الهوية السورية المقتولة

الهوية السورية المقتولة

تشكل الهويات ما قبل الوطنية، في سوريا، كما في غيرها من البلدان ذات التنوع، عقبةً كبرى في طريق تشكيل هوية وطنية جامعة، فسياسات ما يسمى بـ”الهويات الجزئية”، إثنية كانت أو قومية أو دينية، تنطوي على التطرف وإقصاء الآخر المختلف وشيطنته وإنكار كرامته الإنسانية، تبريرا للعنف الموجه ضد هذا الآخر، بغية إلغائه وتدميره حسبما يحدده صراع المصالح، قاطعة بذلك السبل المؤدية لانضواء الأجزاء المتعددة تحت سقف وطني واحد.

الهوية نوعان، هوية ثابتة تخلق بالولادة، ينسب إليها أفرادها عنوة، مضطرين لا مختارين، كالهوية الجنسية أو الدينية أو القومية أو المذهبية، حتى لو عمد الإنسان إلى “تغييرها”سيبقى هناك ماضٍ يُحبس فيه، في كلمة “الأصل” على أقل تقدير، كالإنسان الذي يجرى عملية تحول جنسي، يبقى أبداً “المرأة التي كانت في الأصل رجلاً” أو العكس، أو المسيحي/ة عند تغيير دينه/ا تصبح “المسلم/ة من أصل مسيحي.”

وهوية متغيرة يصنعها الفرد بإرادته الحرة، من خلال تجاربه، فتأتي معبرة عن فرديته واستقلاله، هوية اختيارية، واعية، منفتحة على الآخر، مستزيدة من غناه، ومتسعة لأفق رحب يتسع للمختلف، بل يطالب لأنه يعتبر وجوده إثراء له لا تهديداً يخشاه، هذه الهوية تتطور، تتخذ أشكالاً أكثر غنى تنظر إلى المستقبل وتشد أفرادها إليه، فالمحدد الأساسي فيها هو الإنسان المستقل المسؤول عن اختياراته، بغض النظر عن انتماءاته الأولى.

في غياب الذات الإنسانية المتفردة والحرة، تعزز العلاقات الاجتماعية كالقرابة والنسب والعقيدة الهويات الأولية، وتتحول إلى عصبيات، ملبية الحاجة إلى الانتماء، وإن اتخذت أشكالاً جديدة كالهوية العقائدية والإيدولوجية، إلا أنها تبقى منغلقة على ذاتها، الأمر الذي يجعلها تشبه نفسها في كل وقت، وتكمن الكارثة في بقائها مُحدداً أساسياً للعلاقات بين أفراد المجتمع رغم تغير الزمن وتطور الحياة، تشدهم إلى الماضي وتعيد إحياء موتاه، رافضة أي انفتاح على الآخر، ومعتبرة أي تغير جديد مهدد لكيانها فلابد من محاربته ودحره حماية لوجودها.

كشفت الثورة السورية في آذار عام 2011 وجود كل من الهويتين لدى السوريين في تعيينهم لذواتهم، ولكن تبين للأسف أن سنيناً طويلة من الاستبداد والقمع الممنهج أتت أُكُلها السام، فالانطواء على الهويات الأولية هو ما استسلمت له الغالبية العظمى بدلالة مآلات الثورة السورية بحد ذاتها، وكذبة التعايش السلمي والشعب السوري الواحد باتت نيسانية ممجوجة، ورغم معرفة وقناعة كثير من السوريين بتعدد أشكال الهوية واختلاف معانيها، وتعاملهم مع الآخرين في محيطهم اليومي، على أسس أخرى مختلفة للهوية كالأنماط الشخصية، أو العلاقات الإنسانية، أو حتى الموقف السياسي من الثورة ، إلا أن الهويات الأولية “القاتلة” تحضر بقوة عند أول نزاع أو صراع مصالح ، لتسحق وجه الهوية الوطنية ومعانيها تحت بسطار الطائفة أو الانتماء السياسي أو القومي أو الديني…الخ

يقول أمين معلوف: “إن نظرتنا هي التي تحتجز الآخرين في انتماءاتهم الأضيق، في أغلب الأحيان. ونظرتنا هي القادرة على تحريرهم أيضاً.”

الآراء والنظرة المسبقة حول هوية الآخر الغريب غالباً ما تؤدّي دوراً حاسماً في رفضه أو قبوله، ولغة التعميم السائدة في المجتمع تساهم في حصر كل “آخر” في جزء محدد من هويته الأولية، وهي غالباً ما تنحصر بأصوله الدينية أو الطائفية، هذا ما تشهده مناطق عدّة من سوريا خلال الصراع الدائر حالياً وموجات النزوح الداخلي، كأن يصبح في لحظة ما “كل السنة القادمين من حلب إلى اللاذقية هم متزمتين دينياً ومتطرفين”، وفي المقابل يغدو “كل العلويين في اللاذقية مؤيدين للنظام ومستفيدين منه”، على سبيل المثال لا الحصر.

وإن لعب النزوح الداخلي دوراً مهماً في فتح إمكانية التعارف والتواصل بين أبناء البيئات السورية المختلفة، لكن هذا التواصل والتعارف لم يكن في ظروف طبيعية ومشجعة على تقبل الآخر، وإنما حدث وسط حرب تستنزف الطاقات والأرواح وبسببها تزداد مآسي الناس يومياً، مما عزز الشعور بالخوف من هذا الآخر ورفضه، وفي مواقع شتى بالاغتراب والقلق الوجودي والانزواء في الهوية الأولية، ورغم تنبه الجميع  لخطورة خطأ التعميم، إلا أن الغالبية تقع فيه مختارة.

في ظل المعطيات الحالية  تتمايز الهويات المختلفة أكثر في سوريا وتتصارع محاولة إلغاء بعضها بعضاً، حيث يسعى النظام لقسر هويته على السلطة، وفرض طابعها على جميع مناحي الحياة، في حين يؤمن  أصحاب الهويات الجزئية الآخرى وأفرادها المحتميين بعصبياتهم، أن التخلي عن الهوية الأولية التي يختصرون ذواتهم فيها، يعني ضياعهم ودمارهم، الأمر الذي سيستمرون بالحرب من أجله في صراع يقتل أي بارقة أمل في تحقيق هوية وطنية سورية جامعة.

لابد من عقد اجتماعي جديد يضع المواطنة والعدالة الاجتماعية كأساسٍ لا بديل عنه، ويعتمد آليات العدالة الانتقالية لإعادة بناء هوية وطنية جامعة، في دولة يحكمها القانون وتقوم على أسس العدالة والمساواة واحترام حقوق الإنسان، وبالتالي يُلغى التنافس بين الهويات الأولية العصبية، وتتاح الفرصة لتطوير الهويات المتغيرة الديناميكية، من خلال تشكيل مجتمع مدني يعمل على تأصيل وتجذير ثقافة الديمقراطية والمواطنة، محل المجتمع التقليدي البطركي بهوياته الثابتة الموروثة وسلطاته المستبدة.

رائحة البرتقال

رائحة البرتقال

رائحةُ البرتقال مع البرد تذكّرني بالحقل

الذي يمتدُّ خلفَ بيتنا

فقط في فصل الشتاء

رائحةُ البرتقال مع البرد جرحٌ

كلُّ رائحة يمكنُ أنْ نتذكّرها هي جرحٌ في الزمن

أولئك الذين يمشونَ من دون أنْ يتوقفوا عند الروائح يمضُون نحو الغد

عمياناً.
الجرحُ عينٌ

وأنا محاطةٌ بكلّ أصنافِ العميان

أحياناً أشعرُ بأني وحدي مجروحةٌ

ولا أعرفُ كيف أنقلُ صوتي من تلك البُحّة العميقة إلى البُحّة التي يتكلّمون بها

بلا خلفيةٍ

وبلا سماءٍ

بلا ذلك الجرح الذي يحدثُه البردُ في البرتقال

أو تلك اللذة.

* * *

قـش

لي أختٌ محبوسةٌ خلف قضبانٍ من حديد

تنمو فوق المجازر

تبقرُ بطنَها بيديها ثم تملؤهُ بالقشّ

انقطعَ حليبُها

وامتلأ صدرُها بالدم

تنامُ قربي الآن

أنا أغفو

وهي تحفرُ الحلمَ بأسنانها

* * *

النساءُ الأوروبيّات

النساءُ الأوروبيّات

على الفِراشِ الرقيق أتمدّدُ بحزنٍ

أديرُ وجهي نحو الحائط

أبتسمُ

أرسمُ اسمكَ بإصبعي على الجدار

أُغمضُ عينيَّ مع صوتِ انفجارٍ بعيدٍ،

أستطيعُ الآن النوم دون أنْ أحلم بشيء

دون أنْ أنتظر شيئاً.

أعلمُ أنّ كثيرينَ مثلكَ

رحلوا إلى أوروبا

رحلوا لأجل الذلّ والموت،

لكن بعد سنين

حين سيسألُ أطفالهم عن سببِ قدومهم

سيقولون:

لأنَّ أجسادَ الأوروبياتِ أكثرُ دفئاً من نسائنا،

نسائنا اللواتي مُـتْـنَ وحيداتٍ هناك.

* * *

حين يأتي الموت

حين يأتي الموتُ

سيسحبُ كلَّ الرجال

الواحدَ تلو الآخر من أصواتنا

لننكسرَ كغصنٍ طريٍّ تحت قدميّ عصفور،

حين يأتي الموتُ

لن تكونَ لهُ عيناكَ

ولن يتلمّس أجسادنا

بحثاً عن شهوة مخبّأةٍ في البطن،

سنكون نساء قبيحاتٍ

بأصواتٍ مشوّهة

تُخرِجُ طيوراً مُختنقة

وأوجاعاً باردة.

كلُّ الرجال الذين عرفناهم

وخبّأناهُم في خلايا صوتِنا

ليرمّمُوا جُملَنا الناقصة في الوحدة

سيسحبونَ ما تبقّى من الكلام داخلنا.

حين يأتي الموتُ كاملاً

أو ربما بلا ثقلٍ

حين يأتي في وقته أو بعده

أو متأخراً جداً..

سيكون حنوناً

أكثر من كلِّ الرجال في أصواتنا

سيضمُّنا ويزجرهم بعيداً..

لنبتسمَ بخبثِ النساء

حين يطردنَ رجُلاً ويستبدلنَ آخرَ به.

* * *

الرجال وحسب

في المساء تتمدّدُ النساءُ على ظهورهنّ،

الظهورُ أحواضُ وردٍ

وعشبٌ تحت أقدامِ الرجال،

في المساء تتمدّدُ النساءُ على ظهورهنّ

ينظرنَ إلى فوق

الطائرةُ تستعدُّ لقصفِ مدينة

السماءُ تشدُّ أطرافها

كفتاةٍ تستحييْ من عُريٍ أسودَ كهذا،

يتابعنَ النظرَ إلى ما فوقهنّ

الرجالُ يمرّون

والطائراتُ

والألمُ الذي يزحفُ

كدبابةٍ تجعلُ الأرضَ تحتَها أكثرَ قسوةً

هكذا أدركتُ أنّ كلَّ الرجال

يتحوّلونَ فجأةً

إلى آلةٍ ضخمةٍ

بعضُهم يُسمّيها دبابةً

وآخرونَ طائرةً

وقليلونَ مثلي

يعرفون أنهم الرجالُ وحسب.

* * *

هوية و هويات

هوية و هويات

لست حيادياً حيال مسألة الهوية. أرى باختصار أننا نحتاج في سورية إلى هوية وطنية جامعة مثل عصا موسى تبتلع كل الهويات الفرعية لا لتقتلها بل لتكون جزءاً من نسيجها. ولا أعتقد أن موسى سيزور سورية، ولكني أرى أن هذه الهوية ممكنة، في حال قيام دولة مدنية ديمقراطية، تعتمد قوانين عصرية ، يتساوى مواطنوها الأفراد والأحرار في الحقوق، بصرف النظر عن الدين أو العرق أو اللون أو الجنس.  

مضى على تشكل سورية بصفتها كياناً سياسياً نحو قرن من الزمان، وبفعل السياق التاريخي لقيام سورية التي نعرفها، انطوت “الهوية السورية” على التنوع العرقي والقومي والديني، شأنها في ذلك شأن العديد من الهويات الوطنية التي تعرفها بلدان عديدة. هذا التنوع يمكن أن يكون عامل ثراء يتيح لسورية أن تكون حديقة حية للغاتٍ وأديان ومذاهب وأعراق وأقوام وثقافات، وهذه العوامل نفسها  يمكن أن تشكل متكأ أو مظلة أو سبباً لحروب ونزاعات وتشظيات ومظلوميات وانتقامات، في أتون الصراع على السلطة، وفي سياق التغيير، والانتقال من طور إلى طور. ونشهد حالياً صراعاً هو الأشد عنفاً منذ نشوء سورية بعد الحرب العالمية الأولى إلى يومنا هذا، ومع تداخل عوامل عديدة تجعل الحرب الدائرة متعددة الأطراف نلحظ بعداً طائفياً أو قومياً طاغياً يظهر صراحة في الخطاب التحريضي الذي تتبناه قوى سورية مشاركة في هذه الحرب، أو يتم إخفاؤه بطريقة تجعله أكثر بروزاً.

  وليس صعباً أن يلاحظ أي متابع أن التنوع الذي انطوى عليه تاريخ سورية، قبل وبعد تكونها، بصفتها كياناً سياسياً مستقلاً، يعد جزءاً من هويتها. هذا التنوع كان موضع حوارات وصراعات نعيش حالياً أشدها دموية وضراوة . لم يولد الوجه الطائفي أو القومي للصراع فجأة، بل نمت مقوماته في رحم مجتمع، يسود فيه الاستبداد السياسي والديني. وتعددت النبوءات بقيام ما نشهده اليوم والدعوات إلى نزع فتيل الحرب قبل وقوعها بسنوات. 1

يتحدر قاطنو سورية من أقوام عديدة (عرب، كرد، تركمان، شركس، أرمن، آشوريون/ سريان ، ويونانيون وألبان وغجر وغيرهم ). وبالإضافة إلى لغات هذه الأقوام، لا تزال الآرامية حية في بعض قرى القلمون. ويعيش في سورية طوائف ومذاهب عديدة؛ حيث يقطن سورية مسلمون ومسيحيون ويهود، سنة وشيعة وعلويون ودروز وإسماعيليون، بالإضافة إلى أغلب المذاهب المسيحية الشرقية والغربية. وقد عرفت البلاد أحزاباً وتيارات سياسية مختلفة كان بعضها عابراً للطوائف والمذاهب والأقوام، في حين اقتصرت أحزاب وتيارات أخرى على التوجه إلى أقوام بعينها أو مذاهب دينية بعينها!

وتنتشر في جنبات سورية أوابد وآثار خلفتها إمبراطوريات ودول ودويلات مختلفة على مر آلاف السنين، وتراث شفاهي ومكتوب، غني بالمتناقضات، فهو يحفل بالمظلوميات والعنف والانتقامات والتحريض من جهة، والشهامة والرفعة والتسامح من جهة أخرى.

تعيش سورية حالياً حالة صراع على السلطة وهو في جانب منه صراع على تحديد الهوية الوطنية وفي جانب آخر صراع هويات أو طريقة عنفية لفرض هويات ما قبل وطنية، أو هويات عابرة للهوية الوطنية، في سياق الصراع على السلطة. ويتداخل هذا الصراع مع ضرورة تجاوز الحقبة الدكتاتورية لإقامة دولة مدنية ديمقراطية. وعلى حساب النضال لإقامة دولة مدنية وطنية ديمقراطية علمانية، تحمي الرابط والتواثق الوطني ،  برز محورا الصراع الديني والقومي بامتدادهما الإقليمي والدولي. ويمثل الصراع الحي الذي تشهده سوريا، حال الافتقار إلى وجود رابط قوي بين السوريين.

لم يكن صراع الهويات الطائفية أو القومية (وخصوصاً السني -العلوي والعربي -الكردي) أمراً مفاجئاً، بل ظهر كنتاج لعوامل عديدة من بينها ماضي سورية، القريب خصوصاً، والمستجدات الإقليمية والدولية.

ويمكن أن نشير إلى عوامل مهمة ، لعبت دوراً في صياغة طابع الحياة السياسية في بلدان عديدة من بينها سورية: قيام دولة إسلامية في إيران، تتبنى مبدأ الحاكمية الإلهية بصيغتها الشيعية، انهيار الاتحاد السوفييتي ومنظومة الدول الاشتراكية، حروب العراق التي لم تنته بعد، تنامي دور القوى الدينية في إطار الصراع العربي الاسرائيلي، قيام منظمات إسلامية تتبنى العنف في أنحاء العالم، وانتصار التيار الديني في انتخابات تركيا وفي الاستفتاء على تعديل الدستور التركي، وارتفاع أسهم التيارات الشعبوية في الغرب.

***

لقد عايشتُ بعض التحولات التي عاشتها سورية بين ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، وأذكر في هذا السياق أنني زرت كلية الآداب في جامعة دمشق لأول مرة في عام 1977. أتاح لي الوقوف في زاوية المدرج الرابع في كلية الآداب رؤية جميع الطلاب الذين توافدوا لحضور محاضرة الدكتور ياسر داغستاني حول دور الحبكة في بناء الرواية، ارتدت أغلب الطالبات بنطال جنز، أو “شارلستون” وقميصاَ ضيقاً ولم تكن موضة بنطال “الشارلستون” الواسع عند القدمين قد طويت تماماً بعد. عدد قليل من الطالبات بدون شديدات الاهتمام بأناقتهن وبآخر صرعات “الموضة” إلى حد أن المرء يخال أنهن تسوقن من “مونتكارلو” ليلة البارحة. وثمة عدد قليل من الطالبات يرتدين “المانطو” والحجاب الذي يغطي الرأس. كانت المعاطف و”الإشاربات” متعددة الألوان، ولم يكن غريباً أن  تجد بين المحجبات آنئذ من تبالغ قليلاً في “مكياجها”، لم أر يومها منقبة واحدة في المدرج الرابع أو في ردهات الجامعة أو في المقصف.

في المقصف كانت النقاشات والاصطفافات والشعارات وبعض الصور الملصقة على الحقائب، أو المعلقات الناعمة في سلاسل تتدلى حول الأعناق، تدل على حضور قوي لتيارات أيديولوجية ينتمي إليها الطلبة بعد التعرف على ألف باء تلك الأيديولوجيات والانبهار ببعض الأدبيات أو العبارات (أو حتى قبل ذلك تأثراً بصديق أو بفيلم أو كتاب أو أغنية!).  كان الحضور الأقوى، في كلية الآداب، للتيارين الماركسي والقومي، مع وجود بعض الإسلاميين وبعض الوجوديين. كان جهاز المخبرين يتنامى ويتم ترتيب الاتحاد الوطني لطلبة سورية، أكثر فأكثر، ليكون من إكسسوارات النظام الذي حول النقابات والمجلس النيابي والأحزاب المتحالفة معه إلى مجرد قطع إكسسوار .

عدت بعد 14 عاماً لأقف في المدرج نفسه وفي الزاوية نفسها : كانت النسبة الأكبر من الطالبات هذه المرة يرتدين معطفاً كحلياً وإشارباً سكرياً يليها الطالبات اللواتي يرتدين الجينز والقميص أو “التي شيرت”، أما عدد المتأنقات المونتكارلويات فكان أقل بكثير هذه المرة!

وظهرت بوضوح الرموز التي تدل على الانتماء الطائفي على شكل أساور من خيوط مجدولة تلتف حول رسوغ الشباب والصبايا، سوداء أو بيضاء أو خضراء، وعلقت في الأعناق رموز مصنعة من المعادن المختلفة تدل على الانتماء عينه مثل: كلمة الله ، مجسم صغير للكعبة، سيف كتب عليه لا فتى إلا علي، نجمة خماسية ملونة بالأحمر والأخضر والأصفر والأزرق والأبيض، وصليب بأشكال وأحجام متعددة. دون أن تختفي عن الجدران، أو في الخطابات الحماسية عبارات تتحدث عن اللحمة الوطنية بصفتها صخرة تتحطم عليها المؤامرات، وبصفتها من إنجازات “قائدنا إلى الأبد الأمين حافظ الأسد” الذي تحول بعد موته في منظومة الديماغوجيا نفسها إلى “القائد الخالد”.

***

ما الذي دفع العديد من طلاب كلية الآداب (وغيرهم بطبيعة الحال) إلى إشهار رموز تدل على هوية قبل وطنية؟  تغيرت بلا شك ملامح وطرق التعبيرعن الانتماء في سورية بعد الصراع العنفي الذي بدأ في أواخر سبعينيات القرن المنصرم وانتهى في ثمانينياته، والذي شهدت فيه سورية أحداثاً مروعة.

تطور الصراع الذي بدأ بعد استيلاء البعث على السلطة بين أنصار الأمة الإسلامية، وأنصار العروبة. ثم خبا ليعاود الظهور  بعد انقلاب حافظ الأسد، الذي حمل اسم الحركة التصحيحية، لدى طرح دستور 1973 للاستفتاء العام 2، والذي أثاره موضوع “دين رئيس الدولة”. و بقيادة رفعت الأسد،  تشكلت في أواسط السبعينيات قوة عسكرية لها امتيازاتها المختلفة عن الجيش، عرفت باسم سرايا الدفاع، وكانت الغالبية الساحقة من عناصرها من العلويين ومهمتها الرئيسة حماية “الثورة” التي كانت حتى ذلك الحين اسماً رسمياً للنظام. لقب عناصر السرايا بالفرسان، الذين دعتهم قيادتهم للتصرف كأبطال فقاموا ببعض الارتكابات البشعة في مدينة دمشق، وعرفت دمشق آنئذ جرائمهم ووزنهم “البطولي” . وفي 16 حزيران 1979 ارتكبت مجموعة مسلحة مرتبطة بالأخوان المسلمين مجزرة مروعة في مدرسة المدفعية في مدينة حلب، راح ضحيتها نحو ثمانين طالباً من طلاب الضباط، لأنهم يتحدرون من الطائفة العلوية، وقد قاد المجزرة ضابط أمن مدرسة المدفعية، النقيب ابراهيم اليوسف 3. وارتكب النظام لاحقاً مجازر مروعة لعل أكثرها فظاعة المجزرة التي شهدتها مدينة حماه السورية والتي استمرت قرابة شهر بدءاً من 2 شباط 1982، وكان ضحاياها بالآلاف. وأخطرها دلالة مجزرة سجن تدمر العسكري حيث فتحت النيران على السجناء العزل. لقد لعبت المظلة الطائفية للصراع على السلطة في سورية دوراً كبيراً في النكوصات التي جعلت الانتماء للطائفة يتنامى على حساب الانتماء للوطن أو للأمة مع أن كلمة أمة ارتبطت في أذهان الكثير من السوريين بالعروبة (الأمة العربية) أوالإسلام (الأمة الإسلامية). وقد ازداد الاصطفاف الطائفي عمقاً وحدة. وتعيش سوريا اليوم حالاً مزرية من التشظي  الطائفي تحت عناوين مختلفة، وبالاعتماد على الكثير من التفاصيل المرتبطة بوقائع وبسرديات لها علاقة بالمظلوميات والانتقام. ومن الواضح أن أشد الجبهات الطائفية احتداماً هي الجبهة العلوية – السنية، والتي زاد من تكريسها وجود الميليشيات الطائفية، الموالية للنظام أو المعارضة له؛

1-الميليشيات المقاتلة مع النظام: سرعان ما تشكلت ميليشيات موالية للنظام، بعد اندلاع المظاهرات في آذار 2011 ، مثل الشبيحة الذين رعتهم جمعية البستان في دمشق، وتحولوا إلى قوة تحت اسم اللجان الشعبية ومن ثم جيش الدفاع الوطني. يتحدر أغلب مقاتلي هذه الميليشيا من الطائفة العلوية، وقد تم تطعيمها لاحقاً في دمشق ببعض السنة كالشركس الذين جندهم أتباع النظام من الشراكس، وبعض المرتزقة الذين رأوا في الانضمام إلى الشبيحة فرصة للمشاركة في نهب البيوت وممارسة التسلط. تشكلت لاحقاً ميليشيا علوية داعمة تحت اسم صقور الصحراء يقودها ويمولها رجل أعمال معروف. وفي سياق التحريض الطائفي تم تجاهل الميليشيات السنية التي تدعم النظام مثل ميليشيا آل بري أو الشوايا.  وتمت مشاركة ميليشيا شيعية مدعومة إيرانياً في الحرب الدائرة تحت شعارات طائفية مثل المطالبة بثارات الحسين في أحياء دمشق وريف دمشق! قدمت هذه الميليشيات من بلدان مختلفة : (لبنان، العراق، باكستان، أفغانستان وأسماء أغلبها تحمل دلالة طائفية مثل: الزينبيون، الفاطميون، كتائب أبو الفضل العباس) بالإضافة إلى ميليشيا حزب الله. إن استقدام النظام لهذه الميليشيات الشيعية، وقبوله بأن تشارك في الحرب يعني فيما يعنيه أن النظام غير معني بالهوية الوطنية، بل ولا بالدم السوري ولا بكرامة السوريين التي ينتهكها مسلحو تلك الميليشيات. وأنه يساهم في تشظي الهوية الوطنية بل وفي تدمير الوطن نفسه بالمعنى الفيزيائي للكلمة حيث يقصف ويقتل ويحاصر ويجوع ويعتقل ويدمر بيوتاً ويحرق أشجاراً إلخ…من أجل الانتصار (الذي يعني الاستمرار في الحكم بالقوة )

2-ميليشيات المعارضة: لم يكن موقف المجلس الوطني ومن بعده الإئتلاف أكثر حرصاً على الهوية الوطنية من النظام، حيث تم استمراء تكوين ميليشيات سنية بل واستقدامها من خارج البلاد، ووصل التنسيق مع الدول الإقليمية إلى حد أن العديد من أعضاء الإئتلاف صاروا محسوبين على تركيا أو قطر أو السعودية، التي مولت وتحكمت بمواقفهم إلى حد برزت فيه الصراعات فيما بينهم باعتبارها صراعات بين تلك الدول!  وانطوت مواقف المعارضة السياسية التي دعت إلى التدخل الخارجي وخوض الحرب التي دعا إليها أول خطاب لرأس النظام،على شيزوفرينيا، حيث تباكت المعارضة على الهوية الوطنية وساهمت بتدميرها سواء بالخضوع إلى قوى إقليمية ودولية، أو باستقدام ميليشيات طائفية وفاشية ، وبالدعوة الصريحة إلى أي تدخل خارجي، وكأن قوات التدخل الخارجي ستكون بإمرة قادة الإئتلاف أو سواهم من أطراف المعارضة!! ناهيك عن الارتكابات الطائفية المشينة، التي قام بها مسلحو المعارضة  تحت اسم”التحرير”، كارتكاب مجازر واختطاف اطفال ونساء فقط لأنهم يتحدرون من الطائفة العلوية، أو الأقليات الأخرى وبعض رجال الدين المسيحي. إضافة إلى اختطاف بعض الناشطين الحقوقيين والسياسيين المعارضين (رزان زيتونة، سميرة خليل وائل حمادة، ناظم حمادي).

تكونت في أتون الصراع الدموي، ثقافة وأخلاق التوحش والهمجية، لدى العديد من السوريين، وقد عبرت عن نفسها بوضوح على الجدران وخصوصاً كولبات حواجز التفتيش، ووسائل التواصل الاجتماعي، وخصوصاً الفيسبوك الذي استخدمه السوريون أكثر من غيره. وأظهرت هذه الثقافة انحطاطاً أخلاقياً، وسياسياً ومواقف إقصائية عنصرية حادة. حيث أعلن أنصار النظام “الأسد أو لا أحد” (رأيت هذا الشعار قرب باب مركز انتخابي، في أول مرة يتحول فيها الاستفتاء الشكلي إلى انتخابات رئاسية شكلية). بل تجاوزوه إلى :”الأسد أو نحرق البلد” . وكلمة البلد عندنا قوية الصلة بما نسميه الوطن والهوية الوطنية! ودعا بعض المعارضين إلى إبادة العلويين، وقال صحفي سوري معارض :” لا أريد أن أرى علوياً واحداً في دمشق!!” ولم تحرجه دمامة الموقف الطائفي ولم يخجل من  التحدث بعنجهية بعض ضباط مخابرات النظام! ودعا صحفي من الموالين إلى عدم التوقف عن قصف الغوطة حتى تطهيرها! و “التحرير” و”التطهير” تعبيران لوصف عمليات عسكرية يتناقضان مع الهوية الوطنية، التي لا وزن لها لدى هؤلاء وأولئك 4.

أظهرت (وربما أنشأت) الحرب، لدى أنصار نشوبها واستمرارها، أو عدد غير قليل منهم على الأقل، ثقافة أو أخلاقاً لم يعهدها السوريون من قبل، بما في ذلك ما فبركته وتمخضت عنه الخيالات. فالمحاربون و/أو أنصارهم من السوريين يتباهون بنشر صورهم بجانب الجثث مبتسمين. ويكتفون أحياناً بنشر صورة جثة الخصم، ويصفونه بالفطيسة أو الخنزير ويضيف المعلقون العديد من الشتائم، والعبارات التي تعبر عن الابتهاج بالقتل.

لقد عبرت التمترسات الطائفية عن نفسها على أنقاض هوية وطنية أصبح المدافعون عنها موضع تندر واستخفاف، واستهجن الطائفيون الأكثر تشدداً على طرفي هذه الجبهة الطائفية، أي حديث عن “الشراكة في الوطن”بصفتها شراكة مع مجرمين أو تكفيريين، يستقوون على ابن البلد بالغريب، (تم تبادل هذه التهمة بين متحاربين يقومون بالفعل نفسه) أو يرتكبون جرائم شنيعة كالاغتصاب والتمثيل بالجثث.  وباتت غالبية السوريين في المناطق الساخنة (والتي أضحت أهدافاً لقناصة وطائرات ومحاربين إقليميين وعالميين) مشغولة في البحث عن ملاذ خارج سورية، فإن لم يتوفر فملاذ أقل توتراً داخل سورية. هذه الأغلبية انشغلت إلى حد كبير بتدبير شؤونها وكانت أبعد من النخب السياسية عن الاستثمار في الحقل الطائفي. حيث اتهمت تلك النخب هؤلاء بأنهم رماديون، لا يقفون معنا ولا ضدنا سواء دلت هذه ال”نا” على مسلحي النظام أو مسلحي المعارضة!  وساد لفترة طويلة المنطق القسري الذي سبق أن استخدمه بن لادن وجورج بوش وحافظ الأسد والذي يقسم العالم إلى فسطاطين، (إذ لا بد أن يكون ضدنا من لا يصطف معنا!). وأضحى الحديث عن ارتكابات النظام “خيانة للوطن” على حد تعبير الموالين، والحديث عن ارتكابات النصرة وأخواتها “خيانة للثورة”، على لسان بعض المعارضين.

تجاهل المحرضون المتحمسون من العلويين والسنة، أن الكثيرين من السنة موالون للنظام، أو معارضون على أسس وطنية ومدنية وعلمانية، وأن حسابات الأقلية والأكثرية على أساس طائفي هي حسابات القوى الطائفية وخصوصاً الأخوان المسلمين الذين يعتبرون أنفسهم ناطقين باسم “الأكثرية”      وأن النظام استطاع تجنيد العديد من البدو والشوايا وعصابات التهريب في حلب ودير الزور وحمص، وأن السنة رغم الحرب المديدة لم يشكلوا كتلة واحدة ، وأن العلويين بدورهم ليسوا كتلة واحدة، بل تشكى بعض العلويين من أنهم يفتقرون إلى وجود مؤسسة دينية تعد بمثابة مرجع لهم، وتشكى آخرون من احتكار النظام لهذا الدور بما يخدم استمراره في تجييش الطائفة لخدمته. يبقى أن نشير إلى أن العديد من السوريين أشاروا إلى أنهم سوريون قبل أي اعتبار، ويتحدر هؤلاء من مختلف الطوائف والأقوام في سورية ولكن صوتهم بصرف النظر عن عددهم ضاع في ضجيج السلاح والتحريض الطائفي والقومي.

أعتقد أن فرصة قيام ثورة سياسية تحول سوريا إلى دولة مدنية ديمقراطية كانت قائمة،  وأضعفها وشتتها التواطؤ مع الطابع الطائفي أو القومي للحرب، والسعي لإشراك الأكثرية فيها، وتقبلها بصفتها حلاً يتيماً، وساد لدى المعارضة مفهوم جديد للأكثرية يولف بين الدين والقومية ، متجاهلاً أسس أو قيم المواطنة إذ أضحت الأكثرية تعني في الخطاب السياسي السائد:”العرب السنة” في حين تعني كلمة أقليات، الأقليات الدينية والقومية وعلى نحو خاص: الأكراد والعلويين! بل تشاركت الميليشيات المتحاربة في العداء الصريح والواضح للديمقراطية والحرية، حيث سخر الشبيحة من الحرية بصفتها فساداً وانحلالاَ، أو بصفتها “وخماً غربياً”، في حين ارتفعت لدى مقاتلي المعارضة أسهم الشرع باعتباره بديلاً للنظام الديمقراطي ودعا قادة مشايخ الجهاد إلى تجنب المنكر الديمقراطي، بل أوضح بعضهم أننا لانحتاج إلى أي دستور يضعه البشر لأننا نملك دستوراً إلهياً لا يمكن أن ترقى إليه كل الدساتير التي يضعها البشر!

لم تتوزع ويلات الحرب بالتساوي بين السوريين، حيث خضع تقاسم الويلات إلى عوامل عديدة منها إشراك الجيش في المعركة، ومدى تأهل القوى المشاركة لخوض المعارك، ووجود أو الافتقار إلى الإمداد والتموين، وطبيعة القوى التي استولت على هذه المنطقة أو تلك، والقوانين والتشريعات التي فرضتها، ومدى امتلاك القوى للسلاح الثقيل وتفرد النظام بامتلاك قوة جوية ، ودور القوى الداعمة أو الحليفة، التي أضحى نفوذها أقوى من نفوذ السوريين أنفسهم، ولم يكن يكن العامل الوطني أو الأخلاقي من بين العوامل التي خففت الويلات هنا أو زادتها هناك! 5

***

محور الصراع المهم الثاني ، هو الصراع القومي، وخصوصاً: العربي – الكردي، والذي عبر عن نفسه بأشكال مختلفة ، وهذا الصراع قائم على مظلومية قومية عاناها الأكراد في العراق وسورية وتركيا وإيران، ففي سوريا تروى نكتة شهيرة عن وزير بعثي ألقى خطاباً في حقول النفط في الرميلان كرر فيه بحماس الشعار البعثي الشهير:”بترول العرب للعرب” فقاطعه أحد الحضور من الأكراد سائلاً :” الأكراد  ما إلهم شي؟” وتعكس هذه النكتة التي تداولها السوريون جانباً مهماً من الإقصاء الذي عاناه الأكراد. روى لي أحد أصدقائي الأكراد، أنه يعتبر أجنبياً في السجلات السورية مع أنه ولد في سورية وكذلك أبوه وجده، وقال :” هذه هي حال الكثيرين، آمنا وصدقنا ، أما أن لا تعترف سجلات الدولة بأني متزوج ، مع أن أولادي الأربعة مسجلين في تلك السجلات فهذه عصية على فهمي!! طيب أولاد مين هدول؟”.  وكان الكثير من الأكراد يتندرون: “الأجانب يأتون من بلد ما، ونحن أجانب في بيوتنا!!” . يجسد حال الأكراد مدى ابتعاد سلطة البعث عن مفهوم المواطنة، وقد برر القوميون ذلك في حديثهم عن ضرورة انصهار الجميع (جميع القوميات والأعراق) في بوتقة القومية العربية، الأمر الذي يتنافى مع احترام التعددية القومية في بلد تحفل بالتنوع القومي. ولهذا منع الأكراد من الدراسة بلغتهم، وعانوا من التضييق الثقافي والسياسي بطبيعة الحال. لم يفلح النظام في استمالة الأكراد ولم تفلح المعارضة الدينية أيضاً التي حاولت السيطرة على أحيائهم ، لقد اختطت القوى الفاعلة الكردية التي امتلكت الدعم والسلاح طريقاً واضحاً وحطت نصب عينها حكماً ذاتياً ضمن دولة فيدرالية على طريق الاستقلال التام لكردستان. والحق هو أن الأحزاب الكردية ليست متوافقة بهذا الشأن حيث يرى البعض أن الأكراد السوريين جزء من الشعب السوري وهم يناضلون مع باقي السوريين من أجل دولة المواطنة التي يتساوى الجميع فيها بالحقوق بصرف النظر عن العرق أو الدين.

عبر الشرخ القائم بين العرب والأكراد عن نفسه مراراً، من بينها مباراة كرة القدم الشهيرة التي استضاف فيها فريق الجهاد الكردي فريق الفتوة العربي الديري، والتي قتل نتيجة المشادات بين جمهوري الفريقين أربعة من الأكراد ، الأمر الذي تطور بحيث طالت الاحتجاجات دمشق وحلب ناهيك عن القامشلي وعامودا وغيرهما من بلدات الأغلبية الكردية. وفي عامودا أسقط تمثال الرئيس السابق (الأسد الأب) أرضاً.

ومن اللافت في سوريا أن حزب العمال الكردي الذي حظي برعاية النظام لزمن طويل، والذي بات قوة كردية فاعلة، هو الأكثر تشبثاً بالهوية الكردية والأكثر بعداً عن الهوية الوطنية السورية بالمقارنة مع بقية الأحزاب.

حاولت بعض الأقليات أن تشارك في تكريس النضال الديمقراطي كالمشاركة بالاعتصامات وغيرها من أشكال النضال السلمي، من بين هؤلاء أعضاء المنظمة الأثورية الديمقراطية التي تأسست منذ عام 1957، وتسعى المنظمة كما يقول أنطوان دنخا الصنا: (.. لنيل شعبنا في سوريا كافة حقوقه القومية والوطنية والإنسانية المشروعة والمرتبطة بحلّ وطني ديمقراطي شامل ينطلق من مفهوم الشراكة الوطنية الحقة والكاملة ويستند لقيم ومفاهيم العيش المشترك رغم كل التعقيدات والتحديات وبالتعاون والتنسيق مع كافة القوى القومية والوطنية والديمقراطية في سوريا مع تأكيدنا على الإقرار الدستوري لحالة التنوع القومي في البلاد والاعتراف بالوجود والهوية القومية والثقافية لشعبنا الكلداني السرياني الآشوري باعتباره شعبا أصليا وضمان كافة حقوقه القومية والسياسية والتاريخية واعتبار لغته وثقافته السريانية لغة وثقافة وطنية وذلك ضمن إطار وحدة البلاد أرضا وشعبا). وقد حاولت الأقليات القومية المشاركة في بعض الفعاليات الثقافية السورية ، ولكن تلك المشاركات قبلت حيناً ورفضت في أحيان أخرى من جهة مؤسسات النظام، الأمر الذي جعل أبناء تلك القوميات يشعرون بانتقاص مواطنتهم. 6

كان من أهم الأسباب التي أدت إلى ظهور اللبوس الديني والقومي للصراع في سوريا، الدكتاتورية العسكرية التي خلقت مقومات الصراع وتعامت عن النخر الطائفي والمذهبي والقومي الذي ساهمت بخلقه وغطته بشعارت كانت موضع سخرية ومقت أغلب السوريين بصرف النظر عن صحتها أو خطأها. وبعد أن انفجرت براميل البارود التي ينام عليها المجتمع تدخل النظام بصفته طرفاً في الصراع وأفقد الدولة دورها الوظيفي في أن تكون حكماً. أما الكوميديا السوداء فتتجسد في أن النظام نفسه أضحى أمير حرب تديره قوى خارجية شأنه شأن أي مجموعة من الزعران امتلكت سلطة على أحد الأزقة ومولتها إحدى الدول ووجهت نشاطها على الأرض!

لا يمكن كما أرى أن تتحقق الهوية الوطنية الكاملة وغير المنقوصة أو القابلة للتشظي إلا بانتصار ثورة بالمعنى البرنامجي، وبالتالي القانوني والدستوري والمدني. وبصرف النظر عن ميزان القوى الراهن، لا يمكن للهوية الوطنية أن تتحقق دون فصل الدين عن الدولة.  بلغة أخرى لا بد من التغيير السياسي كخطوة نحو تجاوز التطابق القسري بين الوطن والدولة والدكتاتور، هذا التطابق القسري الذي يفرض بالقوة تحت راية العروبة أو تحت راية الإسلام. لا بد من راية سورية لا تخضع لأي من مقومات ومكونات الهوية السورية بل تحترمها جميعاً، وتتعامل معها على قدم المساواة من زاوية الحقوق السياسية والثقافية والاجتماعية .  ولا يمكن أن يقوم هذا التغيير إلا باعتماد دستور وقوانين عصرية تضمن للسوريين حقوقاً متساوية، لا بد من تكرار “بصرف النظر عن الدين أو العرق أو الجنس”، ومن نافل القول أن حرية التعبير وتشكيل الأحزاب السياسية والصراع السياسي تحت قبة البرلمان أو في الصحافة الحرة سيتيح إعادة تكوين الأقليات والأكثريات على أساس المواقف السياسية وعلى أساس تصورات السوريين عن كيفية بناء المستقبل، وليس اعتماداً على المنبت الطائفي أو القومي. نحتاج فيما أرى إلى أن نتجاوز العيش في الماضي (سواء بصفته مجيداً أو منبع مظلوميات)، ونحتاج إلى  كبح محاولات تحطيم مستقبلنا بإخضاعه لهويات تجاوزها الدهر . ولكن قد لا يكون كل ما قلته ويقوله غيري في الوقت الراهن والمدى المنظور أكثر من محاولة تشبه العديد من المفاهيم والمشاريع الموؤودة.

هوامش:

1-  أذكّر،  على سبيل المثال بمقال عبد الله الأحمد، أحد قياديي حزب البعث بنسخته الأسدية،: “الأسد الخامس، مسيرة وتطلعات” والذي نشر في السفير البيروتية  عام 1999، وقد جاء في المقال: “ تمنيت على رئيسه الأسد الرابع (المقصود حافظ الأسد في ولايته الرابعة)  أن يختط منهاجا يجنبنا فيه طريق تيتو العظيم واقترحت أن يكون منهاجا يتابع خطى فرانكو وما هذا إلا مثال لما نحب وما نكره. ونشر عبد الله الأحمد مقالا واسعا في صحيفة “النهار” البيروتية في 3 حزيران/يونيو عام 2000، تحت عنوان: “ليلة القبض على محمود الزعبي” تداوله الناس على نطاق واسع في دمشق جمع فيه ما بين البيان السياسي، والرسالة المطولة والمقال الصحفي متوجها الى: (الرفاق أعضاء المؤتمر القطري التاسع) ، دعا الأحمد إلى تبني  (الشرعية الدستورية) بدلا من (الشرعية الثورية). واشتهرت رسالة أنطون مقدسي إلى الرئيس بشار الأسد بعيد الاستفتاء الذي جرى كامتداد للاستفتاءات السابقة لاستمرار والده في منصب الرئاسة، والتي تطالب بتحول السوريين من رعايا إلى مواطنين، وفي عام 2006 أصدر محمد كامل الخطيب كتاباً بعنوان:”وردة أم قنبلة- إعادة تكوين سورية” خلاصته كما يقول الخطيب  أن سورية مقبلة على إعادة تكوين فإما أن تكون دولة مدنية ديمقراطية علمانية لجميع مواطنيها، وإما أن تكون قنبلة موقوتة” ويضيف الخطيب في مقدمة كتابه: “مائة عام من العذاب” الذي صدر عام 2011: “آمل أن يعتبر هذا الكتاب تتمة للكتاب السابق، مع ملاحظة أن القنبلة انفجرت أو بدأت الانفجار (…) وهو ما كنت أخافه، وربما ما يخافه أكثرنا على ما آمل، إلا أولئك الذين يريدون تحويل الوردة إلى قنبلة …”

 يعتبر دين رئيس الدولة ومصدر القوانين من بين نقاط الخلاف بين السوريين في صياغة الدستور السوري، ويرد ذلك في العديد من الكتابات، منها على سبيل المثال، مذكرات أكرم الحوراني التي جاء فيها:” وقد نشرت بعض الصحف، يوم 10 شباط بیانا طويلا للشیخ مصطفى السباعي، زعیم الاخوان المسلمین عرض فیه دواعي وضع مادة “دين الدولة الاسلام” في الدستور، وكان أبرز ما في ھذا البیان قوله “إننا لا نريد انقلابا في قوانینا الحالیة، وإنما نريد التقريب

2-بینھا في التشريعات المدنیة وبین نظريات الاسلام الموافقة لروح ھذا العصر ولأصدق النظريات الحقوقیة السائدة فیه، فإذا اتفق التشريع الاسلامي مع النظريات الحديثة فھل تجدون حرجا في الأخذ به تراثا قومیا عربیا تعتزون به وتفاخرون؟”. فعلق نجیب الريس صاحب جريدة “القبس” على ذلك قائلا: “ھذا ما قاله الشیخ مصطفى في بیانه ويتضح منه صراحة بأنه ھو ومن يقول بقوله لا يريدون سوى مجرد النص على دين الدولة فقط من غیر تطبیق ما يوجبه الاسلام من أحكام وشرائع وإقامة حدود”.. ثم وجه السؤال التالي للشیخ مصطفى : “ما دمتم لا تنوون تطبیق أحكام الدين الاسلا مي، فلماذا تصرون على وضع مادة في صلب الدستور تظل معطلة؟ ولماذا تثیرون البلاد وتوجھونھا بالوفود والمضابط؟ ألمجرد وضع نص فقط لا غیر”. (مذكرات أكرم الحوراني، الطبعة الأولى-  دار مدبولي ، القاهرة، الطبعة الأولى،،2000 الصفحتان 1141-1142

3- بعد مقتل ابراهيم اليوسف، بزمن طويل أطلقت المعارضة المسلحة إسم: “غزوة ابراهيم اليوسف” على واحدة من أكبر معارك حلب. واختلفت تيارات المعارضة على إطلاق اسم اليوسف على المعركة، حيث رأى البعض أن اليوسف مجرم ارتكب مجزرة في حين رأى آخرون أنه “من رموز الجهاد السوري”.  

4- عانى السوريون الأمرّين من التحرير الذي يعني سيطرة مسلحي المعارضة على منطقة ما، والتطهير الذي يعني عودة سيطرة النظام على تلك المنطقة. ناهيك عما تسبب به التحرير من دمار ونهب حتى على أيدي المحررين أنفسهم الذين اتهموا بتفكيك مصانع وبيعها للأتراك، أما “المطهرون” من أنصار النظام فلم يكتفوا بنهب البيوت والمحال التجارية في المناطق المطهرة (أطلق على هذه العمليات إسم تعفيش) بل قاموا بإحراق العديد من البيوت والمحال ، دون أي اعتبار لكون ما يحرق هو سوري في نهاية المطاف.     

5- لم تنج الطوائف والمذاهب الأخرى (الاسماعيليون، الدروز، المسيحيون) التي تنوعت مواقف المتحدرين منها، بين مؤيد ومعارض للنظام. فقد كابد معارضو النظام الإهانات و(التعفيس والتعفيش) والاعتقالات بل والتعذيب حتى الموت من قبل شبيحة النظام أو مخابراته، وعانى العديد وبصرف النظر عن موقفهم من النظام أو المعارضة، بسبب تحدرهم من عائلات درزية أو اسماعيلية أو علوية من القذائف والاختطافات والقتل من قبل مسلحي المعارضة، فقد سقطت قذائف عديدة على بلدة سلمية حيث تقطن أغلبية اسماعيلية، وعلى السويدا حيث يقيم الدروز، أما المسيحيون فقد هوجمت بعض كنائسهم وقراهم من قبل داعش أو النصرة، وتمت دعوتهم للدخول في دين “الإسلام” أو دفع الجزية .

6- لقد استبشرنا خيراً في السنوات الأخيرة، حينما أدرجت الأغنية الأرمنية والآشورية(السريانية) في مهرجان مسابقة الأغنية السورية الذي يقام سنوياً في -حلب، وكان المنتظر توسيع هذه المشاركة وتطويرها وإدراج الأغنية الكردية والشركسية في هذا المهرجان، لكن بالرغم من تواضع هذه الخطوة في مسيرة الانفتاح على الثقافات المحلية والتراث السوري المتنوع، كانت المفاجأة حرمان الأغنية(الأرمنية والسريانية) من الاشتراك في المهرجان الثامن والتاسع لعام 2002 و2003.  من محاضرة ألقاها سليمان يوسف يوسف بعنوان:(سوريا وإشكالية الهوية الوطنية) في مدينة القامشلي، 8/1/2004.

الهوية السورية هوية مضادة

الهوية السورية هوية مضادة

هل توجد اليوم هوية اجتماعية وسياسية سورية، أو هوية وطنية سورية؟ ليس من الفراغ أن السوري، حين يبحث عن تعريف لنفسه أو عن هويته، يميل إلى التاريخ القديم. يعود إلى دمشق، المدينة المأهولة الأقدم في العالم. ينسب نفسه إلى شعوب اخترعت الأبجدية الأولى والنوتة الموسيقية الأولى، يبحث عن التميز في أقوال الآثاريين عن سورية الوطن الثاني لكل إنسان مهما كان وطنه الأم …الخ،  أو على الأقل يسند السوري الحالي هويته إلى دمشق الأموية، إلى “بستان هشام” القادر على استتباع الدنيا وإلحاقها به، دون الانتباه إلى أن في كل ذلك مفارقة ومصادرة للتاريخ، لأن الأمجاد “السورية” القديمة هذه لا تخص سورية بالمعنى المعاصر.

فقد المجتمع السوري الحديث السيطرة على تاريخه الخاص سواء في إنتاج النظام السياسي الذي يمثله أو إنتاج العلم والمعرفة، أو في الإنتاج التقني، وفقد، بالتالي، قدرته على صناعة هويته الخاصة. هذا ما يبرر طرح السؤال الذي بدأنا به.

المجتمع الذي لا يختار تمثيله السياسي، كحال المجتمع السوري، سيكون شكل الحكم المفروض عليه غريباً بدرجة ما عن هويته، أو لا يعكس هويته تماماً. ولكن الحديث عن الهوية، بوصفه حديثاً شاقاً وغامضاً مهما سعى إلى الوضوح، يفرض على المرء سلسلة تساؤلات لا تنتهي مثل: أليس عجز المجتمع عن اختيار تمثيله السياسي، هو جزء من هويته؟ أو بطريقة أخرى، ألا يمكن معرفة خصائص شعب ما (ماهيته أو هويته) من خلال الحكم أو النظام السياسي المفروض على هذا الشعب، على مبدأ “كما تكونون يولى عليكم”؟ لكن لماذا نفترض أن النظام السياسي المستبد مفروضاً على الشعب؟ ألا يمكن أن يكون الشعب في غالبيته راضياً بهذا الشكل من الحكم، معتبراً أن السياسة شأن النخبة وأن دخول العامة في المجال السياسي لا يولد إلا الفوضى؟ عندها ألا يمكن أن يكون القبول بهذا الشكل من الحكم جزءاً من هوية الشعب المعني؟ أليست فكرة المستبد العادل هي الوليد الشرعي لشعوب “الاستبداد الشرقي”؟

من الناحية السياسية حين يذكر الشرق يذكر الاستبداد، وسوريا من هذا الشرق الذي يشكل الاستبداد المعلم الأهم في هويته السياسية. طوال تاريخه لم يفلح المجتمع السوري في الخروج من الاستبداد السياسي، بقي رهين هويته السياسية الاستبدادية، منتقلاً من نظام ديكتاتوري عسكري إلى آخر. والحق إن محاولات المجتمع السوري في تجديد هويته السياسية لم تكن محاولات عميقة، أقصد ذات ثقل أو عمق شعبي. المحاولة العميقة الأولى هي ثورة 2011 (يبقى لمآلات هذه الثورة ما تقوله فيما يخص هذه المحاولة). ليس مفاجئاً أن السوريين الغائبين لزمن طويل وبشكل شبه تام عن صناعة هويتهم ، تعثروا في محاولتهم العميقة هذه التي من المعقول تناول موضوع الهوية السورية على ضوئها.

لا يعيب سوريا أنها وطن رسمت حدوده “مؤامرة” ما، قليلة هي الدول التي رسمت الطبيعة حدودها. حدود البلدان مرسومة في غالبية الحالات بفعل توازن قوى، فيه من القسر الخارجي أكثر مما فيه من الإرادة الداخلية. غالبية الحدود السياسية تحمل بصمات لقوى خارجية. تبدأ المشكلة السورية من الإنكار الصارخ لهذا “العيب”، الشيء الذي جعل الوطن السوري “قطراً”، أي حالة مؤقتة، ولكنها دامت على هذا.

تخجل سوريا من تعريف نفسها كبلد ناجز مستقل ونهائي كي لا يبدو ذلك “خيانة” لانتماءاتها الأوسع، القومية أو الإسلامية، وكي لا يبدو ذلك رضوخاً لإرادة المستعمر. ربما لم يكن من السهل أن يقبل السوريون بهوية خاصة تميزهم كسوريين عن العرب، أو تميزهم كعرب سوريين عن بقية المسلمين، ولا شك إن مثل هذا الشعور كان يمكن أن يشكل دافعاً مهماً لتجاوز التقسيم المفروض، ولكن هذا لم يتحقق، وسنرى أنه حين مال السوريون إلى “سوريتهم”، في غضون ثورة 2011، وجدوها بعيدة وعسيرة كما كانت طموحاتهم العروبية والإسلامية من قبل.

الزمن وموازين القوى، قبل ثورة 2011، أديا إلى خلق بنية قطرية سورية، فيها عوامل سياسية واقتصادية، وحتى اجتماعية أو شعبية، تصد عن تجاوز القطرية أو التقسيم أكثر مما تدفع لتجاوزها. وقد أثبت الواقع ذلك مبكراً، في مجريات فشل الوحدة مع مصر 1958. رغم ذلك لم يكن متاحاً لسوريا أن تتعرف على نفسها كما هي. كانت سوريا موزعة دائماً بين ما هو كائن وما ينبغي أن يكون، وكان دائماً ما هو كائن واقعاً مؤلماً للسوريين، ليس فقط بمعنى داخلي، أقصد سيادة الاستبداد، بل وبمعنى آخر هو العجز عن تحقيق “الأماني” القومية أو الإسلامية. بين كائن مؤلم وتطلعات بعيدة المنال لا تتحقق، عاشت سوريا قلقاً دائماً جعلها غريبة عن ذاتها، تلك الغربة التي تساهم في إعاقة إنتاج هوية مميزة.

سوريا هي “قلب العروبة النابض” لأنها لا تتطابق مع ذاتها، ولأنها مستعدة لأن ترمي نفسها في حضن مصر الناصرية، وجاهزة لأن تدفع “خرجيات” تلامذتها الصغار لدعم حرب تحرير الجزائر، ولأن تكون فلسطينية إلى جانب الفلسطينيين. هي قلب العروبة النابض لأن قلبها لم يكن سورياً بل عربياً، أو لأنها عربية أكثر مما هي سورية، لأنها ترى هويتها في أفق عربي مأمول، ترى هويتها خارجها.

لكن هذا القلب القومي النابض، هو في الوقت نفسه جزء من انتماء آخر غير قومي ولا يعترف بالقومية، جزء من انتماء إسلامي حرصت كل دساتير الدولة السورية، بما في ذلك أكثرها ديمقراطية كدستور العام 1950، على تأكيده وإعلائه فوق كل انتماء آخر.

إذا كان يمكن اعتبار النزوع والتطلع جزءاً من الهوية فلا شك أن النزوع القومي يشكل أحد مكونات الهوية السورية، المفارقة هنا هي أن يكون الميل إلى تجاوز الذات جزءاً من هوية الذات، على هذا يبدو كأن هذه الهوية السورية هي في الواقع هوية مضادة. الشيء نفسه ينطبق على التطلع الإسلامي الذي لم يتمكن من الاندماج في الوطنية السورية، ويبقى طاقة تحطيم كامنة لكل الأطر الوطنية.

نزوع التجاوز المخفق دائماً، عدم الركون إلى ما هو كائن والبقاء على قلق، المؤقتية الدائمة، التطلع إلى هوية متجاوزة للذات، البحث عن هوية خارج الذات، تلك هي ملامح من الهوية السورية قبل ثورة 2011.ولكن ينبغي أن نضيف هنا أن هذه الهوية تنتمي إلى مجال الوعي السوري العام الذي كانت أنظمة الحكم الاستبدادية المتلاحقة تأخذه في الحسبان وتستثمر فيه لا لكي تسعى لتحقيق أمانيه بل لكي تعزز هويتها الاستبدادية التي وصلت مع نظام الأسد إلى حدود الأبدية. في هذا تعزيز للتباين بين الوعي السوري العام والواقع السوري، وفيه لهذا إعاقة لنشوء هوية وطنية محددة.

هل كان يمكن لثورة 2011 أن تشكل بداية هندسة هوية سورية خاصة؟

شاع في سوريا، في سنوات ما قبل “الثورة المغدورة”، تعبير سياسي لمّاح يقول: إن المجتمع السوري ليس متماسكاً بل ممسوكاً، أي إن عدم تفجر المجتمع السوري يعود إلى الاستبداد، إلى وجود قوة قاهرة تفرض على المجتمع الانصياع لسلطة مركزية تستمد شرعيتها من قوتها وليس من آلية محددة تنتج الشرعية السياسية في المجتمع السوري، ذلك أن مثل هذه الآلية لا وجود لها في سوريا.

إذا صح هذا القول، وهو برأينا صحيح إلى درجة لا بأس بها، فإنه يعطي الأساس لاستنتاجين ثقيلين على النفس: الأول هو أن شرط إنتاج الهوية، أقصد قدراً من التماسك المجتمعي، غير متوفر في المجتمع السوري الذي كان يضمحل حضوره تحت ثقل السلطة السياسية الكتيمة، ولا يظهر إلا على مقاسها. والثاني هو أن تحرير المجتمع السوري من الاستبداد (إسقاط النظام) ينطوي على المغامرة بتفكك هذا المجتمع الذي عبر عن ضعف تماسكه أكثر فأكثر مع استمرار الصراع، أو يمكن القول إن أحد أهم أسباب استمرار الصراع على هذا النحو المأساوي هو عدم تماسك المجتمع السوري.

ألا يبدو أن ميل السوريين إلى الابتعاد عن “سوريتهم” يعادل أو يفوق ميلهم للحفاظ عليها؟ بكلام آخر، هل يتفوق التعريف السوري الوطني على التعريف القومي الكردي أو العربي أو على التعريف الديني الإسلامي أو حتى على التعريفات الطائفية؟ هذه البيئة الاجتماعية السياسية التي تنطوي على نزوع مستمر للتجاوز أو للنكوص هي بيئة غير منتجة لهوية محددة لها مقدار من التبلور.

كان من نتائج تحطم ثورة 2011 أن حرر هويات عديدة من سوريا أكثر مما أعلى من شأن الهوية الوطنية السورية. لم تشكل الوطنية السورية انتماء جامعاً قادراً على الصمود في وجه الانتماءات الهوياتية الأخرى. برزت الهوية القومية الكوردية وكان ثقلها الأكبر باتجاه غير متضافر، ومتعارض في أحيان كثيرة، مع قوة الثورة “الوطنية السورية” ضد الاستبداد. المطلب القومي الكوردي تغلب على المطلب الوطني السوري في قلب الثورة. كما برزت الهوية الإسلامية السنية العالمية التي تقاتل ضد نظام مستبد محدد ولا تقاتل ضد الاستبداد لأنه جزء أصيل من منظومتها السياسية، فضلاً عن أنها لا تعترف بالوطن السوري أصلاً. وبرزت الهويات الطائفية والمذهبية الأخرى التي وجدت في النظام السوري قوة حماية في وجه انزياح جهادي سني، الأمر الذي جعلها تغمض العين عن وحشية هذا النظام ضد أبناء “الوطن” الواحد، وعن استبداده ضدها بالذات.

الذي حدث هو أن الدفاع الوحشي لنظام الأسد عن وجوده عرّض تماسك المجتمع السوري، الضعيف أصلاً، لقوى شد عنيفة أدت إلى تفككه، فكان أن انبثقت هويات مختلفة ومتعارضة بين بعضها البعض، ما أدى إلى تراجع الوطنية السورية في المحصلة وليس العكس، ذلك أن تلك الهويات تفيض أو تقل عن سورية المعروفة. الوطنية السورية التي حاولت الثورة، في بدايتها، أن تُعليها، تضعضعت في غضون صراع الهويات الأخرى. التنوع السوري الذي يمكن أن يشكل جانباً من الهوية السورية، يشكل اليوم أحد مصادر استمرار المأساة السورية. تسييس التنوع السوري القومي والمذهبي تسبب في ضعف التماسك الوطني، ثم شكل تالياً محطات استقبال “متنوعة” لقوى وتأثيرات خارجية ثانياً.

كان بروز الهويات المختلفة (قومية ودينية ومذهبية) في سوريا مع تحطم ثورة 2011، على حساب خفوت هويتين اثنتين فيها هما الهوية القومية العربية، والهوية الوطنية السورية التي كان يمكن تعزيزها بفعل الثورة، الشيء الذي لم يحدث، والتي هي المظلة الوحيدة التي يمكن التعويل عليها في استيعاب الهويات الأخرى حين تكف هذه عن السعي إلى كسر محيطها الوطني.

فيلُولوجيا الأزهار

فيلُولوجيا الأزهار

من نصٍّ طويلٍ بعنوان (فيلُولوجيا الأزهار)

لماذا لا نؤقِّتُ أعمالَنا على السَّاعةِ البسيطةِ في زهرةِ السَّاعة؟

ماذا تتعبَّدُ في اللَّيلِ زهرةُ عبَّاد الشَّمس؟

ألَمْ يَفِضْ حليبُ المجرَّةِ مِن زهرةِ أفيون؟

لأجلِ أيِّ قدَّاسٍ مسائيٍّ ترنُّ زنابق الوادي؟

أليست النَّيلوفراتُ هي المآوي البيضاء التي تهبطُ فيها جفونُ اللَّيل؟

هل قشَّرَ أحدٌ السَّماءَ والقشرُ المنفوضُ على الأرض هو أزهارُ الونكة؟

أليست أزهارُ البنفسج وثائق شعريَّة؟

أثمَّة في الأرض موقدٌ أبسطُ من زهرةِ خشخاش؟

كم غسقاً حُوصِرَ في زهرةِ زعفران؟

أليست في آنٍ واحدٍ قنديلاً ودَلْواً زهرةُ التَّوليب؟

هل انتبهَ أحدٌ إلى الزَّورقِ في كلمةِ خُزامى؟

كيف لا نرى أنَّ هناك وحدةً بين تثاؤب طفلٍ وتَفَتُّحِ زُهيرة آستر؟

من أين تفقسُ النُّجومُ إن لم يكن من زهرة فاوانية مُنتفخة؟

كم ضعفاً تُكبِّرُ أزهارُ الختميَّةِ الصَّيفَ؟

كيف تحوَّلَتْ أزهارُ البهشيَّةِ من حبَّاتِ زَبَدٍ إلى قطراتِ دم؟

أتريدُ أن تغترفَ من الأبديَّةِ، زهرةُ القبَّار، بكلِّ هذه الأذرع الممدودة؟

أرأيتُم كيف يعانقُ الجرحُ أجنحتَه في زهرةِ بخور مريم؟

إذا أمسكتُ أقحوانةً بيضاءَ بيميني وأقحوانةً صفراء بشِمالي، هل سأدورُ كَكَوكب؟

أيتهادى العاشقان في أزهار الدَّهليَّةِ نجومَ الشَّيطان؟

أيُّ مفاتيحَ أفضَلُ لأقفالِ الشِّتاء من أزهارِ السُّورنجان؟

ماذا تريدُ أن تمحوَ أزهارُ الصَّاصَلِ البيضاءُ في حديقةِ المقبرةِ المظلمة؟

أهناك حقَّاً وحدةُ دمٍ بين القرنفل الأحمر وشِفاه العاشقين؟

كيف استطاعت الوستارية هكذا، أن تصنعَ مِن نفسِها كاتدرائيَّةَ نفسِها؟

أيُّ نهارٍ في خاصرةٍ في قبَّةٍ في سحابةٍ محضونٌ بلا حدٍّ في الأرطاسيا؟

*  * *

إلى أطفالِ سوريا

ثمَّةَ، بينما تموتون، طائرُ حُمَيراء

يضعُ مُنتشياً، في جوفِ حورةٍ سوداء،

بيضتَه الزَّرقاء الأولى.

بينما تموتون، يَدخلُ قلبي معكم

في الغيمةِ الأخيرةِ لِعالَمٍ بدأ مُنتهياً،- أدخلُ معكم

في الخشخاشِ الأبيضِ، في البحر المتباطئ.

بينما تموتون، الله والقاتلُ،

على شرفةٍ واحدةٍ، يشربان النِّسكافيه ويضحكان.

فقط؛ يشربان النِّسكافيه ويضحكان.

 * * *

في هذه البلاد

في هذه البلاد، اللَّيلُ      

لا يهبطُ على نهارٍ،   

النَّهارُ لا  يطلعُ مِن ليلٍ،

اللَّيلُ لا يُولَجُ في النَّهارِ،

النَّهارُ لا يُولَجُ في اللَّيلِ،

في هذه البلاد، اللَّيلُ

يهبطُ على ليلٍ آخر،

اللَّيلُ الآخرُ يطلعُ مِن ليلٍ قبلَه،

اللَّيلُ يُولَجُ في ليلٍ

داخلَ ليلٍ

داخلَ ليلٍ

داخلَ ليل.

* * *

نصوصٌ متفرِّقة

ما اسمُ اليَنبوعِ       

قبلَ أن يُباشِرَ انبجاسَه؟  

طائرُ الصُّفَيرِ الذَّهبيِّ، ما اسمُهُ

وهو بَعْدُ فرخٌ أخضر؟

ماذا كان يُسَمَّى اللونُ البنفسجيُّ  

قبلَ أوَّلِ زهرةِ بنفسَج؟

ومِن دون الخريفِ ما اسمُها

شجرةُ القيقبِ الأحمر؟

*

هل الزَّنابقُ السَّوداءُ في الشَّمس       

دُفعاتٌ صغيرةٌ من الليل؟  

وهل أزهارُ الجِربارةِ الصَّفراءُ في الليل

لمساتٌ مُخَفَّفَةٌ من الشَّمس؟  

*

مَن يئنُّ في الوادي؟      

شجرةُ الحورِ التي تنهشُها الرِّياح

أمِ الرِّياحُ التي عَلِقَتْ

شجرةُ حَورٍ  بأسنانها البيضاء؟

*

لا أعلمُ أبندقيَّتان أم كستنائيَّتان      

عيناكِ: أعلمُ

أنَّ قلبي أمامَهما يقفزُ كَسِنجاب.

*

تتدحرجُ مع الليلِ وتعذِّبُني  

فكرةُ الضَّوءِ

في المصابيحِ المُطْفَأة.

*

هل تنظرُ السَّماءُ في الليل    

إلى بآبئ عيونِ القِطَط  

كما ننظرُ نحنُ إلى النُّجوم؟   

*

لا أتخلَّصُ أبداً

مِن حُزنِ بكرةِ التَّحبير المعطَّلة

في آلةٍ كاتبةٍ قديمةٍ ومُهمَلَة.

*

لكي أصنعَ ليلي      

أرمي قلبي كلَّ غروبٍ في الزَّبَدِ الأحمر    

وأنتظرُ فَحْمَتَهُ  

أنْ تأتي إليَّ

بالغابةِ الخرِبَةِ المدلهمَّة.   

*

لا أفعلُ في الرَّبيع       

سوى أنَّني أَخرُجُ

لأساعدَ الاحتقانَ الورديَّ  

في كلِّ الأكمامِ الزَّهريَّةِ  

على التَّشقُّق.    

*

اللَّيلُ كاتدرائيَّتي الكبيرة        

حيثُ كلُّ الآلهةِ

تدخلُ بِظِلالٍ مُرتعشةٍ لِتَعبُدَني   

وأنا البسيطُ   

أتثاءبُ مُشيحاً بوجهي عنها

نحوَ نجمةٍ مُحتارةٍ

بين ثوبٍ بنفسجيٍّ وآخرَ أحمر.

*

لماذا أيَّتُها اللغةُ

كلُّ بابٍ أحرِّرُكِ منهُ  

تحبِسينني خلفَه؟