زيارة عمودية إلى أرض الشعر والنبوة

زيارة عمودية إلى أرض الشعر والنبوة

يمضي أدونيس وقته في خدمة القصيدة واللوحة (الرقيم) والشذرة والتحليل العميق والفكر النقدي التفكيكي، لا يتوقف عند السطح بل يتغلغل إلى أعمق داعياً إلى نسف البنى الثقافية السائدة من جذورها، وعن بكرة أبيها، بغية الانطلاق من أرضية هذا الهدم الإيجابي الخلاق نحو لحظة بناء حقيقية لمستقبل يمكّن من وضع الأقدام على خشبة مسرح العالم الحديث. ويدرك أدونيس جيداً أن عناصر الرؤيا لا تكتمل إلا عبر تكريس يقارب العبادة للإبداع الشعري والفكري. ومايجعل النص الشعري الأدونيسي المتجاوز للقصيدة في شكلها السائد والموروث عصياً على القولبة والإلغاء والنسيان هو أن لغته مجبولة بالتاريخ ومنبثقة من التراث بأصواته المغايرة والمتغايرة والمبدعة والمُهمَّشة التي لم يُعترف بشرعيتها الفنية، ومَنحَ الشاعرُ أصواتها في ديوانه ذي الشكل الفني الجديد والمختلف، ”الكتاب“ فضاء لحضور جديد وصَهرَها في خصوصية صوته الشعري وتفرده. يمزج نصه في تضاعيفه أصوات القدماء والمعاصرين العابرين لحدود الثقافات والخارجين على تعريفها للوجود مع استكشاف لا يتوقف لطبقات الواقع وإيقاعات اللحظة، ولهذا يأتي شعره كالألماس الذي يتشكل مما يشبه انفجارات بركانية في أعماق الكوكب الأرضي. وعلاوة على أن التاريخ الجمالي للغة الشعرية العربية ينبض في النص الأدونيسي، فإن ما يبقيه حياً وحيوياً هو قدرة الشاعر على أن يظل متحولاً وباحثاً ومتسائلاً ومانحاً على المستوى العميق، فأي كرم أروع من أن تمنح قراءك قصيدة تتحقق فيها شروط الإبداع تنقلهم من سياق يتسم بالتكرار والنمطية والمهادنة ومحاكاة القدماء إلى فضاء جمالي يشير إلى الطريق نحو أفق الأسئلة، وأي  خدمة أنبل من أن تقدم كتاباً فكرياً يغير النظرة إلى التراث ويخلخل تعريفاً متوارثاً للوجود تم الاتكاء عليه طويلاً، فاتحاً باب التساؤل والتجريب تحت شعار ”للحرية، والإبداع، والتغيير“، الذي تبنته ”مواقف“، وهي مجلة أسسها أدونيس في ١٩٦٨، وكانت في قلب الانقلابات الثقافية العمودية البيروتية.

في هذا الإهاب زار أدونيس المملكة العربية السعودية تلبية لدعوة أثارت جدلاً قيلَ إن السياسة حاولت أن تجني ثمارها وتجيّرها لصالحها بعد أن قامت بحراسة المشهد ورعايته دون السماح لأجهزة الرقابة، أو أية جهة بالتدخل لتعكير صفوه، غير أن ما جعل الزيارة تخترق السياسة وفن إخراج المناسبات لخدمة مآربها وتنجح بقوة وتكتسب صفة شعرية وثقافية أصيلة، هو أن أدونيس سافر مراراً من قبل إلى هذه الأرض المحورية عن طريق دواوينه وكتبه الفكرية ومقالاته الصحفية وحواراته المتلفزة والإذاعية الكثيرة، ما ضمن له جمهوراً كبيراً من القراء والمحبين في المملكة الذين رأوا في تجربته الشعرية والفكرية فسحة أملٍ للحداثة والتحرر في سياق تُطْبق فيه الرؤية السلفية الموروثة على خناق الوجود، فضلاً عن أن المؤسسات الثقافية التي دعته أبدت استقلالية جديرة بالاحترام. 

نجحت الزيارة أيضاً لأن المطلعين في المملكة يعرفون أدونيس وقيمته الإبداعية بعد أن سبقته كتبه إليها، وهم أبناء أرض كانت ينبوعاً للشعر العربي الكلاسيكي ومهداً للنبوة، ينبوعاً لا يكف عن الانبجاس والتدفق. ولقد قال أدونيس في المملكة ما يقوله في أي مكان، إلا أن قوله له فيها اكتسب أهمية رمزية كبيرة، فهنا يتقاطع التراث مع الحداثة ويتحول، أو يبقى أسير الرؤية الماضوية ويتجمد، وهنا يتوضح صوت الشاعر سياقياً، ويتجسد حضوره الشعري والفكري المستند إلى مخزون شعري هائل أنجبه حوض هذه الأرض المباركة. وأن تكون أناك الشعرية والفكرية امتداداً تحويلياً، تم عبر الانفتاح على التجارب الكبرى في العالم، لأرقى وأهم الإبداعات الشعرية في هذا المخزون الإبداعي فإن هذا منح الشاعر زخماً هائلاً وقوة حضور تجلّيا في وقوف أدونيس على المنبر في سن الثالثة والتسعين كأنه في أوج شبابه حين كان المحرك الجبار لقطار الحداثة في ”شعر“ و“مواقف“ على السكك الوعرة للثقافة العربية. 

  حاولت مقالات صحفية كثيرة أن تربط الزيارة بالتوجهات السياسية الجديدة في المملكة التي تسعى قيادتها الشابة الحالية إلى تحييد القوى السلفية التي تتحكم بمفاصل الحياة، ولا شك أن انفتاحاً كهذا تُرفع له القبعة، ويشير إلى أن الأجيال الجديدة في هذه البلاد ملت من إكراهات الرقابة وضغوطها على الفكر والحياة الحرة والتي كانت تقليداً تشترك فيه معظم الدول العربية سواء التي رفعت شعارات العلمانية أو التي حرست الفكر المحافظ، كما عبّر عن ذلك الشاعر العراقي الكبير مظفر النواب حين قال إن الدول العربية سجون متلاصقة.

ويجب ألا تفوتنا الإشارة إلى أن السعودية التي دعت أدونيس ليست المملكة السياسية وحسب بقدر ما هي المملكة الفكرية والشعرية والفنية، فهذه الأرض، والتي هي في الأساس أرض النبوات والشعر والتصوف، أنتجت وما تزال شعراء ومفكرين وفنانين مبدعين ضاقت عليهم نواحي الآفاق المتاحة فقرروا توسيعها، أو أن قوة الثقافة تمكنت من أن توصل رسالتها فكانت ثمراتها الأولى دعوة أدونيس.   

ألقت زيارة أدونيس إلى المملكة العربية السعودية الأضواء على خشبة مسرح احتجبت عقوداً خلف ستار الرقابة والنظرة الدينية التي وقعت في شباك الموروث وبقيت على حالها دون تغيير، وأغلقت الأبواب والنوافذ في وجه أية قراءات جديدة للنص الديني. وانكشفت أثناء هذه الزيارة أرض جديدة مضاءة بقوة رغبة الخروج من عباءة الماضي وضرورتها. 

كانت زيارة أدونيس إلى المملكة العربية السعودية بمثابة زيارة كاشفة ومضيئة، بمعنى أنها أوضحت الانقسام في الخريطة الثقافية، فهناك من هاجمها انطلاقاً من نظرة ضيقة وبلغة اتهامية لا تُحسب داخل حدود الثقافة بالمعنى الفكري والإبداعي الحقيقي، وثمة من نظر إليها كزيارة قابلة للتوظيف السياسي من ناحية أن بعض الصحفيين والمسؤولين الثقافيين في السعودية قاسوا بها مدى التحول في ظل التوجه السياسي لولي العهد محمد بن سلمان، أي أن الزيارة كشفت أن ولي العهد انتصر في حربه على الظلاميين وشرطة الشرف والرقابة الدينية والممارسات الوهابية وجلب ما منعته وحرمته سلطة الثابت إلى القلب الذي يتوضع فيه الحجر الأسود للفكر السلفي. وهناك من اعتبر الزيارة انتصاراً للشعر والفكر ناجماً عن تحول وانفتاح يتدفق نهره في صحراء الجزيرة العربية، ولهذا ينبغي ألا نقلل من حجم ما يجري من تحولات مهمة داخل المملكة العربية السعودية، ويجب أن ننظر إلى الزيارة على أنها لفتة كريمة ومبادرة توضح تقدير السياسي لأهمية الفنون والآداب ولضرورة بناء السياسة على الثقافة، الأساس الذي تفتقر إليه السياسات في معظم الدول العربية.

أدونيس يعي هذه المسألة جيداً، ويعرف أن الصحافة دوماً تتحرك ضمن خطوط مدروسة وتوظف أي شيء، إلا أن الإعلام الاجتماعي غير الخاضع لرقابة الأنظمة بيّن أن محبي أدونيس والأفق الذي تفتحه كتاباته الشعرية والفكرية كثر. وكان الاحتفاء بأدونيس وحضوره وشعره نسائم ثقافية منعشة، ودليلاً على أن المؤسسات العربية يمكن أن تتجدد وتنهض إذا حالفها الحظ بقيادات شابة تمتلك نظرة سياسية أكثر عمقاً مستندة إلى رؤية ثقافية.

لقد هدرت الدول العربية، المنتجة منها للنفط، والأخرى المنتجة لخطابات وشعارات الوحدة والنضال والتحرير، الكثير من مالها على القمع والحروب الأهلية والتدخل الأجنبي وتمويل الجماعات الإرهابية العابرة للحدود، والنخب الفاسدة، وتدمير البلدان لحماية الكراسي وحقن الأنظمة المتداعية، أما السياسات التي بُنيت على الثروة النفطية وحراستها فقد ولّدت تبعية سياسية واقتصادية دارت وما تزال في فلك القوى الكبرى من خلال تصنيع الأخطار والتجييش العسكري والاقتصادي والإيديولوجي على هذه الخطوط،  وربما آن الأوان للخروج من نير هذه السياسات ومن التبعية للغرب لإنقاذ ما تبقى من الثروة وصرفها لبناء دولة مؤسسات حقيقية نستطيع أن ننطلق منها نحو مستقبل إنقاذي عربي، ونأمل أن تكون زيارة أدونيس خطوة على هذا الطريق.

الأمومة واقع جديد واحتفالات مشتتة

الأمومة واقع جديد واحتفالات مشتتة

 تغيرت الصورة، يبدو المشهد العام مشوشاً، والأمهات يقفن على أعتاب القهر بصمت شديد، باتت الأمومة مخلباً يجرح القلوب ويوقظ ذاكرة القلب الموجوع بالغياب، فينساب التعب ملوثاً بشوق عصي على الاستجابة.

طالما كان عيد الأم مناسبة لهدية مميزة، ضخمة وغالية الثمن، ولطالما سعى الأبناء والبنات وبمشاركة الزوج أحياناً لشراء هدية جماعية وإن سعى البعض لشراء الذهب حسب مقدرتهم. لكن الغالبية توافقت فيما يشبه العرف على شراء هدية منزلية مثل طقم من القدور أو غسالة أو مجموعة كبيرة من الصحون وأدوات المطبخ.

تلعب الصورة النمطية لأدوار النساء الاجتماعية دوراً بالغاً في تضمين عيد الأم لمعنى وشكل الهدية، هي هدية تبعية متضمنة حكماً للقالب الاجتماعي التوصيفي لمهام النساء، كالطبخ والتموين وإعداد الولائم في المناسبات العائلية والغسيل وسواه من أدوار الرعاية المنزلية. المؤسف أن الهدايا رحلت مع البيوت وبقي الدور الوظيفي للنساء كما هو بفارق بسيط لكنه مؤلم وهو تشتت شمل العائلة. رحلت البيوت بهداياها وما ابتلعته الحرب أكمل عليه الزلزال، وما تبقى من البشر بعد قضم الحجر ابتلعته الهجرات.

تحتفل الأمهات اليوم بأعيادهن على شاشات الهواتف الجوالة، يستقبلن أحفادهن الذين ولدوا بعيداً جداً وخارج أسوار البلد العصي على استقبالهم على شاشات الهواتف الجوالة أيضاً. أعراس الأبناء والبنات، نجاحاتهم واحتفالات تخرجهم، رحلاتهم، مواعديهم العاطفية، وحتى لقاءات الأخوة والأخوات ببعضهم في بلدانهم الجديدة المختلفة تتابعها الأمهات عبر الشاشات الموصوفة بالذكاء والغارقة في الهجران والقسوة والاغتراب.

يتعامل الأبناء مع المستجدات اليومية بعين حذرة، يعرفون كل ما يحدث في بلدهم، أخطاء طبية بالجملة، فقدان الدواء، عجز الأمهات الجلي والواضح عن تأمين احتياجاتهن اليومية بسبب الغلاء أولاً وبسبب تردي أنواع الخدمات المقدمة وغياب أهمها كالكهرباء والماء والمواصلات.

قررت سمر أنها ستهدي أمها في يوم عيدها دعوة إلى الغداء تجتمع فيه مع شقيقاتها. يعتقد الأبناء والبنات أن تلك الدعوة هي هدية مميزة وغير تقليدية وتسعد الأمهات، لكن الأمهات لا يفكرن بالدعوات ولا يرغبن بها، يردن لقاء حقيقياً، احتضاناً شغوفاً واقعياً يمتزج فيه الجسد بالجسد وتحدق العيون بالعيون وتسمع الآذان صوت الأنفاس وصدى العواطف، باتت جملة: (المهم أنتم بخير) كذبة كبيرة ملت الأمهات من ترديدها وملّ الأبناء والبنات من سماعها.

بالأمس حصلت مرام على قسيمة تموينية بقيمة مائتي ألف ليرة كهدية مسبقة لعيد الأم من شقيقها المقيم في ألمانيا، لم تفرح بها لأنها لا تغني عن جوع تعانيه مرام مع طفلها الوحيد، تسكن في منطقة بعيدة جداً عن مركز المدينة، والمواصلات متقطعة، ما اضطرها لمغادرة بيتها في الثامنة صباحاً لتتمكن من الوصول والعودة قبل العتمة وقبل توقف المواصلات بسبب البعد وشح المازوت، اصطحبت معها طفلها، وفي مركز استلام مواد القسيمة، أعلنت لطفلها أنه حر في اختيار كل ما يشتهيه، تركت له حرية اختيار المواد التي تغطيها القسيمة، وكأنها تمنحه تعويضاً عن قسوة الحياة والحرمان الذي يعيشه. حدثٌ سيقول الجميع بأنه خاطئ ومفرط في عاطفيته وسذاجته، لكنه محاولة بائسة لإسعاد طفل محروم من الأب ومن السند العائلي ومن الأساسيات الضرورية للعيش ولتنشئة طفل ضئيل الحجم وبلا مدرسة أو رعاية وفاقد للاحتياجات الأساسية.

ثمة عنف جديد يحاصر الأمهات، في مراكز الإيواء التي ضمت الأمهات وأطفالهن الهاربين من الزلزال بعد فقدان المنازل أو تصدعها، تحولت الأمهات إلى مشاجب تحمل أخطاء أبنائها في بيئة محصورة وضيقة وخانقة. تم تأطير النساء هنا وخاصة الأمهات بأطر تقييمية قاسية يفرضها الأقوى والمتحكم بالمكان. ارتبطت كل الأخطاء بالأمهات حكماً، من بكى ابنها فهو طفل لم تضبط أمه مشاعره ولم تقوّم سلوكه كما ينبغي كي تحوز على رضى المجتمع، ومن بكت من الأمهات وصفت بأنها امرأة عاطفية وضعيفة وهشة وغير جديرة بأن تكون أماً مسؤولة عن حماية وتربية أبنائها وبناتها. ومن سرق طفلها قطعة من البسكويت أو تفاحة أو ضرب طفلاً آخر وصفت الأم بأنها هي من علمته أو دفعته للسرقة أو للاعتداء على طفل آخر.

ثمة واقع جديد تفرضه تفاصيل العيش غير الآدمية التي يعيشها الأبناء والأمهات معاً. في الحافلة الصغيرة تجلس أم وابنتها التي ولدت طفلاً مريضاً ويخضع الآن للعلاج في المنفسة، بدلاً من تهدئة الابنة تعبر الوالدة عن فرحتها بأنهم وجدوا جمعية تتبنى علاج الطفل لعجزهم عن علاجه. تقول الأم لابنتها: “الحفاضات من نوع ليبرو، وهي الحفاضات الأغلى ثمناً بين أنواع الحفاضات لجودتها.” في بلد تلجأ فيه الأمهات إلى استعمال الحفاضات التي تباع فرطاً وبالقطعة ومن النخب الثالث وربما الخامس وهي غير معقمة أصلاً والمطاط المحيط بها قاس ويسبب الحساسية لبشرة الأطفال الرقيقة.

تُعبر البنت عن قلقها بدموع محبوسة، لكن الأم تمنعها من البكاء بذريعة أن ذلك يوازي التشكيك بعدم نجاة الطفل، هكذا إذن تحرم الأمهات حتى من التعبير عن القلق على أطفالهن بغطاء من قيم تقليدية تشكك بالدعاء أو بالإرادة الغيبية المهيمنة.

والأمهات الوحيدات كيف يحتفين بيومهن؟ باتت كل الاحتفالات مكروهة، مناسبة لتذكر ماض لم يكن وردياً لكنه أفضل من أحوالهن اليوم. واقع بلا أي ضمان ولا أمل أو ثقة بأنهن سيبقين محميات أو سالمات أو أنهن سيمتن بحضور الأبناء والبنات والأحبة. تعبر أمل صراحة عن سعادتها الغامرة بسفر أولادها، تغص بدموع الشوق، لكنها تتابع قائلة: “أنا عاجزة حتى عن إعداد قالب كاتو منزلي، لا غاز ولا كهرباء ولا قدرة  مادية على شراء مكوناته، سأحتفل بنفسي وحيدة كي أضمن بقائي متمكنة من شراء حاجاتي الأساسية.” وتضيف: “العيد مجرد ذكرى ومشاعر داخلية عليها ألا تهدر مقتنياتي الشحيحة.”

 تغدو الأمومة بحد ذاتها إطاراً قاسياً ومجهداً للنساء، يُفرض على البعض ولادات جديدة رغم أن لهن عدداً كافياً من الأبناء أو البنات، وتحرم أخريات منه لأنهن زوجات لرجال متزوجين، تزوجن وقبلن زواجاً عرفياً أو سرياً طلباً للمأوى أو للدخل وربما فقط للحماية من استبداد أفراد العائلة والأقارب أو من المتحرشين والمستغلين والمتحكمين بالموارد وحتى بلقمة الطعام.

يتحول الأبناء فجأة إلى حوامل للضغط على الأمهات والنساء، تضطر النساء وخاصة الأمهات لاستنزاف طاقتهن وعواطفهن وقدراتهن الجسدية والنفسية لحماية الأبناء والبنات. تصير الأمومة مصدراً للقهر والخوف والتعب، تغدو الأمومة كما الحياة عملاً شاقاً في إطار عام غير إنساني وعنيف ينحدر بسرعة نحو الدرك الأسفل، درك مضيع للحقوق وهادر لمقومات العيش اللائق بالأمهات وبالأبناء وبالجميع. تتحول الاحتفالات مهما تغيرت لتلبية الاحتياجات الكبيرة والمتجددة، إلى مناسبات للبكاء وتأكيد الفقدان وتثبيت العجز، عجز شامل ومتمكن وهادر للقوة ولأمل.

الواقع الصحي للمناطق المنكوبة جراء الزلزال

الواقع الصحي للمناطق المنكوبة جراء الزلزال

لا يقتصر مقياس “ريختر” العددي الذي طوره تشارلز فرانسيس ريختر على قياس شدة الزلازل ومدى خطورتها على تدمير الأبنية السكنية وحصد الأرواح البشرية والتسبب بالإصابات الجسدية، بل أيضاً يشير إلى التهديدات الصحية التي تتفاوت باختلاف حجم الزلزال والتي غالباً ما ينكشف ظهورها خلال 72 ساعة منذ لحظة حصوله.

أشارت منظمة الصحة العالمية في تحذير سابق إلى أن عدد الذين تضرروا من الزلزال الذي ضرب تركيا وسوريا قد يبلغ 23 مليوناً، بينهم نحو 5 ملايين في وضع هش. في الوقت الذي عبرت منظمات إنسانية عن مخاوفها من انتشار وباء الكوليرا الذي ظهر مجدداً في سوريا، ناهيك عن امتداد الآثار الصحية فورية والطويلة الأمد الناجمة عن الزلزال. ما هو الوضع الصحي للمناطق المنكوبة جراء الزلزال الذي ضرب مدن حلب واللاذقية وجبلة وإدلب، كيف يتم احتواء الأزمة الصحية الطارئة ومواجهتها، لاسيما بعد اثنتي عشرة سنة من الحرب.

ترتفع أسهم الأمراض والأوبئة بعد الكوارث الطبيعية مباشرة، نتيجة الاكتظاظ والاختلاط الشديدين غير المشهودين في الظروف العادية، إذ تصدرت الأمراض الجلدية قائمة الأمراض الأكثر انتشاراً عقب وقوع الزلزال. الناشط الإغاثي ومدير الفريق الطبي السوري الدكتور قاسم عواد يشرح لـ”صالون سوريا” أوضاع الواقع الصحي ضمن الاستجابة الطبية الطارئة: “التحول من نقطة تجمع منزلي بعدد أفراد محدد و نمط حياة معين إلى نقطة تجمع جماعي مفاجئ غير مألوف، يعني أرض خصبة لانتشار الأمراض المختلفة بوتيرة عالية، خاصة مع غياب مراكز إيواء خاصة بإدارة الكوارث الطبيعية، لاسيما أن الزلزال الذي حصل هو حدث كارثي جديد على السوريين لم نختبره من قبل.” ويضيف الدكتور عواد: “استخدام المراحيض المشتركة وغياب النظافة الشخصية والاختلاط الشديد أدى إلى ظهور الحكة والالتهابات الجلدية واحمرار الجلد والقمل والجرب والفطريات والحصبة والأكزيما نتيجة قلة المياه ومستلزمات التعقيم والتنظيف”.

مخاوف من تربص الكوليرا في حلب

تشكل عودة وباء “الكوليرا” أحد أبرز المخاوف والتهديدات الصحية الخطيرة في مدينة حلب المنكوبة، في ظل غياب مصادر المياه الآمنة. ويشرح الدكتور عواد خطورة الوضع: “باعتبار أن مدينة حلب تعرضت مؤخراً لوباء كوليرا فهذا يعني ارتفاع فرصة عودة الوباء إليها، وذلك بسبب تعدد مصادر المياه غير صالحة للشرب وغياب الصرف الصحي الفردي، كما أن وجود حالة إصابة واحدة في مركز التجمع يزيد من نسبة العدوى الجماعية وذلك لاستخدام الجميع مراحيض موحدة وزجاجات مياه واحدة.” ويؤكد الدكتور عواد أن “الفرق الطبية الجوالة تتابع الحالات منذ اللحظات الأولى لوقوع الزلزال، آخذين على عاتقهم مهمة العلاج والمتابعة الطبية بما يساعد على تخفيف حدة حدوث أوبئة مهددة للحياة والحد من خطورتها”. 

لا ينكر الدكتور عواد تعرض الطاقم الطبي ضمن الاستجابة الطارئة لضغوطات هائلة، وذلك بسبب إصابة أعداد بشرية كبيرة في آن واحد، واصفاً الوضع بأنه: “صعب لكن تحت السيطرة لغاية الآن ريثما عودة المنكوبين إلى وحدات سكنية وممارسة حياتهم الطبيعية والعيش بظروف صحية”.

الأولوية الطبية وبطء وصول الأدوية 

ترتيب الأولويات الطبية كان في أعلى سلم الفرق الطبية ضمن الاستجابة الطارئة، مثل المصابين الذين يندرجون ضمن الحالات الساخنة التي تم نقلها إلى المستشفيات لتقديم العلاج الطبي الطارئ لهم، يليها فوراً مرضى السكري والضغط والقلب.

إلا أن الدكتور عواد يشير إلى وجود بطء في وصول الأدوية والمعدات ناجم عن الخضوع لبروتوكول معين لتقديم الخدمة الطبية يجب أخذه في الحسبان، لافتاً النظر إلى أن الأطفال وكبار السن هما الشريحتان الأكثر تضرراً وهشاشة جراء الكوارث نتيجة عدم قدرتهم على تحمل الظروف غير الصحية، إضافة إلى ذوي الخدمات الطبية الخاصة كأصحاب الإعاقة والأمراض المزمنة كالسرطان.

أخذت الأمراض الهضمية حيزاً كبيراً من ناحية التهديدات الصحية على منكوبي الزلزال، حيث يُشير عواد إلى وقوع حالات تسمم في أحد المطابخ المشتركة التي كانت تستوعب قرابة 6000 متضرر. ويشرح الوضع: “حدوث حالات تسمم أمر محتمل جداً، لكنه مسيطر عليه ولا يشكل خطر الموت ويحتاج إلى خطة علاج معروفة لا تدعو للخوف الشديد”.

الوضع الصحي والإنتانات تنفسية

طبيعة الإصابات هي التي تحدد طريقة الاستجابة الطارئة والتعامل الطبي، وفقاً للدكتور عواد. فالحروق والكسور ومتلازمة هرس الأطراف نتيجة سقوط المباني والبقاء تحت الأنقاض لفترات طويلة هي أبرز مظاهر المشاهدة الأولية لكارثة الزلزال، بينما في الحروب فتكون إصابات ناجمة عن طلق ناري وجروح جراء سقوط القذائف، وكثيراً ما تكون الكوادر الطبية متأهبة على خلاف الزلزال الذي يكون مفاجئاً.

وأشار طبيب مختص بالأمراض الصدرية فضل عدم الكشف عن اسمه إلى أن: “تأثر شريحة من المتضررين بأمراض تنفسية وحالات عديدة بالرشح والزكام وكورونا نتيجة هطول الأمطار الغزيرة والبرد القارس الذي لازم وقت حصول الزلزال، إضافة إلى عدم توفر مستلزمات التدفئة ساهم على نحو كبير بتردي الوضع الصحي للمنكوبين المتواجدين في مراكز الإيواء.” ويضيف طبيب الأمراض الصدرية أن “الأمراض التنفسية تنتشر، خصوصاً في ظل الاكتظاظ في الخيام ومراكز الإيواء، كذلك الدمار الهائل جراء سقوط الأبنية والمنازل وما تسببه من غبار كثيف، فالهواء الملوث يسبب الفطور والحساسية والأمراض التنفسية، لاسيما لمرضى الربو الذين يتفاقم سوء وضعهم الصحي”.

اضطراب ما بعد الصدمة

يترتب على الكوارث الطبيعية آثار نفسية متباينة لا يمكن تجاهلها كفرط التيقظ والعدائية والجمود والعصبية وسهولة الاستفزاز وفقدان الشعور بالطمأنينة والعجز عن العودة لممارسة الحياة الطبيعية، إلى جانب نوبات الهلع واضطرابات النوم التي ترافق المريض لأيام وأسابيع. ويصف الطبيب النفسي جميل ركاب أعراض اضطراب ما بعد الصدمة “بأنها ردود أفعال طبيعية لحدث غير طبيعي” وهو ما يقدم ضمن الإسعاف النفسي الأولي بعد حصول الزلزال، كما يشير إلى اضطراب الشدة ما بعد الصدمة Post-traumatic stress disorder المعروف بـ PTSD والذي يحدث عقب شهر من وقوع كارثة إنسانية وهو اضطراب القلق المرهق الذي يحدث بعد التعرض لحدث صادم أو مشاهدته، حيث يعاني الأشخاص الذين لديهم اضطراب ما بعد الصدمة من إحساس قوي بالخطر، ما يجعلهم يشعرون بالتوتر أو الخوف، حتى في الحالات الآمنة.

أن تعيش في هذا الموات: السويداء المُهَمَّشة

أن تعيش في هذا الموات: السويداء المُهَمَّشة

الحرية

لم يكن يخطر في بال الجموع التي هزَّت البلاد منذ سنوات أصبحت لا تُعَدُّ أنَّ الأشياء كلّها ستحصل على حرّيتها إلاّهم.
الحرية تلك الكلمة الأثيرة التي اعتلت الحناجر والمنابر ولافتات الشوارع، تجتاحنا بلا رحمةٍ اليوم… الأشياء تتحرّر تباعاً.. كل صباح أستيقظُ لأترقّب جغرافيا الحرية، الخبز الحُرّ.. السكر الحُرّ.. الرز الحُرّ.. الزيت الحُرّ.. المازوت الحُرّ.. البنزين الحُرّ… والسقوط الحرّ للكرامة الإنسانيّة في هاوية سحيقة من الضلال السياسيّ والتمزّق الطائفيّ والانهيار الاقتصاديّ.
نعم لقد أصبحت هذه السلع كلّها حرّة، ونحن نراقبها بصمت، عبيداً، أمام هذه الكثرة الكاثرة من الحريّات السِلعيّة.. ونصلي من أجل أن تخسر السلع حرياتها، وتعود إلى عبوديتها، ولكن السلعة الوحيدة التي لم تصبح حرة حتى الآن هي الإنسان!

الفرح
لا فسحة للاكتئاب في ديارنا، الفرح يداهمنا كيفما توجهنا، كأن تستيقظ على صوت شحن بطاريات الطاقة مدركاً أن الكهرباء العزيزة في الدِّيار… ثم تخرج إلى عملك لتستقلّ إحدى وسائل النّقل العام، فتجد مقعداً دون أن تشعر أنك في يوم الحشر، وتدخل إلى إحدى الدوائر الرسمية لتجد موظفاً يقوم بعمله باحترام، وتُنجز معاملة في وقت مثاليٍّ، ثم تعود إلى المنزل لتشعر بمدى عظمتك عند إشعال المدفأة بالمازوت..!
هذا الفرح مخاتل شجي، هذا الفرح عصيٌّ على غير السوريين، هذا الفرح خاصٌّ بنا، فوحده من ذاق عرف..
إلا أنه مثل كل غالٍ وثمين كالفينيق والعنقاء والخلّ الوفي. إنّه فرح ذاتي بالوجود ولو للحظة داخل عالم يتجه نحو التلاشي والزوال…إنّه فرح يوهم بالفرار إلى عالم آخر غير هذا العالم التعِس البائس…هذا ما قاله حسّان أستاذ اللغة الفرنسية، معبّراً عن فرحه داخل المأساة الكونية.

السويداء
يُقال سويداء القلب : حبّته، عمقه، مهجته
والآن هي الهامش: اقتُلِع من السويداء عمقها، رُفِعت اليد عنها، وتُركت تتقاذفها الأهواء في أقاصي الأزمة..
هذا بناء المحافظة اليوم يشهد كيف تقاذفت الأهواءُ النيران، تحوّل هذا البناء في الأيام الفائتة إلى أذن ثالثة التقطت الصوت من عمق السوق، حيث كانت تتحرك مجموعة من الجياع تنادي بحقها من قوت الحياة وتصرخ بالمتجمهرين: من لم يكن جائعاً لا يلحق بنا..
في زاوية أبعد توجد مجموعة أخرى من شبابٍ بلباسٍ مختلف يتأهبون لالتقاط اللحظة وخطف الزَّخم..بدؤوا الاتصالات لدعم حراك الجوع، وإطعامه بألون مختلفة من الإيديولوجيا..
أما حاتم بائع القماش بدأ يهمس لزبائنه بأن هناك رجالاً كانوا قد تضرّروا من قرارات ضريبية، فأرادوا بثَّ الفوضى في بناء المحافظة عسى أن تُحرق الأضابير الضريبية الخاصّة بهم، يجيبه هايل -الشاب الذي ينتظر تأشيرة نجاته بعد تخرجه من الجامعه وفشله في إيجاد عمل أفضل من عمله أجيراً لدى حاتم- بأنَّ في كلامه هذا تقليلاً من شأن ما يحدث (إنه نداء الجوع يا معلم).
ولكنَّ حُساماً الخارج من السجن بعفوٍ عام علّق قائلاً: لابد أنها حركة من حركات الدولة لإطباق السيطرة على البلد. يقهقه حاتم قائلاً يبدو أنهم “برعوا في تأديبك”..
في البناء المجاور لمبنى المحافظة كانت همسات البعثيين القدامى تملأ المكان، بعد أن بدأ المحتجون باقتحام المبنى وتكسير أثاثه وإحراق أوراقه. إنهم المندسون أولئك الشباب المُتنفّعون مما يقدمه الخارج، بحجة دعم حراكهم ودفعهم وتوجيههم لفعل الأسوأ. لابد أنهم كذلك..من أين أتت تلك اللافتات المعنونة بالشعارات المبسترة المسيسة بالطريقة الغبية نفسها؟ من أولئك الذين يرتدون الأسود ويصورون الوقائع ويتكلمون على الهواتف الجوالة؟ هل يدرك هؤلاء أنهم ينتهكون رمزاً للوطن.
ربيع يهاتف أصدقاءه المحامين ليخبرهم أن اللحظة التي مازلنا نحلم بها من أحد عشر عاماً قد حانت، إنه التغيير يقرع بابنا ولابد لنا من إعادة تنظيم أنفسنا من أجل هذا الحراك. تليق بنا دولة مواطنة، آن الأوان ليحكم الشعب نفسه حقاً..
الدولة كانت تحاول إطفاء النار دون أن تشعل حرائق أكثر. حضرت مجموعة من رجال الأمن لتفريق المحتجين بعد أن اخترق الرصاص القاتل جسد عنصرٍ من عناصر الأمن، وكذلك قُتِلَ شاب قاده القدر إلى المكان.. دون تأكيدٍ لهوية القتلة..

المركز الأول

نسيم معروف حارس مرمى نادي العربي الرياضي في السويداء، من قرية عتيل التي شهدت مؤخراً النزاعات الأهلية بين الفصائل المحلية، بُغية ضبط الأمن المحلي، كتب عن فعالية اجتماعية نجح في إقامتها في بلدته: الأرجنتين كسبت الكأس، ونحن في عتيل ربحنا المركز الأول أيضاً.
فقد أطلق أبناء عتيل مبادرة اجتماعية رياضية لشراء بطاقة اشتراك تلفزيونية، واستئجار بعض المعدات، واستخدام الصالة الاجتماعية في البلدة لعرض مباريات مونديال قطر ٢٠٢٢. كما تم تحديد سعرها رمزياً بمبلغ قدْره خمسمئة ليرة سورية للدخول، الأمر الذي استقطب متابعي الرياضة من القرية ومن القرى المجاورة لها.
ونشر نسيم معروف على تدوينته بياناً بالمبالغ المحصلة من هذه الفاعلية، والتي بلغت نحو ثلاثة ملايين ليرة سورية، ليقول إنها ستُجيّر لصالح شراء الأدوية للأمراض المزمنة، وستقدم للمحتاجين.
نعم لقد نجح في ظل كلّ هذا الفشل، يبدو أنّ النّجاح ممكن.

الرسالة
“أمّةٌ عربيّةٌ واحدة ذاتُ رسالةٍ خالدة”، كانت الرسالة الأولى التي سمعت بها قبل أن أرسل رسالة عشقي الأول لـ”ناي” صديقتي في الصف الخامس، قال وفيق. وتابع: بعد ذلك أصبحتُ مطيّةً في أرض الرسالات..رسالة الدين، رسالة الأخلاق، رسالة الحزب، رسالة التخرج، رسالة الدبلوم لكن لم يخطر في بالي أبداً أن تكون رسالةٌ مثل رسالة تكامل (وهي الرسالة التي تصل للهاتف الجوال مبشرة بقدوم الدعم في ما يخص الغذاء والوقود) هي الرسالة الأثيرة لقلبي..أحس بمعنى كل الرسائل فيها، أتلمس الخلود والعشق والرحمة والأدب والعلم بأوضاع الحال، ينشرح صدري دون صلاة حين تقع في قلبي نغمتها المميزة عن كل نغمات العالمين، أقف ضد نفسي أنا الذي ظننت يوماً أني حرٌ فجوارحي تنتظر تلك الرسالة الخالدة التي تقف بكامل ألقها في وجه الخبز الحر والسكر الحر والرز الحر والغاز …
تتحدى كل ماهو حر وهي تحتضن رجائي بدوام الدعم الحكومي. قلبي الصغير لم يعد يحتمل أكثر من تلك الرسالة الشقيّة العصيّة.

الأفق والضوء في آخر الصّورة
كقصيدة شعرٍ تخبو لتتحول إلى صورة، كلحظةٍ يُراد بها تجميد المشهد، التقط ملهم الشاعر المسافر إلى دمشق آلة التصوير و رسم..
أسودٌ هو ذاك الجبل الذي يستقبلك حين الدخول إلى أرض البازلت؛ عزيزاً يطل على لؤم ما يحصل. لونٌ ناري يهبط على تلة جبل (قليب) عسى أن تُشعل النار التي كانت تُنذر أن خطراً محيقاً بأهل الجبل في الديار..لونٌ نبيذي شاحب يندلق من اللوحة يعلن انتهاء موسم النبيذ دون صخبٍ، دون سمر.
وجوهٌ شاحبة مسمّرةٌ إلى ذاك الضوء في آخر الأفق.. وحين أخبره العسكري على الحاجز أن اسمه مطلوب للاحتياط وعليه النزول رسم قطاراً لا يُرى إلا ضوءه، يدهس الجميع.

الغواية
للحياة غواية لا يدركها إلا من يناضل ليعيش، الآن أنا في السويداء؛ سويداء قلبي التي هُمِّشت وهُشِّمت، أتماهى مع بازِلتِها، أتشبث بالعيش كما العشب ينمو بين صخورها، تهدر روحي لترتقي من هاجس البقاء على قيد الحياة لهاجس الحياة، ها أنا أراها، أتلمسها، أطرق على جدار الخزان بكل قوتي، أريد أن أتبع شغفي، أركض خلف غواية الحياة فقد نجحت بالعيش في كلِّ هذا الموات. هذا ما قالته لبنى الفتاة الجميلة الموهوبة بكتابة القصة القصيرة.

*تنشر هذه المادة ضمن ملف صالون سوريا حول “إرادة المقاومة اليومية في سوريا لدى المواطنين العاديين

جراح الزلزال الروحية: كدمات نفسية ومخاوف لا تمحى 

جراح الزلزال الروحية: كدمات نفسية ومخاوف لا تمحى 

“توقف الزمن، ما زلت عاجزة عن الكلام والتعبير، أشعر أنني لم أعد على قيد الحياة، أنا محض جثة نجت بأعجوبة، وليتها لم تنج”، تقول علا علي (19 عاماً) وتنهار بالبكاء خلال حديثها مع “صالون سوريا”.

كانت علا تدرس على طاولة الدراسة الجامعية الصغيرة في زاوية غرفتها في الطابق الثاني فجر الكارثة. بعد أن اطمأنت أنّ أهلها نائمون بأمان وسلام، ابتسمت في وجه المرآة ووعدت نفسها بمستقبل أفضل حالما تنهي سنواتها الجامعية، أعدت كوباً من القهوة الساخنة وبدأت تتصفح إحدى محاضراتها، شغلت أغنية لنجاة على هاتفها الصغير، كانت تحب نجاة كثيراً قبل الكارثة.

“لا أدري ماذا حصل، كان كل شيء جيداً، لا أذكر، لا أريد أن أتذكر، فجأة ارتج المنزل، هزة، هزتين، لحظات، ساعات، عمر بأكمله، صراخ شديد، صرت أسمع صراخاً من منزلنا، من الجوار، صرت أشعر بأصوات صرخات تحطم رأسي، لا أدري كم استغرق الأمر، ولكنني الآن أدرك أكثر ما حصل، أتعلم ما الذي حصل؟، أهلي توفوا، ومنزلي صار ركاماً ؟”.

شيء ما يبدو غريباً في علا، هل كلمة غريب مناسبة بعد ما عاشته؟، هي الآن عند أقاربها، يقولون إنّها ليست بخير، لا تنام ليلاً، تبكي طوال الليل، وإذا ما غفت فإنّها تستيقظ صارخةً.

في حديثي معها، بدا لدى علا طاقة كبيرة للكلام، أرادت أن تقول شيئاً لم تستطع التعبير عنه بأسلوب واضح، أفكارها مبعثرة للغاية، ذكرياتها مشتتة، لا يبدو أنّها قد استوعبت ما حصل بتمامه حتى الآن، وريثما تستوعب ما حصل، قد يكون فات الأوان على شابة كانت تتوسم خيراً رغم كل ما في بلادها من محن.

بسطاء يتقاسمون القهر

الأمر في سوريا مركب قليلاً، فالناس تجاوزت عقداً من الحرب، وحملت فيه ما حملت من هموم ومشاكل وآلام وخسارات نفسية ومعنوية ومادية زادها سوء الحال الاقتصادي تعقيداً واستنزافاً، فجاء الزلزال مكملاً على أحلام بسطاء يتقاسمون القهر من شمال إدلب إلى حلب والساحل وحماه وكل منطقة تضررت من الزلزال.

في جولة على حالات كثيرة نجت من الزلزال يبدو واضحاً اتحاد المشاعر التي تنحو نحو العدمية ويبدو من غير المنطقي “الطبطبة” على جراحهم، فجراحهم عميقة للغاية، عميقة إلى ذلك الحدّ الذي تحتاج فيها مرمماً طبياً من النوع الوجداني – المادي غير المتوفر حتى الآن لهؤلاء الضحايا.

إذا اعتبر أحدٌ ما أنّ الفقد يمكن تجاوزه مع مرور الوقت، معللاً ذلك بالسنن الكونية الناظمة لحياة البشر، فكيف سيمكن تعليل شكل الحياة لأناس كانوا يستظلون تحت سقف وصاروا في المأوى، والسقف في سوريا ليس اصطلاحاً من الترف، بل هو المعنى الحقيقي لـ “جنى العمر”، فهل تؤمن الحكومة لضحايا البلاد دفئاً من النوع الذي يحيطهم من خلال أربعة جدران؟، يبدو ذلك مستحيلاً في المدى المنظور، فلا الإمكانيات متوفرة ولا القدرة المادية والاقتصادية واللوجستية كفيلة بحل تلك الإشكالية التي كتبت على السوريين نزوحاً تلو نزوح في حياة واحدة.

لا تتوقف الأرض عن الاهتزاز

لم تتوقف الحياة عند علا فقط فجر السادس من شباط، كثر مثلها، وفاء حمدان (38 عاماً) من ناجي اللاذقية لا زالت تعيش آثاراً وتبعات لما بعد الزلزال، تقول: “شيء غريب يحصل في بدني حين تصير الساعة الرابعة وقليل فجراً منذ يوم الزلزال، أشعر ببدني كلّه يرتعد، دقات قلبي تتصاعد كثيراً، أشعر بدوار شديد، أشعر بالأرض تهتز من تحتي، أهرع لأوقظ أفراد أسرتي، أصيح بهم جميعهم، فيقفون من نومهم مرتعبين، أخبرهم بوجود زلزال، ولكن يبدو أنّ لا أحد يشعر به غيري”.

يؤكد منصور شقيق وفاء روايتها وبأنّهم في الأيام الأولى التي تلت الزلزال كانوا يستجيبون لصرخات أختهم وينزلون للشارع على الفور، لكنهم تبينوا مع الأيام اللاحقة أنّها حالة نفسية عصيبة، وعليهم أن يتعاملوا معها بهدوء وحذر كما أشار عليهم أحد الأطباء النفسيين الذين استشاروه دون وجود وفاء التي رفضت الذهاب إليه مؤكدةً أنّ أحاسيسها بالهزات الأرضية اليومية هي أحاسيس حقيقية.

يقول منصور: “لا أريد أن أقول هذا، ولكن الزلزال أثر على عقل وفاء، وأثر علينا جميعنا، نحن خائفون، نجونا من الزلزال بأقل الأضرار ولكن شدته وسقوط الأبنية من حولنا وصرخات الجوار كلها عالقة في أذهاننا حتى الآن مذكرةً إياناً بأقسى يوم مرّ على بلادنا”.

متلازمة ما بعد الزلزال

مئات الحالات وربما أكثر بدأت تشتكي من مخاوف وهلوسات وما فسره الأطباء النفسيون بمتلازمة ما بعد الزلزال، فالبعض بات لا شعورياً يشعر بهزات كل لحظة وهي غير موجودة حقيقة، وآخرون باتوا يخافون النوم، وغيرهم توقفت الحياة لديهم عند لحظة بعينها، لحظة وقوع الزلزال، لحظة سماع خبر وفاة أحد من الأهل تحت الأنقاض، لحظة استعصاء إنقاذ أحد، لحظة فقدان أيّاً كان نوعها.

يقول الأكاديمي بعلم النفس أحمد سميح لـ “صالون سوريا” إنّ متلازمة ما بعد الزلزال هي متلازمة مشخصة أساساً من قبل باحثين يابانيين في عام 2011، وتنضوي على اضطراب ما بعد الصدمة مركباً مع القلق والخوف والتوتر.

وبين سميح أنّ المتلازمة تتمثل بدوار واهتزاز وتأرجح يشعر به الشخص لمدة تتراوح ما بين ثوانٍ عدة ودقيقة ونصف في عموم الحالات المسجلة، إضافة لشعور بالحاجة للتقيؤ أحياناً وآلام في المعدة وتشوش في الرؤية، والسيء بالأمر بحسب سميح هو قابلية استمرار الظاهرة حتى ستة أشهر ما بعد التعرض للصدمة الأولى (الزلزال).

ويتابع المختص بعلم النفس أنّ المتلازمة تلك قابلة للعلاج عبر زيارة الطبيب النفسي الذي يكون مؤهلاً لوصف أدوية تخفف من وطأة المشكلة وتنظر في موضوع الاكتئاب والقلق والخوف المرافقين.

ويحذر سميح أنّه في بعض الحالات الشديدة التي لا يجري علاجها ومتابعتها أو لا تزول أعراضها من تلقاء نفسها فمن الممكن أن تتطور المشكلة للدخول في أطوار اكتئابيه ومشاكل نفسية أخرى تتطلب علاجاً أكثر تركيزاً: “الكثير من الحالات التي تصلنا ونتعامل معها، بعضها بسيط، والبعض الآخر لا ينذر بالخير ما لم يتم التعامل الطبي معه بشكل سريع، فثمة أناس يرزحون تحت تأثير الصدمة التي من الممكن أن تغير شكل كل حياتهم القادمة.”

الأمراض العضوية

لا يمكن القول إنّ عدد الضحايا هو نهائي رغم مرور قرابة شهر على الزلزال، فبحسب الرأي الطبي لا زال عدد الوفيات قابلاً للارتفاع ولو كان بنسبة بسيطة، الطبيب مهدي أحمد شرح لـ “صالون سوريا” الموضوع مبيناً أنّ الوفيات الأولى حصلت خلال الزلزال مباشرة، أما الموجة الثانية فكانت من خلال تسجيل وفيات بين المصابين الذين نجوا وأودعوا المستشفيات، أما الاحتمال القائم مستقبلياً فهو تسجيل وفيات بعد أشهر من الآن، والتي قد تكون ناتجة عن التهابات كامنة وفشل في أداء بعض وظائف الجسم.

وبين الطبيب أحمد أنّ الأثر الذي تمكن ملاحظته خلال الفترة القادمة قد يكون ناجماً عن التلوث الذي خلفه الزلزال الذي دمر جزءاً من منظومة الصرف الصحي ما سيشكل بيئة ملائمة لانتشار الأمراض المعدية وعلى رأسها تلك المعوية والتنفسية، وكذلك الكوليرا والملاريا وغيرهم من الأمراض المنقولة عبر القوارض أو الحشرات.

هل ظلّ ما يقال

ما بين أثر نفسي وآخر عضوي، يدفع السوريون ثمناً باهظاً، ولكن هذه المرة ثمن جاءهم من الطبيعة التي ما ظنوا يوماً أنّها ستخذلهم وهم المنتشون بابتعاد الحرب عن مراكز مدنهم وأرواحهم وأرزاقهم، ليأتيهم غضب من الطبيعة يحيل معه القهر لتسميات أخرى، تسميات أبعد وأشمل، كمثل الحلم بميتة طبيعية في بلد ما من شيء طبيعي فيه.

كان المنكوبون عشية الزلزال يفكرون كيف سيتدبرون غدهم بما يكفيهم خبز يومهم، الآن صاروا يفكرون كيف سيتدبرون غدهم وهم مرميون في مراكز الإيواء في أدنى شروط الخصوصية التي عرفوها يوماً، مرميون منتظرون تلك الجمعيات التي تأتيهم بالـ “ساندويش”، ثم يسأل سوريٌّ: “هل ظلّ ما يقال!”

كل من يدخلها يغدو ابناً لها لا ضيفها

كل من يدخلها يغدو ابناً لها لا ضيفها

ربما هو معتاد بالنسبة لبلد تتكرر فيه هذه الظاهرة، لكن هنا في سوريا كل ما يحدث هو إشارة لسوء الطالع. حرب، فيروس كورونا ومن ثم “حصار اقتصادي” ليتبعها أخيراً زلزال خيّب كل توقعاتنا بأنه عابر. فجيعتنا مضاعفة! وكأن السوري خُلق محظوراً عليه التنفس، مسرفاً في الفقد والعوز للأمان والطمأنينة؛ قلوبنا أضحت مأوىً للتشرد. 

تمر الحياة مثل شريط سريع في لحظات الأزمة؛ وهذا ما حدث لي فجر الاثنين، فأثناء نومي شعرت وكأن قوة جبّارة تشدّني عن السرير وهدير مرعب خمّنت أنه بسبب العاصفة في الخارج، لكن ما علاقة ذلك باهتزاز الأرض من تحتنا؟ قفزت من سريري وأنا نصف نائمة متوجهة إلى غرفة العائلة لأجد أمي مذعورة تبتهل وأبي يهدّئ من روعنا. “إنها هزة أرضية!”.

في ذلك الصباح لم يعد بمقدورنا النوم؛ فكنّا رابضين في أسرّتنا مذعورين من هذا الحدث الجلل، ننتظر هول ما هو قادم، خاصة وأنّ الحادثة تزامنت مع عطل في كهرباء البلدة لتأتي الصدمة بانهيار بيوت وسقوط آلاف الضحايا وتشرّد السوريين من جديد وكأنّ كل ما مرّ بهم لم يكفِ.

يستحضرني أمام آلامنا المتكررة ما قاله أيوب بعد أن حلت به المصائب متعاقبة: “عرياناً خرجت من بطن أمي.. وعرياناً أعود إلى هناك”. 

الحضن الدافئ  

الاثنين، 6\2\2023، الرابعة صباحاً، استيقظ السوريون على زلزال لتتواصل الفواجع على سوريا. جرح مؤلم جديد. دمار في كثير من الأماكن، ذروته في حماه، حلب، اللاذقية وإدلب. 

ولكن بالمقابل، كانت هناك عشرات القرى المجاورة انتفضت لإغاثة الأهالي واستضافت المحتاجين. ومن بين تلك القرى بلدتي كفربهم التابعة لمحافظة حماه، حيث أعيش، كنت أرى صور التآخي في أبرز تجلياتها عبر التعاون لإغاثة الملهوفين دون تفرقة.

فتحت البلدة ذراعيها كأمّ حنون منذ اليوم الأول بعد الزلزال؛ فبادر الأهالي بإرسال الحافلات الكبيرة من المحافظة لإحضار العوائل المنكوبة، حيث تكفلت الجمعيات الخيرية في البلدة بتزويد تلك الحافلات بالوقود ودفع أجرها. وبمجرد وصولهم اندفع الأهالي للمساعدة بفتح بيوتهم مستقبلين حوالي 162 عائلة؛ أي حوالي 550 فرداً، رافضين وبشدة أن يكون هناك مراكز إيواء في البلدة معتبرين ذلك عاراً بالنسبة لهم. تقول “فضة جوهر (67 سنة): “الصدر لهم والعتبة لنا، إن لم تسعهم عيوننا نضعهم في قلوبنا”. معظم المتضررين كانوا من حلب وما تبقى من اللاذقية وعوائل قليلة من إدلب. 

وحسب ما رأيت هبّ شباب البلدة فأمّنوا الاحتياجات التي كانت مطلوبة من “بطانيات، اسفنجات، حليب أطفال، فوط للأطفال، وملابس” كما قام أهل البلدة بتجهيز الطعام للعائلات، إضافة لمدرسين وأطباء وصيادلة من البلدة قاموا بتقديم خدماتهم مجاناً.

أيقونة للعطاء

فاجأتني كمية المحبّة والتعاطف الاجتماعي في لهجة من حدّثتهم بهذا الخصوص. شعرت أن الجميع يحب ويساند الجميع، وكتف السوري ما كان يوماً إلا عكازاً لأخيه السوري المنكوب.  

الدكتور “نزار نصار”، أخصائي أشعة، أبدى استعداده للتعاون في مساعدة المحتاجين من العائلات، حيث أعلن أنه على استعداد لإجراء الفحوصات الشعاعية للمتضررين من الزلزال مجاناً في عيادته، وأنه مستعد للتبرع بأجور المشفى التي نُقل إليها أحد المتضررين الذي عاين ساقه.  

“رعد الديبان” من سكان بلدة كفربهم قال: “عرضت استضافة عائلة في بيت ثانٍ لي ولم يعجبهم لمشكلة فيه لم أستطع حلها، فعرضت أن يقيموا في منزلي ومرحِّباً بهم إلى أي وقت”.    

ورغم أعمال الترميم التي كان يقوم بها، لم يتوانَ السيد “وجيه غانم” مالك منتجع كفربهم السياحي، عن تقديم العون والمساهمة إلى جانب أهل البلدة، حيث أخبرنا أنه أوقف جميع نشاطات المنتجع وأعمال بناء كان يقوم بها في منتجعه لاستقبال العائلات المتضررة، وقد قدم لهم الطعام والرعاية. 

كان “واسكين قبانجيان” أحد المتضررين من حلب، وقد أخبرنا في حديثه عن شعوره بالأمان بين أهل البلدة كأنهم أهله، وعلى وجه الخصوص تلك الرعاية الكريمة التي قاموا بها لوالده السبعيني المريض حيث عرضوه على طبيب وقدّموا له العلاج المناسب. 

الحياة مِنحة

أثناء حديثي مع “الأب فيلبس” وهو راعي كنيسة القديس جاورجيوس للروم الأرثوذكس، داهمتني الكثير من الأسئلة تجاه ما حدث في البلدة بهذا الخصوص فأخبرنا قائلاً: “صباح الاثنين أتتنا توجيهات من مطرانية حماه لنفتح الكنائس للمتضررين، وبما أنه ليس لدينا مراكز إيواء في البلدة فتحنا بيوتنا للعائلات بكل محبة وقدّم الناس كل ما يستطيعون لهم”. 

وأضاف: في اليوم التالي قدِمت الجهات المعنية والهلال والصليب الأحمر إلى البلدة ليجدوا كل شيء على أكمل وجه. وقد كان التعاون بيننا وبينهم على قدم وساق، وبادر الكثير من الأشخاص القادرين مادياً والمغتربين إلى التبرع بمبالغ كبيرة للجمعيات الخيرية في البلدة، كما قدّمت صيدليتا أليسار وكفربو الأدوية مجاناً، وقد كان لشبابنا وقفة عظيمة ومختلفة، فبذلوا ما بوسعهم لإبعاد شبح الرعب عن قلوب الناس والمتضررين.

-هنا في كفربهم كل من يدخلها يغدو ابناً لها لا ضيفها-وشرح الأب فيلبس كيف أن العديد من العائلات عاد إلى حلب بعد هدوء العاصفة تاركين قدماً لهم في البلدة خوفاً من تكرار الحدث: “فالزلزال لم يستكن تماماً و الهزات الارتدادية قائمة. وهناك عائلات فضلت البقاء في البلدة بسبب دمار منازلهم، وسنكون سنداً حقيقياً لهم إلى أن تنتهي هذه الأزمة؛ أزمتنا جميعاً”.

مجدداً 

فجر الثلاثاء 21\2\2023 ضرب زلزال ثانٍ لثوانٍ معدودة أتى كصدمة سمجة فما كان منّا إلا الاستهجان فقط، إذ بات الخطر حالة اعتيادية في حياة السوريين، فدائماً هناك الأمل الذي يهبط فجأة، لكن ليس الأمل الساذج وإنما إرادة الحياة التي تخلق نفسها بعد كل أزمة أو كارثة طبيعية. 

إن الكوارث التي تعصف بالإنسان والبشرية جمعاء وتهدد الوجود الإنساني تجعلنا نخرج من دائرة الأنانية الضيّقة، لتصبح الحياة بكامل تفاصيلها اليومية، حياة تشاركية مبنية على المحبة والمساندة. إن سوريا اجتازت كل الآلام، حسب ما أشعر في كل مرة يدميها الدمار تنهض كطائر الفينيق، وشعبها غدا متصالحاً مع الموت الذي يقرع أبوابنا في كل حين.