تقطيع المشاهد بالاختناق

تقطيع المشاهد بالاختناق

إذا حزنتَ لا تُخبر النصوص التي تكتب أنك كذلك،
كي لا يُصاب الشعر بك، بالحزن.

إذا شعرت بالحب لا تعترف

وجرّب محو الحب بالبلاد الغافية على الجماجم،
ثم لا تعد للحرب كلما اتضحت غباشة الصور البطيئة،
إنهم يتعاهرون بالهدنة.

حين يصبح للموت كل هذا المديح و”البطولات”،
يكون الحطب قد أخذ اسماً دقيقاً: بشراً… بشراً…

ضع كوباً من الوقت على طرف سريرك،
وتناول كتاباً قديماً كنت قرأته حول محاربة المدن الكبيرة للمساحة،
أخبر الكتاب بأنك تكره الفراغات المتسعة في أي مشهد،
ثم ضع الكتاب على باب متاهاتك النائمة بالقرب منك، بئر الشهوات…
تلك التي تستعد لخطفك إلى أيقونات تسيل ماء بدل الزيت المقدس،
هنا ضع كوب الوقت لتأخذ اللحظات وقتها

بخروج روح الماء من أحزان الصور

وانظر للضوء الخافت، القادم من نافذ الغرفة،
ثمة نجم سوف يهبط على قلبك من العصور الطباشيرية،
عندما ينتهي نزيف الأيقونة

ويرتوي الوقت من لهاث متاهاتك ثم يتوقف للأبد،
تصبح هذه المتاهة امرأة غريبة.

أعد الحزن إلى مكانه الطبيعي، هناك في قفص الضوء،
لن تغرد أنفاسك 140 حرفاً فقط!
الحقائب المنتظرة أسفل الرحيل، هي حقائب الرئتين،
هيا أسرف في ذوبانك ولا تردّ على أحد،
احظر كل كائنات الإنس و اللعنة…
إنهم يريدون صوتهم من كهوف صدرك.


أبعد هواتف المعجزة عن باب رأسك،
الرنين الطويل للحلم لن يعد للوراء،
لن تتذكرك رائحة النهد،

لا تلمس هذا اليباس فقد تكسر ذكراه،

إنه ما بقي من عصير المشمش على صوتها،
هي كذلك، كل الزوايا ترتد إليك… بها،
ترتدّ اختناقاً في تقطيع الماضي الأخرس.

(لارنكا – 10 آذار 2017)

أنا… الغرباء

الغرباء يدخلون إليكَ من أوسع أبواب السؤال،

تطيح بهم جمعياً بحطام واحد منك!

على أن تكون العيون براميل الموتى الذين يقف الغرباء

بحثاً عليهم

بحثاً عن تساقطهم من مروحية النصر“!

وتسأل: إذا كان للضحايا كل تلك الصور في خرائط الشاشات،

لماذا لا يراك الغرباء إلا شبيهاً بالأسئلة،

وماء يديك ينخرط مرارات في كتب ذكرياتهم؟

الغرباء يطوّبون الوجوه السائلة على صفحة شفاههم،

ثم يدوّنون هذا الصوت

يدوّنون فعلتهم تلك: أجل، لقد نظروا إليك،

كنتَ الغريب الوحيد بينهم،

وهم

أصحاب المكان

أصحاب الرحيل

لارنكا – (بار 1900) 11 كانون الثاني 2018  

موت ناصع

نحن افتراض الطُعون على منصات الحقوق!

لا طوابع على جباهنا، ولا أختام تعدّل لنا الحياة،

نحن عفونة الملح في أوراق الطُعون

فكرتها وسحاق شهوتها، نعبث في شاطئ خيالها

ويقدمنا قضاة الحزن في مرافعة الرحيل

نغرق في دعوة الرفض، ثم لا يمنحنا الآمنون رخصة للهواء

نقسّم أحلامنا على رذاذ الرمال، يتضاعف خصامنا منّا وهو يحدق بهشاشة في أحشائنا الطينية.

من يعبق قرب عظامنا بالنهاية، فليحمل لنا ثعابين الخلاص أو يرسل إلى الله حبالاً لتسحب هذه الجثث من برزخ صراخها.

نتفوّق على حمرة دمنا في خَرق بياض الصفحات وتنقيط وحي الإله، وأقدار عجزنا المذوّبة طوال ثلاثين عاماً نرتدي نتوء القصائد المحترقة تحت نواح الموت الناصع

تعالوا عربدوا على حكاياتنا وملفاتنا، وصورنا الإجرامية إلا قليلاً،

هيا اكتبوا نحونا صعود الرثاء، وعانقوا فينا الوحوش النائمة، أخرجونا من كبريائنا وذاكرتنا، وفصّلوا لنا أطقم الرمال النادمة، ربّما تكللنا أصابع أولادكم وهم يهيلون التراب على أحذيتنا قبل أن يشعلوا الفتيل

نرجع إلينا في أرصفة المَهَاجر وطلائع العيون البيضاء تمشي أمامنا،

ترحب بنا كنائس المدينة ببطء الحروب التي صلبت حجارتها ورؤوسنا تنحني لتبعد عن دربها أصوات البحر العالقة بين قبور القديسين،

ها نحن نعبر إلى عصور العدم، لا هواء يدخل الجسد! والأرواح تحوم في العيون البيضاء، العيون التي اقتلعتها أقدرنا ومضت وراءنا

لارنكا – 26 أيلول 2017

في البدء كانت السكين

في البدء كانت السكين

في البدءِ كانت السكين

منذ قابيل

وإلى آخر مجزرة،

الكلماتُ لم تكن ولدتْ بعدُ

الكلمات التي تحفظونها عن الأمل

لن تمنح الحياةَ لوردةٍ صغيرة

مرّتْ من فوقها دباباتُ الوطن،

والكلماتُ التي تحفظونها عن الفرح

لن تمسحَ دمعةَ طفلٍ فقد درّاجته تحت رُكام المنزل،

والكلماتُ التي تحفظونها عن الحلم

لن تُقنعَ النائمين تحت سماءِ الحزن المدلهمّ

بالنظرِ إلى السماء،

والكلماتُ التي تحفظونها عن الحبّ

لم تعد تصلُح لحديثٍ مسائي بين عاشقين

على مقعدٍ في حديقة

في زمن “الأندرويد” و “دونالد ترامب”.

أيتها الكلماتُ المغدورة

ماذا سنقولُ لـ “كريم” (*)

– وقد انطمسَتْ قصائدُنا التي لم تُكتَبْ بعدُ –

عن العيونِ والأنهار

عن البحار والمدى

عن الردى!

وحدَها السكينُ

ووحدنا الحنجرة،

وحدها البندقية

ووحدنا الظهر،

وحدَهُ الذئب

ووحدنا الحملانُ الضعيفة.

هلِّلُويا

هلِّلُويا

في البدء كانت السكين.

* * *

(*) كريم: من أطفال غوطة دمشق، اقتلعت عينه جراء القصف.

ولو كان ورداً أقلّ

ولو كان ورداً أقلّ

ولو كانَ ورداً أقلَّ الذي نامَ ما بيننا في السرير

أكُنّا سنحلُم أكثرَ بالنوم في شُرفات البلادْ؟

وما الحبُّ إنْ لم يكن عارضاً للحديث عن الريحِ

أو جمرةً تتباهى بأحلامنا كلّ صبحِ

وتأخذنا من يدينا لكيلا نموتَ إذا جاء وقتُ الرمادْ!

وما الشوقُ إنْ لم يكن مؤلـِماً وغريباً كصبّارةٍ

وانتظاراً يغيّـرُ أقدارَنا لو أرادْ؟

وحين أفكّرُ فيكَ يهبُّ من المزهريةِ صوتُكَ

يسقطُ قلبي على درجِ البيتِ مني

وأنسى تماماًكأيةِ عاشقةٍ–  كيف يشتدُّ عودُ الغريبة في البرد

أصعدُ نحو هلاكي رويداً رويداً

فيجعلني الوقتُ أغنيةً لا تُعادْ

ولو كان ورداً أقلَّ أكنتَ ستمضي بعيداً لتبحثَ عن وطنٍ آخرٍ

أو نشيدٍ جديدٍ؟

أكنتَ ستكسرُ قلبي كما فعلَ الآخرون به،

أم ستبقى جميلاً كأيّ غريبٍ يرى في المنافي ملاذاً من الحرب

والتركاتِ البخيلة من شجرِ النار أو كذبِ الأصدقاءْ؟

كبرنا كثيراً على أنْ نكون سوانا

وهذا الرحيلُ الذي كان محضَ اتفاقٍ مع الشمس كي نمسكَ الغيم

أصبحَ كلَّ الذي تركتْهُ لنا الأرضُ من سِـيَـرِ الأنبياءْ

* * *

حين اشتقتُ إليك

حين اشتقتُ إليك

حين اشتقتُ إليك

حين اشتقتُ إليكِ كتبتُ قصيدةً على الجدار

هدمتْها القذيفةُ

.وسالَ الدمُ من حروفها

حين اشتقتُ إليكِ بحثتُ عن أطفالٍ غير جياعٍ

.فلم أجدْ

حين اشتقتُ إليكِ صعدتُ إلى الجبال

ونظرتُ إلى المدن

.فلم أجدْها

حين اشتقتُ إليكِ أشعلتُ شمعةً

وفضحتُ تشرّدي الأخير.

حين اشتقتُ إليكِ لمستُ جثّةَ مقاتلٍ جانبي

.وشعرتُ به يبتسم

حين اشتقتُ إليكِ نسيتُ قصيدةيطير الحمام.. يحطّ الحمام

وتذكرتُ قصيدةفي البالِ أغنيةٌ يا أختُ عن بلدي

فأحسَسْتُ بحَلْقي طعمَ العِتاب.

حين اشتقتُ إليكِ نزلتْ طيورٌ خضراءُ في حَنجرتي

.وماتتْ من قلّةِ الماءِ والخبزِ في هذا الحصار

.حين اشتقتُ إليكِ كانت الرصاصةٌ قد غيّرت اسمي

حين اشتقتُ إليكِ تنفّستُ هواءً نقيّاً

.وكأنني لستُ في ثلاجة الموتى

حين اشتقتُ إليكِ سمعتُ الملائكة يحصونَ أهل الجنّة

.ويكذّبون نشرة الأخبار

.حين اشتقتُ إليكِ كان الشعراءُ يلصقونالنعواتعلى أعمدة الكهرباء

حين اشتقتُ إليكِ دخلتُ مغارةً

.ونمتُ بهدوء طفلٍ لم يعرفْ أنه على هذه الأرض

…إلخ

.ليست خيانةً أنْ أشتاقَ إليكِ في هذه اللحظات الأخيرة

* * *

كان هذا الشتاء غزير التوابيت

كان هذا الشتاء غزير التوابيت

كان هذا الشتاء غزير التوابيت

فتاةُ القرى

وهي تلمحُ بين التلال القطار البعيد

وأعوامَها وهي تعبرُ مثل ثلاثٍ وعشرين غيمةْ

تحدّثُ جارتها عن ذهابِ الجنود إلى الحرب تحت المطرْ

تقول لقد كان هذا الشتاء غزيرَ التوابيت

والأرضُ تزهرُ في كل يومٍ مئاتِ الضحايا

ولي عاشقٌ غاب من سنتين

ولكنه يتلفّظُ باسمي إذا ما اعتراهُ الرصاص

..فينجو

هو ابنُ ثلاثٍ وعشرين نجمةْ

يهاتفُني من قرى الآخرين

ويلمح بين التلال القطار البعيد..

فتاةُ القرى لا تقول لجارتها

إنّ عاشقها لا يهاتفُها منذ عام..

وجارتُها لا تقولُ لها إنها لمحتْ

نجمةً سقطتْ

.منذ عامٍ وراء التلال

* * *

لم يعد أحدٌ منذ عام وأكثر

لم يعُدْ أحدٌ منذ عامٍ وأكثرَ

:قيلَ لنا

“مرّ هذا الشتاءُ على أهلِنا قاسياً

والذي سوف يأتي به الصيف أقسى”

خرجنا سريعاً من الباب

بابِ المدينة

كانت خيوطُ الدماءِ تسيلُ على الجانبين

هبطْنا بأثقلِ أحزانِنا فوق أرضِ الهزائم

ثم انتظرنا

انتظرنا طويلاً وراء التلال

ومرّ الشتاءُ

ومرتْ بنا العرباتُ محمّلةً بالجنود

ذئابٌ رماديةٌ

ونساءٌ يضعنَ قلائدَ مسبوكةً من رصاصٍ

رأينا على صفحةِ النهرِ أجسادَنا وهي تطفو

وراياتِنا تتمزّقُ قبل المغيب

وقيل لنا لن نعود كما لم يعدْ أحدٌ منذ عامٍ وأكثرَ

لكننا كلما اهتـزّ من تحتِ أرجُلِنا الجسرُ

مدّ إلينا الشتاءُ حبالَ الحنينِ

وعُدنا إلى ضفّةِ الحزن..

هذا خرابٌ عظيم

تجاعيدُ أحلامِنا باتتِ الآن أكثرَ عمقاً

وصارتْ ضفائرُ أشجارِ هذا الطريقِ رماديةٌ

لم يعُدْ أحدٌ

لم تلوّح لنا من وراءِ الجدارِ يدٌ

لم يصلْ طائرٌ

والخيولُ الثلاثون تلك التي انطلقتْ بالرجالِ الثلاثينَ

لم ينجُ منها صهيلٌ على الجرفِ

لكنّ ضوءً خفيفاً فقطْ

شعَّ في عتمةِ الليل..

قيل لنا إنّ نجماً هوى

قيل نبعٌ تفجّرَ

قيل حريقٌ خَبَا

..قيل سيفٌ أطاحَ برأس الملكْ

لم يكنْ غيرَ نصلٍ فقطْ

..شعَّ في عتمةِ الليل

.ثم سقطْ

 * * *

نماذج من الشعر السوري الجديد

نماذج من الشعر السوري الجديد

ملف أعده لصالون سوريا: أسامة إسبر

رغم أن الحرب هدمت سوريا عمرانياً وفكّكتْها اجتماعياً لا يزال الشعر يمثل فضاء مشتركاً للسوريين، وهو يكتسب أهمية كبيرة، كونه فناً غير قابل للتوظيف، ويمثل اللغة في أرقى وأعلى أشكالها التعبيرية، كما أنه يلوِّن اللغة ويُغنيها بألوان الشعراء المختلفين، وبرؤيتهم وبنائهم للعلاقة بين اللغة وعوالم الواقع وأشيائها. والشعر، يضيءُ عتمات، ويقود أضواء فيها، تظلُّ تبحث عن الخفي، والذي يظل هارباً، ولهذا لا تُستنفد اللغة الشعرية، بل تظلُّ مقترنة بالمستقبل، لأنها غوصٌ فيه، واستكشافٌ له، ورحلة في تقلبات الذات.

وفي هذا الملفّ الذي يمثّل جانباً مميزاً، وليس شاملاً، من الشعر السوري الجديد، يتفرد الشعراء المشاركون، كلٌّ بلغته الخاصة ورؤيته المختلفة، في بناء قصيدة تعيش غير مستقرة، لا وطن لها، فلا المنفى بكل مغرياته يخلق الطمأنينية، ولا الأوطان. وهكذا، يعيش الشاعر في وطن بديل، هو وطن الفن، العالم الشعري الذي يبنيه ويوسعه، والذي هو نافذة للآخر كي ينظر إلى الأشياء بطريقة جديدة، كي يرى نفسه ومحيطه خارج نطاق السائد والمألوف، هذا هو عالم الشعر، وتلك هي مغرياته، وهنا تكمن فرادته، في أنه دوماً يولد مع كل قصيدة جديدة، ويتشكل في كل تجربة شعرية، وبالتالي فإن كل شاعر كوكب يدور في فلك الشعر، أحياناً تكون الإضاءة خفيفة وفي أحيان أخرى يشتدّ السطوع. وفي هذه المختارات التي ينشرها صالون سوريا، ثمة رسالة عميقة، وهي أن ما يوحّد السوريين، يكمن في الإبداع، وفي أفق العلاقات الجديدة التي يبنيها الأدب والفن بين الذات والآخر، بين الروح المبدعة والروح المتلقية، في هذا التفاعل يولد الأمل، ويتوهّج ضوء الحضور.

في الأيام القادمة سننشر المواد تباعاَ ونقوم بتفعيل روابطها:

١: كان هذا الشتاء غزير التوابيت
تمام التلاوي

٢: حين اشتقتُ إليك
حكمة شافي الأسعد

٣: ولو كان ورداً أقلّ
سُرى علّوش

٤: الغريب
عبد الكريم بدرخان

٥: تقطيع المشاهد بالاختناق
عمر الشيخ

٦: في البدء كانت السكين
صلاح إبراهيم الحسن

٧: لا يحزنني الموت
لينة عطفة

٨: قصائد
محمد شعبان

٩: فيلُولوجيا الأزهار
أمارجي

١٠: النساءُ الأوروبيّات
مناهل السَّهْوي

١١: رائحة البرتقال
ميس الريم قرفول