ماذا عن الوطن؟

ماذا عن الوطن؟

 الوطن كلمة سهلة اللفظ والترجمة، لكن بالرغم من هذه السهولة ووضوحها في كل اللغات، إلا أنها عصية المعنى والفهم على من لم يفتقدها، أو من لم يجرب أن يختبئ أو يغيرها بأوطان أخرى تحت ظروف الهجرة أو اللجوء أو غيرها من الأسباب.

تغيير الوطنأو كما يسميه البعض تغيير المكان، هو التآلف القسري مع ظروف وعناصر جديدة، وليست بالضرورة مختلفة هي فقط جديدةبالمعنى المجرّد ونحن نراها كذلك (مختلفة) لأنّنا بداية نقع تحت وطأة الدهشة واكتشاف المكان واللغة، وإذا لم يكن لدينا القدرة ولا نمتلك المرونة والوعي الكافيين من البداية لنتعامل معها على أنها جديدة وقعنا بشرك الوطن المفقود للأبد، لأننا بذلك نخسر الوطن الأصلي، ولا نستطيع أن ننتمي للمكان الجديد، فالتّعامل مع الأشياء من منطلق الاختلاف المطلق يعرقل فهمها، وعليه نسأل كيف ننتمي إلى هذا الوطن أو غيره؟ هل بإمكاني أن ألبي حاجة الانتماء إلى مكان آخر؟  وأسئلة كثيرة ممكن أن تطرح ضمن هذه الفكرة.

ولكن الجدير بالملاحظة هو أنّ المعاني المختلفة لكلمة وطن في اللغات الأخرى لم تأت فقط من اختلاف في اللفظ أو المعنى، بقدر ما هي فهم وترجمة الانتماء لهذا المكان أو ذاك، فمن أجمل الترجمات لكلمة وطن هي باللغة الانكليزية التي تعبّر عنه بـ Home أي المنزل أو البيت في المعنى الحرفي للكلمة لكن في المعنى الواسع هو الوطن أو الأرض Home land، تجذبني الكلمة لأن اعتبار الأرض التي ولدت فيها صدفة وبدون أي خيار هي المنزل الكبير المطلق الذي يكمل وجودنا وجوده! فهذا ارتباط وثيق وشاعري جدا ودليل انتماء قوي وحقيقي للمكان، وهذه الكلمة لديها القدرة أن تعطيك الفهم لماذا بعض الشعوب تسبق غيرها في الحضارة والتراكم المعماري والفكري والسياسي وغيره، وعلى هذه العناصر وهذا المفهوم ممكن أن نقيّم انتماءاتنا إلى هذا المكان أو غيره، سواء كان انتماء قومياً سياسياً أو هو مجرّد حب ورغبة في المكان.

الزمكان – Time Space

  إنّ المفهوم الفيزيائي الذي أطلقه آينشتاين في النظرية النسبيّة العامة عام  1915 يقول: إن الزمن هو قياس للتغيّر الذي يحصل داخل المكان، بأربع أبعاد هي ثلاثة و رابعها الزمان، فسلسلة التغيرات التي تكوّن حياتك تحصل خلال وقت ما وفي مكان ما، هي المعنى الدقيق لـالزمكان؛ عبارة عن دمج للمفهومين معاً ضمن استمرارية معينة“: الأبعاد المكانية الثلاث، بالإضافة إلى البعد الرابع الزمن، في الوقت الذي نمتلك فيه القدرة على التحكم بالأبعاد الثلاث الأولى (الارتفاع، العرض والعمق)، يبدو أننا لا نستطيع التحكم، أو التنقل عبر الزمن.

 طبعا هذا بنظري ليس مجرّد قانون فيزيائي بل هذه هي الثغرة أو الرابط العجيب الذي صنّفه البشر على أنّه قانون هو تفسير مقنع للحظة بتعلّقنا في هذا المكان أو غيره، الأحداث والتفاصيل اليوميّة التي تجعل الوقت يمشي للأمام بشكل يصنع: ذاكرتنامزاجناأحجامنا ضمن هذا الفضاء الذي بدوره يتكوّن ويأخذ شكله وطاقته  من عوامل أخرى أهمّها العمارة، من منّا لم ينتابه شعور غريب عندما يدخل مدينة ما لأوّل مرة؟ من منّا لم يكوّن انطباع لمكان ما يتكرّر كل ما ارتاده.

وهكذا يحصل بعلاقتنا بالمدن الشعور الذي يشبه النشوة عندما تزور مدينة تحبها أو تشعر فيها بالراحة، لذلك نرى في الفن أنّ من أعرق وأصعب الأفلام السينمائيّة هي الأفلام التي تتكلّم عن المدن وتستطيع عبر الشاشة أن تنقل لنا هذا الشعور الذي ينتابنا حيال الأمكنة.

  إنّ أحد أهم العوامل التي تؤثر بشكل المكان هي العمارة من أشكال البيوت إلى أشكال الأحياء إلى شكل المكان بالكامل، إن البيوت تطبع أصحابها فغالبا نظن العكس أنّ الإنسان يؤثر في المكان، ربمّا في مرحلة من مراحل الحياة كانت العلاقة متوازنة بين الإنسان والمكان، لكن اليوم هو العكس تماما، إنّ المدن التي عمارتها تكون حجريّة غالبا ما يكون أصحابها لا يملكون المرونة في التعامل، و كذلك أيضا في المدن التي تسكن قرب السواحل.. والأمثلة كثيرة.

إذاً، هوّة المشاعر التي نقع بها حيال مكان أو آخر هي لحظات صغيرة تمر بخفة الغبار، تصنع لنا تفاصيل و أحداثاً ضمن ذاكرة بصريّة للدماغ يلتقطها دون فعل إرادي من الإنسان ضمن هذا الفضاء الذي اكتشف سرّه آينشتاين، فتجد نفسك ترغب في الأمكنة كما ترغب في حبيب أو شريك.

الوطن.. المواطن.. المواطنة..

  في اللغة العربية هذه المفاهيم يكاد فهمها أكثر تعقيداً، ولا سيما بعد الحرب السوريّة في السنوات السبع الماضية، فعدنا لطرح الأسئلة البديهيّة: هل أنا مواطن؟ كيف أمارس حقوقي وواجباتي؟ ما هي المواطنة؟

خلال نقاشي مع بعض الأصدقاء من جنسيات مختلفة تبيّن أنّ فهمهم للمواطنة هو أن تكون مواطن لديك بطاقة وطنية (الهوية) وجواز سفر وجنسيّة البلد الذي تعيش فيه بهذه الشروط تكون استكملت شروط المواطنة، فكان من الصعب أن أشرح لهم كيف كنّا مواطنين بلا مواطنة في عرين الأسدو عائلته، ففي طيّات ملفات الفساد و سجون التعذيب والترهيب والعنف الذي يبدأ من الأسرة مروراً في المدرسة انتهاءً في الجامعة، يصعب أن نشعر بأننّا ننتمي لهذا المكان الذي يشبهنا للحظة و يخالفنا للحظات، فبين فكّي الكمّاشة نجد أنفسنا في غُربة، في أماكن بديلة يمكن أن تكون لنا مشاريع  أوطان أخرى و ربّما لا، ونتذكّر رغبتنا في المكان المعذّب الذي جئنا منه والذي في نفس الوقتكنّا نعاني منه كآبةً وغربة ونحن فيه.

خليط المشاعر هذا هو نتيجة لما ذكرته سابقاً وهو انصهار ذواتنا في المكان، لكن مع دمشق الحالة أعقد، وهي انصهار الذات في المكان المعذب، فلا أنت لديك القدرة لمغادرته أو لديك القدرة للاستمرار فيه.

ماذا عن الذاكرة؟

  الآن في الأماكن البديلة للوطن، أنت مطالب أن تخلع عنك ذاكرتك لضمان الاستمرار، شخصياً، لا أستطيع أن أتخيّل تقاطع ساحة الأمويين المميتو أنا في القطار الجميل الذي سيأخذني إلى مكان مرتّب وجميل، لكن في المقابل أنا لا أستطيع تخيّل أن يكون هناك مكان جميل وحميمي بجمال حي القنواتفي دمشق، ولكن لضمان الاستمرار في هذا الوطن الجديد قررت أن أنشئ علاقة تلوح بداياتها في النجاح، وهذا لا يعني تبديد ذكرى بذكرى، بل بناء علاقة حميمة مع المكان الذي سيصبح مع الوقت ليس جديد ويراكم ذكريات أيضاً.

ذواكرنا حاضرةوهنا تكمن المشكلة، لو لم يكن هناك بيانات رقميّة نستطيع من خلالها في أي لحظة رؤية الحي الذي كبرنا فيه أو المدرسة أو المكان الذي كان لنا فيه أوّل موعد غرامي في كبسة زر فقط!

سمعت أحد الأصدقاء يقول مرّة إنه من غير المنصف أن أحوّل شيء من روح وحياة وبشر إلى بضعة ميغات صغيرةإلى هذا الحد ذاكرتنا رخيصة؟فأجبته بالعكس هذه الميغاتتحفظها لك من الزوال النهائي مع الدقة المطلوبة، وبعد تفكير في ما قاله، أرى أنّ لديه الحق، ربّما، هو قصد الإحساس والناس والذاكرة والتفاصيل التي من الصعب أن تترجمها صورة أو ملايين الصور، نترجمها فقط بحضورنا الملموس مع اللحظات، الضجيج بين المباني العشوائية تحت الشمس الحارقة بين عربات الخضار العشوائية، بمعنى أنّ هذه التّراتبيّة الغير مقصودة لا تكتمل كذكرى أو كشهوة إلا بالحضور الشخصي لأصحاب المكان أو سكّانه، لذلك نحن نقع بشهوة الأمكنة عن بعد.

بالنهاية الأوطان والانتماءات والذكريات والجغرافيا لا تحتمل المزاودة بالمشاعر من أحد، ولا أحد يستطيع أن يقيّم الشيء إلا فاقده، وفاقد الشيء لا يعطيه: ينتظر.

كنت أخاف المسلمين وكل من كانوا لا يحملون ديانتي

كنت أخاف المسلمين وكل من كانوا لا يحملون ديانتي

يوميّات إلا قليلاً!

حمص 2011

من مكان يعيش فيه الأحياء كالأموات

من مكان قطعوا عنه كل شيء يضج بالحياة

باب السباع تلك البقعة التي يستخدم أبناؤها قلوبهم لإنارة الطرق

تلك البقعة التي أصبحت حقل تجارب لكل أنواع الأسلحة،

تلك هي حارتي التي تبكيني كل موت وأبكيها كل مساء،

من هنا نشأت وبدأت حكايتي مع الحرب والدمار

صباح الجمعة 2011

أصوات الطلق الناري تعلو.. لم يكن الصوت مألوفاً،

الحي يسوده التوتر لا أحد يمشي في الشارع الكل يركض باتجاه بيته.

لم يسأل أحد من أين أتت أصوات الرصاص وكأن الجميع يعلمون أنها بداية الحربفي ذلك اليوم لم أنم. كان مشهد الجثث التي تم سحبها في الشارع الذي يقبع تحت منزلي كفيلة بإصابتي بالأرق

الحرب تتصاعد مع تصاعد الأرواح والشهقات الأخيرةعيوننا أنا وعائلتي مسمرة على التلفاز وكأننا ننتظر إصدار الحكم علينا!

جميع الإذاعات تتكلم عنا.. نحن القابعين هنا بين أصوات المدافع والرشاشات.

لبيتنا رائحة الكبريتجميع أفراد عائلتي في حالة ترقب وتوتر.

أبي طريح الفراش فقد كان يعاني من الديسك والتهاب في الفقراتمنعه الأطباء من الحركة على إثرها.

الأيام تمضي والحرب تشتد، قرار منع التجول يزيد حذف ساعات أكثر كنا نستطيع الخروج بها.

وصل قرار منع التجول للساعة الثانية عشرة ظهراً.

لا كهرباءجميع خطوط الكهرباء تعطلت إثر الاشتباكات العالقة بين المعارضة والموالاة.

أذكر أننا أمضينا حوالي ال 20 يوم متواصلة دون كهرباء ولا هواتف لا أحد يعلم عنا شيئاً حتى جيراننا لم نستطع التواصل معهم.

كنا نقبع داخل منزلنا في الكوريدور المؤدي إلى المطبخ لأنه المكان الوحيد الذي ليس له إطلالة على الشارع.

مددنا فراشاً لأبي على الارض وجلسنا اصطفافاً في مساحة طولها 3 أمتار وعرضها متران

عشرون يوما كانت كفيلة أن نستهلك كل ما لدينا مونة الطعام.

باب السباع نهاية 2012

ذات مساء في يوم روتيني يعج بالدم

كنت وعائلتي نمارس حياتنا الاعتيادية

أنا أرسم وإخواتي يشاهدون التلفاز، أبي ممدد على فراشه وأمي تطبخ،

فجأة حدثت الكارثة صوت دوي قوي في بيتنا،

اهتزت لوحاتي ووقعت اختفى صوت الموسيقا التي كنت أسمعهاهرولت مسرعة باتجاه إخوتي الجميع على الأرض

أبي دفع بنفسه ونزل تحت السرير،

الجميع بخير؟ تصاعدت صيحاتي

نعم كان الجميع بخير.. لكننا فقدنا جزءا من بيتناالدوي كان دوي قذائف ضربت بيتنا والبيت المقابل لنا.

في اليوم التالي وضبنا أغراضنا الشخصية وبدأنا بالبحث عن مكان ننتقل إليه.

الغريب في الأمر أننا في كل مرة كنا نسأل فيها مكتباً عقارياً عن منزل شاغر.. كنا نتعرض لبعض الأسئلة:

من أين أنتم؟

ما عملكم؟

ما الذي أخرجكم من بيتكم؟

والسؤال الأكثر غرابة كان:

ما هي ديانتكم؟

بعد يومين وجدنا منزلاً صغيراً بالقرب من بيتنا لكن في حي آمن، أذكر أن أجار المنزل كان مرتفعاً جداً يوازي خسارتنا

دمشق 2013

عدت إلى متابعة الدراسة في كلية الفنون الجميلة بدمشق، الحرب تمتد إلى دمشق وتتبعني، وكأن الهرب في هذه البلاد دون جدوى

لم أستطع أن أرسم بشغف، كان الرسم في الماضي يشغل تفكيري وقلبي، لكن الحرب كانت تمنعني في كل مرة أحاول بها الحياة بسلام

لم اهتم بالجامعة وبدأت العمل في إغاثة العائلات النازحة مع عدد من أصدقائي المختلفين في الطوائف والانتماءات، بدأت بتوسيع شبكة علاقاتي والتعرف على أشخاص مختلفين.

فمنذ صغري وأنا أحمل تربية كنسية لم تسمح لي بتقبّل الاختلاف.

كنت أخاف المسلمين وكل من كانوا لا يحملون ديانتي، أثناء عملي في الاغاثة اكتشفت أن المختلفين ليسوا بأشخاص سيئين، بل هم من يشاركونني قيمي الانسانية ووحدة الألم والوطن

دمشق نهاية 2013

خسرت الكثير من أصدقائي الذين يتعصبون للدين المسيحي ففي نظرهم أنا أتعاطف مع عائلات الإرهابيينالذين يريدون قتل مسيحيي سوريا والتنكيل بهم!

كانت الغالبية العظمى من أصدقائي المسيحيين يقفون مع النظام السوريوينتمون لأحزاب تنطوي تحت موقف النظام كالحزب السوري القومي والحزب الشيوعي التابع لخالد بكداش

دمشق 2014

تابعت دراستي في كلية الفنون الجميلة، سكنت في حي باب شرقي وهو أحد أحياء دمشق القديمة، قمت بعمل العديد من ورشات الرسم المجانية لهم والقيام بعدة نشاطات صغيرة للدعم النفسي عن طريق الألعاب والرسومات

كانت مشاهد الأطفال وهم يرسمون كفيلة بأن أقوم كل يوم جمعة بالقيام بنشاطات كهذه دون التفكير في مخاطرها الأمنية والشخصية خاصة أن المكان الذي استخدمته غير مرخص“!

مع مرور الوقت اعتدت الحرب واعتدت كيفية التعامل معها، لم أعد أتحدث بالسياسة والدين. كنت أكتفي بخلق عالم كامل من اللوحات التي تعبر عما رأيته وعشته في هذه السنوات.

رسمت عدة لوحات تعبر عن المجازر وأخرى تطالب بحقوق الطفل والمرأة، استسلمت للصمت اللفظي كسائر الناس من حولي لكنني كلما رسمت أكثر كبر الألم الدفين داخلي

دمشق 2015

بدأت رحلتي مع الاكتئاب.

أصبحت أيامي تمضي أمامي وأنا كالمشاهد العجوز لا أقوى على تغيير ولو حتى أصغر تفصيل في حياتي، أدمنت الكحول كنت أريد أن أنفصل عن واقعي السيء بأي طريقة.

لم تعد تهم كمية الأصدقاء من حوليالجميع في نظري أصدقاء مرحليونخاصة بعد خسارتي لعدد منهم أغلبهم توفي في الجيش وآخرون في الاشتباكات، خسرت العديد على اختلاف آرائهم وانتماءاتهم السياسية والدينية.

تعلمت أن الحرب لا تميز الاختلاف الجميع لديها على حد سواء، الكل مشاريع لضحايا جدد حتى أنا في كثير من اللحظات.

دمشق نهاية 2015

تخلصت من إدمان الكحول وكانت تلك الفترة فترة تمرد على كل شيء سيء. بدأت فترة الإصلاح، بدأت من نفسي وقمت بإعادة الاهتمام بالجامعة، عملت مع الكثير من المنظمات الإنسانية التي تعنى بحقوق المرأة والطفل.

قمت بعدة نشاطات ومعارض تمكين اقتصادي للنازحات، كنت أعلمهم العمل بالصوف والإكسسوار كمحاولة صغيرة مني للتغيير في وضعهم الثقافي والمادي، خاصة أن المرأة باتت هي المعيل الوحيد لعائلتها في ظل غياب الرجل! وقد حققت عدة من القصص الناجحة لنساء نازحات استطعن البدء بمشاريعهن الصغيرة وكسب المال منها.

دمشق 2016

كان علي أن أعمل لمشروع تخرجي من الجامعة، رسمت العديد من اللوحات في فترة قياسية لم تعد تؤذيني أصوات الطيران والمدفعية، كان علي أن أعيش بالرغم من أن كل شيء من حولي يمنعني من ذلك

قمت بعرض مشروع تخرجي في الشهر التاسع من السنة وقوبلت بالكثير من النقد بسبب استخدامي للألوان الباهتة والرماديات.

كان مشروعي عن المرأة البدينة وعن ارتباطها بأنوثتها بالرغم من شكلها البدين، حقق المشروع نجاحاً مقبولاًوبعد انتهائي منه عدت لفترة العمل الإنساني وتابعت العمل مع منظمات المجتمع المدني حيث قمنا أنا وبعض الأصدقاء بالعمل في تجمع يعنى بالفن التصويري وإقامة عدد من العروض السنيمائية ومناقشتها مع الشباب.

دمشق 2017

بدأت معركتي مع الفشل! بعد مرور عدد كاف من سنوات الحرب لم أعد باستطاعتي العمل بنفس القوة

الأوضاع المادية سيئة مع القليل من العمل، الخوف من الغد أمسى كابوساً يومياً، ذهبت إلى أخصائي نفسي بعد أن انتكست من جديد.

ووصف لي بعضاً من الأدوية المضادة للاكتئاب، والتي كان تأثيرها سلبياً علي بعد أن رافقتني بسببها حالة من الهلوسة كنت سأنتحر بسببها.

أوقفت الدواء وأنا الآن أعيش مثل أي مواطن سوري، أعاني هشاشة في القلب وفي الحياة، أتمسك ببعض من بقايا أحلام كنت قد رسمتها منذ زمن ليس ببعيد

لم أعد أرسم كثيراً، انشغالي بأمور الحياة ومتطلباتها منعني من المضي قدما في الفن.

لم أكتب عن تجربتي إلا لأنني أملك قناعة بأن أحدا ما سيقرؤها وسيشعر بنموذج من الكثير من النماذج السورية ها هنا في الداخل.

لعلني سأتابع الكتابة عن هذه التجربة وأزيدها بكل يوم غزارة علني أصل إلى صفحة بيضاء أستطيع البدء بها من جديد.

مُفارقات الكتابة في الكارثة السّوريّة

مُفارقات الكتابة في الكارثة السّوريّة

كلّما كبرت المأساة أصبح من الصعب هضمُها وتجاوزها، وكلّما أغرقنا في تناولها كمادة تحريضيّة لعملٍ ابداعي، أصبحت المأساة، ملهاةً سهلة! وضربةُ فلاشمؤقّتة. ربّما هكذا نشعر ونحن نقرأ نصاً عن حدث ما، تخيّلوا ذلك، هناك كتابة مخصّصّة مرتبطة بوقائع تاريخيّة، كتابة أدبيّة تامّة، أي أن المتغيرات اللّحظية هي التي تصنع الأدب، لعلّها خُلاصة فرديّة، لكنّها تَحدثُ الآن، تحدث وبسرعةٍ هائلة في بلد مفتوح على الحروب والصراعات، وإن لم تكن أحياناً على أرضه، فهي مرتبطة بأحداثه عبر أصوات أهله وأطراف الصراع فيه عبر أنحاء العالم.

لقد أصبحت الأدوات التي تصنع الأدب متشابهة نوعاً ما في مشهد الكتابة السّوريّة الرّاهنة، أو لعلّ ضجيج المعارك وقهر الشوارع  والهجرات والآلام، تجاوزوا ذلك، وبات وجودها عارية يصيب كبد الحقيقةفي لحظة، حتّى تكلّست الذائقة واختنقت العيون بملايين الصّور العاجلة واللّوحات التشكيليّة التي أعيد إنتاجها من حدث ما، كذلك الأمر مع النّصوص التي تَستخدم مفردات مرتبطة بزمن حالي أو صورة في مشهد حربي، بقصد المُعاصرةالتي يرافقها سرعة في التقاط الجُمل ثم يليها إعادة مونتاج وتسويق ببعض الإعجابات، وتصبح الحالةتجربة، وصاحب الحالة مبدعاً“!؟

إنّ الاستهلاك الافتراضي ساهم إلى جانب بُعد المجتمع السّوري عن مشاغل تعتبر ترفاً الآنكالقراءة والاهتمام بالفن والكتابة ومشاغل الثقافة، بتعزيز حضور النّكرات وأصحاب المرجعيّات السّياسيّة والحزبيّة في الانتفاضة السّوريّة، خلال شتّى مجالات الكتابة السّوريّة، فأطلقت الجوائز باسم المشاريع الأدبيّةالتي تخدم توجهاً سياسيّاً، وأصبح المسؤول في مؤسسة ثقافيّة روائيّاًفجأةً! ثم يفوز بجائزة الدولة التشجيعيّة للرواية! بينما تحوّل مدقّق اللّغة العربيّة الذي كان مسؤولاً عن معهد للغة العربيّة لغير النّاطقين بها، تحوّل إلى أديبأتعب الشّاشة من حديثه المتواضع عن احتراق مكتبته في حلب، عِلماً أن التلفزيون السّوري استقبله خلال شهرٍ واحدٍ، ثلاثة مرات أو أكثر، نظراً لنقص المواهب في بلدي وانشغالها بنصوص اليوميّات المتناسخة، وتصوير التّفاصيل في بلدان اللجوء، هكذا، وجد أصحاب الكراسي في هيئات الثقافة الرسميّةوغير الرسميّة، فرصة للوقوف على قمّة الخراب والتّباهي بالبقاء مع نصوص، كانت صفحات هواة الأدب، قبل الحرب، ترفض كتابة ردود عليها!

مع تكشّف الحقائق بعد زوال صخب الكارثة التعايش معهاتصبح النصوص التي كُتبت في حينها، مجرد فقاعات تنزلق على سلّم الضوء ومصير كتّابها وقرّائها يزول باكراً دون أن يترك مساهمة جِدّيّة في تطوير الأدب السّوري، شخصيّاً أراقب كيف أصبحت كتابة المواسم، مثل الوجبات السريعة، في متناول الجميع، لجهة التحضير والتصدير، بينما يتحوّل أهل النقدعن وظيفتهم في ترتيب فيضانات كتابة الموضةوتوكيل المهمة لبعض الرفاق في سوق النشر، ليطلقوا لنا فظائع المرحلة في تجلّي انحطاطها.

لا مبادرة أقف عندها في تطوير الكتابة، معظم ما حدث، من ملتقيات في سوريّة، ينطوي على حفلات توقيع الكتب، الخجولة، وإعادة قراءة قصائد من الماضي، صراع أحمق على الظهور في تحت الأضواء من القائمين على تلك الفعاليّات! وإطلاق شعارات مسيّسة لا يكف الإعلام الرسميأو شبه الرسميعن مصادرة حريّة هؤلاء بألا يُحسبوا على طرف من الصراع، حتّى أن فكرة الملتقيات بحدّ ذاتها راحت تعاني من الأمراض الوراثيّة في العمل الثقافي التي زرعتها الجهات الثقافية المحدودة في البلاد، داخل ذهنية المشرفين على تلك الملتقيات أو المهرجانات، فالحالة تفتقد لأبسط حدود التشارك في إدارة المشروع الثقافيلأن هذا الأخير، كمبدأ، أساساً لم تكن الدولة أو المؤسسات الثقافية، تراه مفتاحاً للوصول إلى نهضة في الكتابة السّورية أقرب إلى الإنسان السّوري المفقود في كل هذه الحرب، وأبعد عن التّوجهات العقائديّة والدينيّة والعسكريّة والحزبيّة، المتعنّتة، التي تدير هذه الخوف نحو أهل البلد!

قد يرى البعض أنّه من المبكّر الحديث عن رصد حقيقي لتطور الكتابة الأدبية في سورية، إلاّ أنّ الوقوف عند مفترق الثقافة كمفهوم مجتمعي يعالج التخلف البعثيّ في البلاد، يستحق أن نرفع إشارة الخسارة لأجله داخل سورية، وقد يكون التّقدم خارجها هامّاً، لكنّه، لن يصل إلى السّوري الذي يبحث عن حجارة جديدة يبني منها بيته المدمر، أو فرصة كريمة يبدأ منها عمله ليعيش بشرف دون أن يرفع صورة هذا القائد أو علم تلك الميليشيا! بالمحصلة كلّ ذلك هو تفكير بالبحث عن الكتابة الثقافة، السّورية التي تم جرف ماضيها ورموزها مع سقوط أول قطرة دم من السّوريين في ساحات الرفض قبل أن يُخطف الحِراك إلى أسلمة وتطرّف وفرز أعلام و اصطفافاتٍ وفصائل وولاءاتٍ لا تصبّ في مصلحة الاحتجاجات، إنّما تستثمرها في قراءة واقع المجتمع المتآكل بأفعال الأميّة السّياسيّة والأميّة الفكريّة، مجتمع روّضته السّلطة على الرعب المنظّم وفوبيا المخبرين، قبل أن تحطم انتفاضة الشّباب السّوري كلّ ذلك، لنبدأ من الصفر بالتعرّف على العمل السّياسي والمشاريع الثقافيّة والكتابة الحرّة، لكن، حتّى الآن لازالت ملامح الحرية والثّورة طور التجريب، فالرصاصة أوضح من النص، والنفوس أكثر دماراً من البلاد.

تُرى بعد كلّ ذلك، هل تستدرجنا الكارثة السّورية إلى منطقة الكتابة الموازية لحجمها وتعقيداتها الفكريّة والاجتماعيّة؟

ثمّة منجز يتشكل في الهواء الطلق، في المِهجر، مبادرات على شكل كتب وورش ثقافية تطرحها مؤسسات مستقلة دون مرجعيات موتوره!

من الداخل السّوري، هناك أصوات تخوّن معظم من في الخارج، وعلى خارطة الشّتات هناك أصوات تبرّر القتل في الداخل!

أجل إلى هذه الدرجة من المفارقات، نعيش كجيل واكب الحراك وعاش ضغوطاته. هربنا، نجونا، ونحن نصرخ للأصدقاء حول العالم وفي سورية، لا بدّ أن نكتب ونقول، فهل هناك ما يمكن فعله وفي عنوان جنسيّتنا الشّبهة: أنت سوريّ! فماذا تفعل أمام هذه الجيوش على أرض هَجَرتكَ وأنتَ في أوّل المعرفةالثورة؟

مشاهد في ظلّ الحرب

مشاهد في ظلّ الحرب

لستُ الوحيد الذي تُمزقّ الحربُ روحي بأنيابها الصلبة، الحرب التي تتكاثر كندوبٍ فوق جسد البلاد، لستُ الوحيد الذي رُمِي جسده ـ منذ سبع سنينٍ كاملةٍ ـ في محرقةِ البقاء العمياء، البقاءُ للأقوى:

تقول شرائع الغاب: البقاء للأقل حظاً، تقول الضحية التي تشبهني، الضحية التي نجت بلحمٍ محروقٍ وروحٍ مطعونةٍ بحراب الفقد.

أجل منذ سنينٍ سبعٍ وأنا أحفر الخنادق في ذاكرتي فلا يخرجنّ من طينها سوى الجثث وأصوات الأقدام المبتورة التي ما زالت تحاول الهرب، فأسقط عميقاً في فراغي.

ولستُ الوحيد، الذي أدمنتْه حبوبُ المهدئات، فصار أيضاً لاجئاً إليها، يحتمي بخدرِها كي ينجو فقط بما تبقى فيه من عاطفة، أمشي في شوارع دمشق فأرى الناس يتكئونَ على حزنهم، كما يتكئ الغريب على ظله فجميعنا أغرابٌ تهنا في أوردة البلادِ وأزقتها، أمشي في شوارعها أحدثُ الفراغَ المرعبَ الذي خلفته آلةَ الحربِ خلفها، أقول:

لا بدّ من نافذة، لا بدّ من خلاص.“

أعود إلى بيتي ـ بيتي الذي يتألف من غرفةٍ واحدة بأربعة جدرانٍ تحمل بقسوةٍ صورَ أصدقائي الذين غافلهم الموتُ بأصابعه الثخينة، فلوى أعناقهم وأعناق من بقوا على قيدِ الفقدِ يستجدونَ الأمل، أحاول مواربتهم ومواربة الموتِ بالنسيان، فأكثرُ من المهدئات والكحول حتى أصبح جثّةً هامدة، تطوف روحها بسلام مؤقت في فراغِ الغرفة / الشوارع/ المدينة، في فراغ الجسد.

هكذا فقط أستطيع أن أثبت لنفسيَ المنحورةَ بسكين الغائبين أنني ما زلت حياً، فأستيقظ صباحاً مكبّلاً بقيودٍ لا حصر لها:

اسمي، عائلتي، هويتي، والحاجز الذي ينتظرني على مبعدة أمتارٍ قليلة، أفتش عن طريقةٍ للهروب كي لا يسألني أحدهم: “من أين أنت؟”

سؤالٌ ينحر رئتي كخنجرٍ مسموم، فأفقد صوتي، وانتمائي بينما تجول بي الذاكرة غرب البلادِ وشرقها، ليوقظني الصوت الأجش من جديد: “من أين أنتفأكتفي بأن أقول أنا من هنا، من عدة أمتارٍ مغلفةٍ بالدمِ والحرائق اسمها دمشق، ثم أمضي تاركاً خلفي أجوبةً لا قرار لها، أجوبة طفلة تكاد من براءتها أن تسيل ماءً على وجوه السائلين.

وأنا من هنا، رجلٌ في الثلاثين نجوتُ مراتٍ عدةٍ من سهام الموت وقراصنته، مازالَ مشهدُ القذائف التي انفجرت محاذاتي يعيد نفسه كآلةِ تسجيل، وأذكر أنني نجوت من أربع سياراتٍ مفخخة، انفجرت بعد أن اجتزتها بقليل، قليل فقط، إلا أنني لم أنجُ من حروقٍ في أصابعي عندما انتشلتُ جثث أصدقائي أشلاءً ووضعتهم بيدي هاتين في أكياسٍ سيُخاط فمها جيداً كي تبقى الجثث هادئةً في خوفها الأخير.

هكذا أزاول الحياة أو أني أواربها بالضحك الممسوس بالخوف ـ الخوف من الوحدة من المُخبر من الفقد من الأصدقاء الذين قد لا يعودون ـ الخوف من الغد، الغد الذي قد لا يأتي.

صباحاً، أذهبُ إلى عملي أتأمل الوجوه الغارقة في ضباب الحزن، كم من مرةٍ وددت أن أعانقها جميعاً، لكنني دائماً كنت أفشلُ حتى في التحديقِ الطويلِ في عيونها، عيونها التي تحمل البلادَ المهدومة على أنقاضها، عيونها التي تريد أن تبكي إلا أنه لم يبقَ حتى طللٌ ثابت تبكي عليه.

فصور المدن تلاحقنا وكأننا قتلةٌ، المدن التي تسألنا بألسن من نارٍ:

ماذا فعلتم من أجلنا؟

ـ لم نفعل شيئاً يا أمي، حملنا صمتنا فوق كفوفنا الفارغة فكنّسَنا خوفُنا عن شوارعك وحدائقك ومقاهيك وشرائطَ الأخبار العاجلة.

لذلك، ولأنني رجلٌ وحيد، أو رجل أصبح وحيداً بعد أن ناله الفقد بكامل صخبه، وجدت نفسي وجهاً لوجه في معركةٍ ضدّ القبح، دونَ سلاح يُذكر، فأنا لا أحمل في جيبي سكيناً أو مسدس، حتى أني بتّ أخاف صوتَ الرصاصِ وعويل الأمهات، فشرعت أصابعي للكتابة، وروحي للركض على الصفحات عاريةً من كل شيء، ربما ـ على الورق ـ أجد نفسي أكثر توازناً، فالكتابة هي الشيء الوحيد ـ في هذه الحرب ـ الذي لا يحتاج لبتر ذراع أحدهم أو اقتناصِ فرحه برميةٍ طائشة، الكتابة غرفةٌ مستعارة تستطيع نقلها أينما ذهبت، غرفةٌ بلا جدران أو لصوصٍ ينظرون إليك من ثقوبٍ في روحها، الكتابة كنايةٌ ـ كنايةُ أنّك ما زلتَ تصر على استنشاق الهواء النظيف رغم تراكم الغبار والحرائق، الكتابة جلد الذات وجلد الآخر في محاولةٍ لكنسِ الألم مخفوراً بالمعنى ـ المعنى اليقين، أنك صدفةً نجوت، وأنكَ صدفةً ستسير في عوالمَ ما من شيءٍ يؤرقها سوى وجودك المحتوم، وجودك المُراوغ لتفاصيل الموتِ وأشكاله.

أجل فأنا ومنذ سبعِ سنين خراب ما زلت أكتب، كتبت عشرات القصائد بل المئات منهاـ قصائد تحمل النعوش عالياً، قصائد يرشح من أصابعها الدم والبرد، قصائد تحتفي بوردةٍ ذابلةٍ على نهد إحداهن، قصائد ترتجف في هذيانها.

ولطالما احتميت من ندمي بأمسياتٍ شعريةٍ كنت أقيمها في أصغر حاناتِ دمشق وأكثرها اكتظاظاً بالسوريين الذي سيتقاسمون صوتي الأقرب من لسانِ إلى صوتِ المجزرة.

والآن أصبح لي ديوانٌ وحيد سميته ضوءاً قصيراً، سميته سريراً بارداً، ديوان ينزف من أوراقه الصفراء أجساداً هائلة تصرخ بصوتٍ واحدٍ:

كان لا بدّ من نافذة، كان لا بد من خلاص.“

أن تتعلّق بقشّة

أن تتعلّق بقشّة

سألت غريباً في باريس عن الاتجاهات، حرّك يده حركة فرنسية بامتياز وتعني: لا أعرف شيئاً، وليس لدي الوقت. ولكنّه استدرك أنني أسأل عن المكتبة الوطنية. فراجع نفسه وتراجع واستدار، ولكن سبقته امرأتان دلتاني بابتسامة مشرقة: البناء الشاهق الذي ترين جزءاً منه.

تذكرت أنني لم أكن أرتاد المكتبة الوطنية في سوريا، مكتبة الأسد“. على الرغم أنني على يقين أنني قد أجد فيها الكثير من الكتب المهمة. هنالك عادات من الصعب أن أجد لها تفسيراً الآن. أحاول أن أمنطق الأمور. وأتذكر سنوات تعليمي في دمشق، كل ذلك يبدو بعيداً الآن

في الطائرة كنت أقرأ ما كتبه محمود درويش عن إدوار سعيد: “أنا من هناك. أنا من هناك ولست هناك. ولست هنا.” والآن وبعد سنوات كإدوارد سعيد تماماًلم تعد لأحلامي لغة.

درست في مدارس تزينها صور الديكتاتور، وكان عقابنا في إحداها، قضاء يوم كامل في المكتبة! أما أساتذتي في الجامعة فقد كانوا ينحتون تمثال الأخ الكبيروأحدهم يتباهى أنه يستطيع تبديل الرأس إن لزم الأمر. في آخر سنوات المدرسة أردت الرحيل دوماً إلى مكان ما، حيث لا أجبر أن أحول انتمائي للمكان إلى حس قومي، يذكرني برائحة الدوائر الحكومية. كل شيء تغير بعد فترة، حيث تحولت كل العبارات التي ليس من المسموح قولها، إلى مصدر قوة، أصبحنا نعلن انتماءنا إلى مكان لا يشبههم. رشّت صديقتي إحداها على حائط الجامعة، اتهموني، وأنقذني موظف لم يعلموا عدم ولائهعلى الرغم من زيادة الاعتقالات في ذلك الوقت، تحولت الجامعة أخيراً إلى مكان للتعليم.  

كنت أتعلم من النقاشات، وللنقاشات متعة أخرى عندما تكون الجدران تسمعك أيضاً، عندما تفكك جوالك إلى قطع صغيرة، آملاً أن تخفف من احتمالية ذهابك إلى تلك الأقبية، التي كنا نقرأ عنها في الكتب الممنوعة، ونرى آثارها على الأجساد. أصدقاء تلك الأيام صاروا في كافة بقاع الأرض، أحدهم كان يحدثني بالقرب من القطب الشمالي، الآخر من صحراء الجزائر، وأخرى من غابات إسكندينافيا. ألتقي ببعض الأصدقاء ونتناقش حول حلول ممكنة، أغلبنا يرى أن ما يمكننا فعله الآن بعيد عن أول الحراك حيث كان العمل جمعياً بامتياز. الآن ومع الوقت كل منا يعمل ويدرس بحسب اهتمامه واختصاصه، فما بعد الكارثة، التعليم هو القشة التي نتعلق بها. أما نقاشاتنا السياسية بما يخص البلد فقد بدأت تخف مع الزمن، ليس كنوع من الاستسلام، بل محاولة لتغيير طريقتنا في التعامل مع قضية أصبحت من أكثر القضايا تعقيداً.   

التعليم ليس بعيداً عن الحرية السياسية، بل مرتبط بها كل الارتباط. والأنظمة القمعية كانت على يقين من ذلك. ستالين لقب الوراثة بالعلم البرجوازي الزائف، أما هتلر فعين مجنوناً كمسؤول عن التعليم. والأنظمة الفاشيّة زرعت أيديولوجياتها في عقول أطفال المدارس. فأدلجة الأطفال في زمن موسوليني، لم تكن بعيدة عن تحية الصباح، تحية العلم، الانضباط..  وكان الأطفال يقومون أيضاً بحركة مماثلة لما يرافق جملة: “رفيقي الطليعي، كن مستعداً لبناء المجتمع العربي الاشتراكي الموحد والدفاع عنهمجتمعاتنا هي مجتمعات الانضباط، التي وصفها ميشيل فوكو في كتابه المراقبة والمعاقبة“. وفي هذه المجتمعات يتم التحكم بالأجسام، تدريبها، أو تعذيبها. في أماكن مثل المدارس المستشفيات والسجونوهناك حتى المكتبات.  أتذكر معلمة تراقبنا إن تحركنا أثناء تحية العلم. لم أحظ برفع العلم، ولا أحب الأعلام بشكل عام. وابتسمت لمَا رمى أصدقائي علم مشجع فريق ما في النهر، واتهموه بالقومي.    

أن تكون طالباً/ة سورياً في القارة العجوز، أن تعرف من يزور مكتبات البلاد أكثر من شوارعها، ليس بالسهل. المستشرقون هنا كثر. ويشعر معظم الناس أن لديهم الحق لسؤالك أسئلة شخصية وسياسية بعد التعريف باسمك!

ليس هنالك أكثر من برامج الاندماج، ومواقع التثقيف المخصصة للمهاجرين التي لن تجد أي تفسير لها سوى عدم فهم للآخر، وأحياناً عنصرية. أما أغلب الناشطينوالناشطاتفسيتعاملون معك معاملة خاصة، ظناً منهم أن ذلك سيثبت مدى تعاطفهم أو ثوريتهم، التي قد تكتشف زيفها، عند كسرك أول صورة نمطية عن الشرق الأوسط.

ولكن ماذا عليّنا أن نفعل كطلاب هنا؟  

لا أعتقد أننا سوف نصحوا فجأة على سوريا ديموقراطية، على الأقل لا أستطيع تخيل ذلك في هذه اللحظة. الأمور تتغير بالتدريج وذلك قد يعني أجيالاً، ولكن نستطيع لربما أن نجعل أجيال استااااارح واستاااااعدتنتمي للماضي، إن حجم الفجوة يزداد بين الجيل المولود في سوريا الآن، والجيل الذي سيدرس في خارجها.  لعلها طوباوية ولكن الجسر بين الجيلين هو دور المفكر، الأديب، الفنانسيكون دور المفكر في سوريا المستقبل دوراً جوهرياً للتخلص من التعصب، ولإصلاح ما يمكن إصلاحه، للمشي خطوات أو نصف خطوة.  وأن نحرص على أن يكون التعليم في سوريا المستقبل خالياً من الأيديولوجيات، على وجه الخصوص الدينية منها.

بعد سنوات على رحيلي، لا مكان عندي للحنين، لربما على حنيننا أن يكون كحنين إدوار سعيد عندما أجاب محمود درويش: “والحنين إلى الأمس؟ عاطفة لا تخص المفكر إلا ليفهم توق الغريب إلى أدوات الغياب. وأما أنا فحنيني صراع على حاضر يمسك الغد من خصيتيه.”

!صورة حلوة.. وواقعٌ مريرْ

!صورة حلوة.. وواقعٌ مريرْ

أوراقٌ بيضاءُ وألوانٌ موزّعةٌ بالتّساوي هنا وهناك، سلّةٌ مليئةٌ بالكرات الملوّنة ذاتِ الوجوه الضّاحِكة، وقطعُ بازل إسفنجيّة بأحجامٍ مختلفة، بالوناتٌ تتهيّأُ للطّيران، ورسوماتٌ متنوّعةٌ تستلقي على الجدرانِ بانتظارِ من يوقظها.. ثلاثةُ شبّانٍ وأربع شابّات يتوزّعونَ بترتيبٍ مدروسٍ بستراتهم الموحّدة التي يتربّع عليها اسمُ الجمعيّةِ التي يعملون فيها والمنظّمةِ التي تموّلها. الهدوءُ يعمُّ المكان، دقيقة.. دقيقتان.. خمسُ دقائق.. وها هي ذي الموجةٌ القويّةٌ المنتظَرة من الصّياحِ والهتافِ والرّكضِ والضّحكِ تندفعُ نحوَ بوّابةِ المركز، مبدّدةً الهدوء، ومحرِّكةً كعصاً سحريّةأجسادَ المتطوّعينَ الثّابتة ووجوههم ذات الابتساماتِ المرسومةِ بخطٍّ رفيع، والّتي ستعملُ فيما بعد ممحاةُ التمويلِ وقلّة الخبرة على محوِها أو على الأقلّ تغيير اتجاه انحنائها؛ بدأ العمَل.. كانت مدّةُ النّشاط ساعتينِ ونصف، تعارف الأطفال فيها، غنّوا، رسموا، لعبوا وطيّروا البالونات، ثمّ عادوا، محمّلينَ بالفرح، إلى بيوتهم. بيوتِهم التّي على عتباتِها، سيمسحونَ ما علقَ على أحذيتهِم ووجوههم من ضحكاتٍ وأمل، ليدخلوا كما خرجوا، أطفالَ واقعٍ مريرٍ يرميهِم بيدِه الخشنةِ يميناً وشمالاً.. شرقاً وغرباً.. وفي كلِّ اتجاهاتِ الألمِ والفقر والتّعاسة.

القفزُ على سلّمِ الاحتياجات

عام 2008 بدأتُ العملَ في تنمية وثقافة الطّفل، مع إحدى مؤسسات البلد التي كانت تكبرُ وتكبرُ شيئاً فشيئاً، محقّقةً للوهلةِ الأولى آمالاً ورغبةً ملحّةً لديّ بأن أساهمَ في مساعدةِ جيلٍ كاملٍ من أطفالِ سوريا في النّمو النّفسيّ الفكريّ والمعرفي، بأن أكونَ جزءاً من مجتمعٍ واعٍ لأهمية هذه الشريحة العمريّة، أهمّيةِ النّهوضِ بها، شحذِ شخصيّتها، وتزويدها بالمهاراتِ والأدواتِ اللازمةِ لتكونَ عنصراً فاعلاً متفاعلاً بنّاءً وخلّاقاً في المجتمع. كانت أدواتُنا المسرح والسّرد القصصيّ، والحوار. وكنتُ مؤمنةً إيماناً كاملاً بسموّ الهدف وإمكانيّة تحقيقه.

كان فريقُنا جوّالاً يقيمُ فعاليّاته في كلّ أنحاءِ سوريا، تماماً وبكلّ معنى الكلمة، كلّ المدن والأرياف القريبة والبعيدة، من جرابلس والبوكمال وحتّى أبعدِ نقطةٍ في درعا، في البداية لم أصدّق عينيّ وأنا أرى الصروح والمراكز الثّقافيّة التي تنتصبُ برُخامها اللامع ولافتاتها الكبيرة في بقاعٍ لم أكن أظّنها موجودةً على الخارطةِ أصلاً. تخيّلوا معي المنظر، بيوتٌ طينيّةٌ لا ترتفعُ عن الأرض أكثرَ من ثلاثةِ أمتارٍ، وشوارعُ غير مزفّتة، يعلو وسطها بناءٌ جميلٌ من رخامٍ لامع، فرشٌ من الجلدِ الأنيق، ومسرحٌ تكادُ خشبتهُ وكراسيه ترقصُ من شدّة النّظافة وكأنَّ أحداً لم يمسسها أو يستخدمها، وهذا ما كان بالفعل، لم يدخل أحدٌ من سكّان هذه البلدةِ سابقاً إلى المركز باستثناء مديره وموظّفيه، بل ولولا وجودنا وفعاليتنا لما عرفَ أحد أنَّ اسمَ هذا البناء مركز ثقافيّ“. وأظنّه عادَ إلى سباتِه وسكونه مذ أنهينا عملنا فيه.

حتّى عام 2011، كانت هذه المؤسسة هي الجهة الوحيدة تقريباً، مع استثناءاتٍ قليلة، التي تقيم نشاطاتٍ للأطفالِ في أنحاء البلد، نشاطاتٍ كان واضعو خططها ومحتوياتها أشخاصٌ من أرستقراطي البلد الذين ربّما لا يعرفون أنّ ثمّة أطفالٌ، في تلك البلدةِ وغيرها، حفاةٌ حتى تلك اللحظة، لم تدخل حتّى الأحذيةُ إلى ثقافتهم.

عندما قرعت الحربُ طبولها وقرّعت رؤوس وصدور مواطني هذا البلد الذي لا يعرفُ ابنَ ساحلِه أبناءَ جبله، ولا يعرفُ ابنَ جنوبِه أبناءَ شماله. بدأت حُمّى الجمعيات والفرق الإغاثيّة بالانتشار والتّكاثر بسرعةٍ مفاجئةٍ غريبة، ينابيعُ من الأموالِ شقّت الأرضَ بغتةً وبدأت تفيضُ لتعِّبئَ الصّناديق بالأغذيةِ والمستلزمات الصحية والإسعافيّة، وتعبّئ جيوبَ وحساباتِ مدراءِ ومؤسسي هذه الجمعيات بالكثيرِ الكثيرِ من الأموال. في فترةٍ لاحقةٍ انحسرت الحاجةُ إلى الإغاثة، وكي لا يقعدَ هؤلاء بلا عمل، غيّر أغلبهم لافتاتِ مؤسساته وجمعياته من الإغاثة إلى الدعم النفسي الاجتماعي.”

عدوى الدّعم النفسي الاجتماعي

الدعم النفسي الاجتماعيمصطلحٌ لم يعرفه السّوريّون، عدا فئة قليلة من المختصين والمهتمّين، قبل2013 أو فلأقُل قبلَ انهمار الأسلحةِ بأنواعها والموتِ بأشكاله على البيوتِ وأهلها، وقبلَ بدء حملات التّهجير والتّدمير للبشر قبل أيّ شيءٍ آخر، حين بدأت منظمات الأمم المتحدة وغيرها من المنظمات الدوليّة العالميّة بضخّ الأموالِ إلى الجمعيات والمؤسسات التي راحت تفقسُ في كلِّ مكان، تحت مبرِّر الحاجةِ والاحتياج“. لا شكَّ أنَّ الحرب أنجبت وتنجبُ من الكوارث والأضرارِ النفسيّة ما يكفي لقتلِ أيّ أملٍ في التّعافي، ولا شكَّ أنَّ أعداداً هائلةً من السوريين، أعداداً أكبر بكثير مما صرّحت به منظمة الصحة العالميّة وغيرها من الجهات المعنيّة بالأمر، قد وقعت طريحةَ الحرب والأمراضِ النفسيّة، ما يجعلُ العلاجَ النفسيّ والدعم النفسي الاجتماعي ضرورةً قُصوى وحاجة ملحّة لا غنى عنها أبداً؛ صحيحٌ أنَّ الصّحة النّفسيّة لكثيرٍ جدّاً من السوريين لم تكن في أوجها قبل الحرب، بل لم تكن حتّى ضمن تصنيفِ (مقبول)، وصحيحٌ أنَّ الأمر لم يقلِق أيّاً من الجهاتِ المحليّة أو العالميّة سابقاً، ولم يدفع أحداً للتحرّك نحو العمل، أو فلأقل نحو الواجب الإنسانيّ، لكنّني لستُ الآن بصددِ الحديثِ عن المرحلةِ السّابقة.

تاريخيّاً، تُشنُّ الحروبُ في بلدٍ ما لتفتح الطّريقَ أمامَ السّوق، سوق الأسلحة مثلاً.. لكن هل من الممكن أن يكون للخدمات المجتمعيّة والنفسية سوقٌ ينشطُ أيضاً في أوقاتِ الحرب؟! سؤالٌ استفزّني كثيراً طوال هذه السّنين الخمس، وكثيراً ما رميته جانباً لأتمكّن من المضيّ في عملي مع الأطفال واليافعين والمتضررين من الحرب في برامج الدعم النفسي الاجتماعيالّتي تنقّلتُ معها من منظمةٍ إلى أخرى ومن جمعيّةٍ إلى أخرى.

في البدء كان الكثيرُ من هذه الأنشطةِ والبرامجِ يعبّر عنّي ويحفزني على الالتحاق بها هنا وهناك، لأكتشفَ بعدَ وقتٍ ليسَ بطويل، أنَّ ما آمنتُ به، أو من آمنتُ بهم، ليسوا سوى مدّعين، ومسيِّري أعمال، ربّما كنتُ أنظرُ بعَينَي رغبتي وإيماني، اللتين كلما خابَتا أيقظتُهما واستنهضتهما.

الواقعُ مرير، الحربُ طاحِنة متوحِّشة، والنّاسُ في أسوأ حالاتهم، ولا بدّ لي من تأدية واجبي الإنسانيّ، أحملُ حقيبةَ معرفتي وخبراتي وأنطلق، أعملُ وأعمل، بل وأناضلُ للحفاظِ على مفهومي لِـ الدعم النفسي الاجتماعيعن مفهومي لحماية الطفل، والدعم النفسي، والتوعية و و و.” أشاركُ في حملاتٍ ضد العنف الأسريّ والمجتمعيّ، ضد التحرّش، وضدّ سَوقِ الأطفالِ إلى معتقلاتِ الزواج المبكّر، ضدّ عمالة الأطفال، وضدّ الكثيرِ جدّاً من الممارساتِ اللاإنسانيّة المتجذّرة أساساً في مجتمعنا الهشّ المريضِ هذا، والمتفاقمةِ اليوم، أشاركُ في نشاطاتٍ، ورشاتِ عملٍ، مبادراتٍ ومشاريع لتخفيفِ الأضرار النفسيّة على النّاس. أعملُ بطاقتي كاملةً بل إنني كثيراً ما استعرتُ طاقةً من الكون، كي أستمرّ، وأثناءَ عملي مع هذه الجهةِ او تلك، كانت الحقيقةُ البشعةُ تتجسّد أمامي شيئاً فشيئاً بكلّ عوراتها رغم كلّ محاولاتي لغضّ الطّرف، والنّضال للحفاظِ على مهنيّتي، وضميري في العمل، على الأقلّ في الجزءِ الخاصِّ بي متعكّزةً بمقولة لا تلعن الظلام.. بل أشعِل شمعة، لأنهزمَ أخيراً، وأعترف بفشلي بصوتٍ عالٍ ومدوٍّ، فأنسحبُ جارّةً خيبتي كذيلٍ فولاذيٍّ لعينْ. لا تقلقوا عليّ.. فأنا سريعةُ النّهوض. نعَم، اكتشفتُ خلال هذه السنوات أنّ مخزون الطّاقة لديّ لا ينفد، أو إنّه سرعانَ ما يعودُ للامتلاء. وبذلك، أنتقلُ لمتابعةِ عملي بإصرارٍ أشدّ، وطاقةٍ أكبر، وبعدَ البحثِ والتّمحيص، ألتحقُ بالجهةِ أو الفريق الذي، يبدو لي للوهلةِ الأولى أنّه يعملُ لأجل الإنسان، الإنسانِ فقط، ويعودُ الدولابُ النّاريُّ للدّوران، الدّوران فوقَ جسدي المتمدّد تحته كخرقةٍ بالية، حقيقةٌ تتكشّف، وهمٌ يزول، ورحلةُ بحثٍ جديدة.

العصا في يد، والوردةُ في الأخرى

اعتزلت العمل مع المنظمات والجمعيات مدّة سنةٍ ونيّف، ولست الوحيدة في ذلك، كثيرٌ من المختصّين والخبيرين بالعمل في الدعم النفسي الاجتماعي عن طريق الفن وغيره، والذين كانوا يعملون باحترافيّة وضمير، اختاروا الانسحاب مقابل العملِ كيفما اتّفق، بعضهم سافر، وبعضهم كوّنَ فرقَاً تطوعيّة، والبعض الآخر أكمل المسيرةَ وحدَه كجهدٍ فرديّ، وآخرونَ اعتزلوا الأمر تماماً. وأغلب مَن بقيَ يعمل مع هذه الجهات أشخاصٌ غيرُ كفؤين إمّا يبحثونَ عن نشاطٍ يملؤون به فراغهم، أو يحصّلون عن طريقه دخلاً آخر، أو.. أو….

سيأتي البعضُ ليقولَ لي إنّ هذه الجهات لا تبخل في تدريب الكوادر وتطوير مهاراتهاوأقول، هذا صحيحٌ تماماً، ولكن، هل تصنعُ بضعُ ورشاتٍ ودوراتٍ من شخصٍ ما مدرّباً أو أخصائياً اجتماعيّاً، أو..، ولنفترض أنها تفعل، فهل يسعى مدراء البرامج ومنسّقوها إلى متابعة وتقييم الأشخاص بناءً على مهاراتهم في العمل؟!، أم بناءً على مهاراتهم في كسبِ ودّ هذا المدير أو ذاك، ومهاراتهم في تشكيل صورة جيّدة يلتقطها موظّف الميديا وتنبهرُ بها الجهةُ المانحةُ فتقدّم على إثرها المزيدَ والمزيدَ من المال؟

إذاً فإنَّ التّأثير المطلوب لهذه الأنشطة لم يعد موجّهاً نحو النّاس، إنّما نحو المانحين (الدّونرز). وعلى هذا، فإنّك إن قلّبت المواقعَ الإلكترونيّة وصفحات التواصل الاجتماعيّ الخاصّة بهذه الجمعية أو تلك، فإنك ستُدهَشُ حقّاً، وتقول مازال البلدُ بخيرأو ربّما تشطح أكثر وتفكّر على هذه الحال لن يطول الأمر، سنةٌ أو أكثر بقليل ويتعافى المجتمع، لا عنف.. لا كراهية.. لا اكتئاب.. لا تحرّش.. لا تمييز.. لا.. لاهه إنّهُ حلمٌ بعيدُ المنال يا صديقي، ولستُ أتكلّم هنا بتشاؤميّة إنّما بواقعيّة، فلو استطعتَ الخروج من أمامِ شاشتك الصّغيرة، والولوجَ إلى قلبِ نشاطٍ ما، سترى الحقيقةَ بأمّ عينيك، فنسبةٌ كبيرةٌ من هؤلاء الشّباب الذين يحتضنون الأطفالَ في الصّورة ويبتسمون، يحملونَ في يدٍ وردة، وفي الأخرى المختبئة خارج الكادر يحملونَ عصاً، عصاً من عنفٍ لفظيّ، وأحياناً كثيرة من عنفٍ جسديّ. وأخيراً السؤال الذي يطرحُ نفسه.. من المسؤول؟! هل المسؤول عن هذه الانتهاكات هو المتطوّع؟! أم المصوِّر؟! مدير الفريق؟! مدير البرنامج أم مدير الجمعيّة؟!  الجهة المانحة.. أم أصحاب الشأن في الدولة.. أم أنا.. أم.. أَم