مشاهد في ظلّ الحرب

مشاهد في ظلّ الحرب

لستُ الوحيد الذي تُمزقّ الحربُ روحي بأنيابها الصلبة، الحرب التي تتكاثر كندوبٍ فوق جسد البلاد، لستُ الوحيد الذي رُمِي جسده ـ منذ سبع سنينٍ كاملةٍ ـ في محرقةِ البقاء العمياء، البقاءُ للأقوى:

تقول شرائع الغاب: البقاء للأقل حظاً، تقول الضحية التي تشبهني، الضحية التي نجت بلحمٍ محروقٍ وروحٍ مطعونةٍ بحراب الفقد.

أجل منذ سنينٍ سبعٍ وأنا أحفر الخنادق في ذاكرتي فلا يخرجنّ من طينها سوى الجثث وأصوات الأقدام المبتورة التي ما زالت تحاول الهرب، فأسقط عميقاً في فراغي.

ولستُ الوحيد، الذي أدمنتْه حبوبُ المهدئات، فصار أيضاً لاجئاً إليها، يحتمي بخدرِها كي ينجو فقط بما تبقى فيه من عاطفة، أمشي في شوارع دمشق فأرى الناس يتكئونَ على حزنهم، كما يتكئ الغريب على ظله فجميعنا أغرابٌ تهنا في أوردة البلادِ وأزقتها، أمشي في شوارعها أحدثُ الفراغَ المرعبَ الذي خلفته آلةَ الحربِ خلفها، أقول:

لا بدّ من نافذة، لا بدّ من خلاص.“

أعود إلى بيتي ـ بيتي الذي يتألف من غرفةٍ واحدة بأربعة جدرانٍ تحمل بقسوةٍ صورَ أصدقائي الذين غافلهم الموتُ بأصابعه الثخينة، فلوى أعناقهم وأعناق من بقوا على قيدِ الفقدِ يستجدونَ الأمل، أحاول مواربتهم ومواربة الموتِ بالنسيان، فأكثرُ من المهدئات والكحول حتى أصبح جثّةً هامدة، تطوف روحها بسلام مؤقت في فراغِ الغرفة / الشوارع/ المدينة، في فراغ الجسد.

هكذا فقط أستطيع أن أثبت لنفسيَ المنحورةَ بسكين الغائبين أنني ما زلت حياً، فأستيقظ صباحاً مكبّلاً بقيودٍ لا حصر لها:

اسمي، عائلتي، هويتي، والحاجز الذي ينتظرني على مبعدة أمتارٍ قليلة، أفتش عن طريقةٍ للهروب كي لا يسألني أحدهم: “من أين أنت؟”

سؤالٌ ينحر رئتي كخنجرٍ مسموم، فأفقد صوتي، وانتمائي بينما تجول بي الذاكرة غرب البلادِ وشرقها، ليوقظني الصوت الأجش من جديد: “من أين أنتفأكتفي بأن أقول أنا من هنا، من عدة أمتارٍ مغلفةٍ بالدمِ والحرائق اسمها دمشق، ثم أمضي تاركاً خلفي أجوبةً لا قرار لها، أجوبة طفلة تكاد من براءتها أن تسيل ماءً على وجوه السائلين.

وأنا من هنا، رجلٌ في الثلاثين نجوتُ مراتٍ عدةٍ من سهام الموت وقراصنته، مازالَ مشهدُ القذائف التي انفجرت محاذاتي يعيد نفسه كآلةِ تسجيل، وأذكر أنني نجوت من أربع سياراتٍ مفخخة، انفجرت بعد أن اجتزتها بقليل، قليل فقط، إلا أنني لم أنجُ من حروقٍ في أصابعي عندما انتشلتُ جثث أصدقائي أشلاءً ووضعتهم بيدي هاتين في أكياسٍ سيُخاط فمها جيداً كي تبقى الجثث هادئةً في خوفها الأخير.

هكذا أزاول الحياة أو أني أواربها بالضحك الممسوس بالخوف ـ الخوف من الوحدة من المُخبر من الفقد من الأصدقاء الذين قد لا يعودون ـ الخوف من الغد، الغد الذي قد لا يأتي.

صباحاً، أذهبُ إلى عملي أتأمل الوجوه الغارقة في ضباب الحزن، كم من مرةٍ وددت أن أعانقها جميعاً، لكنني دائماً كنت أفشلُ حتى في التحديقِ الطويلِ في عيونها، عيونها التي تحمل البلادَ المهدومة على أنقاضها، عيونها التي تريد أن تبكي إلا أنه لم يبقَ حتى طللٌ ثابت تبكي عليه.

فصور المدن تلاحقنا وكأننا قتلةٌ، المدن التي تسألنا بألسن من نارٍ:

ماذا فعلتم من أجلنا؟

ـ لم نفعل شيئاً يا أمي، حملنا صمتنا فوق كفوفنا الفارغة فكنّسَنا خوفُنا عن شوارعك وحدائقك ومقاهيك وشرائطَ الأخبار العاجلة.

لذلك، ولأنني رجلٌ وحيد، أو رجل أصبح وحيداً بعد أن ناله الفقد بكامل صخبه، وجدت نفسي وجهاً لوجه في معركةٍ ضدّ القبح، دونَ سلاح يُذكر، فأنا لا أحمل في جيبي سكيناً أو مسدس، حتى أني بتّ أخاف صوتَ الرصاصِ وعويل الأمهات، فشرعت أصابعي للكتابة، وروحي للركض على الصفحات عاريةً من كل شيء، ربما ـ على الورق ـ أجد نفسي أكثر توازناً، فالكتابة هي الشيء الوحيد ـ في هذه الحرب ـ الذي لا يحتاج لبتر ذراع أحدهم أو اقتناصِ فرحه برميةٍ طائشة، الكتابة غرفةٌ مستعارة تستطيع نقلها أينما ذهبت، غرفةٌ بلا جدران أو لصوصٍ ينظرون إليك من ثقوبٍ في روحها، الكتابة كنايةٌ ـ كنايةُ أنّك ما زلتَ تصر على استنشاق الهواء النظيف رغم تراكم الغبار والحرائق، الكتابة جلد الذات وجلد الآخر في محاولةٍ لكنسِ الألم مخفوراً بالمعنى ـ المعنى اليقين، أنك صدفةً نجوت، وأنكَ صدفةً ستسير في عوالمَ ما من شيءٍ يؤرقها سوى وجودك المحتوم، وجودك المُراوغ لتفاصيل الموتِ وأشكاله.

أجل فأنا ومنذ سبعِ سنين خراب ما زلت أكتب، كتبت عشرات القصائد بل المئات منهاـ قصائد تحمل النعوش عالياً، قصائد يرشح من أصابعها الدم والبرد، قصائد تحتفي بوردةٍ ذابلةٍ على نهد إحداهن، قصائد ترتجف في هذيانها.

ولطالما احتميت من ندمي بأمسياتٍ شعريةٍ كنت أقيمها في أصغر حاناتِ دمشق وأكثرها اكتظاظاً بالسوريين الذي سيتقاسمون صوتي الأقرب من لسانِ إلى صوتِ المجزرة.

والآن أصبح لي ديوانٌ وحيد سميته ضوءاً قصيراً، سميته سريراً بارداً، ديوان ينزف من أوراقه الصفراء أجساداً هائلة تصرخ بصوتٍ واحدٍ:

كان لا بدّ من نافذة، كان لا بد من خلاص.“

أن تتعلّق بقشّة

أن تتعلّق بقشّة

سألت غريباً في باريس عن الاتجاهات، حرّك يده حركة فرنسية بامتياز وتعني: لا أعرف شيئاً، وليس لدي الوقت. ولكنّه استدرك أنني أسأل عن المكتبة الوطنية. فراجع نفسه وتراجع واستدار، ولكن سبقته امرأتان دلتاني بابتسامة مشرقة: البناء الشاهق الذي ترين جزءاً منه.

تذكرت أنني لم أكن أرتاد المكتبة الوطنية في سوريا، مكتبة الأسد“. على الرغم أنني على يقين أنني قد أجد فيها الكثير من الكتب المهمة. هنالك عادات من الصعب أن أجد لها تفسيراً الآن. أحاول أن أمنطق الأمور. وأتذكر سنوات تعليمي في دمشق، كل ذلك يبدو بعيداً الآن

في الطائرة كنت أقرأ ما كتبه محمود درويش عن إدوار سعيد: “أنا من هناك. أنا من هناك ولست هناك. ولست هنا.” والآن وبعد سنوات كإدوارد سعيد تماماًلم تعد لأحلامي لغة.

درست في مدارس تزينها صور الديكتاتور، وكان عقابنا في إحداها، قضاء يوم كامل في المكتبة! أما أساتذتي في الجامعة فقد كانوا ينحتون تمثال الأخ الكبيروأحدهم يتباهى أنه يستطيع تبديل الرأس إن لزم الأمر. في آخر سنوات المدرسة أردت الرحيل دوماً إلى مكان ما، حيث لا أجبر أن أحول انتمائي للمكان إلى حس قومي، يذكرني برائحة الدوائر الحكومية. كل شيء تغير بعد فترة، حيث تحولت كل العبارات التي ليس من المسموح قولها، إلى مصدر قوة، أصبحنا نعلن انتماءنا إلى مكان لا يشبههم. رشّت صديقتي إحداها على حائط الجامعة، اتهموني، وأنقذني موظف لم يعلموا عدم ولائهعلى الرغم من زيادة الاعتقالات في ذلك الوقت، تحولت الجامعة أخيراً إلى مكان للتعليم.  

كنت أتعلم من النقاشات، وللنقاشات متعة أخرى عندما تكون الجدران تسمعك أيضاً، عندما تفكك جوالك إلى قطع صغيرة، آملاً أن تخفف من احتمالية ذهابك إلى تلك الأقبية، التي كنا نقرأ عنها في الكتب الممنوعة، ونرى آثارها على الأجساد. أصدقاء تلك الأيام صاروا في كافة بقاع الأرض، أحدهم كان يحدثني بالقرب من القطب الشمالي، الآخر من صحراء الجزائر، وأخرى من غابات إسكندينافيا. ألتقي ببعض الأصدقاء ونتناقش حول حلول ممكنة، أغلبنا يرى أن ما يمكننا فعله الآن بعيد عن أول الحراك حيث كان العمل جمعياً بامتياز. الآن ومع الوقت كل منا يعمل ويدرس بحسب اهتمامه واختصاصه، فما بعد الكارثة، التعليم هو القشة التي نتعلق بها. أما نقاشاتنا السياسية بما يخص البلد فقد بدأت تخف مع الزمن، ليس كنوع من الاستسلام، بل محاولة لتغيير طريقتنا في التعامل مع قضية أصبحت من أكثر القضايا تعقيداً.   

التعليم ليس بعيداً عن الحرية السياسية، بل مرتبط بها كل الارتباط. والأنظمة القمعية كانت على يقين من ذلك. ستالين لقب الوراثة بالعلم البرجوازي الزائف، أما هتلر فعين مجنوناً كمسؤول عن التعليم. والأنظمة الفاشيّة زرعت أيديولوجياتها في عقول أطفال المدارس. فأدلجة الأطفال في زمن موسوليني، لم تكن بعيدة عن تحية الصباح، تحية العلم، الانضباط..  وكان الأطفال يقومون أيضاً بحركة مماثلة لما يرافق جملة: “رفيقي الطليعي، كن مستعداً لبناء المجتمع العربي الاشتراكي الموحد والدفاع عنهمجتمعاتنا هي مجتمعات الانضباط، التي وصفها ميشيل فوكو في كتابه المراقبة والمعاقبة“. وفي هذه المجتمعات يتم التحكم بالأجسام، تدريبها، أو تعذيبها. في أماكن مثل المدارس المستشفيات والسجونوهناك حتى المكتبات.  أتذكر معلمة تراقبنا إن تحركنا أثناء تحية العلم. لم أحظ برفع العلم، ولا أحب الأعلام بشكل عام. وابتسمت لمَا رمى أصدقائي علم مشجع فريق ما في النهر، واتهموه بالقومي.    

أن تكون طالباً/ة سورياً في القارة العجوز، أن تعرف من يزور مكتبات البلاد أكثر من شوارعها، ليس بالسهل. المستشرقون هنا كثر. ويشعر معظم الناس أن لديهم الحق لسؤالك أسئلة شخصية وسياسية بعد التعريف باسمك!

ليس هنالك أكثر من برامج الاندماج، ومواقع التثقيف المخصصة للمهاجرين التي لن تجد أي تفسير لها سوى عدم فهم للآخر، وأحياناً عنصرية. أما أغلب الناشطينوالناشطاتفسيتعاملون معك معاملة خاصة، ظناً منهم أن ذلك سيثبت مدى تعاطفهم أو ثوريتهم، التي قد تكتشف زيفها، عند كسرك أول صورة نمطية عن الشرق الأوسط.

ولكن ماذا عليّنا أن نفعل كطلاب هنا؟  

لا أعتقد أننا سوف نصحوا فجأة على سوريا ديموقراطية، على الأقل لا أستطيع تخيل ذلك في هذه اللحظة. الأمور تتغير بالتدريج وذلك قد يعني أجيالاً، ولكن نستطيع لربما أن نجعل أجيال استااااارح واستاااااعدتنتمي للماضي، إن حجم الفجوة يزداد بين الجيل المولود في سوريا الآن، والجيل الذي سيدرس في خارجها.  لعلها طوباوية ولكن الجسر بين الجيلين هو دور المفكر، الأديب، الفنانسيكون دور المفكر في سوريا المستقبل دوراً جوهرياً للتخلص من التعصب، ولإصلاح ما يمكن إصلاحه، للمشي خطوات أو نصف خطوة.  وأن نحرص على أن يكون التعليم في سوريا المستقبل خالياً من الأيديولوجيات، على وجه الخصوص الدينية منها.

بعد سنوات على رحيلي، لا مكان عندي للحنين، لربما على حنيننا أن يكون كحنين إدوار سعيد عندما أجاب محمود درويش: “والحنين إلى الأمس؟ عاطفة لا تخص المفكر إلا ليفهم توق الغريب إلى أدوات الغياب. وأما أنا فحنيني صراع على حاضر يمسك الغد من خصيتيه.”

!صورة حلوة.. وواقعٌ مريرْ

!صورة حلوة.. وواقعٌ مريرْ

أوراقٌ بيضاءُ وألوانٌ موزّعةٌ بالتّساوي هنا وهناك، سلّةٌ مليئةٌ بالكرات الملوّنة ذاتِ الوجوه الضّاحِكة، وقطعُ بازل إسفنجيّة بأحجامٍ مختلفة، بالوناتٌ تتهيّأُ للطّيران، ورسوماتٌ متنوّعةٌ تستلقي على الجدرانِ بانتظارِ من يوقظها.. ثلاثةُ شبّانٍ وأربع شابّات يتوزّعونَ بترتيبٍ مدروسٍ بستراتهم الموحّدة التي يتربّع عليها اسمُ الجمعيّةِ التي يعملون فيها والمنظّمةِ التي تموّلها. الهدوءُ يعمُّ المكان، دقيقة.. دقيقتان.. خمسُ دقائق.. وها هي ذي الموجةٌ القويّةٌ المنتظَرة من الصّياحِ والهتافِ والرّكضِ والضّحكِ تندفعُ نحوَ بوّابةِ المركز، مبدّدةً الهدوء، ومحرِّكةً كعصاً سحريّةأجسادَ المتطوّعينَ الثّابتة ووجوههم ذات الابتساماتِ المرسومةِ بخطٍّ رفيع، والّتي ستعملُ فيما بعد ممحاةُ التمويلِ وقلّة الخبرة على محوِها أو على الأقلّ تغيير اتجاه انحنائها؛ بدأ العمَل.. كانت مدّةُ النّشاط ساعتينِ ونصف، تعارف الأطفال فيها، غنّوا، رسموا، لعبوا وطيّروا البالونات، ثمّ عادوا، محمّلينَ بالفرح، إلى بيوتهم. بيوتِهم التّي على عتباتِها، سيمسحونَ ما علقَ على أحذيتهِم ووجوههم من ضحكاتٍ وأمل، ليدخلوا كما خرجوا، أطفالَ واقعٍ مريرٍ يرميهِم بيدِه الخشنةِ يميناً وشمالاً.. شرقاً وغرباً.. وفي كلِّ اتجاهاتِ الألمِ والفقر والتّعاسة.

القفزُ على سلّمِ الاحتياجات

عام 2008 بدأتُ العملَ في تنمية وثقافة الطّفل، مع إحدى مؤسسات البلد التي كانت تكبرُ وتكبرُ شيئاً فشيئاً، محقّقةً للوهلةِ الأولى آمالاً ورغبةً ملحّةً لديّ بأن أساهمَ في مساعدةِ جيلٍ كاملٍ من أطفالِ سوريا في النّمو النّفسيّ الفكريّ والمعرفي، بأن أكونَ جزءاً من مجتمعٍ واعٍ لأهمية هذه الشريحة العمريّة، أهمّيةِ النّهوضِ بها، شحذِ شخصيّتها، وتزويدها بالمهاراتِ والأدواتِ اللازمةِ لتكونَ عنصراً فاعلاً متفاعلاً بنّاءً وخلّاقاً في المجتمع. كانت أدواتُنا المسرح والسّرد القصصيّ، والحوار. وكنتُ مؤمنةً إيماناً كاملاً بسموّ الهدف وإمكانيّة تحقيقه.

كان فريقُنا جوّالاً يقيمُ فعاليّاته في كلّ أنحاءِ سوريا، تماماً وبكلّ معنى الكلمة، كلّ المدن والأرياف القريبة والبعيدة، من جرابلس والبوكمال وحتّى أبعدِ نقطةٍ في درعا، في البداية لم أصدّق عينيّ وأنا أرى الصروح والمراكز الثّقافيّة التي تنتصبُ برُخامها اللامع ولافتاتها الكبيرة في بقاعٍ لم أكن أظّنها موجودةً على الخارطةِ أصلاً. تخيّلوا معي المنظر، بيوتٌ طينيّةٌ لا ترتفعُ عن الأرض أكثرَ من ثلاثةِ أمتارٍ، وشوارعُ غير مزفّتة، يعلو وسطها بناءٌ جميلٌ من رخامٍ لامع، فرشٌ من الجلدِ الأنيق، ومسرحٌ تكادُ خشبتهُ وكراسيه ترقصُ من شدّة النّظافة وكأنَّ أحداً لم يمسسها أو يستخدمها، وهذا ما كان بالفعل، لم يدخل أحدٌ من سكّان هذه البلدةِ سابقاً إلى المركز باستثناء مديره وموظّفيه، بل ولولا وجودنا وفعاليتنا لما عرفَ أحد أنَّ اسمَ هذا البناء مركز ثقافيّ“. وأظنّه عادَ إلى سباتِه وسكونه مذ أنهينا عملنا فيه.

حتّى عام 2011، كانت هذه المؤسسة هي الجهة الوحيدة تقريباً، مع استثناءاتٍ قليلة، التي تقيم نشاطاتٍ للأطفالِ في أنحاء البلد، نشاطاتٍ كان واضعو خططها ومحتوياتها أشخاصٌ من أرستقراطي البلد الذين ربّما لا يعرفون أنّ ثمّة أطفالٌ، في تلك البلدةِ وغيرها، حفاةٌ حتى تلك اللحظة، لم تدخل حتّى الأحذيةُ إلى ثقافتهم.

عندما قرعت الحربُ طبولها وقرّعت رؤوس وصدور مواطني هذا البلد الذي لا يعرفُ ابنَ ساحلِه أبناءَ جبله، ولا يعرفُ ابنَ جنوبِه أبناءَ شماله. بدأت حُمّى الجمعيات والفرق الإغاثيّة بالانتشار والتّكاثر بسرعةٍ مفاجئةٍ غريبة، ينابيعُ من الأموالِ شقّت الأرضَ بغتةً وبدأت تفيضُ لتعِّبئَ الصّناديق بالأغذيةِ والمستلزمات الصحية والإسعافيّة، وتعبّئ جيوبَ وحساباتِ مدراءِ ومؤسسي هذه الجمعيات بالكثيرِ الكثيرِ من الأموال. في فترةٍ لاحقةٍ انحسرت الحاجةُ إلى الإغاثة، وكي لا يقعدَ هؤلاء بلا عمل، غيّر أغلبهم لافتاتِ مؤسساته وجمعياته من الإغاثة إلى الدعم النفسي الاجتماعي.”

عدوى الدّعم النفسي الاجتماعي

الدعم النفسي الاجتماعيمصطلحٌ لم يعرفه السّوريّون، عدا فئة قليلة من المختصين والمهتمّين، قبل2013 أو فلأقُل قبلَ انهمار الأسلحةِ بأنواعها والموتِ بأشكاله على البيوتِ وأهلها، وقبلَ بدء حملات التّهجير والتّدمير للبشر قبل أيّ شيءٍ آخر، حين بدأت منظمات الأمم المتحدة وغيرها من المنظمات الدوليّة العالميّة بضخّ الأموالِ إلى الجمعيات والمؤسسات التي راحت تفقسُ في كلِّ مكان، تحت مبرِّر الحاجةِ والاحتياج“. لا شكَّ أنَّ الحرب أنجبت وتنجبُ من الكوارث والأضرارِ النفسيّة ما يكفي لقتلِ أيّ أملٍ في التّعافي، ولا شكَّ أنَّ أعداداً هائلةً من السوريين، أعداداً أكبر بكثير مما صرّحت به منظمة الصحة العالميّة وغيرها من الجهات المعنيّة بالأمر، قد وقعت طريحةَ الحرب والأمراضِ النفسيّة، ما يجعلُ العلاجَ النفسيّ والدعم النفسي الاجتماعي ضرورةً قُصوى وحاجة ملحّة لا غنى عنها أبداً؛ صحيحٌ أنَّ الصّحة النّفسيّة لكثيرٍ جدّاً من السوريين لم تكن في أوجها قبل الحرب، بل لم تكن حتّى ضمن تصنيفِ (مقبول)، وصحيحٌ أنَّ الأمر لم يقلِق أيّاً من الجهاتِ المحليّة أو العالميّة سابقاً، ولم يدفع أحداً للتحرّك نحو العمل، أو فلأقل نحو الواجب الإنسانيّ، لكنّني لستُ الآن بصددِ الحديثِ عن المرحلةِ السّابقة.

تاريخيّاً، تُشنُّ الحروبُ في بلدٍ ما لتفتح الطّريقَ أمامَ السّوق، سوق الأسلحة مثلاً.. لكن هل من الممكن أن يكون للخدمات المجتمعيّة والنفسية سوقٌ ينشطُ أيضاً في أوقاتِ الحرب؟! سؤالٌ استفزّني كثيراً طوال هذه السّنين الخمس، وكثيراً ما رميته جانباً لأتمكّن من المضيّ في عملي مع الأطفال واليافعين والمتضررين من الحرب في برامج الدعم النفسي الاجتماعيالّتي تنقّلتُ معها من منظمةٍ إلى أخرى ومن جمعيّةٍ إلى أخرى.

في البدء كان الكثيرُ من هذه الأنشطةِ والبرامجِ يعبّر عنّي ويحفزني على الالتحاق بها هنا وهناك، لأكتشفَ بعدَ وقتٍ ليسَ بطويل، أنَّ ما آمنتُ به، أو من آمنتُ بهم، ليسوا سوى مدّعين، ومسيِّري أعمال، ربّما كنتُ أنظرُ بعَينَي رغبتي وإيماني، اللتين كلما خابَتا أيقظتُهما واستنهضتهما.

الواقعُ مرير، الحربُ طاحِنة متوحِّشة، والنّاسُ في أسوأ حالاتهم، ولا بدّ لي من تأدية واجبي الإنسانيّ، أحملُ حقيبةَ معرفتي وخبراتي وأنطلق، أعملُ وأعمل، بل وأناضلُ للحفاظِ على مفهومي لِـ الدعم النفسي الاجتماعيعن مفهومي لحماية الطفل، والدعم النفسي، والتوعية و و و.” أشاركُ في حملاتٍ ضد العنف الأسريّ والمجتمعيّ، ضد التحرّش، وضدّ سَوقِ الأطفالِ إلى معتقلاتِ الزواج المبكّر، ضدّ عمالة الأطفال، وضدّ الكثيرِ جدّاً من الممارساتِ اللاإنسانيّة المتجذّرة أساساً في مجتمعنا الهشّ المريضِ هذا، والمتفاقمةِ اليوم، أشاركُ في نشاطاتٍ، ورشاتِ عملٍ، مبادراتٍ ومشاريع لتخفيفِ الأضرار النفسيّة على النّاس. أعملُ بطاقتي كاملةً بل إنني كثيراً ما استعرتُ طاقةً من الكون، كي أستمرّ، وأثناءَ عملي مع هذه الجهةِ او تلك، كانت الحقيقةُ البشعةُ تتجسّد أمامي شيئاً فشيئاً بكلّ عوراتها رغم كلّ محاولاتي لغضّ الطّرف، والنّضال للحفاظِ على مهنيّتي، وضميري في العمل، على الأقلّ في الجزءِ الخاصِّ بي متعكّزةً بمقولة لا تلعن الظلام.. بل أشعِل شمعة، لأنهزمَ أخيراً، وأعترف بفشلي بصوتٍ عالٍ ومدوٍّ، فأنسحبُ جارّةً خيبتي كذيلٍ فولاذيٍّ لعينْ. لا تقلقوا عليّ.. فأنا سريعةُ النّهوض. نعَم، اكتشفتُ خلال هذه السنوات أنّ مخزون الطّاقة لديّ لا ينفد، أو إنّه سرعانَ ما يعودُ للامتلاء. وبذلك، أنتقلُ لمتابعةِ عملي بإصرارٍ أشدّ، وطاقةٍ أكبر، وبعدَ البحثِ والتّمحيص، ألتحقُ بالجهةِ أو الفريق الذي، يبدو لي للوهلةِ الأولى أنّه يعملُ لأجل الإنسان، الإنسانِ فقط، ويعودُ الدولابُ النّاريُّ للدّوران، الدّوران فوقَ جسدي المتمدّد تحته كخرقةٍ بالية، حقيقةٌ تتكشّف، وهمٌ يزول، ورحلةُ بحثٍ جديدة.

العصا في يد، والوردةُ في الأخرى

اعتزلت العمل مع المنظمات والجمعيات مدّة سنةٍ ونيّف، ولست الوحيدة في ذلك، كثيرٌ من المختصّين والخبيرين بالعمل في الدعم النفسي الاجتماعي عن طريق الفن وغيره، والذين كانوا يعملون باحترافيّة وضمير، اختاروا الانسحاب مقابل العملِ كيفما اتّفق، بعضهم سافر، وبعضهم كوّنَ فرقَاً تطوعيّة، والبعض الآخر أكمل المسيرةَ وحدَه كجهدٍ فرديّ، وآخرونَ اعتزلوا الأمر تماماً. وأغلب مَن بقيَ يعمل مع هذه الجهات أشخاصٌ غيرُ كفؤين إمّا يبحثونَ عن نشاطٍ يملؤون به فراغهم، أو يحصّلون عن طريقه دخلاً آخر، أو.. أو….

سيأتي البعضُ ليقولَ لي إنّ هذه الجهات لا تبخل في تدريب الكوادر وتطوير مهاراتهاوأقول، هذا صحيحٌ تماماً، ولكن، هل تصنعُ بضعُ ورشاتٍ ودوراتٍ من شخصٍ ما مدرّباً أو أخصائياً اجتماعيّاً، أو..، ولنفترض أنها تفعل، فهل يسعى مدراء البرامج ومنسّقوها إلى متابعة وتقييم الأشخاص بناءً على مهاراتهم في العمل؟!، أم بناءً على مهاراتهم في كسبِ ودّ هذا المدير أو ذاك، ومهاراتهم في تشكيل صورة جيّدة يلتقطها موظّف الميديا وتنبهرُ بها الجهةُ المانحةُ فتقدّم على إثرها المزيدَ والمزيدَ من المال؟

إذاً فإنَّ التّأثير المطلوب لهذه الأنشطة لم يعد موجّهاً نحو النّاس، إنّما نحو المانحين (الدّونرز). وعلى هذا، فإنّك إن قلّبت المواقعَ الإلكترونيّة وصفحات التواصل الاجتماعيّ الخاصّة بهذه الجمعية أو تلك، فإنك ستُدهَشُ حقّاً، وتقول مازال البلدُ بخيرأو ربّما تشطح أكثر وتفكّر على هذه الحال لن يطول الأمر، سنةٌ أو أكثر بقليل ويتعافى المجتمع، لا عنف.. لا كراهية.. لا اكتئاب.. لا تحرّش.. لا تمييز.. لا.. لاهه إنّهُ حلمٌ بعيدُ المنال يا صديقي، ولستُ أتكلّم هنا بتشاؤميّة إنّما بواقعيّة، فلو استطعتَ الخروج من أمامِ شاشتك الصّغيرة، والولوجَ إلى قلبِ نشاطٍ ما، سترى الحقيقةَ بأمّ عينيك، فنسبةٌ كبيرةٌ من هؤلاء الشّباب الذين يحتضنون الأطفالَ في الصّورة ويبتسمون، يحملونَ في يدٍ وردة، وفي الأخرى المختبئة خارج الكادر يحملونَ عصاً، عصاً من عنفٍ لفظيّ، وأحياناً كثيرة من عنفٍ جسديّ. وأخيراً السؤال الذي يطرحُ نفسه.. من المسؤول؟! هل المسؤول عن هذه الانتهاكات هو المتطوّع؟! أم المصوِّر؟! مدير الفريق؟! مدير البرنامج أم مدير الجمعيّة؟!  الجهة المانحة.. أم أصحاب الشأن في الدولة.. أم أنا.. أم.. أَم

تعايشاً مع الحرب: هكذا تمضي الصداقة

تعايشاً مع الحرب: هكذا تمضي الصداقة

قدّم خريجو هندسة الحواسيب في جامعة حلب عام 2010 مشاريع التخرج البحثية والتطبيقية التي أبهرت عدداً من الدكاترة المختصين حيث قال الدكتور المهندس محمد سعيد كريّم : (هذه دفعة قوية من المهندسين، يمتلكون الفرادة والتميّز)، لكن جاءت الحرب التي غيرت كل شيء لتنأى بطموح الشباب بعيداً. فأصبح هناك قوانين جديدة مفروضة على الجميع سواء رضوا بها أم رفضوها، وأصبح كل فرد يبحث عن نفسه من جديد. ومفاهيم العمل الجماعي والتعاون والصداقة وغيرها من الأطر التي أسست لها الحياة الدراسية لهؤلاء الشباب باتت ضرباً من الماضي.

كان أحد هذه المشاريع يتناول مسألة نظام الإدارة المتكامل، القادر على ربط جميع مؤسسات الدولة عبر مدخلات ومخرجات مترابطة تجعل الهيكلية موحّدة تخفض من التدخلات الشخصية وتشكّل الأرضية الأساس للحكومة الإلكترونية لتختصر الوقت والجهد وعدد الموظفين وعدد الأماكن مع وجود فرص عمل متنامية مع الزمن إلى آخره من الميزات. هذا المشروع جمع حوله عدداً من الأصدقاء الذين عرفوا بعضهم جيداً من خلال التعاون خلال سنوات الدراسة. سألقي الضوء هنا على عينة من هؤلاء المهندسين الذين عاشرتهم وكنت على صلة مباشرة معهم.

مهندسة الأمس، طبّاخة اليوم

سهاد مهندسة  وإحدى خريجي تلك الدفعة، صديقة الجميع والتي كان يعتمد على معلوماتها ودفاترها الجامعية من قبل كل أبناء الدفعة، ومن العناصر الفاعلة في مشروع نظام الإدارة المتكامل، وصاحبة المعدل 75% ( وهو معدّل من الصعب تحقيقه لخريجي الهندسات ) والتي كان طموحها المتابعة في مسيرة البحث الأكاديمي لنيل شهادة الدكتوراه، وهذا ما عبّرت عنه لأصدقائها دوماً، وحين وصلت الحرب إلى حلب عام 2012 انقطعت المعلومات عن رغداء وأهلها، وبعد مرور عدد من السنوات، عادت عام 2015 للتواصل مع أصدقائها الذين تساءلوا عنها كثيراً لتخبرهم أنها لاجئة في ألمانيا وأنها غيرت اختصاصها لتصبح طباخة معروفة في سلسلة مطاعم هناك، قال لي زملاؤها إنها لا تمتلك الوقت للتواصل معهم كما كانت أيام الدراسة وذلك لأنها رهن المرحلة الجديدة التي تعيش فيها، وقد عبّرت لهم عن ضيقها وتعبها.

أصدقاءٌ ذهبوا، وافتراضيون حضروا

لعبت وسائل التواصل الاجتماعي عبر مجموعاتها الافتراضية الدور الأبرز في مقدرة الأصدقاء على متابعة أخبار بعضهم البعض بعد أن فرقتهم الحرب، سليم الذي بقي في سوريا وأحد خريجي تلك الدفعة، ماكان ليعرف أياً من المعلومات عن أصدقائه لولا مجموعات الواتساب والفيسبوك. يقول سليم: (منعتني ظروف الحرب من متابعة عملي الهندسي، وتركت وقتاً فارغاً أمامي، فوجدت نفسي في حالة متابعة دائمة لوسائل التواصل الاجتماعي وبصورة طبيعية أتساءل عن الزملاء والأصدقاء ومن خلالها عرفت أخبار القسم الأكبر منهم، ولكن بعضهم لم أحصل على أي معلومة عنهم، سواء كانوا على قيد الحياة أم لا!) لكن هذا الفراغ أيضاً عرّف سليم على أشخاص جدد يشك ببعض منهم ويشعر بالتوجس على الرغم من حالة الصداقة الافتراضية التي يغرقونه بها، من خلال كثرة التواصل والاطمئنان.

لغة الطائفية ماذا تفعل؟

محمد أحد أصدقاء سليم وسهاد، الذي وصلني معه سليم، التحق بخدمته الإلزامية ضمن القوانين السورية للخدمة الإجبارية يقول: (آخر أصدقاء طفولتي ودعتهم في أيلول عام 2015 مهاجراً إلى أوربا كما فعل الكثيرون، وقد عزّ علي كثيراً أنه بعد إصابتي في إحدى المعارك لم أتلقَّ أي اتصال من هؤلاء الأصدقاء فهم لا يعرفون عني شيئاً، ربما لو وجدت صديقاً يطمئن عني لكان ذلك سباً أن تبرأ جراحي بشكل أسرع). يبدو أنّ محمد الذي تنقل بين عدة جبهات خلال سنوات الحرب قد تعرّض لكثير من التجارب التي جعلته قليل الكلام، لكنه يحمل في ذاكرته جراحاً كثيرة فهو يضيف لنا بعد عدة أسئلة أن أشكال الطائفية التي لمسها عبر تنقله على عدة جبهات كانت مفاجئة له، بعد أن قضى سنوات مع لغة المنطق الحاسوبي!

الريف يصنع أصدقاء جدد

بعثرت الحرب الأصدقاء وعملت على توزيعهم بطريقة مختلفة عن مبنى حياتهم السابقة، فقد أفقدتهم صداقاتهم القديمة وولّدت طبقات جديدة جعلت الاحتكاك فيما بينهم مصادر جديدة لولادة الأصدقاء.

مازن أحد خريجي الدفعة وابن مدينة حلب، اقتصرت حياته على البيت والجامعة والانتقال بينهما، وبعد نزوحه إلى إحدى قرى مصياف، اختلفت عاداته وتقاليده فيقول: (لم أكن قادراً أن أتصور  العيش في بيئة مختلفة جذرياً عن بيئة حلب، اليوم أذهب مع أحد سكان هذه القرية والذي أعده صديقاً إلى الحقل للقيام بأعمال الزراعة ونمضي ساعات النهار معاً، للعمل وكسب الرزق. يبدو أن هذه الحرب منحتني ثقافة جديدة وأصدقاء لن أنسى فضلهم علي).

هذه التجربة التي مر بها مازن تعرّض لها الكثيرون من أبناء سوريا بعد كثير من الكوارث التي ضربت مدناً رئيسة وبالتالي أصبحت قاعدة العودة للجذور والأرض والريف هي المنجاة بالنسبة لهم.

تغّيرت مجريات الأحداث في سوريا كثيراً ورؤوس الأصدقاء الحامية قلّ عددها حين اكتشف الجميع خسارتهم الكبرى. لن ينسى الأصدقاء أنهم خافوا في بداية الأحداث أن يسأل بعضهم البعض عن مواقفهم السياسية، ولكن الصدمة توسعت حين تصادموا بالسلاح، كانت الصداقات تنهار بسرعة انهمار الرصاص في البلد، وكان الفقد والغربة والعزلة والانكفاء تجاه الأقلية التي ينتمي إليها الفرد تبدو عاصماً له مما يحدث، لكن الأمور اليوم تنفتح على مستوى جديد، بعض الصداقات عادت، وبعضها اختفى كأنها لم تكن يوماً وبعضها تشكل من جديد بآراء مغايرة بعد أن نسفت الحرب رأي كل شخص قبل أن تنسف رأي خصمه السياسي.

!تناقضات فكرية في الحرب تضيق وتتسع في آن معاً

!تناقضات فكرية في الحرب تضيق وتتسع في آن معاً

دقّت الساعة الأولى للحرب، ولم تُكسر عقاربها بعد سبع سنوات، فمنذ أن قرعت أجراسها وحتى الآن، لازال الشارع السوري يتراشق اتهامات الخراب التي تحيط بنا من كل حدب وصوب، متناسين التطّرفالذي ولّد شرارة الدمار، ولم تخمدها حتى اللحظة أرواح الشهداء“.

وأثناء هذه الأعوام النّارية، عاود  العمل الثقافي بحلّة جديدة وبانتشار غير مسبوق تضاعفت خلاله نسبة المطالعة بين الشباب السوري، بنسبة كبيرة جداً على المستوى الفردي وعلى الصعيد المجتمعي عن طريق أندية القراءة التي استقطبت الفئات المهتمة بالأدب والشعر والروايات الملامسة للواقع العبثي المفروض على أحلامهم و تطلعاتهم المستقبلية بواقع أفضل، وعلّ رائحة الورق المُستعار و الروابط الإلكترونية للكتب الحمراء منها والزرقاء عززت شعور الطمأنينة في خوالجهم الملتهبة لما تحمله من إجابات منطقية لأسباب التطرّف الذي يلبس سوريانامن حلب إلى درعا،  والذي حلّ في البلاد وانفجر بميعاد لم يتوقع حدوثه أبداً أقله في القرن الحالي!

فالهدف الأساسي من إقامة الصالونات الفكرية والندوات الثقافية في سوريا، حمل القارئ إلى طريق الانتماء الوطنيوزيادة شريحة الفئة القارئة لما تبثّه من قيم تنويرية مضافة تتشربها النفس البشرية، مع كل غلاف يُغلق وبهذا النشاط يتلاقى ابن الساحل مع شباب السويداء بأمسية في دمشق بعد أن وثب كل منهم عتبة التطرّف المذهبيوتجاوز الحواجز العشائرية الأخطر من نقيضتها العسكرية ثلاثة أضعاف، أقله لساعات معدودات، وما أن تبدأ مناقشة الكتاب المقترح تتعرى الوجوه من كل الملامح الدالة على الهوية السورية، ليتطبع مكانها بصمة  مغبرّة عمرها آلاف السنين على هيئة إيمان ومعتقد، فالبعض يدخله بمجرى الحديث بطريقة أو بأخرى ليدافع عنه الدفاع المستميت بغض النظر عن علاقته بالكتاب من عدمه إما بإشارة حاجب ببسمة ساخرة أو هزة رأسٍ ليست بمؤيدة، خصيصاً إذ ما عرّج النقاش إلى الحرب في سوريا هنا تتهافت الجمل المنمّقةوالتي تشير بأصابع الاتهام إلى إثنية ما وتخوينها بالمطلق، والتشجيع على إجرام تكتل معين، دفاعاً عن قضية لا زالت في رحم الظلمة لا تحرّك ساكناً، بل تستخدم هذه المعتقدات شمّاعة لتبرير كل جرم، ولتفض الجلسة أخيراً ليعاود أغلب الحضور صومعته المتطرفة ومن أخذته خطوات اللانتماء فذنبه ذنبان.

و من أحد المعالم الثقافية التي جمعت ألوان الطيف السوري تحت سقف المعرفة، دورات التنمية البشرية، لتحقيق الغاية المنشودة منها في نشر المهارات السلوكية بالطريقة السليمة، و التي تعزز من عمليات التواصل بين الفرد وذاته من جهة وبين الفرد وبقية شرائح المجتمع على الصعيد الاجتماعي والمهني. ومن هذا المنطلق لاقت إقبالا للنهل منها عن طريق الورشات المجانية أو المأجورة، وخلال ذلك فقدت الكثير من المراكز التدريبية المصداقية إما في قيمة المادة المطروحة أو منافاة عنوان الدورة لفحواها الحقيقي! إضافة لإطلاق لقب مدربعلى كل شخص أتمّ دورة إعداد مدربين دون رقابة فعالة لاستحقاقهم هذا اللقب حتى الأمس القريب. أعدادهم صارت بالآلاف بعضهم زاول المهنة وتوقف نظراً لتخمة المدربين في الساحة والنسبة الأكبر منهم وأدت المنحى الخلقي والأخلاقي للمهنة بابتذال تجاري منفّر، على الرغم من نُبل قيمها وفعالياتها في تغيير مصائر شعوب بأكملها إذ ما طبّقت ونشرت بالطرق الصحيحة.

و على الرغم من الوضع الاقتصادي المتأزم في البلاد، والذي يستدعي حقيقة مواربة الشاب السوري إلى بوابة متطلبات الحياة اليومية، إلا أنه لم ينكفئ عن إحياء الروح الإبداعيةلديه تحت أي ظرف كان، ففي الآونة الأخيرة تفجرت مواهب السوريين مع كل قنبلة ورصاصة، بشكل منظم على مواقع التواصل الاجتماعي  جمعت المبتدئ بذي الخبرة، إضافة إلى إنشاء منصات إعلامية من قنوات يوتيوب وغيرها لتغطية الفعاليات الشبابية من اختراعات وأبحاث اقتصادية وغيرها إلى جانب الحس الفكاهي التي يميز بعضها وذلك منظور الشباب أنفسهم، وبأسلوبهم المغيب جزئياً عن السياسات الإعلامية التي تعمل وفقها القنوات السوريةوالتي لاقت تحسناً لا بأس به في العام السابع (للحرب في سوريا، الحرب السورية، الحرب على سوريا !!)

وحتى هذه اللحظة لم يدرك هذا الشعب الطيبأن بمساومته على مفهوم الشهادةنسبة لقرية ومذهب سيتجرد من جلد الإنسانية قبل أي شيء فأعداء الوطن هم التعصب و الطائفية السوداء، وإن المنظمات المجتمعية والجمعيات الثقافية التي تعنى ببناء الإنسان لم تأتِ بالنفع المرجو على أرض الواقع، و إلا لتصدى السوريين جميعاً لأي تجييشأيّاً كان نوعه، ولكانت الحرب محض كابوس بادئ ذي بدء، وإنه لمن المجحف حقاً صب اللوم على مبادري هذه المنظمات لما يحمله مفهوم المواطنة من هشاشة، إذ ما نُظر للأمر إلى ما قبل الحرب حتى استنزاف المواطن بتأدية واجباته المستحقة و يزيد، في وطن لم يمنحه سوى قلة قليلة من حقوقه.

رهانات خاسرة

رهانات خاسرة

كان الرِّهان على وعي وترابط المجتمع السوري في بداية الحرب رهاناً خاسراً بكل المقاييس، بل لم يكن أكثر من وهمٍ إعلامي ومحاولةٍ لتمييع الحقيقة وغضِّ النَّظر عن الأزمات الاجتماعية التي يعاني منها المجتمع السُّوري وعن تأصُّل الحساسيات الطَّائفيَّة والمناطقيَّة بين أبناء الوطن الواحد.

والحرب تؤدي بالضرورة إلى إخراج ما هو مظلم في كلِّ مجتمع، فالودعاء البسطاء أيام السِّلم هم ذاتهم الذين لم يتأخروا عن حمل السِّلاح وانزلقوا بسلاسةٍ وخفَّةٍ إلى الخندق الأقرب إليهم على ضفتي الصِّراع، وهُمْ ذاتهم الذين أحرقوا بيوتاً ونهبوا ممتلكاتٍ ودمروا عائلاتٍ بأكملها؛ ففجأةً أصبح الجَّارُ صاحب الابتسامة العريضة جلاداً بذقنٍ تلامس سرَّته، والصَّديق الذي قاسَمَنا رغيفنا طواعيَّة بالأمس القريب، ارتدى المموَّه وأصبح يسرق الرَّغيفَ عنوةً.

كان واضحاً خلال الشُّهور القليلة الأولى أنَّ السِّلاح سيتحوَّل إلى سلعة متوفرة ومتاحة للجميع تباع كما تباع الخضراوات على النواصي، والأكثر وضوحاً أنَّ الدبابات التي غادرت مواقعها والطائرات التي فارقت مرابضها كانت تنذر بسنينٍ عجاف، وأنَّ مسار الحِراك قد تحدد ليكون حِراكاً عسكرياً دينياً بغيضاً وحرباً ضروساً بين جيشين سيقف فيها العامَّة على الحياد ريثما تمتد لهم يدٌ لتجرَّهم إلى جبهةٍ أو إلى زنزانة، وعلى الرغم من هذا السقوط الكبير لحلمنا بحراكٍ مدنيٍّ قادرٍ على رسم مستقبل بلادنا بقيَ الرِّهان على نبذ العنف من المجتمع قائماً، وبعنادٍ لا طائل منه أصرَّ المؤمنون بميل السُّوريين للسِّلم وأنا منهمعلى هذا الرِّهان، وخسرنا جميعاً.

للأمانة؛ لقد خاننا حدسنا، فلم نتوقع أنَّنا نمتلك كلَّ هذه المقوِّمات لتدمير أنفسنا، ولم نتوقع أنَّنا نمتلك هذا القدر من الطَّائفيَّة والعنصريَّة تجاه بعضنا، بل كنَّا مخدوعين بالدِّعاية البراقة التي سوَّق لها الإعلام الرَّسميحول الوعي واللُّحمة الوطنيَّة والتَّعايش، أمَّا اليوم فقد أصبحنا على يقين أن الحديث عن التَّعايش واللُّحمة الوطنيَّة يتناسب طرداً مع افتقاد هذه المعاني.

لا تعايش الآن في بلادنا ولا لُحمة وطنية ولا مجال لاستخدام هذه الخدعة ثانية على الأقل في المدى المنظور، هذا الواقع الذي يخبرنا به الشارع السُّوري المنقسم بشِدَّة والمصطفِّ في خنادق أملتها عليه الطوائف والمناطق والمصالح قبل أن تصبح الحرب مهنة وننقسم ببساطة إلى محارب وهدف، ولكم أن تتخيلوا كمية الكراهية التي تعاظمت في نفوسنا خلال سنين الحرب الطويلة والقاسية، لكن السؤال الجوهري: هل كانت هذه الكراهية وليدة الحرب ونتيجتها أم أنَّها سابقة على الحرب وكانت تنتظر فرصة لتعبر عن نفسها بالطريقة البشعة؟!.

لم أدرك مدى الكراهية التي نخبئ إلَّا عندما رأيت المشاجرات بين الهاربين السُّوريين إلى لبنان والتي كادت أن تصل حدَّ القتل، هذه المشاجرات كانت ناتجة بالظاهر عن اختلاف في الانتماء السياسي، لكنها في الباطن كانت نتيجة مباشرة لاختلاف الطوائف أو المناطق أو الطبقات الاجتماعية.

هناك في بيروت في مشروع أبراجٍ سكنية قيد الإنشاء يشكِّل السوريون 60% من عماله كنت أنا هارباً أعمل كعاملٍ غير محترف، وعلى جدران المراحيض التي هي عبارة عن مستوعبٍ معدنيٍّ قذر تم تثبيته على عَجلٍ فوق قطعٍ من الطوب الاسمنتي وتركيب ثلاثة مراحيض لتكفي أكثر من ألف عاملعرفت إلى أيِّ مدى نحن محمَّلون بالغل!

هؤلاء العمال الذين يعانون الأمرَّين نتيجة استغلالهم وقسوة ظروف العمل لم يتمكنوا من التخلي عن انتماءاتهم حتَّى في المراحيض، فافتتحوا نقاشاً ساخناً على الجدران، كلُّه شتائم وعبارات حملوها معهم من دمشق على غِرار الأسد أو نحرق البلد، جايينك، يلعن روحك إلخ، إلى جانب مجموعة كبيرة من العبارات الطائفية التي تساعد في فهم التركيبة الطائفية للمتحاورين، ووصل الأمر عند بعضهم إلى تحديد موعد للخصم للنزول إلى الحلبة!

هذا الاحتقان غصَّت به الحناجر فلم يترك الغاضبون سبيلاً لتفريغ غضبهم إلَّا وسلكوه، والمشكلة الأكبر أن الحقد بين المدنيين على بعضهم لاعتبارات سياسية في الظَّاهر هو أكبر بكثير من العداء الذي بين المسلحين على الجبهات، فالمصالحات تسير على قدمٍ وساق بين الدَّولة والمعارضة المسلَّحة في غير منطقة، بينما تتسع الفجوة بين الأهالي دون أن يعبأ أحدٌ باتساعها.

كنَّا نتمنى وما نزال لو أنَّ دعاية الوعي والتَّرابط واللُّحمة والتَّعايش حقيقة، لكن سطحية هذا الطَّرح تجبرنا على مواجهة الواقع والتَّفكير بجدية بالطريق الذي يجب أن نسلكه لتقليص الفجوة بين أبناء الوطن الواحد، وهي فجوة تتسع دون حدود ما لم تجد رغبة تعاكسها وتجبرها على الانكماش، أو توقف اتساعها على الأقل، فنحن الآن لسنا معنيين بتطبيب جراحات الحرب وحسب، بل أمامنا إرث ثقيل من الكراهية التي حملناها معنا عقوداً طويلة، وكنا كمن يخفي الأوساخ تحت السّجادة ويدَّعي نظافة بيته.

بإنكارنا البريء لوجود الطائفيِّة والعنصريَّة ومحاولتنا التهرب من مواجهة الحقيقة بتجميلها والتعتيم على المناطق المعتمة من واقعنا كنَّا ودون أن ندري نجهِّز أنفسنا لننفجر كراهيَّةً حين تتاح الفرصة؛ وقد أتيحت، وأكثر ما نحتاجه الآن هو أن نتعرَّف على بعضنا من جديد، وأن نعترف أنَّ الأمان لم يكن إلَّا وهماً، وأنَّ الوعي لا يمكن أن يتولد بمجرد ادِّعائنا أنَّه موجود، بل يحتاج إلى جهدٍ وإرادة جبَّارة لإعادة خلق المفاهيم التي من شأنها أن تنحِّي الكراهية جانباً وتعيد بناء الشَّراكة التي افتقدناها.