عبد الرحمن الكواكبيّ وحيداً يعبرُ درب الآلام

عبد الرحمن الكواكبيّ وحيداً يعبرُ درب الآلام

     كان عبد الرحمن الكواكبيّ (1855-1902 م) شخصيّة استثنائيّة نادرة في عصرٍ مُظلم، ولقد امتازَ بشعورٍ فريدٍ بحرّيته بين أُناسٍ سُلِبت منهم القدرة على المبادرة والفعل والتعبير عن الرأي، فاكتشف أنَّ كثيراً من أبناء جِلدته مِنَ العرب يغرقون في مَوْحِلِ الجُبن والضَّعف والاستسلام لواقعٍ قاسٍ فرضته عليهم قُوى حاكمة، تمثّلت آنذاك في السَّلطنة العثمانيّة، وأدرك بعمق بصيرته أنَّ سبب الانهيار الرَّهيب في القيم والمبادئ والأخلاق ناجم عن الطَّاعة العمياء للحاكمين أو ولاة الأمر. ولقد أُصيبَ الكواكبيّ بخيبة أمل كبرى من تماهي النّاس مع سَحْقِهم وظُلمهم وتهميشهم، أي إنَّ الإنسانَ أصبح مجبولاً بعبوديته، إلى حدّ أنَّ الحريّة أصبحت ظاهرة غريبة وغير مقبولة بين النّاس؛ لأنَّها يمكن أن تسوقهم إلى نهاياتهم. من هنا وجد الكواكبيّ بعمقه البالغ أنَّ النّاس أنفسهم هم أساس قوّة الحاكمين الظَّالمين. ويرجع خنوع النَّاس في رأيه إلى أنّهم-في مرحلة السَّلطنة العثمانيّة-لم يعودوا قادرين على التمييز بين السُّلطة الدينيّة والسُّلطة السياسيّة؛ لأنَّ شخصيّة الحاكم لَبَست لَبوس القداسة، فالتبست على عقول العوام الأمور، فظنّوا أنَّ معارضة الحاكم هي معارضة ولي الأمر الذي يمثِّل المطلق أو الألوهيّة. ويمكن إرجاع هذه الطَّريقة من التّفكير عند الكواكبيّ إلى هدفٍ رئيس وهو تقويض تمثيل السلاطين العثمانيين للخلافة الإسلاميّة، لنزع فكرة حصانتهم الدّينيّة من عقول النّاس، وتحفيز العرب على استرجاع حقّهم بالسُّلطة؛ لكن الخنوع لرهبة السلطة الدينيّة العثمانيّة كان أكبر من طموح الكواكبيّ بإحداث تغيير جذريّ. واستنبطَ الكواكبيّ من ذلك حدوث امتزاج بين الاستبداد الدِّينيّ والاستبداد السياسيّ، فأصبح مضمون الطغيان باسم الدِّين مسكوباً في دَنِّ الطُّغيان السياسيّ، أو بالأحرى وُظِّفت أدوات الاستبداد الدِّينيّ على نحوٍ غير ظاهر لصالح الاستبداد السياسيّ؛ لذلك يتبنّى في كتابه “طبائع الاستبداد” رأياً عن الحكّام الذين هم وفق ما ذكرَ: “يسترهبون النَّاس بالتعالي الشخصيّ والتشامخ الحسيّ، ويذلونهم بالقهر والقوَّة وسلب الأموال حتى يجعلونهم خاضعين لهم عاملين لأجلهم يتمتّعون بهم كأنّهم نوع من الأَنعام التي يشربون ألبانها ويأكلون لحومها ويركبون ظهورها وبها يتفاخرون.”[1]

      ويدهشُ المرء من هذه الشجاعة المنقطعة النّظير التي تحلّى بها الكواكبيّ في عصر كان يمكن إسكاته فيه بأبسط الطُّرق، إلا أنّه آثر المسير في مشروعه الفكريّ ذي الخصوصيّة الغريبة عن الأجواء الثقافيّة السَّائدة في عصره. وكانت الموضوعة الرئيسة الشَّاغلة له هي قبول الإنسان بذله ومهانته واستعباده، فحاول أن يبحث عن الأسباب التي تقف وراء اقتناع الإنسان بسلبه من شخصيته الإنسانيّة الحرَّة.

      ويثير الكواكبيّ إشكاليّة تدلّ على عُمق في التّفكير لا نظير له، فهو يبحث في موقف الطُّغاة من العلوم، ويُحدِّد ببراعة فائقة أنواع العلوم التي يسمح المستبدّون للنّاس بتعلُّمها؛ لأنّها لا تؤدي إلى تطوير تفكير المتعلّمين على نحو يهدِّد عروش هؤلاء الطُّغاة.

      يقول الكواكبيّ: “المُستبد لا يخشى علوم اللغة، تلك العلوم التي بعضها يقوِّم اللسان، وأكثرها هزل وهذيان يضيع به الزمان (…) وكذلك لا يخاف المُستبد من العلوم الدينيّة المتعلّقة بالمعاد، المختصة ما بين الإنسان وربّه، لاعتقاده أنّها لا ترفع غباوة ولا تزيل غشاوة، وإنّما يتلهّى بها المتهوِّسون للعلم، حتى إذا ضاعَ فيها عمرهم، وامتلأت بها أدمغتهم، وأخذَ منهم الغرور ما أخذ، فصاروا لا يرون علماً غير علمهم، فحينئذٍ يأمن المستبد منهم كما يؤمن شرّ السّكران إذا خمر (…) وكذلك لا يخاف من العلوم الصِّناعية (…)، لأنَّ أهلها يكونون مسالمين صغار النّفوس، صغار الهمم، يشتريهم المستبد بقليل من المال والإعزاز، ولا يخاف من الماديين لأنَّ أكثرهم مبتلون بإيثار النَّفْس، ولا من الرِّياضيين لأنَّ غالبهم قصار النّظر.”[2]

     يكشف الكواكبيّ هنا أنّه لا يمكن تأسيس وعي حقيقيّ داخل المجتمعات الخاضعة للاستبداد، لأنَّ الإيديولوجيا التعليميّة للمستبدين، بوجهٍ عامٍّ، تقوم على نشر علوم لا تؤدي إلى تكوين ثقافة حقيقيّة لدى الإنسان، فعلوم اللغة، لا تساعد على امتلاك رؤية حقيقيّة للواقع، وتقتصر على تنمية قدرات هي في حدّ ذاتها لا تعدو أن تكون وسائل لتحصيل علوم من نوع أعلى. كما أنَّ العلوم الدينيّة التي تركِّز على العالم الآخر، ونشر روح الزُّهد والتخلّي والحياد، تسهم في تمكين الحكم للمستبدين، لأنها تدفع الإنسان المتديِّن بهذه الطَّريقة إلى ترك الواقع، كما هو، من دون أن يُعنى بتغييره، ويغلق أبواب نفسه عليه، غارقاً في عوالم موهومة مجذوذة الصِّلة بالحياة الإنسانيّة في أبعادها المختلفة. هذا، إلى أنَّ الكواكبي نبّه إلى أنَّ العلوم الصِّناعيّة لا تدفع المستبدين إلى القلق من انتشارها بين النَّاس، لأنَّ المعارف التي تتأسّس عليها والنتائج المحصّلة فيها تقتصر على أمور تقنيّة نافعة للحياة، والذين يمتلكون العلوم التي تبتكر المنتجات الصّناعيّة-في رأي الكواكبيّ-لا يفكّرون إلا بالأرباح، ولن يفكِّروا بتغيير الواقع ومواجهة المستبدين، لأنهم راضون بما هو كائن، واستمالتهم تُعَدُّ أمراً سهلاً بالنسبة إلى الحكّام الطغّاة. ويبني الكواكبي في سياق كلامه استنتاجاً يستحق التأمُّل وهو أنَّ المستبد لا يخاف من الماديين، ويقصد من ذلك أنَّ المعارف التي تُنمِّي الفهم الماديّ للعالم تولِّد شخصيات غارقة في نزعة ذّاتيّة-حسيّة إلى أقصى حدّ، وغير مكترثة بمشكلات وآلام الآخرين. دعْ أنَّ الكواكبيّ يتّخذ موقفاً سلبيّاً من الرِّياضيين، ويعني بهم علماء الرِّياضيات، ويبدو أنَّه لم يكن من المُعجبين بعلم الرياضيات، لأنَّ المعرفة الناتجة عن هذا العلم تبقى في حيِّز تجريديّ، ولا تقدّم رؤية حقيقيّة عن معاناة الإنسان في العالم.

     يمكن هنا أن نكتشف في شخصيّة الكواكبيّ ناقداً إبستمولوجيّاً للعلم من الطراز الرّفيع، ويتصف نقده بخصوصيّة نادرة، فهو يحدّد قيمة أي نوع من أنواع العلوم من جهة دوره في مساعدة الإنسان على مواجهة الطغيان والاستبداد والظُّلم. والحقيقة أنَّ هذا الضَّرب من النَّقد لا يجب أن يُعَدّ غير منصف في مجتمعات تحتاج إلى تحفيز أفرادها لاستعادة وعيهم بضرورة حرّيتهم.

    ويتابع الكواكبي كلامه بشأن علاقة ماهيّة العلم بمواجهة الاستبداد قائلاً: “ترتعد فرائص المُستبد من علوم الحياة مثل الحكمة النّظريّة، والفلسفة العقليّة، وحقوق الأمم، وطبائع الاجتماع، والسياسة المدنيّة، والتّاريخ المفصَّل، والخطابة الأدبيّة، ونحو ذلك من العلوم التي تكبر النّفوس، وتوسِّع العقول، وتُعَرِّف الإنسان ما حقوقه، وكم هو مغبون، وكيف الطلب، وكيفَ النّوال، وكيف الحفظ. وأخوف ما يخاف المستبد من أصحاب هذه العلوم المندفعين منهم لتعليم النّاس بالخطابة أو الكتابة…”[3]

      يقصد الكواكبي بعلوم الحياة –كما هو ظاهر من كلامه-الفلسفة والعلوم الإنسانيّة، ولم تكن دلالة العلوم الإنسانيّة واضحة في عصر الكواكبيّ، إلا أنه كان واعياً مما ذكره بمدى تنوّع العلوم الإنسانيّة، فذكر “علم السياسة المدنيّة” “وعلم حقوق الأمم (=القانون الدولي لحقوق الإنسان) –وهما علمان معياريّان-، وعلم الاجتماع–وهو علم تعميميّ-، وعلم الخطابة –وهو علم فنّي-، كما ذكر التّاريخ المفصّل ويدخل في إطار العلوم الإنسانيّة. إذن، نحن هنا بإزاء مفكِّر سوريّ مضى على موته نحو مئة وواحدٍ وعشرين عاماً كان واعياً في أكثر العصور ظلاميّةً بأهميّة العلوم الإنسانيّة لإنقاذ الإنسان العربيّ من الاستلاب الذي يعانيه في مختلف جوانب حياته.

       ولقد ركّز الكواكبيّ على خوف المستبدين من الخطابة والكتابة، وتُعَدَّ الخطابة سبباً رئيساً لنشر الوعي بين النّاس، فالخطيب المفوّه قادر على تغيير سيكولوجيا النّاس، تحديداً إن كان يقول الحقيقة، فإنّه يستنفر غضبهم على الظَّالمين، ويدفعهم إلى إعادة النّظر في قناعاتهم، وتوجيه جهودهم نحو مواجهة المستبد، لذلك كان رأي الكواكبيّ في مكانه، فكلّ مَنْ يُعبِّر عن رأيه بشجاعة، خطابةً أو كتابةً، يُعَدّ خطراً داهماً على العرش، ولذلك لا بدّ من إسكاته، فاتّبع المُستبد سياسة تكميم الأفواه، وأصبح أي إنسان عُرْضة لأفظع أنواع العقوبات إذا امتلك الجرأة على الكلام الذي يضرّ بمصلحة المُستبد.

    ويتحوَّل الكواكبيّ إلى مُحلِّل نفسيّ لشخصيّة المُستبد، فيذهب في تحليله إلى أبعد الأعماق، كاشفاً خبايا نفسه، على نحوٍ يدعو إلى الإعجاب الشديد من براعة وصفه:

    “المستبد في لحظة جلوسهِ على عرشه، ووضعِ تاجه الموروث على رأسه، يرى نفسَه أنّه كان إنساناً فصار إلهاً. ثم يرجعُ النّظر فيرى نفْسَه في الأمر نفْسِهِ أعجز من كلِّ عاجز، وأنّه ما نال ما نال إلا بواسطة من حوله من الأعوان، فيرفع نظره إليهم فيسمع لسان حالهم يقول له: ما العرش؟ وما التّاج؟ وما الصولجان؟ ما هذه إلا أوهام في أوهام. هل يجعلك هذا الرّيش في رأسك طاووساً وأنت غراب؟ (…) والله ما مكّنك في هذا المقام وسلّطك على رقاب الأنام إلا شعوذتنا وسحرنا وامتهاننا لديننا ووجداننا وخيانتنا لوطننا وإخواننا، فانظرْ أيُّها الصَّغيرُ المُكَبَّر، الحقيرُ الموقَّر، كيف تعيش معنا؟!”[4]

     لقد كان الكواكبيّ شجاعاً –وهذا أمر يجب التأكيد عليه دائماً-بل كان بطلاً فكريّاً قلَّ نظيره، وكانت شخصيته مجبولةً بحبِّ الخطر، وقد اختار مواجهة الظَّالمين، وأكسبته أسفاره الكثيرة خبرات كبيرة، فقد كان جوَّاب آفاق: سافر إلى الهند والصين ووصل إلى سواحل شرق آسيا وسواحل أفريقيا إلى أن ألقى عصا التّرحال في مصر، ولكن في مصر-كما يُجمِع المؤرِّخون- ترّصده أتباع السلطان العثماني عبد الحميد، ودسّوا له السُّم في فنجان قهوة في حينما كان جالساً مع أصدقائه في أحد مقاهي حي الأزبكيّة في القاهرة، فمات أحد أكثر المفكِّرين جرأة في التّاريخ العربيّ الحديث، واختفى مع موته كتابان هما “صحائف قريش” و”العظمة لله”، وقيل: إنَّ أعواناً للسلطان عبد الحميد سرقوا هذين الكتابين من منزل الكواكبيّ، ولم يبق من كتبه سوى “طبائع الاستبداد” و”أُمّ القُرى”.

    ولكن ها هو صدى صرخته المدويّة التي تُعبِّر عن اليأس الكبير الذي كان يسري في نفسه، ما زال يتردّد وقعها في أسماعنا:

      “يا قوم ينازعني والله الشُّعور، هل موقفي هذا في جمعٍ حَيٍّ فأحييه بالسَّلام، أم أنا أخاطبُ أهل القبور فأحييهم بالرَّحمة؟! يا هؤلاء، لستم بأحياء عاملين، ولا أموات مُستريحين، بل أنتم بين بين: في برزخ يُسمّى التنبّت، ويصح تشبيهه بالنّوم! يا ربّاه: إنّي أرى أشباح أناس يشبهون ذوي الحياة، وهم في الحقيقة موتى لا يشعرون.”[5]

الحواشي


[1] -عبد الرحمن الكواكبي، طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد، تحقيق وتقديم: محمد عمارة، دار الشروق، القاهرة، ط2، 2009، ص: 30.

[2] -المصدر نفسه، ص: 45.

[3] -المصدر نفسه، ص: 44-45.

[4] -المصدر نفسه، ص: 59.

[5][5] -المصدر نفسه، ص: 108.

*تنشر هذه المادة ضمن ملف صالون سوريا حول “المنعطف السوريّ”

مشروع لإحياء المدن الميتة في الشمال السوري

مشروع لإحياء المدن الميتة في الشمال السوري

على هيئة كائنات حيّة لها هيئة وتفاصيل تتحوّل صور المواقع الأثرية في لوحاته، حيث يعمل الصحفي أغيد شيخو على مشروع قوامه الحفاظ على المواقع التراثية الواقعة بين حلب وإدلب شمال سوريا والتي يعود تاريخها إلى القرن الرابع للميلاد، وتُعرف باسم “المدن الميتة”.

يوضح شيخو في حوار أجريناه معه أنه “كان من المهم أنسنة المواقع الأثرية في اللوحات عبر برامج تقنية وتقديمها على شكل طائر أو إنسان أو نبات دون إضافة أي عناصر خارجية من خارج الصورة، كل حالة حسب ما تستوجبه..الخيال هنا يلعب دوراً هاماً وطبيعة الموقع، الذي يتحول بالمحصلة إلى كائن حي له روح ومشاعر نتعامل معه كما نتعامل مع بعضنا كبشر، التعاطي مع الأماكن التاريخية لابد أن يكون بذات المستوى من الحساسية بهدف تقدير أهميتها وحفظها من الاندثار”.

“الكثير من المواقع التاريخية والقلاع والمعابد الأثرية تعرّضت في بعض أجزائها وهيكلها للخراب، نتيجة الحرب في سوريا ومن هنا انطلقت الفكرة، يوضح شيخو “المواقع الأثرية كانت واحدة من الأماكن التي التجأ إليها النازحون اضطراريا بهدف حماية أنفسهم ، ولكن هذا النزوح كان له انعكاس سلبي عليها بسبب قلة الثقافة والوعي وعدم المعرفة بماهية الأماكن وقيمتها التاريخية وأهمية المحافظة عليها، هذا فضلاً عن عمليات التنقب  العشوائي، كلّ ذلك أدى إلى تضرّر عدد كبير من المواقع الأثرية في الشمال السوري”.

يضيف شيخو “التخريب الذي تعرضت له المواقع الأثرية في الشمال السوري كان يحتاج لجهود جبارة لحماية التراث عبر الإضاءة على المواقع الأثرية والتأكيد على أهميتها عبر اللوحات، بأنها ليست عبارة عن حجارة عشوائية فقط، إنما هي كائنات لها روح وكينونة وشخصية، دائما نستخدم مصطلح روح المكان وهو ما أحببت تجسيده على هيئة كائنات مختلفة بشرية وغير بشرية”.

يعدّ الشمال السوري بيئة خصبة تزخر بالمواقع الأثرية والتاريخية.. وفي هذا السياق يوضح شيخو الأساس الذي اعتمده لاختيار بعض المواقع الأثرية دوناً عن غيرها.. “المناطق التي اخترتها أوشكت على الاندثار في الذاكرة السورية، عملي بالأساس سيكون بلا جدوى من دون وجود صور للمواقع الأثرية، عندما يكون للصورة مصدر أقوم بذكر الأرشيف أو المصور فهذا يعطي عملي قيمة إضافية، لابد من شكر الجهات أو الأشخاص الذين قاموا بالتصوير والتوثيق، معظم صور المواقع التي عملت عليها كانت لرحّالة أجانب أو مستكشفين زاروا المنطقة بفترة عام 1900 للميلاد”.

التحدي الأكبر بالنسبة له كان تقديم المواقع الأثرية برؤية شبابية، عبر نمط مختلف وجديد، يُعقّب الصحفي السوري ” اللوحات اعتمدت على صورة واحدة فقط للموقع الأثري، الصعوبة كانت أنه حتى لنفس الموقع لايوجد صورة من جانب آخر، لطالما تساءلت كيف أستطيع خلق شخصية بصورة واحدة فقط بشكل جديد لا يعيد نفسه، الشخصيات التي ابتكرتها نستطيع تسميتها دمى أو كرتوناً حسب رؤية كل شخص، هذه الكائنات ليست لها حدود وقادرة على وصف الفكرة ببعدها التاريخي والإنساني والمكاني”.

وحول الخلطة التي جمعت بين عمله الصحفي ومجالات التصميم والرسم يقول شيخو “شغفي بالفنون ليس جديداً، بداياته كانت عبر محاولاتي احتراف فن الزخرفة الإسلامية، كذلك حاولت تجربة أنماط أخرى من الفن، منذ بداية عملي في الصحافة كان لديّ اهتمام بالثقافة والتوثيق، نطّلع يومياً على كم كبير من المعلومات بحكم عملنا كصحفيين، وهو ما انعكس على المشروع حيث دمجت بين العمل الصحفي والفني، في الحقيقة الأمر كله أتى بمحض الصدفة ولم يكن عن تخطيط مسبق”.

وبالنسبة للمرحلة القادمة من المشروع يوضح شيخو “المشروع مستمر ولكنه في الحقيقة بحاجة لدعم كبير أنا أعمل عليه بجهود شخصية بحتة من دون أي تمويل، الخطوة الثانية في حال توفرت الإمكانيات المناسبة تحويل اللوحات إلى دمى حقيقية، وتوزيعها على الطلاب في مخيمات النزوح في الشمال السوري أو أهالي المنطقة، لتسهيل شرح تاريخ المواقع الأثرية عبر دمىً لها تاريخ وأحداث عاشتها، مما يسهم في حفظ التراث الهام للمنطقة من الضياع والاندثار”.

“أغيد شيخو” صحفي ومذيع سوري مهتم بالبحث والتوثيق يقيم في إسطنبول، من مواليد عام 1987، أنهى اختصاصه الجامعي في اللغة العربية وآدابها، ويتابع دراسته حالياً في قسم “التراث الثقافي والسياحة” في جامعة إسطنبول، في رصيده العديد من البرامج الإذاعية والتلفزيونية، ومنها برنامج “خبر نوستالجي”، كما شارك في عدد من المعارض الجماعية في جامعة حلب بمجال التصوير، وله عدد من المطبوعات في مجال توثيق الحياة العامة.

مظاهرات السويداء وعودة الروح المدنية

مظاهرات السويداء وعودة الروح المدنية

منذ منتصف مارس / آذار عام 2011، لم تفكّر الأصوات التي انطلقت في الشّوارع السوريّة، بحمل السّلاح من أجل التغيير، كان لدى أصحابها حلم بالحريّة. كانت أداة تعبيرهم الأبرز هي الهتاف ضدّ السلطة.

أصوات انطلقت من قهر العقود التي تسلّطت فيها عائلة واحدة على حكم البلاد، فانهمرت دون خوف، لتغير مسار التاريخ السوريّ والمنطقة. لم يكن ثمّة تخطيط للحالة التي وصلت إليها الأوضاع الأمنيّة لاحقاً، هذا ما يبدو، ولكنّ الجميع كان يدرك أنّ مصلحة النظام في سوريا هي أن تتسلّح الثورة، أن تتطرّف، أن تصبح شيئاً آخراً غير الثورة الشعبيّة.

وعلى مدى سنوات اكتسب فيها المجتمع وعيه السياسيّ الحرّ، كان يبدو ذلك بين حين وآخر في صور حراك شعبي هنا، ومظاهرات خجولة هناك.  بعد أن حصر النظام أغلب قوات المعارضة المسلّحة، في إدلب، شمال البلاد.

وعلى اختلاف تنوّع المناطق وتأثّرها بالحدث السوريّ، كانت حدّة التفاعل السياسيّ تظهر عبر منصّات التواصل الالكترونيّة، كردّ فعل على غياب العمل السياسيّ الميدانيّ على الأرض، بسبب القمع الأمنيّ والقتل العشوائيّ لكلّ من لا يؤيد أفعال النظام ضدّ معارضيه.

واليوم، هضم المجتمع في سوريا، كلّ أكاذيب السلطة وذرائعها لمنع التظاهر والثورة، وشهدت على ذلك مدينة السويداء، جنوب البلاد. إذ ومنذ أيام، لم يغادر أهل المدينة ساحات الاعتصام والتظاهر ضدّ النظام السوريّ، ورفع شعارات سياسية كانت هي السّيرة الأولى لثورة 15 آذار/ مارس 2011.

لقد استعاد الناس رغبتهم بالاحتجاج مجدداً ضد حكم النظام في سوريا، ترى ما الذي دفعهم للنزول مجدداً إلى الشارع في ظلّ الضغط الأمنيّ والاجتماعيّ الذي تعيشه البلاد؟

تواصل “موقع صالون سوريا” مع عدد من الناشطين في السويداء ومنهم شادي صعب، الذي أجابنا قائلاً: “نتيجة الاستعصاء الحاصل في العملية السياسية، وفشل اللجنة الدستورية في إيجاد مخرج للمسألة السورية. وقد ترافق ذلك بحالة خذلان عام بعد المبادرة العربية وانكفاء المجتمع الدولي عن إيجاد حلّ عادل للمقتلة السورية. كلّ ذلك ترافق مع حالة انهيار اقتصاديّ وقيميّ على المستوى المحليّ والوطنيّ في ظلّ انعدام أبسط مقومات الحياة والنجاة” بحسب رأيه.

ويضيف شادي خلال حديثه لـ “موقع صالون سوريا”: “إن السّياسات الاقتصاديّة الخاطئة التي انتهجها النظام والتي فاقمت من معاناتنا وضيّقت علينا خيارات الحياة، حولت المجتمع السوريّ لطبقتين متمايزتين؛ الأولى، أقلية مستفيدة من فساد النظام وعابرة لكلّ الطوائف والجغرافيّات، تنعم برغد العيش، تستثمر بالفساد والدم، غير مكترثة بصرخات المقهورين. بينما الثانية، طبقة الأكثريّة المسحوقة، كذلك العابرة لكافة الطوائف والجغرافيّات، والتي دفعت الفاتورة الباهظة لفساد البطانة الحاكمة واتجارهم بدمائنا تحت ذريعة الحصار والعقوبات الأمميّة!” على حدّ قوله.

هي أسباب برأي شادي صعب “لم تجهض الأمل بالتغيير السلميّ، رغم مرور السنوات”. ويتوافق مع تلك النظرة، مرهف الشاعر، وهو مسؤول عن “مركز إعلام الانتفاضة” حيث يرى أن “هناك حالة قهر واستبداد منذ عقود، مضافاً إليها تهميش سياسيّ وتدمير لمستقبل الشباب وتهجيرهم” حسب ما وصف لـ “موقع صالون سوريا”.

بينما تعتبر أريج عامر (اسم مستعار)، وهي أحد الذين يشاركون اليوم في مظاهرات السويداء، أن دافعها للنزول إلى الشارع كان يقوم على “المطالبة برفع الرواتب في ظلّ رفع الدعم الحكوميّ عن الوقود” والذي “سوف يلعب دوراً كبيراً بارتفاع الأسعار، وعدم قدرة المواطن على شراء أبسط مستلزماته اليوميّة من طعام وأدوية وطبابة وكلفة اتصالات”.

وتؤكد أريج خلال حديثها لـ “موقع صالون سوريا”: “أصبح راتب المواطن السوريّ لا يكفي أجرة مواصلات مع ارتفاع أسعار المازوت والبنزين. إضافة إلى انقطاع التيار الكهربائي، وانقطاع الماء بشكل كبير. أصبحت الحياة معجزة حقيقية بعد اثني عشر عاماً من النزاع، جميع شرائح المجتمع من معارضين وموالين، هي تحت خط الفقر” حسب تعبيرها.

أمّا رانيا ياسر (اسم مستعار)، وهي محامية وناشطة، تقول إنها نزلت إلى الشارع من أجل “إسقاط النظام” والمساهمة “كمحامية في ترسيخ العدالة وسيادة القانون وبناء الدولة الديموقراطية المتعددة”.

وتضيف خلال حديثها مع “موقع صالون سوريا”: “إننا ننادي دائماً بوطن حرّ، كريم، ومعافى لجميع السّوريين على اختلاف مشاربهم. لقد كانت انتفاضة السويداء وكنّا في الساحات نحلم بدولة ينال فيها السّوريون حقوقهم التي لن تتحقق إلا برحيل هذا النظام”.

طبيعة القوى

يروي شادي صعب بالتفاصيل كيف عادت المظاهرات إلى الشارع ومن كان خلفها، يقول: “اندلعت الانتفاضة في السويداء صباح الخميس 18 آب/أغسطس 2023، بشكل عفويّ، وذلك ردّاً على القرارات الجائرة التي اتخذتها الحكومة ليلاً برفع الدعم وزيادة أسعار المحروقات بنسبة 250% بشكل غير منطقي. وجاءت ردّة فعل المجتمع المحليّ في السويداء بقطع طريق دمشق السويداء في عدة قرى وبلدات، وتجمع المواطنون/ات بشكل عفويّ قبيل الظهر في ساحة الكرامة، للتعبير عن حالة الرفض ونفاذ الصبر لديهم، ووجهوا دعوة عامّة لكافة القوى الوطنيّة والاجتماعيّة للمشاركة في الإضراب العام صباح يوم الأحد 20 آب/أغسطس 2023، وسط ساحة الكرامة، موجهين دعوة للتجار في مدينة السويداء لإغلاق المتاجر ومشاركة أبناء مجتمعهم همّهم وحراكهم”.

ويضيف شادي في حديثه لـ “موقع صالون سوريا”: لاقت دعوة الإضراب يوم الأحد قبولاً واسعاً لدى تجّار مدينة السويداء. أغلقت المحال التجارية بشكل كامل، كما شاركت مختلف الشرائح الاجتماعية في الوقفة الاحتجاجيّة وسط المدينة في صورة فريدة من نوعها”.

وفي إشارته لطبيعة القوى السياسية المشاركة، يقول شادي: “تعتبر القوى السياسيّة والديموقراطيّة للانتفاضة هي الحوامل الأساسية للحراك في السويداء، مثل “الهيئة الاجتماعيّة للعمل والوطنيّ” و “تجمّع القوى الوطنيّة” وغيرها من الكتل السياسية المعارضة. كذلك “تجمّع أحرار جبل العرب” بقيادة الشيخ “سليمان عبد الباقي”، و”قوات شيخ الكرامة” بقيادة ليث البلعوس، وعدد من منظمات المجتمع المدنيّ وتجمع المحامين الأحرار.

ويؤكد شادي أن الثقل الأكبر في الحراك كان بيان الرئيس الروحيّ لطائفة المسلمين الموحدين الدروز، الشيخ حكمت الهجري. حيث وصف موقفه بأنّه “غيّر كافة الموازين، حيث انهالت البيانات المؤيدة لمطالب المحتجين، ولعلّ أبرز تلك المواقف كان موقف حركة “رجال الكرامة” التي أكّدت دعهما ومشاركتها في الحراك وأعلنت جاهزيتها لحماية المنتفضين في الساحة”.

ولا تشك رانيا ياسر، أثناء حديثها لـ “موقع صالون سوريا” بأهمية مشاركة رجال الدين والمرجعية الدينية لها، لما لها من “احترام أمام الأهالي” لقد كانت أصوات المحتجين واضحة، ليست بحاجة إلى بيان، وإن استمرار وجود المشايخ بين الحشود “يكسب الحراك قوة، ودعم الرأي العام والذي ينعكس بشكل إيجابيّ على مستقبل الانتفاضة في السويداء، خصوصاً، وفي الثورة السورية، عموماً” على حد تعبيرها.

وكما تؤكد أريج عمار على تنوّع المشاركين في مظاهرات السويداء، وحسب ما قالته لـ “موقع صالون سوريا”: “كانت المشاركة جنباً إلى جنب بين عشائر الجبل ورجال الدين، وكذلك ثمّة مدنيون ونخب ثقافية إلى جانب فقراء الوطن. وظهرت أيضاً مشاركة ملفتة لحرائر السويداء، كانت ساحة الكرامة مليئة بكل الأطياف والأعمار، كباراً وصغاراً ونساءً وأطفالاً ويافعين”.

وتعتبر أريج أن مشاركة رجال الدين باحتجاجات السويداء هي جزء من قوّة الحراك “بعيداً عن الطائفية” لأن “لسان حالهم هو حال كلّ السّوريين، لسان الإنسانيّة، فكلّنا بشر. الدين لله والوطن للجميع، وهنا أذكر كيف ملأت السماء جملة واحد (واحد واحد الشعب السوري واحد)” على حد قولها.

ويرى مرهف الشاعر أن الانتفاضة الآن “شعبية جامعة” وفيها “قوى ناشئة كحركة الشبيبة الثورية” و “المحامين الأحرار” و “المهندسين الأحرار”.

ومع وجود طيف ديني في هذا الحراك، لا يخشى شادي صعب أن يكون هناك “تأثير سياسي” حسب ما قال لـ “موقع صالون سوريا”. إذ يؤكد أن “رجال الدين الداعمين للحراك هم يعبرون عن مطالبهم كمواطنين لهم حقوق ولا يتواجدون بصفتهم أصحاب مشروع دينيّ، ومشاركتهم المختلفة لها ثقلها وتأثيرها في تغيير المزاج العام للمجتمع المحليّ”.

وحول الانتقادات التي وجهت للحراك حول استخدام الرايات الدينية الخاصة بالطائفة الدرزية والمتمثلة براية التوحيد، فمن وجهة نظر شادي “أن ذلك لا يحمل أي بعد طائفي، هي هوية محلية تمثل أبناء المحافظة، لأنه من حق المجتمعات المحلية أن تعبر عن هويتها الخاصة وأن تنضوي تحتها في ظل العجز الحالي عن إنتاج مشروع وطني وهوية وطنية جامعة لكلّ السّوريين”.

ومن جهة أخرى، يرى مرهف الشاعر أن التأثير الديني في الحراك غير موجود “بمعناه المتطرف أو الإقصائيّ أو حتى الدينيّ التبشيري”.

وأكد مرهف لـ “موقع صالون سوريا” أن “رجال الدين يمارسون دوراً اجتماعياً مرتكزاً على مجموعة أعراف وعادات وتقاليد تدعم مطالب الناس، ولها تأثير إلى حد ما في ذهنية الناس، وبالأخص تلك اللحظات التي تتطلّب وقفات إنسانية” بحسب تعبيره.  

ومن هنا، يعتقد مرهف أن “رجال الدين المسلمين الدروز كان لهم دور في دعم الحراك المدني وجعلهم يتنفسون الصعداء، وذلك بعد أن كانت السلطة الحاكمة في سوريا تؤثر على تيار منهم وتحتكرهم تحت عباءتها”.

العُنف المنتظر

لا تخفي أريج عمار قلقها مع تجارب العنف التي شهدتها سوريا ضد المتظاهرين “خصوصاً إشاعات دخول تنظيم (داعش) الإسعافية للنظام، أو عمليات الاغتيال والتفجيرات المترافقة مع أي حراك داخل السويداء، لكن هذا لا يلغي إصرار المحتجين على النزول إلى الشارع في وقت ليس فيه ما يخسرونه سوى كرامتهم والتي هي خط أحمر”.

وتعتبر أريج خلال حديثها لـ “موقع صالون سوريا” أن “خروج بقية المدن السورية إلى المظاهرات هو حافز لاستمرارية الحراك في السويداء”.

فيما يعوّل شادي صعب على ما سمّاه “خصوصية محافظة السويداء” وذلك خلال عقد من النزاع على آلية التعاطي من قبل سلطات الأمر الواقع، وخاصة مع الاحتجاجات وحالات العصيان. ونتيجة “المعادلات الصعبة في الجنوب وضبابية المواقف الدولية والإقليميّة، أعتقد أنه من الصعب استخدام القوة المفرطة من قبل النظام السوريّ في قمع التظاهر وإنهاء حالة الانتفاضة”.

ويؤكد شادي خلال حديثه لـ” موقع صالون سوريا”: “أن استمرارية الحراك وديمومته ليست مقتصرة على حالة عدم استخدام العنف فقط من قبل سلطات الأمر الواقع، دون رؤية استراتيجية واضحة للحراك، وفي ظلّ غياب تكتيكات جديدة ومتنوعة للمقاومة المدنية غير الاحتجاج اليومي في السّاحات، وفي حال عزوف باقي المدن السورية عن المشاركة، سيكون حراك السويداء معزولاً ويختنق داخل جغرافيته” على حدّ وصفه.

وترى أيضاً رانيا ياسر، أن هناك “خصوصية لمدينة السويداء وأن أي تصعيد من قبل النظام السوري سوف يقابله ردّ من قبل الفصائل التي كسبت في هذه الجولة تأييد رجال الدين مع التأكيد على سلمية الحراك منذ البداية”.

ظل ثورة 2011

تشكل “انتفاضة السويداء” حسب ما يسميها من قابلهم “موقع صالون سوريا”، امتداداً للثورة السورية التي انطلقت في 15 آذار / مارس عام 2011. والتي بدأت بمطالب إصلاحية شاملة ما لبث أن اتجهت إلى رفع سقف المطالب من الخدمية إلى السياسية.  

وهذا ما أكدّه شادي صعب، الذي أشار أنه في البداية كانت “المظاهرات عبارة عن احتجاج على قرارات الحكومة الأخيرة، ثمّ أصبحت تطالب باستعادة المال العام المنهوب ومحاسبة الفاسدين، لتنتقل في وقت قصير إلى إسقاط النظام والمطالبة برحيله، والمطالبة بجلاء كافة الاحتلالات عن الجغرافيا السورية” حسب تعبيره.

فيما كانت بعض المطالب “نوعية” كتطبيق القرار الأممي 2254، والمطالبة “بالانتقال السلمي الديمقراطي للسلطة، وإطلاق سراح المعتقلين”. وتطورت الشعارات لإسقاط “الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة، المهيمن عليه من قبل جماعة الإخوان المسلمين وتركيا، والذين سرقوا حلم السوريين سابقاً” على حد قول شادي.

وإضافة إلى ذلك، قال مرهف الشاعر إن أحد المطالب كانت تتجه نحو “تطبيق لامركزية إدارية في محافظة السويداء، وفتح معبر باتجاه الأردن”.

كما أجمع كلّ ما تحدثوا لـ “موقع صالون سوريا” أن مظاهرات السويداء تجسيد جديد لثورة آذار/مارس 2011 من خلال طبيعة الشعارات والمطالب التي برزت في دوامة الاحتجاجات “كأن الزمن توقف عند تلك اللحظة” حسب ما يقول شادي صعب. ومن خلال “نضوج الوعي السياسيّ” حسب ما تصف رانيا ياسر، وكذلك وجود بصمة جديدة من “رسائل التطمينات الجامعة مع رفع أعلام الثورة وعلم السلطة وراية التوحيد لنقول إننا نريد كلّ السوريين ضد هذه السلطة” حسب قول مرهف الشاعر.

لقد كانت الاثنا عشر عاماً الماضية “فرصة للنظام للإصلاح والتغيير ولإجاد الحلّ السياسيّ، ومحاربة الفساد ورفع مستوى المعيشة لكن ما حدث هو العكس تماماً، ونفذ صبر السّوريين وصار صوت الشارع هول الحلّ” حسب تعبير أريج عمار.  

وأخيراً يختم شادي صعب: “إن جلّ المشاركين في المظاهرات، هم من جيل الشباب الذين كبروا خلال عقد من النزاع “يصدحون بنفس الأهازيج والشعارات ويحييون باقي المدن السورية ويؤكدون على وحدة الدّم السوريّ في ظاهرة تؤكد أن النهايات المكتوبة بالدم وبسلب حقوق الشعوب هي بدايات مزهرة لجيلٍ جديد يرفض ما كتب وقرر أن يعيد البدايات كما يشتهي”.

يمكن مشاهدة عدة فيديوهات تغطي مظاهرات السويداء على قناة صالون سوريا على اليوتيوب هنا.

ذاكرة الناس تُباع في الأسواق السورية

ذاكرة الناس تُباع في الأسواق السورية

 قبل عام 2011  كان الاقتصاد السوري من أكثر اقتصادات الدول النامية تنوعاً، حيث كانت سوريا تنتج أكثر من 80% من غذائها وأدويتها وتُصدر الفائض منها إلى أكثر من 60 دولة، كما كانت من بين البلدان الخمسة الأولى عالمياً في إنتاج القطن وتربية الأغنام والأبقار، ويترواح إنتاجها من الحبوب بين 3،5 إلى 6 ملايين طن سنوياً، وهو ما يزيد عن حاجة السوق المحلية، فيما يصل إنتاجها من النفط إلى حدود 45 ألف برميل يومياً، هذا إلى جانب أنها كانت قبلة لملايين السياح من حول العالم، إذ وصل عددهم عام 2010 إلى أكثر من 8 ملايين سائح. 

ذلك الاقتصاد، الذي لم تُبق منه الحرب وتبعاتها  أي شيء يُذكر، بات اليوم يحتاج إلى معجزة لكي يتعافى، وذلك في ظل تراجع حجم الإنتاج المحلي في شتى المجالات، خاصة الإنتاج الزراعي والصناعي، وتراجع حجم الصادرات بشكل كبير، وغياب الاستثمارات، هذا إلى جانب توقف مئات المصانع والمعامل عن العمل، وهجرة آلاف الصناعيين -الذين نقلوا أعمالهم إلى الخارج- وأهم الخبرات والكفاءات الاقتصادية ورجال الأعمال والأيدي العاملة الماهرة.

ورغم أن تدهور الأوضاع الاقتصادية والمعيشية في البلاد مستمر منذ سنوات وبشكلٍ متصاعد، أدى لانحسار وجود الطبقة الوسطى وازدياد نسبة طبقة الفقراء، إلا أن ما جرى خلال الشهرين الماضيين كان الأشد قسوة على معيشة الناس، مقارنة بسنوات الحرب وما بعدها، حيث  تصاعد سعر صرف الدولار من 7 آلاف ليرة إلى أكثر من 14 ألفاً، علماً أن سعر الدولار  مقابل الليرة قد تضاعف بنحو 280 ضعفاً بين عامي 2011 و 3023، فيما وصلت معدلات التضخم، وفق بعض المصادر، إلى 16137،32 بالمئة مع بداية العام الحالي. وفي ظل ذلك كله، أصبح اليوم متوسط دخل الموظف الحكومي أقل من تسعة دولارات، وهو يكفي فقط لشراء ثلاثة كيلو لحم فروج، أو 6 كيلو أرز، أو 6 كيلو عدس، أو أربعة ليترات زيت نباتي من أسوأ الأنواع، فيما لا يكفي لشراء كيلو لحم خاروف.

وبحسب بعض الدراسات الحديثة باتت الأسرة المكونة من خمسة أفراد تحتاج اليوم إلى نحو 6.5 مليون ليرة  لشراء متطلبات المعيشة الأساسية، ووفق بعض التقديرات المتعلقة بمستويات المعيشة الحالية فإنه يجب أن يتجاوز دخل الموظف الحكومي الستة ملايين ليرة شهرياً لكي يقترب من حجم القوة الشرائية لعام 2010.  وبالنظر إلى حجم دخله الحالي سيحتاج الموظف الحكومي اليوم، إذ ما ادخر كامل دخله الشهري، إلى نحو 150 عاماً (قرن ونصف) ليتمكن من شراء بيتٍ في مناطق العشوائيات، فيما سيحتاج إلى أكثر من ست سنوات ليتمكن من شراء برّادٍ منزلي، علماً أن سعر البرّاد (متوسط الجودة) حالياً يعادل سعر ثلاثة شقق سكنية في ريف دمشق عام 2010. 

ورغم أن القدرة الشرائية معدومة أصلاً عند معظم الناس، بعد أن تضاعفت أغلب الأسعار نحو 161 ضعفاً  بين عام 2011 وبداية عام 2023، إلا أن قفزات أسعار السلع الأساسية تتالت خلال الأسابيع الماضية لترتفع إلى أكثر من 70 % وتزيد من مأساة وأوجاع الشعب المهدد بلقمة عيشه.

هذا الواقع جعل عائلة الموظف عدنان (45 عاماً)، التي لجأت لسياسة تقشف مالية قاسية، تتخلى عن معظم عاداتها المعيشية بما فيها طقس شرب الشاي، وعن ذلك يحدثنا عدنان: “منذ سنوات اعتدت وعائلتي شرب الشاي ثلاث مرات يومياً، لكن هذا الطقس بات يكلفنا اليوم كامل دخلي الشهري (115ألف ليرة) من وظيفتي الحكومية، فهو يحتاج شهرياً لأربعة كيلو سكر (حوالي 65 ألف ليرة) ونحو 400 غرام شاي (60ألف ليرة)، لذا تخلينا عنه واستبدلناه بشرب النعناع -الذي نزرعه على الشرفة مرة واحدة يومياً مع إضافة بضع ذراتٍ من السكر في حال توفره”.

وإلى جانب عمله الوظيفي يعمل عدنان في المساء ولنحو ثماني ساعات سائقاً لسيارة أجرة، لكن عمله هذا لا يلبي ربع الحاجات المعيشية لعائلته، حيث تراجع دخل تلك المهنة بشكلٍ كبير، نتيجة شراء الوقود من السوق السوداء وارتفاع تعرفة النقل التي بات معظم الناس يعجزون عن دفعها.

وبالإضافة لمشروب الشاي، أصبحت القهوة، التي تُعد من أهم المشروبات اليومية، تغيب عن بيوت كثير من الناس، الذين باتوا يشربونها بتقشفٍ شديد، ويشترونها بكمياتِ قليلة قد تقل عن 100 غرام، حيث وصل سعر كيلو القهوة الجيدة إلى ما بين 130 و 160 ألف ليرة. وقد انتشرت في الأسواق بعض أنواع القهوة المغشوشة التي يضاف إليها مواد أخرى، مثل نواة التمر والقضامة والخبز اليابس، وذلك في محاولة لتخفيض سعرها (سعر الكيلو أكثر من 80 ألف) الذي بقي مرتفعاً ولا يتماشى مع القدرة الشرائية للفقراء.

سوء التغذية يهدد صحة الناس 

بحسب أحدث تقارير برنامج الأغذية العالمي فإن أكثر من نصف سكان سوريا يعانون اليوم من انعدام الأمن الغذائي، وهو ما وضعها في صدارة البلدان التي تواجه أعلى معدلات انعدام الأمن الغذائي في العالم، ما يعني أن معظم الناس باتوا يعانون من سوء التغذية الحاد، الذي يجعلهم عرضة للعديد من الأمراض مثل فقر الدم، الكساح، هشاشة العظام، الاكتئاب، تضخم الغدة الدرقية وضعف المناعة، كما يؤثر بشكل كبير على صحة النساء الحوامل والمُرضعات وعلى نمو الجنين، ويهدد الصحة الجسدية والنفسية للأطفال الذين سيكونون عرضة لأمراض الهزال والتقزم، إلى جانب الإعاقات العقلية وصعوبات التعلم.

ولأن 90 % من الناس يعيشون  اليوم تحت خط الفقر، فإن معظمهم باتوا محرومين من تناول أبسط الأطعمة الصحية، التي يحتاجها الجسم السليم، خاصة اللحوم الحمراء (كيلو لحم الخاروف 130 ألف ليرة) ولحم الفروج (الكيلو بين 30 و50 ألف ليرة)، وقد باتت محلات بيع اللحوم تقلل من حجم الكميات المعروضة للبيع خوفاً من تعرضها للتلف، بعد تراجع نسبة الإقبال على شرائها، فيما غاب الفروج المشوي عن معظم المطاعم، لينحسر بيعه في أماكن محددة بعد أن تجاوز سعره السبعين ألف ليرة. وبينما كان بعض الناس يستعيضون عن تناول الأسماك (سعر كيلو السمك البحري بين 70 و200 ألف ليرة) بتناول السردين المعلب، فإن هذا الأمر لم يعد متاحاً اليوم، بعد أن وصل سعر علبة السردين إلى10 آلاف ليرة، وعلبة التونة إلى 20 ألف ليرة.

وإذا كان بعض الفقراء قد استبدلوا اللحوم بالبقوليات والحبوب، التي تمد أجسادهم ببعض القيم الغذائية، فإن الكثير منهم باتوا اليوم عاجزين عن شرائها، حيث وصل سعر كيلو العدس إلى عشرين ألف ليرة، والبرغل إلى أكثر من 12 ألف ليرة، والحمص إلى 15 ألف ليرة، فيما تجاوز سعر كيلو الفاصولياء اليابسة الـ 25 ألف ليرة. وفي المطاعم الشعبية التي كانت قبلة الفقراء، وصل سعر صحن الفول أو الحمص إلى 10 آلاف ليرة، وسعر الكيلو من تلك المادتين (مع إضافة صلصة اللبن أو الليمون والثوم) إلى 20 ألف ليرة.

أما الخضار والفاكهة فقد غادر بعض أنواعها موائد الكثير من الفقراء، فعلى سبيل المثال وصل سعر كيلو الفاصولياء الخضراء والبامية إلى نحو 15 ألف ليرة، وتخطى سعر الليمون  حاجز العشرة آلاف ليرة، فيما تراوح سعر بعض أنواع الفاكهة، كالخوخ والإجاص والتفاح والعنب، بين 8 و12 ألف ليرة. أما الكرز والتين والموز، التي وصل سعرها إلى 20 ألف ليرة، فقد باتت تتواجد في الأسواق بكميات قليلة وتباع في بعض المحلات التي يرتادها الزبائن الأثرياء.

ويعود ارتفاع أسعار الخضار والفاكهة غير المبرر، إلى مجموعة عوامل منها: ارتفاع أسعار الأسمدة والمبيدات وتكاليف النقل بين المحافظات، صعوبة توفير المحروقات وارتفاع أجور العمالة، وانتشار أزمة المياه، التي أجبرت كثيراً من الفلاحين على شراء صهاريج الماء بأسعار كبيرة، هذا إلى جانب فتح أبواب التصدير الذي ساهم بارتفاع الأسعار محلياً، فعلى سبيل المثال وصل سعر كيلو الثوم بعد تصديره إلى 25 ألف ليرة، وهو ما حرم معظم الناس من شرائه بغرض المؤونة.

بيع الممتلكات لتأمين لقمة العيش

” خلال العام الحالي بعتُ كل ما تملكه زوجتي من مصاغٍ ذهبي، في محاولة لمقاومة الفقر وتأمين لقمة عيشنا، فالبقالية التي أعمل بها منذ سنوات لم تعد تحقق أية أرباح تذكر ولا تعود عليَّ سوى بمزيدٍ من الخسائر، في ظل ارتفاع الأسعار- الذي قلص حجم رأس المال وتراجع القدرة الشرائية. وخلال الشهرين الماضيين، ومع تدهور الأوضاع المعيشية بشكل غير مسبوق  وصعوبة إيجاد عملٍ بديل يحقق أبسط متطلبات المعيشة، أُجبرت على بيع خاتم زواجنا الذي لم يُغادر إصبع زوجتي طوال عشر سنوات”. هذا ما يقوله خليل (45 عام/ أب لثلاثة أبناء) عن واقعه المعيشي الذي استهلك جميع مدخراته، مضيفاً بحسرة وألم: ” في الأسبوع الماضي وبعد عجزي عن دفع إيجار البيت (400 ألف ليرة شهرياً) لمدة شهرين، اضطررت لإعطاء صاحب البيت  بعض الأثاث المنزلي (تلفاز، أسطوانة غاز، مروحة، خمسة كراسي بلاستيك) كتعويض عن مبلغ الإيجار”.

  خليل هو واحد من آلاف الناس الذين أجبرهم تردي الواقع المعيشي على بيع مدخراتهم وأثاث بيوتهم. ففي محلات بيع الأثاث المستعمل ستشاهد المفروشات والخزائن وأدوات المطبخ والقطع الكهربائية تتكدس فوق بعضها بشكل يفضح حجم الألم، وكأن ذاكرة الناس تباع في الأسواق. ويحدثنا أبو معتز (54 عام/ صاحب محل لبيع الآثاث المستعمل) عن طبيعة مهنته في ظل الظروف الحالية: “فيما مضى كان الناس يبيعون بعض الأثاث القديم (خزائن، أَسرَّة، كنبايات، برادات وغسالات) بغرض استبداله بأثاثٍ جديد، أما اليوم فقد بات الكثير منهم يبيعون كل ما يمكن بيعه، بما في ذلك الأشياء التي لا يمكن الاستغناء عنها. فإلى جانب المفروشات والكراسي وأسطوانات الغاز والأدوات الكهربائية (خلاط، مكنسة ، مروحة ، مكواة.. الخ) يضطرون لبيع البطانيات والطناجر والصحون والفناجين وجميع أدوات المطبخ”. ويضيف “كل يوم يأتينا من يعرض أغراضاً يُمكن بيعها مباشرة أو وضعها برسم البيع، حتى ولو حصل على ثمنها بالتقسيط. وقد استغنى كثير من الناس عن بعض القطع الثمينة (أطباق القيشاني والخزف، النحاسيات، التحف والأنتيكا وغيرها) التي كانوا يفاخرون باقتنائها، كونها تحظى بقيمة فنية أو أثرية، ليبيعونها بأثمان بخسة لا تراعي قيمتها”.

 وإلى جانب بيع المدخرات والأثاث المنزلي يضطر بعض الناس لبيع ثيابهم وأحذيتهم، التي كانوا يوزعونها على الفقراء فيما مضى، إلى محلات البالة وبسطات بيع الألبسة، التي صار بعضها يعتمد على البضائع المحلية المستعملة، بعد ارتفاع تكاليف استيراد الثياب الأوربية وارتفاع أسعار بيعها في الأسواق وعجز كثير من الناس عن شرائها.

هل هناك حلول؟

عند سؤال البعض عن الحلول الاقتصادية الممكنة في سوريا وكيف ينظرون إلى المستقبل، أجاب معظمهم  بكلمات مقتضبة، سوداوية وتشاؤمية، أو تحمل طابع السخرية المفرطة. المهندسة المعمارية نسرين، التي عجزت عن تكوين تصور واضح لأي حلٍ يمكن أن يضع حداً لتردي الواقع المعيشي، اكتفت بتوصيف معاناتها طيلة السنوات الماضية: “حين بدأت الحرب في سوريا كنت في الخامسة والعشرين من عمري، اليوم أصبح عمري  37 عاماً، المرحلة الذهبية من شبابي ضاعت وأنا ألهث باحثةً عن فرصة عملٍ مناسبة وعن تأمين أبسط متطلبات المعيشة ومقومات الحياة البشرية. نفذ صبري في انتظار أمل ما أو حلٍ لا يبدو أنه سيأتي قريباً، حتى صرت أشعر بالكره تجاه هذه البلاد وأحقد عليها”.

من جهته يرى الفنان التشكيلي منيار (34عام) أن تحسن الواقع المعيشي بات مستحيلاً في الأمد القريب، وسيزداد سوءاً مع قادم الأيام، في ظل غياب جميع مقومات الاقتصاد. ويضيف: “يجب على العالم ومنظمات الأمم المتحدة إيجاد حلٍ يوقف مأساة  الشعب السوري، وهذا الأمر يحتاج إلى حل سياسي ينهي وجود القوى الخارجية في سوريا، ويتيح إمكانية البدء في إعادة الإعمار وترميم البنى التحتية و فتح أبواب الاستثمارات”.

منيار الذي حرمه واقعه المعيشي من تحقيق حلمه الفني، ينتظر وعائلته بيع بعض ممتلكاتهم(منزلٍ أو قطعة أرض) لجمع مبلغ مالي يساعدهم على السفر نحو الخارج.

قبل أيامٍ قام جاري ببيع منزله، الذي بناه وأثَّثه بعناية فائقة، بنصف سعره الحقيقي، ليسافر مع عائلته إلى أربيل على أمل مغادرتها فيما بعد نحو أوروبا. ورغم أن جاري يُعد من ميسوري الحال، إلا أنه عجز عن مواصلة العيش في هذه البلاد، التي رفض مغادرتها طوال سنوات الحرب، رغم الخطر والموت، إذ كان يعشق دمشق بشكل جنوني ويشعر بانتماءٍ كبير نحوها، لكنه غادرها اليوم، وهو على أبواب السبعين من عمره، دون أن يشعر بأي حزنٍ أو أسف.

وجوه أخرى للتحرش

وجوه أخرى للتحرش

عبر وسائط النقل وفي داخلها تحدث عمليات تحرش مباشرة وغير مباشرة، ويتم التعامل معها بالصمت غالباً، وكم اضطرت نساء وفتيات لمغادرة وسائط النقل لعجزهن عن لجم أو رد واقعات التحرش ومحاسبة المتحرشين. تخاف النساء من المواجهة غالباً، والأكثر مدعاة للأذى هو تحميل المجتمع والضحايا لأنفسهن المسؤولية الكاملة عن وقوع التحرش.

على أحد مواقف الحافلات تتوقف سيارة خاصة حديثة وبحالة جيدة، يشير السائق لسيدة داعياً إياها لتستقل سيارته، بات المشهد طبيعياً في ظل زحمة المواصلات الخانقة، حتى أنه صار دارجاً ومقبولاً (رغم تحفظ البعض) أن تطلب بعض النساء من أصحاب أو سائقي السيارات العابرة التوقف، وخاصة في بعض المناطق المزدحمة أو المقطوعة والتي تنعدم فيها حركة المواصلات، عدا عن ارتفاع كلفة أسعار سيارات الأجرة بصورة غير قابلة للدفع أو حتى للتقبّل.

 لم تتردد السيدة بالصعود، كانت المرأة الوحيدة على الموقف وقدرت أن صاحب السيارة قد تعاطف مع وقوفها طويلاً في منطقة مزدحمة جداً، كما أن تطابق وجهتيهما شكل دافعاً قوياً ومطمئناً لتشاركه رحلته.

فور صعودها، عرّف الرجل عن نفسه، منح نفسه لقب المهندس وصرّح باستعراض مبالغ به: بأنه صاحب مكتب سياحي للرحلات الداخلية والحجوزات الفندقية. كان التقديم سخياً، يوحي بالاكتفاء وبالنزاهة، لكن المرأة شعرت بأن هذه المقدمة كانت فخاً، هي وبشكل شخصي لا تحب المكاتب السياحية ولا أصحابها، تعرف تماماً أن نشاط بعضها يتجاوز وظيفته الحقيقية، والأهم أنها غير مضطرة للتصديق. عرفت عن نفسها وعن عملها أيضا، لكنه قام فوراً بطلب رقم هاتفها مؤملاً إياها باستعداده لأي خدمة تطلبها خاصة وأنها امرأة وحيدة، أعلنت أنها ليست وحيدة أبداً! باتت كلمة وحيدة مدخلاً للتطفل، لفرض طلبات تبدو للمساعدة أو المساندة، لكنها في الحقيقة فخ ينصب شراكه المتلاعبون.

لم يغيّر جوابها شيئاً، أصّر وبسرعة على طلب رقم الهاتف فاعتذرت، أوقف سيارته على يمين الطريق وقال لها تفضلي! كان يقصد تماماً طردها! سألته بغضب: هل كانت الدعوة لمرافقتك إلى ذات الوجهة من أجل المساعدة أم من أجل رقم الهاتف؟ رد صارخاً وهو يشير لها بالمغادرة: (أنا ما بحب النسوان يلي بتستشرف علي)!

ثمة صورة نمطية يساهم الرجال في تعميمها وهي أحقية الأغنياء بالتحرش، وأحقية الشباب أو الأصحاء بالتحرش، يبدو أن كبار العمر وأصحاب الاحتياجات الخاصة والفقراء لا يحق لهم جميعاً التحرش، فهم وببساطة لا يملكون ما يمنحونه، هكذا يميل الجميع للتعبير مع أن هذا يتعارض قيمياً مع رفض المتحرش مهما كان وضعه المادي أو سنه أو شكله.

على زاوية ساحة شهيرة يتلاعب سائق ميكرو قديم الصنع بالأضواء في عز النهار، كان يقصد سيدة بعينها تقف بانتظار واسطة نقل، سخر رجلان واقفان من هزالة الموقف، قالا لبعضهما: ميكرو مهتري وعم يغمّز كيف لو معه مرسيدس! كان للسيدة رأي مختلف ولكنه مهين أيضاً: “زمّك (يعني قصير ونحيل القامة) وختيار على عيبه”! ابتعد الجميع عن إدانة التحرش المباشر عبر الدعوة غير المبررة من السائق لسيدة لا يعرفها، اتفقوا جميعهم على تقزيم السائق المتحرش وكأنه خارج دائرة من يحق له التحرش، وكأن التحرش فعل قوة لا يملكه إلا الأكفاء على فعله. يبدو أن المجتمع يبارك علناً التحرش لكن لمن يملك حق التحرش، إنها لمصيبة كبرى! كان بودي سؤال السيدة المعترضة على شكل الرجل والرجلين الساخرين من الباص الذي يقوده ذاك المتحرش عن موقفهما من التحرش ومن الرجل ذاته إذا ما تغير شكله أو عمر ونوع الحافلة التي يقودها.

ثمة مصيبة أخرى تحمي المتحرشين، وهي اتهامهم جميعاً بأنهم مرضى نفسيين، أي وبصريح العبارة فهم لا يتحملون نتائج تحرشاتهم ولا اعتدائهم الواقع مباشرة على النساء دون أي تفكير أو رادع. إن تعميم نظرية المرض النفسي هي محاولة فاشلة لحماية المتحرشين وإفلاتهم من العقاب، فلماذا لا تقع آثار أمراضهم النفسية إلا على النساء! وعلنا وفي الأماكن العامة وكأن النساء مستباحات بمجرد وجودهن في الفضاء العام، وكأن الرجال وحدهم من يحق لهم التحكم بالفضاء العام وممارسة كل الانتهاكات القانونية والاجتماعية والأخلاقية فقط بسبب هويتهم الاجتماعية! إن فائض القوة الذي يتربى الذكور متسلحين به يمنحهم قوة ودافعاً للتحرش دونما أي توقع للردع أو للعقاب.

يجلس الرجل على المقعد الجانبي، يضع على ركبتيه كيساً من النايلون الأسود، لا يسمح ضيق الحافلة بالتخلص من احتكاك ركبتيه بركبتي السيدة المجاورة له، لكنها لوهلة شعرت أن ثمة ما هو أبعد من مجرد احتكاك فرضه ضيق المكان، بخفة حاسمة مدت يدها والتقطت يده التي يلامس بها فخذ السيدة متخفياً بكيس النايلون. أمسكت السيدة بيده الآثمة، حاول سحب يده لكنها شدت عليها وصفعت وجهه بيده، ثم صرخت بالسائق ليتوقف فلم يستجب، حاول الرجل اتهام السيدة بالجنون وبأن لها خيالاً مريضاً، قال لها بثقة: “استحي على عمرك.” كان يقصد أنها في سن تجاوزت فيه التحرش بها، وكأن التحرش فضيلة أو وسيلة لتثبت المرأة لنفسها أنها جميلة أو تستحق التحرش! تناقض مرعب تفرضه حزمة من المغالطات، كأن تقول امرأة لرجل يتحرش بها: “عيب عليك أنا في مثل عمر والدتك”، وكأن للتحرش سناً أو عتبة أو مبرراً! غضبت السيدة بشدة، صفعته بيديها الاثنتين وقالت له: “لن أسمح لك بلمسي، حتى لو كنت عجوزاً، من قال لك بأنني أنتظر شهادتك لتثبت بأني امرأة!”

يتحول الازدحام إلى مناسبة سانحة تسهّل التحرش، يستغله البعض لممارسة التحرش الجسدي المباشر خاصة وأن التهرب منه أو نفيه سهل ومبرر ويمكن عزوه إلى الازدحام لا غير. في الباص الكبير يمرر شاب متحرش كف يده على فخذ شابة واقفة أمامه، تشعر بذلك، يتضرج وجهها باللون الأحمر من شدة الخجل، تحاول تغيير وضعية وقوفها لكن الازدحام الشديد لا يسمح لها بذلك والمتحرش لا يتوقف عن التحرش، بل يمنحه ارتباك الصبية ومحاولة الدوران في المكان فرصة للالتصاق بمساحة أوسع من جسدها. تتدخل امرأة جالسة في مواجهة الشاب، لكن كل ما تفعله هو أن تنادي الشابة لتقف بجانبها. تدخّل هش وضعيف، لا يعاقب الشاب ولا يردعه ولا حتى يفضحه، بل يدعوه وبثقة بالغة لينتقل إلى ضحية أخرى بعد نصف متر من مكان واقعة التحرش الأولى، تصرخ الفتاة به، لكنه لا يتأثر أبداً، ولا يظهر أي استجابة وكأنه غير معني بتاتاً بما يفعله من اعتداء صارخ، تغادر الفتاة الباص مرغمة والصمت سيد الموقف.

تتحول وسائط النقل إلى بيئة خصبة للتحرش، تعاني النساء من التحرش ومن الصمت على المتحرشين، تفتقد النساء بشكل عام إلى كل وسائل الحماية والدعم في مواجهة المتحرشين. ويصل التحرش حدوده القصوى عندما يستغل سائقو وسائل النقل حتى العامة وظيفتهم لحجز أماكن محددة لنساء أو فتيات محددات، وربما يطلبون بعدها أرقام هواتفهن الخاصة وقد يعرضون عليهن خدمات خاصة مقابل تنازلات من النساء أيضاً.

وليس مستغرباً أبداً، أن يتدافع الركاب للفوز بمقعد في حافلة عامة بينما يقوم السائق بحجز المقعدين الأماميين لنساء لا يعرفهن من قبل أبداً، لكنه وبسبب الازدحام وصعوبة تأمين مقعد يبرر لنفسه دعوة نساء بعينهن للجلوس في هذه المقاعد دونا عن غيرهن، فقط لأنهن شقراوات مثلاً! و الطامّة الكبرى هي أن يتحول التحرش إلى امتياز، لا تعيه النساء وربما وإن وعينه يعتبرنه غير مكلف أبداً ولا ينتمي للتحرش كفعل اعتداء صريح وواضح لكنه مغلف بالصدفة أو بالرغبة بالمساعدة أو فعل الخير.

من المؤسف والضار جداً هو التعامل مع التحرش في وسائل النقل عامة أو خاصة وكأنه حل أو إجراء تلقائي وبسيط وبريء، وقد يخفف من سوء الأحوال العامة وخاصة أزمة النقل والمواصلات.

للتحرش وجه مباشر وصارخ وله آلاف الوجوه غير المباشرة والمتلاعب فيها وبالنساء من خلالها وخاصة التعامل معهن وكأنهن طرائد وقوعها محتم في حبائل المتحرشين، وجوه أخرى يتضافر فيها الاستخفاف مع ضعف النساء وخاصة في ظل سوء الأحوال العامة وغياب كل آليات الحماية والوقاية.

سعد الله ونوس: مسرحي بحجم وطن

سعد الله ونوس: مسرحي بحجم وطن

“نحن لا نصنع مسرحاً لكي نثبت فقط أننا لاحقون بركب المدنية، إننا نصنع مسرحاً لأننا نريد تغيير وتطوير عقلية، وتعميق وعي جماعي بالمصير التاريخي لنا جميعاً.. المسرح في الواقع هو أكثر من فن، إنه ظاهرة حضارية مُركبة، سيزداد العالم وحشة وقبحاً وفقراً لو أضاعها وافتقر إليها”. ربما تلخص تلك الكلمات، وهي للمسرحي سعدالله ونوس، حجم المسؤولية الثقافية الكبيرة التي تحلى بها خلال مسيرته المسرحية، التي أبدعت مسرحاً جديداً، مسرحاً وجودياً فلسفياً يقوم على الجدية والوعي ويختلف عن مسرح الخطابة والتهريج، يؤمن بدور الفعل وتأثير الكلمة، يدافع عن قضايا الناس ويشجع المجتمع أن ينهض ويمتلك وعياً.

 ومنذ مسرحياته الأولى ظهر ونوس، الذي درس الصحافة في القاهرة بداية الستينيات، كأحد أعلام التنوير، كونه من أكثر الكتاب المسرحيين العرب التزاماً بالقضايا الوطنية العربية، بل كان، في كثير من الأحيان، صوت ضمير العديد من المثقفين ولسان حالهم، في زمن الصمت والعجز عن حرية التعبير. حَمَل عنهم عبء المواجهة مع السلطات السياسية والدينية، وعبَّر من خلال كتاباته بشكلٍ واضحٍ عن فكره اليساري دون مواربة، وبرز مسرحه كأداة لنشر التوجهات الفكرية والتنويرية وعكس ظروف العالم العربي وعرَّى واقعه السياسي، فعقب نكسة حزيران كتب ونوس مسرحية “حفلة سمر من أجل 5 حزيران”، التي جعلته من أبرز أعلام كُتاب المسرح، وتناول من خلالها واقع هزيمة العرب ووجع الشعب المهزوم. وعقب انتفاضة الشعب الفلسطيني عام 1987 كتب مسرحية “الاغتصاب” التي صورت الصراع العربي الإسرائيلي، من خلال رواية فلسطينية وأخرى إسرائيلية، يميز فيهما بين الصهيوني واليهودي ويوضِّح حجم المأساة التي يعيشها الشعب الفلسطيني في ظل الاحتلال. وقد كان ونوس من أكثر الكُتاب مناصرة للقضية الفلسطينية، وذلك منذ بداية دراسته لفن المسرح في فرنسا أواخر الستينيات، حيث أحيا مع زملائه العديد من النشاطات السياسية والثقافية، التي كانت تهدف للتعريف بقضية الشعب الفلسطيني.

ومنذ بداياته خلق ونوس تقنيات وأساليب مسرحية جديدة، أهمها تقنية كسر الحاجز بين المسرح والجمهور، أو ما يسمى بهدم الجدار الرابع بين الممثل والمتلقي. ومن خلال هذه التقنية كان ونوس يحضُّ المتفرج على المشاركة في بناء الحدث المسرحي ويتوقع منه أن يُعبِّر عن رأيه، ونستند في ذلك إلى كلام ونوس: “المتفرج هو النصف الأساسي لأي عرض مسرحي، هو هدف العرض، وهو مسؤول عنه أيضاً، لذلك عليه أن يمارس حقوقه كاملة، أن يؤدي دوره بشكل تام وإيجابي. عليه أن يملأ حيزه في كل نشاط مسرحي، أن يقبل ويرفض، أن يضغط ويقاطع، أن يقول ما يريد ويصحح ما يُحكى له. باختصار ألا يكون سلبياً يأخذ ما يُقدم له دون اعتراض، ودون تمحيص”.   

في مسرحية “حفلة سمر” تكون الخشبة مضاءة منذ البداية والمسرح دون ستارة، مفتوح أمام الجمهور منذ دخوله إلى الصالة، فيما يجلس بعض الممثلين  بين الجمهور ليؤدون أدوارهم من هناك، وهو ما جعل العرض أشبه بمسرحية داخل المسرحية وفسح المجال أمام الجمهور ليتفاعل مع العرض وليكون جزءاً منه، وأعطى للحدث وللشخصيات بعداً اجتماعياً مميزاً.

التقنية ذاتها استُخدمت في مسرحية “مغامرة رأس المملوك جابر” التي تدور أحداثها داخل مقهى شعبي، حيث صُممت الخشبة على شكل ذلك المقهى، الذي يضم حكواتياً وعدداً من الزبائن. ومن خلال تفاعل زبائن المقهى وتعليقهم على الحكاية، التي يرويها الحكواتي، وتدخلهم في مجريات الأحداث، عمل ونوس على توريط المتفرج وجعله طرفاً فاعلاً في العرض المسرحي، وفسح له المجال ليتدخل في مجريات الحدث وليتفاعل مع الشخصيات (زبائن المقهى) ويخلق حواراً معهم. 

تسييس المسرح

طرح ونوس مشروع تسييس المسرح ، بدلاً من المسرح السياسي، انطلاقاً من إيمانه بقدرة وأهمية هذا النوع من المسرح، الذي يقوم على فكرٍ نهضوي وتحريضي، في إحداث التغييرات السياسية والاجتماعية في العالم العربي. وهنا نستند إلى قوله: “على المسرح أن يُعلم الجمهور، ويعكس له أوضاعه بعد أن يحللها ويضيء خفاياها، وأن يحفز الناس على العمل، وأن يحثهم على أن يباشروا مهمة تغيير قدرهم الراهن. المسرح العربي الذي نريد هو الذي يدرك مهمته المزدوجة هذه: أن يعلم ويحفز متفرجه. هو المسرح الذي لا يُريح المتفرج أو يُنَفس عن كربته، بل على العكس هو المسرح الذي يُقلق، يزيد المتلقي احتقاناً، وفي المدى البعيد يهيئه لمباشرة تغيير القدر”.  وبهذا المعنى فإن وظيفة المسرح لا أن يُفرغ طاقات الجماهير ويرفه عنها وإنما عليه أن يشحن الجماهير ويحرضها على التغيير ويطور عقليتها ويستنهض طاقاتها، ليتشكل وعيها السياسي وتستفيق من تخديرها، وذلك على عكس المسرح “التنفيسي” الذي كان سائداً في مرحلة السبعينيات وتنحسر وظيفته  في إضحاك الجمهور والتخفيف عنه، وهو المسرح الذي كانت تستخدمه السلطات السياسية كأداة لإيهام الجمهور بأن هناك حرية تعبير عن الرأي. ولأن ونوس كان ناقداً لهذا النوع من المسرح جعل مسرحه أشبه بمنتدى سياسي واجتماعي يناقش أبرز القضايا والأسئلة الراهنة للجمهور،  ويقوم على شراكة وتفاعل بين الممثل والمتلقي ليتعلم كل منهما من الآخر. 

في مسرحية “حفلة سمر من أجل 5 حزيران” كان ونوس يهدف لتحريض الجمهور على التعبير بحرية عن مواقفه ووجهات نظره حيال ما يجري فوق الخشبة، ويدفعه ليفكر بشكل نقدي تحليلي، ويميّز بين الكذب والحقيقة، ليس فقط أثناء العرض وإنما في الواقع أيضاً، فالعرض ينتقد الحكومات والزعماء السياسيين والمؤسسات الرسمية فيما يتعلق بالنتائج الكارثية المؤلمة لنكسة حزيران وآثارها السلبية على الشعب، الذي تجرع مرارة الهزيمة، والذي سيواجه مختلف أساليب القمع من قبل السلطات السياسية في حال عَبَّر عن استيائه مما جرى أو ناقش أسباب الهزيمة.

وفي مسرحية “الفيل يا ملك الزمان”  يحاول ونوس أن يحفِّز الشعب على تغيير واقعه، عبر انتقاده لسلبية هذا الشعب وإذعانه المطلق لسلطة الزعيم، وانتقاد خوفه  من الدفاع عن نفسه أو التعبير عن استيائه من الطغيان والظلم، والمطالبة بأبسط حقوقه المسلوبة. وتتحدث المسرحية عن فيل الملك، الفيل الذي عاث خراباً وفساداً في المدينة وأقلق راحة سكانها، ولكن الشعب المستاء من الفيل والمتضرر منه، وعوضاً عن تقديم شكوى للملك، اقترح تزويج الفيل تحت تأثير الخوف من عقاب الملك، وهو ما ساهم في مضاعفة آلامه وعذابه.  

المسرح أداة لنقد السلطات

 يعتبر ونوس من أهم الشخصيات الثقافية العربية التي جمعت بين التنظير والممارسة، عبر خطابه المسرحي الذي  ساهم في نشر قيم الوعي والحرية وكان ناقداً لجميع الأشكال السلطوية في المجتمع. ففي مسرحية” الملك هو الملك” ينتقد السلطة السياسية، وذلك من خلال قصة ملكٍ ظلم شعبه ظلماً لا يطاق، فانتشر الفقر وعم الجهل والتخلف بين الناس وبات الشعب يتضور جوعاً ويحلم برغيف الخبز، وكان من بين هذا الشعب رجل معدم يتمنى أن يصبح ملك البلاد  ليومٍ واحدٍ فقط، لكي ينشر العدل ويقضي على الجوع والفقر ويعيد للناس حقوقها المسلوبة، ولما ذاع خبر الرجل أمر الملك بإلقاء القبض عليه، وبدل أن يعاقبه أمر بتحقيق أمنيته وتنازل له عن العرش لمدة يوم، ولكن الرجل بمجرد أن وضع التاج على رأسه تغيرت أفكاره فجأة، فزاد الظلم ظلماً وفاقم واقع الشعب سوءاً. ما توضحه المسرحية هو أن صفات وممارسات الملوك ثابتة لا تتغير، فالملك هو الملك مهما تغيرت الوجوه والأسماء التي تشغل هذا المنصب.  

وفي مسرحية “طقوس الإشارات والتحولات“، وجه ونوس انتقاداته للسلطة الذكورية والدينية، وأظهر من خلال العرض موقفه الداعم للمرأة، التي تظهر معاناتها كضحية للسلطة الأبوية والزوجية، في مجتمع ذكوري يحرمها من ممارسة أبسط رغباتها في الحب فيما يبيح للرجل جميع أشكال المتع والرغبات الجسدية. المسرحية حملت خطاباً جريئاً ومناهضاً للعادات والتقاليد، يعري دور رجالات الدين ويفضح زيف ادعاءاتهم، وينادي بحرية جسد المرأة في ظل إذعانه للأعراف والقيم الدينية والقمع المجتمعي. كما يبرز العمل النوازع النفسية للشخصيات في علاقتها مع تحولات جسدها، ويقدم قراءة معمقة للجسد البشري وأبعاده العاطفية والروحية ويمنحه سمواً وتمجيداً، ويدعو لتحريره من رغباته في سبيل أن يصل لحريته. ومن خلال العرض كان ونوس يرسل أفكاراً وإشارات إلى الجمهور تحرض مخيلته وتدفعه لكي يتساءل ويعي الواقع الذي تعيشه المرأة.

أما في مسرحية “منمنات تاريخية ” فقد انتقد ونوس السلطات الثقافية والاقتصادية والمجتمعية، من خلال استدعاء الموروث التاريخي لمحاكاة الواقع الحالي بإسقاطات تاريخية، إذ يحكي العرض عن احتلال تيمورلنك لدمشق، ويفضح السلطة الاقتصادية بتحالفاتها المشبوهة مع التجار وأصحاب رؤوس الأموال، الذين خافوا على مصالحهم وتجاراتهم ليتحالفوا بدورهم مع رجالات الدين والمجتمع، الذين استغلوا سلطتهم لتحقيق مآربهم ومصالحهم الخاصة، فتخاذلوا جميعاً وأذعنوا للاحتلال وأسهموا بإسقاط دمشق بيد تيمورلنك.

مساهمات

 قدمت مسرحيات ونوس إسهامات كبيرة في تطوير الحركة المسرحية العربية وفي إنارة الوعي العام بقضايا التحرر وحرية التعبير والتغيير الاجتماعي. كما اشتهرت أعماله عربياً وعالمياَ وتُرجمت إلى عدة لغات ونالت الكثير من الجوائز العربية والعالمية، وأصبحت مرجعية مسرحية يتسابق المخرجون على تقديمها.  وإلى جانب ذلك أسهم ونوس في نهاية السبعينيات في إنشاء المعهد العالي للفنون المسرحية، وعمل مدرساً فيه، كما عمل مديراً للمسرح التجريبي في مسرح القباني وأسس مع صديقه المسرحي الراحل فواز الساجر عام 1977 فرقة خاصة تهدف لتقديم المسرح الوثائقي. وفي العام ذاته أسس مجلة “الحياة المسرحية” وشغل منصب رئاسة تحريرها منذ انطلاقتها وحتى عام 1988. ويعود له الفضل، إلى جانب بعض زملائه المسرحيين، في إقامة مهرجان دمشق المسرحي عام 1969 الذي حقق نجاحاً كبيراً على مستوى الوطن العربي، وقد قدم فيه مسرحيتين من أعماله: “الفيل يا ملك الزمان” إخراج علاء الدين كوكش، و”مأساة بائع الدبس الفقير” إخراج رفيق الصبان.

 وإلى  جانب إسهاماته المسرحية شغل ونوس منصب مدير قسم النقد في مجلة المعرفة الصادرة عن وزارة الثقافة عام 1964،  وعُيَّن رئيس تحرير لمجلة “أسامة” الخاصة بالأطفال، بين عامي 1969 و 1975، كما عمل محرراً وكاتباً في الصفحات الثقافية في عددٍ من الصحف العربية، كصحيفة الثورة والآداب، وشغل منصب مسؤول القسم الثقافي في جريدة السفير اللبنانية.

مقاومة المرض بالكتابة

عام 1992 أصيب ونوس بمرض السرطان وتوقع الأطباء أنه لن يعيش سوى  ستة أشهر، لكنه رغم ذلك لم يغب عن المشهد المسرحي، وكان يقاوم مرضه بسلاح الكتابة لنحو خمس سنوات،  كتب فيها أهم أعماله المسرحية. وفي عام 1996 كلفه المعهد الدولي للمسرح، التابع لليونسكو،  بكتابة رسالة يوم المسرح العالمي، التي ترجمت إلى عدة لغات، وأكد من خلالها عشقه وإخلاصه للمسرح، حيث يقول فيها: “منذ أربع سنوات وأنا أقاوم السرطان. وكانت الكتابة، وللمسرح بالذات، أهم وسائل مقاومتي. طبعاً من الصعب أن أشرح للسائل عمق الصداقة المديدة، التي تربطني بالمسرح، وأن أوضّح له أن التخلي عن الكتابة للمسرح، وأنا على تخوم العمر، هو جحود وخيانة لا تحتملها روحي، وقد يعجلان برحيلي”. وفي الرسالة ذاتها كتب ونوس جملته الشهيرة الخالدة، التي أصبحت بمثابة حكمة يرددها الملايين في كل مكان: “نحن محكومون بالأمل، وما يحدث اليوم لا يمكن أن يكون نهاية التاريخ”. 

 توفي ونوس، ابن مدينة طرطوس، في 15 أيار عام 1997، عن عمر ناهز 56 عاماً، بعد صراع مع مرض السرطان استمر لأكثر من خمس سنوات، تاركاً وراءه نحو أكثر من عشرين عملاً مسرحياً، إلى جانب عشرات المقالات والأبحاث والدراسات المسرحية، وقد نشرت أعماله في ثلاثة مجلدات.

ونذكر هنا أبرز أعماله المسرحية وفق تسلسلها الزمني:  

مسرحية “ميدوزا تحدق في الحياة” 1963 (نشرت في مجلة الآداب)

مسرحية “جثة على الرصيف” 1963 (الموقف العربي- دمشق)

مسرحيتا “فصد الدم” و “مأساة بائع الدبس الفقير” 1964 (مجلة الآداب)

مجموعة من المسرحيات القصيرة بعنوان “حكايا جوقة التماثيل” 1965

مسرحية ” حفلة سمر من أجل 5 حزيران” 1968 (عرضت في سوريا، لبنان، السودان، العراق والجزائر. وترجمت إلى اللغة الفرنسية والإسبانية)  

مسرحية “الفيل يا ملك الزمان” 1969 (عرضت في جميع الدول العربية. وترجمت إلى الإنكليزية والروسية والبولونية)

مسرحية “مغامرة رأس المملوك جابر” 1970 (عرضت في سوريا، لبنان، العراق، مصر، الكويت،الإمارات، الجزائر، فرنسا، ألمانيا. وترجمت إلى الألمانية والروسية. كما تحولت إلى فيلم سينمائي من إخراج محمد شاهين وإنتاج المؤسسة العامة للسينما في سوريا عام 1974)

مسرحية “سهرة مع أبي خليل القباني” 1972 (عرضت في سوريا، الكويت وألمانيا. وترجمت إلى الروسية)

مسرحية “الملك هو الملك” 1977 (عرضت في سوريا، تونس، العراق، مصر، الإمارات،البحرين. وترجمت إلى الإنكليزية والروسية)

عرض “يوميات مجنون” للمسرح التجريبي 1977

مسرحية “رحلة حنظلة من الغفلة إلى اليقضة” 1978 (عرضت في سوريا، الكويت،لبنان، مصر، المغرب)

مسرحية “الاغتصاب” 1989 (عرضت في سوريا، لبنان، الأردن، مصر. وترجمت إلى الألمانية والإيطالية)

مسرحيتا “منمنات تاريخية” و “يوم من زماننا” 1993

مسرحيتا “طقوس الإشارات والتحولات” و “أحلام شقية” 1994

مسرحية “ملحمة السراب” 1995.

المراجع

١-سعدالله ونوس/ الأعمال الكاملة/ المجلد الأول (دار الأهالي للنشر والتوزيع- دمشق / الطبعة الأولى 1996).

٢- “رسالة يوم المسرح العالمي”، ص 17 من المجلد الأول / الأعمال الكاملة لسعدالله ونوس (دار الأهالي- دمشق/ الطبعة الأولى1996).

٣-سعدالله ونوس / الأعمال الكاملة / المجلد الثاني (دار الأهالي- دمشق/ الطبعة الأولى 1996).

٤- سعدالله ونوس/ الأعمال الكاملة/ المجلد الثالث (دار الأهالي- دمشق/ الطبعة الأولى 1996).

٥- “بيانات لمسرح عربي جديد” ص 15 من المجلد الثالث/ الأعمال الكاملة لسعدلله ونوس (دار الأهالي- دمشق/ الطبعة الأولى 1996).

*تنشر هذه المادة ضمن ملف صالون سوريا حول “المنعطف السوريّ”