل، لم تدعم أمريكا أو روسيا قوات البايادي في معركة الاحتفاظ بعفرين ضد التدخل التركي وما انضم تحت لوائه من قوات عربية. وبالتالي الدعم الأمريكي لقوات سوريا الديمقراطية جاء أيضاً في إطار تشغيل هذه الفصائل لخدمة النفوذ الأمريكي في مناطق شرق الفرات، حيث حقول النفط والقواعد العسكرية الأمريكية.
وقبل ذلك، في 2011، النظام نفسه استغل علاقته الجيدة مع حزب العمال الكردستاني في تركيا، وسمح لفرعه في سورية (البايادي) بقيادة صالح مسلم، بإقامة سلطة كردية في الشمال الشرقي، وذلك من أجل قمع الانتفاضة الكردية في عامودا، والتي كانت في سياق الانتفاضة السورية، ورفعت الأعلام الكردية إلى جانب العلم السوري، للتأكيد على الهويتين الكردية، والسورية (أي الوطنية)، وحملت شعارات التضامن مع مدنها، درعا وبانياس وحمص…، أي لم تكن تحمل شعارات انفصالية، أو حتى مطالبات بالفيدرالية، كما هي حال الخطابات الكردية مؤخراً.
عملية “غصن الزيتون” التركية، أزمت الوضع كثيراً، وأدت إلى انتكاسة حقيقية في الهوية الوطنية السورية للأكراد، ازدادت مع تكثيف الخطاب الإعلامي المدعوم من قوات البايادي ضد العرب، وما نتج عنه من خطاب عربي مضاد، وغالباً مترافق مع نفس إسلامي آت من تحريض يقوده أئمة مساجد تركيا الموالين لأردوغان. وبالمحصلة وصلت حدة التناحر العربي الكردي إلى أقصاها مع التدخلات الإقليمية والدولية، وتوافق تلك الدول مع تركية، رغم أن شرائح واسعة من المثقفين العرب يحاولون احتواء الموقف، واستيعاب حدة الخطاب الكردي.
العديد من النخب الليبرالية تطرح العودة إلى الهوية السورية “الوطنية” الجامعة لكل السوريين، وأن تبنى الدولة على أساس الديمقراطية والمواطنة، وفصل الدين عن الدولة، وأن يكون الدستور ملائماً لروح العصر، وللقيم الليبرالية السائدة لدى الغرب، أي احترام حقوق الإنسان، والحريات العامة والثقافية وحرية المعتقد.
لا مشكلة في هذه الطروحات، لكنها لا تكفي لتحقيق الاستقرار، ولا تؤسس لمشروع يقطع مع البنى التقليدية الاجتماعية المتخلفة. القطع معها يحتاج إلى أن تأخذ الدولة دورها في توفير الأمان الاجتماعي والاقتصادي لمواطنيها، وتأمين فرص عمل للجميع، وزيادة المكتسبات الاجتماعية للمواطن، الفرد. هذا يحتاج إلى صناعة متطورة ودعم الزراعة، ودعم البحث العلمي، ومجانية التعليم والرعاية الصحية، وعدم التخلي عن القضايا العربية ومنها القضية الفلسطينية. بالتأكيد تفتقد سوريا الآن، وكذلك بقية الدول العربية التي قامت بها ثورات، إلى قوىً سياسية تحمل تحقيق هذا الهمّ. وبالتالي ستشهد سوريا والمنطقة المزيد من حالة عدم الاستقرار، والمزيد من صعود الهويات المتقادمة، وتصارعها، خاصة في ظل الاحتلالات المتعددة، إلى حين تشكل تلك القوى.
بواسطة عمر الشيخ | أبريل 2, 2018 | Roundtables, غير مصنف
عندما كنت أغادر إحدى الخمارات في منطقة باب شرقي بدمشق القديمة، قبل الرحيل عن سورية أواخر العام 2015، كنت قد وصلت قرب الباب العتيق الفاصل بين الشارع المستقيم في المدينة القديمة والبيوت الدمشقية الجميلة وطريق السيارات العام، كنت أشاهد بحزن سحب الدخان الأسود والحرائق المتصاعدة من أطراف مدينة جوبر، ثم أعبر باب شرقي باتجاه موقع ميكروباص جرمانا عند مفترق طريق المليحة، عند الزاوية أمر بجانب جامع له مئذنة طويلة جداً، تطل على كل المدينة، تحت المئذنة تماماً ثمة باب للجامع وآخر لمقر يدعى “معهد الفتح الإسلامي”، وفيما بعد علمت أنه معهد “شرعي إسلامي” وتحت عين السلطات السورية ويساهم في تقديم حوافز دراسية مع تعزيز قدرات الطالب في الجانب “الإسلامي” وبقي السؤال يراودني: معهد للعلوم الدينية؟ ومعاهد الأسد لتحفيظ القرآن؟
والكثير من الجمعيات الخيرية والتنموية والدينية النشطة قبل الثورة، ترى ماذا قدمت للمجتمع السوري من تطور وتغيير؟ ما شأن الدين بالفتوحات الفكريّة التي ندعيها كبلد يعتبر مدنياً؟ لماذا لا يوجد معاهد للفتوحات الشعريّة والمسرحيّة والروائيّة والفنيّة؟ معاهد لتحفيظ الشّعر والقصص الأدبيّة؟ جمعية لنشر الكتب وتوزيع علوم الأدب من مختلف أنحاء العالم؟ لماذا كان للدين كلّ تلك الحفاوة؟ وكيف أصبح “إمام” الجّامع، قائداً لسمعة شباب الحارة؟! من وضع الوصاية وصكوك الأخلاق والتربية بيد عمّال الدّين؟ ولماذا ثِقل المدن السوريّة سكانياً هو أحياء عشوائيّة ومخالفات وينشط فيها الدّين على حساب الثقافة والفكر المتنوّر المتعدّد؟
الجّامع مفتاح الغضب ومقتله!
مع غياب أيّ دور سياسي فكري للمبادرات الأهليّة والشعبيّة في سورية منذ عقود، ظهر إلى السطح منذ منتصف ستينيات القرن الماضي، شكل واحد للخصومة السياسة ضد السلطة، ألا وهو المرجع الدّيني، فتشكل الوعي الشعبي على ما يجتهد به الشيوخ والدّعاة من أفكار وتفاسير تخدم “الإسلام السّياسي” وتجعل تجريبه فرصة بعد وصول العسكر إلى الحكم عام 1963، والمقصود هنا عسكر حزب البعث، وفي الضفة المقابلة الشعبيّة نشطت الحركات الإسلاميّة في سورية وخصوصاً تلك القادمة من فكر جماعة الإخوان المسلمين، ولو نظرنا إلى المشهد السّياسي منذ تسلم العسكر الحكم تحت رعاية وزير الدفاع في حينها حافظ الأسد، سوف نكتشف أن كل أشكال الحياة السياسيّة رسم لها كيان ومبدأ واحد هو المرجعية العسكريّة، والتي برغم عنفها وقربها إلى سدّة الحكم، إلا أنها لم تكن توازي النّشاط الديني الذي راح ينمو بقوة في الأوساط الاجتماعيّة معتمداً على دعم الفقراء والطبقات المتوسطة، وبات للجامع تأثيره الأقوى في الشارع السوريّ، الأمر الذي دفع “البعث” لبناء منظومة دينيّة موازية تسبّح بَحمدِ القائد والجيش وتنشر الدّين الذي يليق باستقرار النّظام وتجذره، وهذا ما نلاحظه في مباهاة البعث المستمرة أنه يبني الجوامع ودور العبادة على اختلاف أطيافها ومذاهبها، ولكنه يغلق أي نادٍ ثقافيّ أو سياسيّ ما لم يكن قد حصل على الموافقة “الأمنيّة”، وبالتالي وجد لدينا ما يعرف بقانون الطوارئ الذي أنهى الحياة السياسية تماماً في سورية حتى انتقلت أي مبادرة معارضة وسلميّة إلى موضع الاتهام والخيانة لأنها تستحضر التاريخ الأسود الذي سطّرته أحداث الإخوان في الثمانينات إلى أذهان الناس، إبان عسكرة “الطليعة المقاتلة” للمعارضة في حماة، وحسب توجيه السّلطة وتصنيع “بعبع” العنف الإسلامي، وتلك الشماعة كانت أقوى أسلحة النظام لصبغ الهويّة السياسيّة بالدّين “غير المغضوب عليه” من القائد.
أصبح الجامع مكاناً للقاءات وتقارب الناس مع بعضها وفرصة للمخبرين لمعرفة توجهات الأهالي مع انتشار الأعداد الكبيرة من الجوامع في سورية بتوجيه مدروس من النظام، وعندما اشتعلت الثّورات العربية، لم نكن نرى مظاهرة تخرج من مسرح أو مقهى أو نادي سياسي، لم نكن نسمع شعارات ثورية بقدر ما هي ذات جذور دينيّة، وكذلك الأمر في سورية التي استيقظت فجأة على الغضب الشعبي، وراح الشارع ينادي “الله سورية حريّة وبس…!” شعار أنجبه الجامع وثقافته التي لا تقبل النقد، وتؤيد “الدعاة ممن يحفظون القرآن والسنن والأحاديث المحمدية!” وهي بطبيعة الحال ثقافة تنويم أصبحت فطريّة، يعتمد عليها الإسلام السّياسيّ لاستنهاض عواطف النّاس واستثمارها في أي انتفاضة شعبيّة ليكونوا في المقدمة، وتجربة إخوان مصر، خير دليل على ذلك الفشل السياسي! ولكن، هنا في سورية الأمر مختلف كلياً، فالنظام أسّس وساهم ببناء الجوامع والمعاهد الشرعية وجعل بذور “الجّهاد” حاضرة منذ غزو العراق، فتح باب التطوع تحت شعارات دينية، لكشف الجّهاديين في سورية من الإخوان وسواهم، وفيما بعد اعتقل كل من أفرزته تلك الثقافة من مقاتلين سياسيين، فور عودتهم من العمليات العسكرية ضد الجيش الأمريكي في العراق، وبقيت الثورة- المعارضة، رهن الدين والمرجعيات المزعومة التي توجهه.
لو افترضنا أن الثقافة كمفهوم ثوريّ تنويريّ، يطالب بالتغيير السلميّ ويحترم الخصومة السياسيّة، إذ لا يبحث هذا المفهوم عن ماهيّة الأديان، بل يعتبرها ثقافة اعتقادية روحانيّة خالصة وتخص الفرد وحده، لا تعمم على المجتمع، غير قابلة للتداول أو التّحشيد الشعبي، ولكن لطالما كان أصحاب الدين يعتقدون أنفسهم هم الصّواب والحلّ بالكتب المقدسة التي يؤمنون بها ويشرعون منها فقط! ولعل تجربة “تنظيم الدولة” و “جبهة النصرة” والفصائل الإسلاميّة “المعارضة” التي تقول بأنها سورية، قد أثبتت مساهمتها الكبيرة في تدمير الثورة وتشويه الهويّة السورية، هؤلاء كانوا يشترطون على الأتباع أن يؤمنوا غيبيّاً ومذهبيّاً، وأن تكون عقيدتهم تابعة لجملة من “مجالس الشورى” بينما نرى أن الثقافة لا تحتاج للدين كبوصلة لتقوم بالتّغيير، إنّما تحتاج للانفتاح على الجميع، بلا عنف جهاديّ عقائديّ، فقط بالحجة والدليل العقلي المادي الملموس، وبالمحصلة هي تعتمد على المعرفة وترحّب باختلاف الأديان، لأنها ترى الدين، كما أسلفنا، ثقافة روحانية منزلية لا يمكن المتاجرة بها وقيادة المجتمع عبرها.
حين تظاهر السوريون من الجوامع منذ اللّحظات الأولى، صبغوا الثورة بالشكل الديني، وأبعدوا المدنيّة عن طريقهم، فتنشّط الدعاة والشيوخ والجماعات الإسلامية للتدخل والبحث عن تمويل ودعم سياسي لاستثمار بيت أسرارها وصلتها مع الناس: الجامع! فكان ما كان، بدأت الثورة بالجامع ووصلت إلى فصائل متشدّدّة وأخرى تريد تحكيم شرع الله، وثالثة تعتقد أن هناك مدنية إسلامية معتدلة (…) فقط كي ترضي الآخرين، وحين تصل للحكم سوف تسحق كل من لا يؤمن بفكرها “الإخواني”.
ربّما قتل السوريين حلمهم حين كانت فرصة الانتفاضة تنادي بالحرية والعدالة والمساواة والمدنيّة، لأنهم طيلة العقود الماضية كانوا قد أصيبوا بالتدّجين الفكري، لا تجربة سياسية حقيقية وأحزاب تقود الحراك.
الجامع، معبد إسلاميّ لا يمكن أن يقود حراكاً سياسيّاً، لقد سَخِرت المعارضة والكثير من الشخصيات السياسية “الطارئة” من تعليق الشاعر السوري أدونيس حين قال: “لا أخرج في مظاهرة سياسية تخرج من الجامع” هو المقتل الواضح الذي نستنتج منه أن الدولة السورية حتى اليوم هي دولة قائمة على تشريعات الإسلام من دستورها إلى قوانين الأحوال الشخصية والنفوس والتربية والميراث ونظرة الدين للمرأة…إلخ، فكيف لا يكون الجامع هو بوصلة السّلطة لتنويم الشعب، لكن ذاك الجامع احتقن وألهب الشوارع السورية بالمظاهرات، لتصبح الثورة بعد أشهر تنادي “يا الله ما إلنا غيرك يا الله” أين السّياسية في ذلك يا سادة، أين الثورة في قاموس ينتظر من السماء أن تحل همومه؟ مع خالص احترامنا للإسلام والمسلمين، إلا أن ذلك لا علاقة له إلا بالقضاء على هوية المجتمع المدني، هوية المجتمع السوري، وذلك ما تم منذ العام 1963 ولا زال، والنتائج المدمرة الآن هي حاصل طبيعي لكل ذاك الاحتقان الديني وتراكم الجهل السياسي لكن بإضافة بسيطة هي خطاب “البعث الإسلامي”.
العنف وملعب الدين والمواجهة
أستغرب ممن يقول إنّ النظام السوري واجه المظاهرات بعنف شديد! هل كان النظام لطيفاً وحضاريّاً ومنفتحاً ويقبل الآخر- السلمي، قبل ذلك مثلاً، بالتأكيد: لا! وهذا لا يعني السكوت عن المواجهات الإجرامية بحق العزل أيام المظاهرات السلمية، إلاّ أنّ العسكرة التي تم جرّ الثورة السورية إليها، كانت غاية النّظام الأولى حتى يصبح لديه مبررات لسحق الاحتجاجات والمناطق الخارجة منها أمام الرأي العام وحلفائه الدوليين، معللاً ذلك بأنّ لديه “عصابات مسلّحة” غير قانونية وتثير الفوضى، يقتل باسمها ويعتقل وينشر التلفيقات والمفخخات التي يراها مناسبة لخدمة مصالح بقائه، ومع تلك التلفيقات نشط الدّين في جانبه الإسلاميّ، وخصوصاً بعد الإفراج من قبل النظام السوري عن مجموعة كبيرة من أخطر الشخصيات المتهمة بقضايا “سياسية” ولها مرجعية دينية متطرفة من جماعة الإخوان المسلمين والتيارات الجهادية والسلفية، وهي التي أسست الفصائل الإسلامية، وكان مقرها الجغرافي والأيديولوجي “سجن صيدنايا”.
هل لاحظتم أن المعتقلين السياسيين الذين ليس لهم انتماءات دينية تؤثر على نضالهم الفكري، قد بقوا في أقبية المخابرات؟ لأنهم يفكرون بلا عنف، ويعرفون معنى النضال الثوري السّلمي الذي حُرمت منه الثورة السورية بعد أشهر قليلة من انطلاقها، وذهبت إلى أيدي الجهاديين وأصحاب الأحزمة الانتحارية والعمليات “الانغماسية” إحدى أبرز هويات الإجرام لدى “النصرة” و “داعش”.
لم يكن يعلم الشارع السوري، ربّما أنّ رفع لافتة في الطريق والتظاهر دون سلاح هو أقوى ضربة يمكن أن توجه لنظام الحكم العسكري، لأن الذهنية السائدة هي مواجهة العنف بالعنف المفرط، وهذا ملعب العسكر الذين منذ تسلمهم البلاد وهم حريصون على لحظة تسلّح الخصوم بعد بناء جيش عقائدي حزبي، والتجذر الشديد بالدول المحورية في المنطقة، مع حلف الأنظمة التي تدعي “الاشتراكية” مثل روسيا الاتحادية! التي لاتزال تلعب ذات الدور في تسليح النظام ودعمه دولياً لأنه حليفها الأخير في الشرق الأوسط.
إذاً تعتمد السلطة في سورية منذ سنوات على مقابلة المشكلات السياسيّة، بافتعال تداعيات خطيرة في الشّارع، وجرّبت ذلك أثناء الثورة السورية، حتى أصبح الافتعال، واقعاً! والمقصود هنا الجماعات الإسلاميّة المرتهنة للدول الداعمة للإسلام السياسي تارة، وللبحث عن موطئ قدم لها في الحصة الجغرافية لبلاد الشام مثل الولايات المتحدة- إيران- تركيا- إسرائيل- وروسيا، هي دول فاعلة بقوة عبر المليشيات المتقاتلة على الأرض. ولكن المثير في الأمر أن تتماهى السلطة في سورية منذ بداية الثورة لكشف هوية المجتمع السوري الذي عملت على تعديل مخيلته ودفعه نحو التديّن، فوجدت الحلّ مثلاً بإطلاق قناة إسلامية من التلفزيون السوري الرسمي من وسط ساحة الأمويين وهي قناة “نور الشام” التي تبث أفكاراً دينية تخدم مصلحة النظام، على اعتبار أن الصراع بوجهة نظر الشارع والمجتمع هو صراع ديني، حسب رأي النظام! الأمر الذي يبرر الفتاوى المستمرة بقتال أبناء الديانة الواحدة الذين اختلفوا قليلاً بأمراض تدعى “المذاهب الدينية” وبالتالي أصبح المجتمع الذي اشتغل عليه حزب البعث مكشوفاً للهشاشة الفكرية ويتدخل في تسييره من يريد، ذلك أن النّواة الأساسية التي اعتمد عليها هذا الحزب هي الدين بالمرتبة الأولى وكسب الشخصيات الدينية في وزارة مخصّصّة لهم ضمن حكومته، هي “وزارة الأوقاف” وهنا نتذكر: أليست هي ذاتها الوزارة التي كانت تسمح لأئمة كانوا فيما مضى يقيمون “الدروس الإسلامية” والجلسات “الدعوية” عبر الراديو والتلفزيون الرسمي والجوامع والمراكز الدينية إياها التي تحدثنا عنها بداية، بينما الآن نراهم في تركيا يقفزون في المجالس “الشرعية” حيث تقود ما بقي من فصائل إسلامية في المناطق الواقعة تحت سيطرة المعارضة السورية؟
الثورة فضيحة الهوية
لا بد من فِكر… نظرة للتجارب الثوريّة القائمة على أفكار يساريّة مثلاً، وتنظير ثوري جديد لقراءة الثورات؛ لا بد من مراجعة جديّة للثورة السورية من أجل الوقوف إلى جانب هذا الشعب العظيم الذي أنجب حضارات منذ آلاف السنوات ومع تقدم الزمن بدأ يعود -بفضل السياسيين والطغاة- إلى التخلف.
إن “الفتوحات الدينيّة” ليست فكراً، بقدر ما هي مرجعيّة لغيبيات روحيّة قد تجعل معظم الناس في راحة من أسئلة الوجود والهوية، وهي لا تحل مشكلات سياسية مرهونة بالحاضر وتبدلاته المستمرة؛ وفي سورية، السلطة الحاكمة اخترعت ديناً خاصاً بها، والشارع تمرّد عليه، فيما بعد، صنع ديناً خاصاً به، وسجون المتطرفين الذين كانوا تحت عين السلطة وجدوا من الشارع فرصة لتطرفهم وتسليحهم فسحقوا الحياة السورية في الداخل وشتتوا الشعب إلى جانب نظام لا يرى سوى البندقية والقائد قاموساً للحوار ولا هوية له إلا القتل والأنانية، القتل الذي أورثه لخصومه حتى أصبحنا في غابة وحوش كاسرة من معارضة ومولاة وحلفاء من دول العالم يمدونهم بالسلاح والمرتزقة.
بالمحصلة الدين يفشل أمام السياسة، لأن كل مفهوم قائم هو على طرف مغاير للآخر في الحياة، لا يمكن أن يلتقيا، وتوحيدهما في جسم اجتماعي واحد أوصلنا للذي نحن به الآن في سورية، الدين أصبح شُبهة وتشدد وتطرّف، لقد لوّثته الغايات السلطوية، والسياسة أصبحت عسكرة وتحالفات دولية ونسيت أن تطور المجتمع، والشعب أضاع هويته المشوهة، دفعها إلى الجحيم في ثورة لازالت تبحث عن قادتها السياسيين بعيداً عن الكتب المقدسة ومن يلحقها من تجار الدين.
بواسطة Anwar Badr | مارس 30, 2018 | Roundtables, غير مصنف
تتميّز الهوية الوطنية بارتباطها الوثيق بمفهوم الدولة الحديثة وحقوق المواطنة المتساوية التي تصنع شعبا، عن مفهوم الهوية بشكل عام والتي تنداح بين الهوية الشخصية أو العائلية التي تقوم على النسب وتستمر في القبيلة والعشيرة وصولا إلى القومية، مرورا بالعصبيات التي تقوم على انتماءات مناطقية ما دون الدولة الحديثة، أو تلك الانتماءات ذات البعد الديني المذهبية والعقائدية، وصولا لانتماءات أيديولوجية وسياسية ليس بالضرورة أن تتوافق مع الهوية الوطنية.
والهوية بشكل عام تميّز مجموعة بشرية عن المجموعات الأخرى، وبداية التميّز التي عرفتها الشعوب وجدت في عصبية النسب أو الدم، التي تطورت داخل مفهوم العشيرة أو القبيلة للوصول إلى عصبية القوم، وفق ابن خلدون “1332- 1406” الذي درس في الجزء الثالث من مقدمة كتابه الأول “الدول العامة والملك والخلافة والمراتب السلطانية”، نشوء العصبية كرابطة نسب أو قرابة، وقد تكون بالولاء أيضاً، مؤكدا أن مفهوم العصبية يتصل أو ينتهي بالضرورة إلى السلطة، حتى قبل نشوء الدولة بالمفهوم الحديث للعقد الاجتماعي، مرورا بكل التطورات اللاحقة التي تطرأ على العمران البدوي أو الحضري، معتبرا أن جميع هذه الصيرورات تمر بأربع مراحل هي الدورة الزمنية التي تستغرقها العصبية بين طور النشوء وطور النهاية، والتي جاءت وفق تقديراته بأربعة أجيال متعاقبة، حسبها بقرابة 120 سنة.
المهم في اجتهاد ابن خلدون، وبغض النظر عن دقة التقدير الزمني، تأكيده على مفهوم الدورة الزمنية، بحيث أن تلك العصبيات التي تتخلق وتؤسس سلطاناً وممالكَ، ستضمر لاحقا وتتلاشى في ظرف ما، مع اضمحلال أو تلاشي تلك العصبية، بمعنى أنه لاوجود لعصبيات أو هويات ميتافيزيقية ثابتة، كالتي نادى بها حزب البعث في شعاره “أمة عربية واحدة … ذات رسالة خالدة”، فهذا الخلود الميتافيزيقي الذي شكل هوس أيدولوجيا وحزب ورئيس خالد، هو مسألة خارج المنطق أو البرهان العلمي، ككل المشاعر والعواطف الشخصية والأيديولوجية.
الهويات في بلاد الشام
ولو نظرنا بمعيار التاريخية إلى “مفهوم العروبة” كهوية مثلا، سنلاحظ أنها اقتصرت في التاريخ القديم على شبه الجزيرة العربية، مع اختلاف التفسيرات في كون اللفظة تشير إلى معنى “البداوة” في اللغات السامية، بينما ينسبها البعض إلى “يعرب بن قحطان” في اليمن، باعتباره وفق الأسطورة الشفاهية أول من نطق العربية، وهذا تعبير خاطئ لمفهوم اللغة وتطورها بالمعنى العلمي والتاريخ أيضا، فيما جاءت لفظة “العرب” في الكتابات العبرية باعتبارها مرادفاً لأولاد إسماعيل وفق الأسطورة التوراتية.
في حين جاءت كلمة “العربية” أوضح في الثقافة الإغريقية “Arabia أو Aravia”، من خلال ربطها بالجغرافيا، إذ استخدمت كبادئة لثلاث مناطق في شبه الجزيرة العربية، وهي: الصحراء العربية “Arabia Deserta”، ومنطقة البتراء “Arabia Petraea” جنوب سوريا، والعربية السعيدة “Arabia Felix”ويقصد بها اليمن السعيد.
لكن الفتح الروماني لبلاد الشام عام 64 ق.م، ساهم بإحلال الهوية السورية مكان الهوية العربية فيما يتعلق بهذه الجغرافيا، حيث تأسست ولاية “سورية “SYRIA، والتي استمرت في ظل الدولة الرومانية ومن ثم البيزنطية لسبعمائة سنة، حتى جاء الفتح الإسلامي عام 637 م، الذي أرخى بظلاله الأيديولوجية الإيمانية على المنطقة، والتي لا تزال تحكم الكثير من الديناميات والصراعات السياسية والاجتماعية فيها.
شكل الفتح الإسلامي قوة صاعدة، استطاعت أن تسيطر إضافة إلى المنطقة العربية المعروفة حاليا، على أجزاء واسعة من افريقيا وآسيا وحتى داخل أوربا أيضا، وشكل الإسلام كدين هوية صاعدة حاولت جبَّ الكثير من الهويات السابقة لها، وأصبح الانتماء للعقيدة الدينية/الأيديولوجيا هو الأساس، “لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى.”
غير أن الكثير من العصبيات القبلية والعشائرية والأقوامية استمرت داخل الثقافة الإسلامية، بل حكمت الكثير من الصراعات السياسية والمذهبية في فضائها، وما تزال حتى عصرنا الراهن. فالكثير من التناقضات الطائفية والصراعات السياسية التي تطفو على السطح بين الفينة والأخرى، ليست أكثر من أصداء تلك العصبيات التي حافظت على مكوناتها ما قبل الدولة الحديثة.
ولو توقفنا مع الخلافة العثمانية التي حكمت المنطقة باسم الإسلام لأربعمائة عام تقريبا، نجد أنها اتكأت على الهوية الدينية/ الإسلام، كما اتكأت على الهوية الجغرافية/ تركيا، لكنها احتفظت بالعصبية القبلية/ العثمانيين، وكانت الجزيرة العربية في عهدهم تكنى باسم “بلاد العرب أو عربستان”، والتي تضم كلاً من بلاد الشام وبلاد اليمن وبلاد العراق. بينما أغلب سكان بلاد الشام كانوا يُعرفون بالهوية السورية.
إشكالية أغلب الإمبراطوريات ومنها العثمانية، أنها حكمت أقواما ودولا وشعوبا غير متجانسة، لذلك كانت العصبية دوما للسلالة الحاكمة التي تمتلك سلطة إخضاع الجميع، وإن استظلت في حالة الدولة العثمانية بالخلافة الإسلامية، حيث كانت كبقية الهويات الكبرى تُخضع أو تؤوي في أحشائها الكثير من الهويات الصغرى كبعض الطوائف والمذاهب، أو بعض الإثنيات والشعوب الأصلية أو المهاجرة، ناهيك عن الانتماءات القبلية والعشائرية، التي تعايشت جميعها في إطار الهوية الإسلامية حتى يومنا.
قررت الخلافة العثمانية في أواخر أيامها عام 1865، دمج ولاية صيدا مع ولاية دمشق لتشكيل ولاية كبيرة، استعادت فيها لأول مرة في العهد العثماني اسم “ولاية سورية”، التي ضمت معظم سورية الحالية وفلسطين وشرق الأردن، والتي تشكل مجتمعة ما يعرف ببلاد الشام، فيما أطلق على المهاجرين من بلاد الشام الذين قصدوا العالم الجديد، وبشكل خاص أمريكا الجنوبية، في ذات الحقبة، لقب “تركو” بمعنى التركي، نسبة إلى دولة الخلافة في تركيا، بينما كان العرب داخل الدولة العثمانية يتوزعون على الكثير من الهويات الصغرى، بعض منها الهوية العربية والسورية، وبعض منها عشائري وقبلي، إضافة لوجود العديد من الأقوام الأخرى التي استقرت في المنطقة تاريخيا بحكم الهجرات أو بدواعي الحروب.
والمفارقة أن أغلب سكان بلاد الشام في تلك الفترة كانوا يعتبرون أنفسهم سوريين، مستعيدين اسم ولاية سورية العثماني، ومن قبله الروماني/ البيزنطي، الذي شكل انتماء لجغرافيا أكثر منه ارتباطا بدولة، ففي ذلك الزمن لم تكن قد عرفت بعد الدول الحديثة في المنطقة، وأغلب سكانها كانوا يكنون بالسوريين أو بالشاميين، فهذا التاريخ أصبح معطى سابقاً، يمكن أن نقرأه أو نحاول تفسيره، لكن لن نستطيع تغييره قط.
الدولة الحديثة
نضطر في حديثنا عن الهوية لاستخدام تعبير “الدولة الحديثة”، والمقصود به هو الحداثة السياسية، وليس الحداثة الزمنية أو العمرانية فقط، لأن السلطة في الدولة الحديثة تستمد مشروعيتها من الشعب الذي يمارس حق الانتخابات والديمقراطية في اختيار ممثليه وحكوماته، وليس من قوة العصبية أو من القوة العسكرية التي تفرض على السكان الطاعة والولاء، لذلك لا يمكن النظر إلى أي من الامبراطوريات أو الممالك التي فرضت ولاء السكان بالقوة، أو أخضعت شعوبا ودولا أخرى لسلطانها، وحتى دول المنظومة الاشتراكية التي حكمت بظل النفوذ الشيوعي، ومن ضمنها مجموعة الدول التي أُلحقت بهيمنتها تحت يافطة حركات التحرر العالمي كدول حديثة، لأن شرعية هذه الدول والأنظمة كلها – تُستمد من القوة التي تُخضع السكان والشعوب، إذ لم تعرف مفهوم الشعب إلا باعتباره رعية أو قطيعاً، لا حق له في الحرية في التعبير أو في الانتخاب، ولم تعترف بمبدأ تداول السلطة، أو دور الانتخابات في التعبير عن الإرادة السياسية.
ظهرت الدولة الحديثة في كنف البرجوازية التي حطمت العلاقات الإقطاعية القديمة في أوروبا، وشكلت رافعة للتحولات الليبرالية الاقتصادية والسياسية لاحقا، وفي إطارها جرى فصل السلطات الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية عن بعضها، لتبدأ صيغة من الديمقراطية تقوم على تبادل السلطة عبر الانتخابات، والاعتراف لأول مرة بالشعب كمصدر للشرعية، وإحلال علاقات المواطنة التي تنص بالدستور على حقوق وواجبات كل الأفراد والجماعات المنضوية في كنف الدولة، التي تحولت إلى دولة مواطنين متساوين بالحقوق والواجبات، وبذلك يصبحون شعبا، وبالتالي فإن الدولة الحديثة هي دولة المواطنة بامتياز، بعكس كل الدول البائدة أو المعاصرة التي تستمد شرعيتها من سلطة القوة التي تُخضع بها الرعية أو السكان.
تقوم الدولة الحديثة أيضا على ضمان الحياد تجاه المكونات الدينية أو العرقية أو الثقافية، من خلال تأكيد مفهوم الديمقراطية وحقوق الشعب والمواطنة التي أبرزتها نظرية “العقد الاجتماعي”، فيما ظلت دولة الخلافة العثمانية بعيدة عن هذه التأثيرات، بل قاومت رياح التغيير والتحديث حتى بعد هزيمتها في نهاية الحرب العالمية الأولى، وشهدت تردياً مزرياً في الأوضاع الاقتصادية والأمنية بشكل عام.
في لحظة تردي الخلافة العثمانية نشطت الجمعيات والأحزاب التي تعبر عن يقظة الشعوب المنضوية بالقوة تحت سيطرتها، لمقاومة الاستبداد الحميدي، ومن ثم سياسة التتريك التي قادتها الحكومة الاتحادية، واستفادت من المتغيرات السياسية ونشاط البعثات التبشيرية ودور القنصليات التجارية، وصولا إلى المدارس الأجنبية أو الوطنية، وكانت أبرزها الكلية الإنجيلية في لبنان والتي تحولت عام 1922 إلى الجامعة الأمريكية في بيروت، وبدأ وَسْمُ “السورية” أو “العربية” يظهران في الكثير من المطبوعات والكتب، وحتى في أسماء الجمعيات والنوادي والأحزاب السياسية التي طورت بسرعة من أنشطتها الثقافية المتعلقة بنشر الكتب والمخطوطات العربية، إضافة للاهتمام باللغة العربية والتعليم وإحياء التراث، إلى أنشطة تنويرية وتحررية تذهب باتجاه المطالبة بالاستقلال، وهو ما ساهم ببلورة الوعي القومي لدى السوريين والعرب، دون تناقضات تذكر بين الهويتين السورية والعربية اللتين اتفقتا في مواجهة الدولة العثمانية وسياسة التتريك، كما تميزت هذه اليقظة القومية بإجماع كل رموزها على نبذ الطائفية والتفرقة الدينية، إذ كنت تجد بين أعضائها مختلف الانتماءات المذهبية.
لكن، توجب على تلك الجمعيات والأحزاب التي طالبت بالاستقلال عن الخلافة العثمانية، أن تنتظر نهاية الحرب العالمية الأولى، كي تنطلق باتجاه أحلامها التي أجهضتها محاولات الاستعمار الأنكلو فرنسي الذي جاء يتقاسم تلك البلدان وفق خرائط سايكس بيكو المعدة سلفا، بحيث لم تعرف أغلب هذه الدول الاستقلال الحقيقي إلا مع نهاية الحرب الكونية الثانية.
سورية بعد الاستقلال
خلال ذلك سعت الدول العربية المستقلة حديثا لإقامة مؤسساتها الوطنية ورموزها، فاكتسبت كل منها خريطة وعلما، إضافة للنشيد الوطني والمؤسسات التشريعية والتنفيذية والقضائية، ووضعت الدساتير، كما سنت القوانين الخاصة بها، والتي تمنح الحقوق وتعيّن الواجبات على كل مواطني هذه الدول، ليصبحوا شعبا تستمد الدولة شرعيتها منه، فتلك المؤسسات والرموز هي التي تغذي الانتماء، وتخلق هوية وطنية للسكان الذين يفترض أن يتحولوا إلى شعب، فالدولة الحديثة كما رأينا تحتاج إلى مؤسسات ودستور يضمن حقوق الأفراد وجميع المكونات، ويسهم بتحولهم إلى شعب في دولة المواطنة المتساوية.
الاستعصاء الذي عرفته سورية وبعض دول المنطقة، أنها انزلقت سريعا باتجاه الانقلابات العسكرية، مؤسسةً شرعيتها على قوة العسكر، الذين دخلوا سوق السياسة كجيش عقائدي مهمته حماية سلطة وهيمنة الحزب الواحد، والذي انتهى إلى سلطة فرد وعائلة حاكمة، تتبنى أيديولوجية قومية شوفينية، رفضت الاعتراف بالأقليات القومية الأخرى التي تتعايش معها داخل الدولة، وابتدعت دمجا مريعا بين القومية والجنسية، بحيث يكتب في خانة الجنسية على هوية أي شخص في سوريا عبارة “عربي سوري”، وهو ما اتكأ عليه وزير الإعلام السابق مهدي دخل الله ليقول على الفضائيات: نحن في سورية لا توجد عندنا بالأساس مشكلة كردية، لأننا نكتب على الهوية لكل السوريين عبارة: “عربي سوري”! وكأن هذه العبارة تكفي لمحو الانتماء الأصلي لكل المكونات في سوريا كالكرد والتركمان والآشوريين والسريان وصولا للأرمن والشركس وسواهم بحيث يصبحون جميعهم عرباً؟
هذا الدمج بين القومية والجنسية قضى أول شيء على إحساس المواطنة، دون أن ندخل في الكثير من التفاصيل الإجرائية، التي حرمت جزءا من السكان، الكرد تحديد، حتى من الهوية الشخصية، بالمقابل نجد أغلب الدول العربية الأخرى تكتفي بذكر اسم الدولة في خانة الجنسية، وهذا يجعل الأرمني على سبيل المثال في دولة كلبنان، ودون الدخول في تفاهة المحاصصة السياسية طائفيا، قادرا على الاعتزاز بهويته اللبنانية، دون أن يضطر لإنكار كونه أرمنياً، فالمواطنة تحوّل الدول إلى وعاء يستوعب كل المكونات. كما الحال في سويسرا مثلاً، فالمواطنة هي تعبير عن انتماء الأفراد للدولة، وهذا الانتماء لا يسلب أيا من الأفراد أو المجموعات المكونة للشعب هوياتهم القومية، وانتماءاتهم الأخرى.
الهوية الوطنية ليس بالضرورة أن تتطابق مع الهوية القومية، كما هو حال الشعب الألماني أو العربي، وحتى الشعب الكردي، فهذه الهويات تتوزع على أكثر من دولة، بالمقابل نجد في كثير من الدول تعدد الهويات والانتماءات، وهذه التعددية لا يمكن صون وحدتها وتحويلها إلى شعب إلا بالمواطنة التي يقرها ويحميها الدستور، بحيث يكون لزاما أن يصون الدستور حقوق جميع الأفراد والقوميات والأديان بغض النظر عن النسب العددية لهم، وهذا ما يُعرف بحياد الدولة تجاه جميع مكوناتها.
إشكالية الأيديولوجيا البعثية أنها لم تستطع أن تطور “عصبية النَسبْ” التي تحدث عنها ابن خلدون، بل مسختها إلى “النظرية الرحمية” على يد زكي الأرسوزي، المنظر الأول للبعث، الذي اشتق “الأمة” من لفظ “الأم”، واعتبر علاقة الفرد بالأمة كعلاقم الجنين بأمه في “الرحم”، لا يريد له ولادة وعيشا مستقلا، ولا يريد له خيارات واعية ومستقلة بعد الولادة.
الأخطر من ذلك أن هذه الأيديولوجيا الشوفينية، وجدت فضاء يحميها في لحظة صعود حركات التحرر الوطنية في العالم، فمنحها ذلك القدرة على ادعاء أنها ثورية وتقدمية، الأمر الذي يَسّر لها ارتكاب كل موبقات الفساد والدكتاتورية تحت غطاء الشرعية الثورية، المدعومة من الاتحاد السوفيتي السابق في ظل الحرب الباردة، بحيث تحولت تلك الشرعية إلى سلالة حاكمة استولت بقوة الجيش العقائدي على السلطة، ومنحت لذاتها كل الحقوق في الوصاية على البلاد والعباد، والتحكم بهم.
فبررت سلطة البعث ممارساتها الديكتاتورية، كونها تقود مشروعا تحرريا، ألغى حرية الشعب لصالح الحاكم فقط، وبررت الفساد كونها تبني وطنا وجيشا عقائديا، لكنها في الحقيقة لم تبنِ أكثر من آليات نهب لخيرات البلد، ورفعت شعار الديمقراطية الاجتماعية مقابل الديمقراطية الليبرالية، وحرية الأمة مقابل حرية الأفراد، لتتمكن من قمع كل صوت لا يدخل في جوقة الفساد البيروقراطية التي عممتها باسم الدولة والقانون، وأي مطالبة خارج ذلك تعتبر خيانة وطنية!
ولم تحل الأيديولوجيا البعثية دون اتكاء سلطة الأسد على كل موروث التخلف والطائفية، وآليات الفساد والبيروقراطية، في سبيل إخضاع المكونات الاجتماعية وأي صوت معارض لديكتاتوريتها، كما هربت من كل استحقاقات التنمية والتحديث وتطوير البنى الاجتماعية والسياسية إلى فضاءات المقاومة الأيديولوجية والشعاراتية التي أفرغت البلد من كل طاقاتها، ونهبت خيراتها واستنزفت قدراتها الاقتصادية، فأثرت العائلة الحاكمة وحاشيتها، فيما اُفقر باقي الشعب، حتى كادت تتلاشى الطبقة الوسطى باعتبارها خزان الطاقات الشعبية القادرة على التغيير، وغابت الهوية الوطنية لصالح أوهام أيديولوجية وقومية تحلق في فضاءات لا تنتمي للواقع السوري.
تحتاج الهوية إلى شعور بالانتماء والقبول، الأمر الذي لا يمكن فرضه بالقوة، فالقوة العسكرية يمكن لها أن تخضع الآخرين شعوبا وأفرادا، لكنها تبقى عاجزة عن تخليق هذا الانتماء والقبول بالمشروع السلطوي، وهذا يفسر فشل كل محاولات النظام الشوفينية لصهر المكونات القومية الأخرى وقمع معارضيه، بل يمكن التأكيد أن فساد النظام وتعسفه في التعامل مع المعارضة أديا إلى عكس ما أراد بالضبط، حيث ساهم ذلك الفساد والتعسف مع سياسات الافقار والتهميش في إيقاظ وتعزيز تلك النزعات القومية والتحررية المقموعة لدى باقي السوريين، وأعتقد أن هذا الأمر شكل أحد أهم أسباب الانفجار الذي حصل في آذار عام 2011، بالتزامن مع الانفجارات التي حدثت في تونس ومصر وامتدت لاحقا إلى كل من ليبيا واليمن.
ما حدث في هذا الانفجار الذي عُرف بـ”الربيع العربي” هو ثورة شعب هبّ بكل أطيافه يطالب بالحرية والعدالة وإسقاط أنظمة الاستبداد التي حكمته لعقود طويلة، ثورة شعب أراد أن يتظاهر بسلمية مطلقة ضد الفساد والديكتاتوريات التي ألغت كل الحقوق في سبيل الحفاظ على سلطتها بالقوة، ونقول عنها ثورة، ونحن ندرك المآلات المأساوية التي قاد نظام الأسد وحلفاؤه إليها عبر فرض العسكرة والتطييف على سورية والسوريين، نظام لم يتورع عن استخدام كل أسلحة القتل والتدمير وما زال، وأخطر هذه الأسلحة كان تمزيق النسيج الاجتماعي للسوريين، لأنه كنظام لم يكن في يوم ما معنيا ببلورة الهوية الوطنية فحسب، بل على العكس، كان يستشعر الخطر على سلطته من تعبيرات الشعب أو الديمقراطية أو الحقوق. وأكبر خطأ يمكن لباحث أن يقع فيه هو مجرد النظر إلى هذه المآلات التي نتابعها يوميا في سورية، بغض النظر عن القوى والآليات التي دفعت باتجاهها.
لم تكن سلطة البعث في سورية معنية بتطوير الهوية الوطنية وحمايتها كإحدى وظائف الدولة، بل على العكس حاربتها بقوة، كما حاربت كل الانتماءات الدينية والقومية، باعتبارها سلطة حزب تقدمي وعلماني، وكانت تمنع في إعلامها أي ذكر للطوائف أو الطائفية، لكنها كسلطة ديكتاتورية عجزت عن بناء وحماية هوية وطنية جامعة لكل مكونات الدولة، بل هي لم تُرد ذلك أصلا، وليس سرا أن انتخابات حزب البعث والمنظمات الملحقة به وحتى تشكيل الوزارات وتعيين رؤساء التحرير كانت تدار كلها على أسس المحاصصة الطائفية أولا، والقبلية أو العشائرية في بعض المحافظات والمدن.
وبعد أن دمر الأسد الصغير سورية، وقتل وشرد نصف السوريين، عملا بشعار “الأسد أو نحرق البلد”، لم يكتف بالاحتماء في كنف الطائفية، كحامي للأقليات، بل استورد كل المخزون الطوائفي في المنطقة والعالم، ليقاتل معه وضده أيضا، من أجل إثبات أن ما يجري في سوريا هو مؤامرة يقودها متطرفون إسلاميون للقضاء على نظامه العلماني التقدمي.
وبكل أسف كانت استجابة الإسلاميين عالية في سوريا لخوض صراع عسكري مع هذا النظام ال، وكانت أغلب، إن لم يكن كل الفصائل المقاتلة في سوريا مع النظام وضده دون الهوية الوطنية، فالأسلمة والعسكرة أخرجت السوريين نظاما ومعارضة وشعبا من المعادلة، وبات الصراع في سورية وعلى سورية رهن الإرادات والمصالح وتصفية الحسابات الدولية والإقليمية، وإن كان ثمن هذه الصراعات دمار سورية ودماء السوريين.
السوريون كأي شعب ليس لهم مصلحة باستمرار القتل في كل الجغرافيا السورية، والنظام الذي ارتهن لموسكو وإيران لا يطمح لأكثر من بقائه في السلطة، والمعارضة بكل فصائلها السياسية والعسكرية الآن، بما فيهم وحدات حماية الشعب P.Y.D لم يرتقوا لتمثيل سوريا ومصالح السوريين بالمعنى الوطني، رغم رفضنا القاطع لدخول تركيا إلى عفرين، فإذا كان لتركيا مشاكل مع أكرادها، فإن كرد عفرين سيبقون جزءاً من الشعب السوري، رغم أن الصراعات الدموية التي باتت عنوانا لما يحدث في سورية، أفقدت الناس أية أوهام بشأن الانتصار، حتى الانتصارات العسكرية التي يحققها الروس والإيرانيون، لن تمنح النظام أي أمل يعيد له شرعية حكم سورية، إذ بات ذلك شبه مستحيل في هذا الصراع المتشابك إقليميا ودوليا في المدى المنظور. والسوريون وحدهم، وبكل مكوناتهم، من يدفع ثمن هذه الحرب وتلك الصراعات.
هذه الرمادية المحبطة دفعت الكثير من السوريين للبحث عن هويات أصغر أو أكبر، ودخل بعضهم في تحالفات خارجية لم تزد أمرهم إلا تعقيدا، ولن يجدينا استجداء الحلول من روسيا أو أمريكا أو تركيا، لا بخصوص وقف الحرب، ولا بشأن الدستور أو غيره، فالسياسة بالنسبة للدول الخارجية هي مجرد مصالح، وهذا مازال يعرقل حتى الآن ظهور أي مشروع وطني حقيقي يعيد لسورية وللسوريين انتماءهم وأحلامهم التي صدحوا بها في بداية الثورة “واحد واحد واحد … الشعب السوري واحد”.
هل يمكن للسوريين استعادة ذلك المشروع الوطني السلمي الذي يطالب بدولة المواطنة والمساواة والديمقراطية، التي تحترم حقوق كل مكوناتها الفردية والقومية، وتؤسس لدستور يصون حياد الدولة تجاه تلك المكونات وتجاه الأفراد؟ وهل يملك السوريون بعيدا عن هذا الحل أية إمكانية حقيقية لوقف القتل والدمار؟ وهل يمكننا بعيدا عن الهوية الوطنية الواحدة أن نستعيد إمكانية العيش المشترك في سورية؟
الهوية مسألة تنمو مع الأفراد والشعوب، وتتخلق في مشاعر وانتماءات وجدانية يصعب القضاء عليها بالعنف، وإن تم كبتها لفترة ما، وهي غير عقلانية بمعنى أنها لا تخضع لمعيار الصح والخطأ، فلكل منا هوياته المتعددة الصغرى والكبرى، ابتداء بالهوية الشخصية والعائلية والقبلية، واستمرار بهويات مناطقية أو هويات مذهبية دينية وعقائدية أو أيديولوجية، وفي كثير من الأحيان تتصارع هذه الهويات في دواخلنا وأفكارنا، وتتصالح أحيانا، كما تتشابك في العالم الموضوعي فتتناقض وتتصارع أو تتصالح.
ربما في لحظة الصراع التي أشرنا إليها يخال البعض أن بمقدوره التخلي عن هوية ما، وكثيرا ما يحدث ذلك، إلا أن المعيار الجمعي يُصر على إبقاء هؤلاء الأفراد ضمن منظور الهوية المسبقة التي اكتسبت عبر الزمن، فهويتك ليس ما تعتقده أنت فقط، بل ما يُنظر به إليك، وكثيرا ما يُعاني المثقفون من هذه الأزمة، وحتى بعض الدول التي غادرت قطار الماركسية قبل أن يصل غودو، كما حصل في روسيا الاتحادية، إذ نجد الكثير من اليسار الدوغمائي لايزال يعتبرها وريثة الاتحاد السوفيتي!
الحل لا يكون بإلغاء الهويات الكبرى أو الصغرى، بل يكون باحترام كل الهويات والانتماءات والعقائد في إطار دولة المواطنة المتساوية والمشروع الوطني الوحيد الذي يحيلنا من مجموعات إلى شعب، عندها فقط يمكن لنا أن نفكر جديا ببناء مستقبل أفضل.
بواسطة Narin Derky | مارس 30, 2018 | Culture, Roundtables, غير مصنف
في كلّ صباح أكتب لك رسالة
أعرف أنها لا تصل باليد
لقد كسر الجليد قلبَ ساعي البريد أيضاً
يا لدماثة الأمس!
كنت أنجذب إليك كما لو كنتَ ناراً متّقدة!
يؤلمني أنك تراني على هذه الحال
وترى بؤسي يتهاطل ويجرف ما كان حبا.ً.
*
الان لديَّ أسى وموتى
وها نحن أولاء ندور في أفلاكنا نبحث عن نهايةٍ ما
نسأل عن إمكانية أن تذرونا الرياح
فننتهي بذرة لا تعرف أمّها ولا أباها
برغم ذلك لا نجرؤ على القفز في الهوة المعتمة.
*
لا تظن أنّ رسالتي يائسة،
إنها بعضُ موتٍ يتنفّس.
الأبدية قطعة من أرضك
ثلج أخرس
وصمت لا يتوقف عن الثرثرة
هناك دائماً عصفور لا يشعر بالبرد
يخفف من جزعنا
عندما أشعر بالعوز أبحث عن فتات الخبز.
*
لم يكن حلماً:
جبل
أصدقاء يرعون تحت الشمس،
واد التقيته صدفة في قرية بعيدة
ساقية تتناوب عليها الحياة بالضفادع واليعاسيب
حب يغمر حقول الأرز.
*
إنما تلك بلاد وهذي بلاد
حياة اليقظة بلاد ثلجها أعمى
والأبدية قطعة من أرضك.
*
تدفعني الريح بهذيان وصفير لايبالي
اتمسك بالشجرة:
كلتانا تسند الحياة
حتى لا تطير في غفلة منا، غباراً…
بعض خيال
أنت تراني من الداخل
قلت لي هذا ثم تركت قلبي ينهشني
أنا التي حلمت مراراً بالعذوبة تعصر كل ما أملك تحت جلدي
لم أعش من الحب سوى بعض خيال
لم يزرني الثلج هذه السنة
برغم كل شيئ،
مازلت أفرك يديّ وأنتظر.
كهفٍ صغير
…..
من مشاكسة المطر لنا
لجأنا إلى كهفٍ صغير،
ماذا لو كنتَ معي،
أيّها البعيد،
أما كنّا وقعنا في حبّ الكهفِ معاً؟
*
الطريق تحتضن مسافرينَ غيري،
وأنا وحيدة بصحبة الأفكار
بعضها أفكارُك،
وبعضها يرفعنا معاً فوق غيمة
*
وأعرفُ كم سأُعاني بعد عودتي
فالفرحُ لا يكون أخضرَ إلّا في أوَّله.
جسارة أولى
ريح هذا الصباح شريدة على آخرها
حمّالة أرواح الأولين
أحياناً تربك اللغة بصفعاتها
وأحياناً تئن مثل عذراوات المعابد
طفل طري الملامح
مذهول الحواس
يدور حول نفسه في الحي
لا بأس فالريح تعدي
ولابد من جسارة أولى
الشجر ينفخ في خفة وريقاته دونما اتجاه
والصغير
يلاحق هياج قطعانها
محاولاً احتضانها بين ذراعيه
لكنه لا يدرك أنها من روحه ولو بعد حين
وأنه منذ صرخته الأولى، فصل من فصول الخريف.
محاذاة النهر
يصدح النهر بأجمل موسيقاه كلما حاولت الصخور كسره.
*
إن حملت في إحدى يديك رغيفاً ترفق باليد الثانية، ربما تكون باردة.
*
بينما يتهادى نهرٌ ويتباهى فوقه جسرٌ عتيق
أنحني على صفحة الماء،
فأراك.
*
التشبث،
يالها من كلمة مؤلمة.
بواسطة Lubna Abu Khair | مارس 29, 2018 | Roundtables, غير مصنف
مطار مدينة فرانكفورت- ألمانيا، موجودة للعبور لمدينة أخرى، وبعد انتظار قصير للوصول إلى نافذة ختم العبور Check in، ميلان صغير للرأس مع ابتسامة في صورة جواز السفر تثير الشكوك والقلق، لأنها لا تناسب المعايير الدولية لصور جوازات السفر التي تتطلب جديّة وحياديّة في النظرة في آن معا، بالنسبة لي الأمر في غاية الصعوبة فهويتي كأنثى لا تسمح لي بأن أكون قبيحة ولو لدقيقة واحدة، فما بالكم في صورة سترافقني لمدة لا أعلم أقصاها؛ يدقّق الشرطي في جواز السفر لأكثر من عشر دقائق، وأخيرا سأل:
هل معك نقود؟ أجيب: نعم، يطلب المحفظة… يرى فيها بعض الدولارات الأميركية، هنا المصيبة الكبرى! كيف أحمل دولارات وأنا عربية؟ أو بمعنى أدّق كيف يحق لي امتلاك الدولارات؟ شرحت له أنني قمت بتبديلها منذ مدة في مدينة بيروت، يسأل مرة أخرى: “لكنها تحمل أرقاماً متسلسلة” أنا لا أعرف ما القصد أو التهمة الكامنة في الأرقام المتسلسلة؟ لأن ما يهمني كما الآخرون أن يكون في حوزتي مال ليس إلّا، وبذلك نكون بوضع آخر مثير للشك: بيروت مدينة عربية وليست أوروبية أو أميركية لتكون عملتها الدولار! فمن أين لي هذا؟ هو لم يسأل لكن التعجب يقول مافي صدره، و لحسن الحظ كانت تقف خلفي امرأة من لبنان فأجابت بالنيابة عني وأنقذت الموقف وقالت: “نعم نحن نتعامل بالدولار وهذا أمر طبيعي في بلدنا” وبعد أن تبدّدت الشكوك وتبيّن أن جواز السفر نظامي بالرغم من الابتسامة- وأن المال ليس مسروقاً أو مزوّراً، خُتِمَ جواز السفر وعبرت المطار بمعادلة بثلاثة مجاهيل: صورة جواز سفر جميلة، نقود بأرقام متسلسلة، و بيروت مدينة عربية تتعامل بالدولار! ولا دليل للإدانة للتهم المذكورة آنفا.
الحمدالله أن الشرطي لا يملك صلاحية تتعدى حدود الختم وإلا كنا علقنا بشرح أسئلة عمر أجوبتها عشرات السنين، و اضطررنا لشرح آلية عمل شؤون الهجرة والجوازات في سوريا منذ عام 1970 وصولا لصورة جواز السفر الخاص بي، وتعليل قيام وفصول الحرب الأهلية في لبنان وصولا لهبوط الليرة اللبنانية أمام الدولار.
كيف كُسِرت الهوية السوريّة؟
أكاد أقارب ما حصل في مطار فرانكفورت في ذات المعطيات، ذات الحالة و ذات الخوف والاضطراب مع اختلاف الأشخاص وفقر المكان على حواجز النظام في سوريا، عندما يفتح باب الحافلة أحد جنود جيش النظام و يطلب البطاقات الوطنية من المواطنين، بما يُعرف في لغة المواطن بالـ “هَوية”، وبلغة العسكر “الهواوي” أو “الهوايا” كلمتين لا معنى لهما في قواميس اللغة العربية، وفي الحقيقة أصبحت الهوية السورية على الحواجز العسكرية التابعة وغير التابعة للنظام لا معنى لها، الانكسار الأوّل للهويّة السوريّة كان مع بداية العام 2011 وبداية العام 2012 عندما نصح الشيخ “عدنان العرعور” الثوار بكسرها -البطاقة الوطنية- كشكل من أشكال التعبير عن رفض النظام الحاكم، لتصبح فيما بعد ذريعة لجنود النظام بالتمييز بين من هو معارض ومن هو مؤيد للنظام، و حجّة للذل والاعتقال الذي لا يُعرف متى ينتهي.
الانكسار الثاني
عبور البحار والمحيطات للحصول على الأمان، في أوروبا غيرها من القارات، لتصبح الهوية السوريّة أعلى سعراً في عقليّة تجّار البشر و “المهربين”، ومن قِبَل من لديه الرغبة من غير السوريين الراغبين في تغيير حياتهم لتكون جواز سفرهم إلى أوروبا.
الحاصِل وما حصَل هو أنّ السوريين عبروا البر والبحر والجو بأوراق أوروبيّة أو ماشابه ذلك ليصلوا لبر الأمان، وذلك بسبب رفض الحكومات الأوربيّة منحهم تأشيرة الدخول “الفيزا” مما اضطرّهم أن يبدّلوا في اليونان -غالباً- وجودهم من مواطنين سوريين إلى مواطنين X أو Y.
أمّا غير السوريين فدفعوا الغالي والنفيس من أجل البطاقة الوطنيّة السوريّة قبل جواز السفر السوري لأنّ هذا ما يضمن بقاءهم الحتمي في البلد الذي يريدون الوصول إليه.
ترنّح الهوية أمام الهجرة
طبيعة المجتمعات الأوروبيّة يرفضها أغلب العرب المهاجرين عمومًا و السوريين خصوصاً، ولا سيما ممّن يتمسّكون بطبيعة دينيّة أو اجتماعيّة محافظة، وفي الوقت ذاته يرفضون غالباً الاجتماع بأبناء بلدهم أو دينهم أو قوميتهم لعدم شعورهم بالراحة أو لأسباب أخرى اجتماعية منها أو سياسيّة، ورغبةً منهم بعدم الاقتراب من المجتمع الذي دفعهم للاغتراب؛ عندما وصلت أوروبا كانت أوّل النصائح الموجّهة لي هي أن أتجنّب الاحتكاك بالسوريين خوفا من الأذى أو الإزعاج أو لأسباب أخرى يرفض الناصح الإفصاح عنها، وبهذه الحالة لم يحقق السوري شروط الاندماج الاجتماعي مع المجتمع الأوروبي، ولا يستطيع أن يحافظ أو يعبّر عن هويته بالاجتماع مع أبناء بلده في اجتماعات ثقافيّة أو عائليّة، وبالتالي شكله كوافد جديد في المجتمع الأوروبي مجهول المعالم تماما، فلا هو بظرف اجتماعي يسمح له بممارسة لغته وثقافته، و لا هو متقن للغة وعادات البلد المضيف، ممّا يجعل الطرف الآخر (المضيف) يتعامل بحذر لأنّه أمام معادلة مجهولة من كل الأطراف، فعلى سبيل المثال المهاجرون الأتراك أثبتوا أنفسهم بقوة في أوروبا فلم يغيّروا عاداتهم الاجتماعيّة و جعلوا هويتهم حاضرة من خلال تصديرها عن طريق الفن أو المطاعم المنتشرة بكثرة و اندمجوا وأتقنوا لغة وقوانين المجتمع المضيف.
أمّا السوريون في غالبيتهم فيعانون من الاغتراب بكافة النواحي، مع العلم أنّنا كسوريين أبناء حضارات مختلفة ومتنوّعة وإذا صدّرنا هويتنا بالطريقة الصحيحة فغالبًا نضيف لأي ثقافة نندمج معها، وأكبر دليل على ذلك هو الإقبال الأوروبي الكبير على الموسيقى والمسرح العربي ولا سيما من المغرب وسوريا.
أمّا من جهة أخرى و التي تعتبر أحد أهم المشاكل التي يعاني منها السوريون في أوروبا هي الانشقاق الأسري، المتمثّل في حالات الطلاق والعنف الذي يصل للقتل أحياناً، كما حصل خلال الشهر الجاري عندما استفاق السوريون على جريمة “أبو مروان” الذي طعن زوجته بطريقة وحشيّة وظهر معلنا عن جريمته ببث مباشر على موقع ” الفيس بوك”، وسبقته بأشهر حادثة في السويد مع عائلة سوريّة عندما سحبت الحكومة السويديّة الوصاية منها على أطفالها، نتيجة الضرب المبرح للأطفال من قبل الوالدين، ممّا أثار حفيظة السوريين وغيرتهم على عاداتهم وتقاليدهم في التربيّة الصارمة أو العنيفة واعتبروها تعدّياً على ثقافتهم وخوفاً بأن يتعلّم أطفالهم الثقافة الأوروبية، مع العلم أنّ أغلب العائلات السورية المحافظة الموجودة في أوروبا لا تمارس ثقافتها العربيّة أو السوريّة فلا أدري أين العائق أو المشكلة بأن تتعلّم الأجيال القادمة عادات المجتمع الذي ستعيش فيه وتصبح من مكوناته الأساسية؟
الهويّة الهجينة
الشعوب العربيّة بعد أن صارعت أشكالاً كثيرة من الاحتلال وتأثّرت بثقافات جزء منها تركي وجزء منها فرانكفوني، أنتجت اضطراباً عند عدة أجيال حيال البحث عن نفسها، فلنأخذ سوريا ولبنان كمثال، فبعد انتهاء فترة الاحتلال الفرنسي لسوريا لم تستطع أن تصيغ دستوراً وقوانين جديدة بشكل كلّي، بل اكتفت بترجمة القانون الفرنسي وممارسته بطريقته الخاطئة حتّى اليوم، إضافة إلى المناهج المدرسيّة التي لم تكرّس الهويّة الاجتماعية بقدر ما كرّست الهوية الدينيّة والقوميّة التي تعلّم الولاء للقائد الخالد، فعاش الشعب السوري على مدى عقود يجهل هويته و قومياته ودياناته ولغاته الجميلة المختلفة، حتى أصبح اليوم وبعد حرب داميّة، إمكانيّة مناقشة تدريس اللغة السريانيّة في برلمان النظام أمر متاح، في حين كان قبل سنوات جرماً يعاقب عليه القانون بتهمة الخيانة للعروبة، ممّا أدّى لانقطاع طويل مع الهوية الأم، والميول لتعلّم لغات أخرى كالفرنسيّة والانكليزيّة كشكل من أشكال التباهي بقدرة الفرد على تحدّث لغة أخرى.
أمّا في لبنان فالحالة أعقد، هناك تعطّش غريب لإتقان اللغتين الفرنسيّة الإنكليزيّة في تغييب شبه كامل للغة العربيّة وذلك لميل اللبنانيين بطبيعتهم إلى الغرب وذلك لاعتبارهم أن لبنان هو باريس الشرق من الناحيتين الجغرافية والثقافيّة. كذلك الأمر في المغرب العربي لكن مع فارق أن الهويّة الهجينة بين الغرب والشرق ظاهرة بأوضح أشكالها، مع وضوح ملامح كل واحدة منها.
التفكير في هذه النقطة يجعلني أتّخذ من القوميّة الكرديّة في سوريا مثالا مهماً للهوية المزدوجة إذا صح التعبير، فهي من أكثر قوميات المنطقة وضوحاً في المعالم، ويجمع الأكراد بين إتقان اللغة العربيّة وتعصبّهم للغتهم الأم، فرفضهم وحرمهم في آن معاً من حمل الجنسيات العربية جعلهم يحافظون على جمالية ثقافتهم وتميّزها، و “اللكنة” السوريّة الكردية المميزة أبرز ملامحها.
حالة الأنا
في النهاية كل شخص يحدد هويته بالطريقة والظروف الذي نشأ وترعرع فيها، لأنه بطبيعة الحال التجربة هي كلمة الفصل في تقرير الإنسان لمصيره، أنا عن نفسي أتحدّث كأنثى تشكّل حالة استفهام لدى الأشخاص المحيطين بي، فأنا عربيّة غير محجّبة تتحدث لغات بلباس قصير.
غير تقليديّة ومتمرّدة بالنسبة للمجتمعات العربيّة، لأنّني أبدي رأيي الصريح في السياسة والحريّة، ولباسي غير محافظ بالقدر المطلوب، وبالنسبة للأوروبيين امرأة محافظة لأنني أحتفظ بملامح شرقيّة شكلا ومضموناً، ولا أستسيغ فكرة المساكنة، و أحرص أن أصدّر أصولي في الدرجة الأولى، ومن ثمّ تحصيلي العلمي، لأنّي ببساطة بين يدي ثقافة تقيمني على أساس ثقافتي.
أمّا أنا شخص عربي سوري، نشأت في بيئة أقليّة دينيّة محافظة أحملها داخلي للآن، مستعدة للتأقلم والاندماج عن طريق ثقافتي و أناي بأي مجتمع كان… وهذه هويتي.