ماهي الشروط  السرية لـ”التطبيع العربي” مع سوريا ؟

ماهي الشروط السرية لـ”التطبيع العربي” مع سوريا ؟

كشفت الوثيقة الأردنية وملحقها السري، اللذان حصلنا لى نصهما، أن الهدف النهائي من الخطوات العربية للتطبيع مع دمشق هو «خروج جميع القوات الأجنبية والمقاتلين الأجانب من سوريا الذين دخلوا البلاد بعد 2011»، بما في ذلك «انسحاب القوات الأميركية والتحالف من شمال شرقي سوريا، بما في ذلك من قاعدة التنف الأميركية» قرب حدود الأردن والعراق، بعد سلسلة خطوات وفق مقاربة «خطوة مقابل خطوة» تشمل بداية «الحد من النفوذ الإيراني في أجزاء معينة من سوريا»، مع الاعتراف بـ«المصالح الشرعية لروسيا».

وتشكل هذه الوثيقة، التي سُميت «لا ورقة» ولاتتضمن جدولاً زمنياً، أساس الخطوات التي تقوم بها دول عربية تجاه دمشق وشمل ذلك لقاء وزير الخارجية فيصل المقداد تسعة وزراء عرب في نيويورك وزيارات رسمية أردنية – سورية واتصالات بين قادة عرب والرئيس بشار الأسد ولقاءه وزير الخارجية الإماراتي عبد الله بن زايد في دمشق الثلاثاء.

وأعد الجانب الأردني هذ الخطة قبل أشهر، وناقشها العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني مع الرئيسين الأميركي جو بايدن في واشنطن في يوليو (تموز)، والروسي فلاديمير بوتين في أغسطس (آب) ومع قادة عرب وأجانب. وتضمنت الوثيقة، التي تقع مع ملحقها في ست صفحات، مراجعة للسنوات العشر الماضية وسياسة «تغيير النظام» السوري، قبل أن تقترح «تغييرا متدرجا لسلوك النظام» السوري بعد «الفشل» في «تغيير النظام».

وقال وزير الخارجية الأردني أيمن الصفدي لشبكة «سي إن إن» الأميركية أمس، إن «الأردن يتحدث مع الأسد بعد عدم رؤية أي استراتيجية فعالة لحل الصراع السوري». وأضاف أن «التعايش مع الوضع الراهن ليس خيارا»، مضيفا: «ماذا فعلنا كمجتمع عالمي لحل الأزمة؟ 11 عاما في الأزمة ماذا كانت النتيجة؟ الأردن عانى نتيجة الحرب الأهلية السورية، حيث تشق المخدرات والإرهاب طريقها عبر الحدود، وتستضيف البلاد 1.3 مليون لاجئ سوري لا يتلقون الدعم الذي قدمه العالم من قبل».

وكشف الصفدي أن «الأردن أجرى محادثات مع الولايات المتحدة حول جهود التقارب»، ذلك في إشارة إلى زيارة العاهل الأردني. كما أن مدير المخابرات الأردنية اللواء أحمد حسني حاتوقي أعلن أن الأردن يتعامل مع الملف السوري كـ«أمر واقع». وتتطابق تصريحات الوزير الصفدي مع «الوثيقة الأردنية»، وهنا نصها:

بعد مرور عشر سنوات منذ اندلاع الأزمة السورية، تنعدم الآفاق الحقيقية لحلها. ولا توجد استراتيجية شاملة للتوصل إلى حل سياسي واضح. ولا يمكن للنُهُج الضيقة المعنية بمعالجة مختلف جوانب الأزمة ونتائجها على أساس المعاملات وعلى أساس الأغراض المحددة أن تُحقق الحل السياسي اللازم. يتفق الجميع على عدم وجود نهاية عسكرية للأزمة الراهنة. وتغيير النظام السوري الحاكم ليس غرضا مؤثرا في حد ذاته. والهدف المعلن، هو إيجاد حل سياسي على أساس قرار مجلس الأمن رقم 2254. بيد أنه لا يوجد تقدم ذي مغزى على هذا المسار. فالوضع الراهن يسفر عن مزيد من المعاناة للشعب السوري وتعزيز مواقف الخصوم. لقد أثبت النَهج الحالي في التعامل مع الأزمة فشلا باهظ التكلفة:

– الشعب السوري: بحسب أحدث بيانات الأمم المتحدة، هناك 6.7 مليون لاجئ سوري، مع 6.6 مليون نازح داخليا، و13 مليون سوري بحاجة إلى المساعدات الإنسانية، بما في ذلك 6 ملايين مواطن في حالة عوز شديد، و12.4 مليون سوري يكابدون انعدام الأمن الغذائي، وأكثر من 80 في المائة من السوريين يعيشون تحت خط الفقر، مع 2.5 مليون طفل خارج نظام التعليم في سوريا، بالإضافة إلى 1.6 مليون طفل معرضين لمخاطر التسرب من المنظومة التعليمية.

– الإرهاب: لقد هُزم تنظيم «داعش» الإرهابي لكنه لم يُستأصل بالكامل. ويحاول أعضاؤه إعادة ترتيب الصفوف، وهم يعاودون الظهور في أجزاء من البلاد التي طُرد منها «داعش»، مثل جنوب غربي سوريا. كما يعملون على توطيد وجودهم في مناطق أخرى مثل الجنوب الشرقي. وتستمر تنظيمات إرهابية أخرى في العمل في أجزاء مختلفة من سوريا، حتى إنها تستفيد من الملاذات الآمنة في الشمال الشرقي.

– إيران: تستمر إيران في فرض نفوذها الاقتصادي والعسكري على النظام السوري، وعلى أجزاء حيوية عدة في سوريا. من استغلال معاناة الناس لتجنيد الميليشيات، ويزداد وكلاؤها قوة في المناطق الرئيسية، بما في ذلك جنوب البلاد. وتُدر تجارة المخدرات دخلا معتبرا لهذه الجماعات، كما تُشكل تهديدا متزايدا على المنطقة وخارجها.

– اللاجئون: لا يرجع أي من اللاجئين – أو حتى عدد متواضع منهم – إلى سوريا بسبب عدم تحسن الأوضاع الأمنية والاقتصادية والسياسية في البلاد. ويتناقص التمويل الدولي للاجئين، فضلا عن المجتمعات المضيفة، مما يهدد الهياكل الأساسية لدعم اللاجئين.

> ما ينبغي فعله؟

من اللازم اعتماد نهج فعال جديد يعيد تركيز الجهود الرامية إلى إيجاد حل سياسي للأزمة، والتخفيف من تداعياتها الإنسانية والأمنية. ينبغي للنهج المختار أن يتحلى بالتدرج، وأن يركز في بدايته على الحد من معاناة الشعب السوري. كما يتعين كذلك تحديد الإجراءات التي من شأنها تعزيز الجهود الرامية إلى مكافحة الإرهاب، والحد من النفوذ الإيراني المتنامي، ووقف المزيد من التدهور الذي يضر بمصالحنا الجماعية.

ومن شأن ذلك النهج أن يستهدف تغييرا تدريجيا في سلوك النظام الحاكم في مقابل حوافز يجري تحديدها بعناية لصالح الشعب السوري، مع إتاحة بيئة مواتية للعودة الطوعية للنازحين واللاجئين. السبيل إلى ذلك:

1) وضع نهج تدريجي للتوصل إلى حل سياسي على أساس القرار 2254.

2) بناء الدعم المطلوب للنهج الجديد لدى الشركاء الإقليميين والدوليين ذوي التفكير المماثل.

3) السعي إلى الاتفاق على هذا النهج مع روسيا.

4) الاتفاق على آلية لإشراك النظام السوري.

5) التنفيذ.

> المقاربة

نهج تدريجي يتبناه جميع الشركاء والحلفاء لتشجيع السلوك الإيجابي والاستفادة من نفوذنا الجماعي لتحقيق ذلك. فهو يقدم حوافز للنظام مقابل اتخاذ التدابير المنشودة والتغييرات السياسية المطلوبة التي سيكون لها أثرها المباشر على الشعب السوري. وسيتم تحديد «العروض» المقدمة إلى النظام بدقة في مقابل «المطالب» التي سوف تُطرح عليه. وسوف ينصب التركيز الأولي على القضايا الإنسانية في كل من العروض والمطالب. مع التقدم التدريجي على مسار القضايا السياسية التي تُتوج بالتنفيذ الكامل لقرار مجلس الأمن 2254. وسوف يتم الاتفاق على العروض والمطالب مع الأمم المتحدة، استنادا إلى بياناتها الخاصة بالاحتياجات الإنسانية.

1) بناء الدعم: من الأهمية أن يدعم الحلفاء العرب والأوروبيون الرئيسيون هذا النهج. وسوف يضمن ذلك صوتا جماعيا في المحادثات مع النظام وحلفائه. وسوف يضمن أيضا ألا نفقد نفوذنا نتيجة لفتح بعض البلدان قنوات ثنائية مع النظام السوري.

وسوف نتفق على البلدان التي نتقارب معها في بداية الأمر بغرض التشاور والدعم. وسوف تتلخص الخطوة التالية في تأييد هذا النهج ضمن (المجموعة المصغرة) قبل السعي إلى الحصول على تأييد الحلفاء كافة.

2) إشراك روسيا: إن كسب موافقة روسيا على هذا النهج هو عامل أساسي من عوامل النجاح. ومن الممكن الاستعانة بالاعتراف بالمصالح الروسية «المشروعة» وتضمينها في إطار «العرض» لضمان قبول وتنفيذ هذا النهج من قبل النظام السوري. إن تحديد الأرضية المشتركة مع روسيا أمر ضروري لضمان التقدم نحو حل سياسي. كما أنه من اللازم لنجاح الجهود الرامية إلى مواجهة النفوذ الإيراني المتنامي. وقد كانت روسيا منفتحة على العروض الخاصة بالقضايا الإنسانية مقابل إجراءات عملية من جانب النظام الحاكم.

3) إشراك النظام: يمكن أن تتم المشاركة من خلال قنوات متعددة:

– المشاركة غير المباشرة عبر روسيا.

– المشاركة المباشرة من مجموعة من الدول العربية. (هذا من شأنه رأب التصدعات في الموقف العربي، ومعالجة المخاوف بشأن غياب الدور العربي الجماعي في الجهود الرامية إلى حل الأزمة، والاستفادة من المشاركة العربية مع النظام من أجل الحصول على الحوافز مع تأطيرها ضمن الجهود الرامية إلى إحداث تغييرات إيجابية). ويمكن أن تقود الأردن تواصلا مبدئيا مع النظام لضمان الالتزام قبل بدء الاتصالات الموسعة.

4) التنفيذ: سوف توضع آلية رسمية لرصد التنفيذ والامتثال. وسوف تتولى الأمم المتحدة مسؤولية تقديم جميع المساعدات الإنسانية. وسوف يؤخذ تجسيد الاتفاق ضمن قرار صادر عن الأمم المتحدة في الاعتبار.

الخطوات التالية (لتطبيق المبادرة):

1) مناقشة النهج والاتفاق عليه.

2) الاتفاق على قيام الأطراف بصياغة المطالب والعروض.

3) الاتفاق على خريطة الطريق وكيفية المضي قدما.

من شأن هذا النهج أن يواجه العقبات بكل تأكيد. بل وربما يصل إلى طريق مسدود مع بدء المرحلة السياسية. ومع ذلك، فإن تركيزه الأولي على البُعد الإنساني سوف يخفف من معاناة السوريين، وسيدعم الجهود الرامية إلى مكافحة التنظيمات الإرهابية، ويقلل من النفوذ الإيراني في أجزاء معينة من سوريا. كما أنه سوف يعيد بناء الصوت الجماعي الموحد بين الشركاء والحلفاء إزاء الأزمة، مع استعادة زمام المبادرة في محاولة لإيجاد حل سياسي ووقف الكارثة الإنسانية.

> جدول الخطوات

وتضمن الوثيقة ملحقا سرياً يتضمن شرحا لمقاربة «خطوة مقابل خطوة»، يشمل البند المحدد و«المطلوب» من دمشق و«المعروض» من الآخرين. وتبدأ الخطوة الأولى بـ«ضمان وصول المساعدات الإنسانية والاتفاق على تدفق المساعدات الإنسانية عبر الحدود مقابل تسهيل قوافل الأمم المتحدة عبر الخطوط داخل سوريا، وإرسال المساعدات الصحية إلى سوريا».

وتشمل الخطوة الثانية تهيئة دمشق «البيئة المواتية للعودة الآمنة للنازحين واللاجئين ومنح المفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين حق الوصول الكامل إلى المناطق المعنية، بما في ذلك ضمان عدم اضطهاد العائدين وتسهيل عودة النازحين إلى ديارهم» مقابل خطوات غربية تشمل «اعتماد خطة المساعدة المرحلية للسوريين الذين يعيشون في المناطق الخاضعة لسيطرة النظام، من خلال زيادة المساعدات الإنسانية بالتنسيق مع النظام، وتمويل مشاريع الإنعاش المبكر، وتمويل مشاريع إرساء الاستقرار وتنفيذها وتمويل برامج التعافي المبكرة الخاصة بالمساعدة لعودة النازحين واللاجئين إلى ديارهم ومدنهم وصياغة البرامج ودعم وكالات الأمم المتحدة والمنظمات غير الحكومية الدولية التي تساعد على استعادة نوع من الحياة الطبيعية في سبل عيش الشعب السوري بشكل عام».

تتعلق المرحلة الثالثة بـتطبيق القرار 2254 و«المشاركة الإيجابية من دمشق في اللجنة الدستورية المؤدية إلى إصلاح الدستور»، و«الإفراج عن المعتقلين والسجناء السياسيين، وتحديد مصير المفقودين والاتفاق على تشكيل صيغة حقيقية للحكومة تؤدي إلى حكم أكثر شمولا في سوريا وإجراء الانتخابات تحت إشراف الأمم المتحدة بما يؤدي إلى تشكيل الحكومة الشاملة».

في المقابل، توافق دول عربية وغربية على «التخفيف التدريجي للعقوبات المفروضة على سوريا. بما في ذلك تسهيل تجارة السلع مع أطراف ثالثة، ورفع العقوبات عن القطاعات العامة السورية، بما في ذلك البنك المركزي، والكيانات الحكومية، والمسؤولون الحكوميون، ورفع العقوبات القطاعية، وإجراء التقارب الدبلوماسي التدريجي لاستعادة العلاقات مع سوريا، وإعادة فتح البعثات الدبلوماسية في دمشق والعواصم المعنية، وتسهيل عودة سوريا إلى المحافل الدولية واستعادة مكانتها في جامعة الدول العربية».

> ماذا عن {داعش}؟

أما المرحلة الرابعة من البرنامج، فتشمل «مكافحة داعش والجماعات الإرهابية، والتعاون في التصدي لتنظيم (داعش) والعناصر الإرهابية المماثلة، بما في ذلك في شرق سوريا، والمناطق الخاضعة لسيطرة النظام في جنوب سوريا والصحراء السورية، والتعاون في مواجهة المقاتلين الأجانب، وتبادل المعلومات الأمنية حول الجماعات الإرهابية، والروابط مع عناصر التجنيد الدولية، وشبكات التمويل، ووقف أنشطة الجماعات المتطرفة المرتبطة بإيران واستفزازاتها للطوائف السنية والأقليات العرقية في سوريا»، مقابل «التعاون مع النظام السوري وروسيا في مكافحة الإرهاب في شمال غربي سوريا، ومكافحة العناصر الإرهابية في شرق سوريا والتنسيق بين النظام و(قوات سوريا الديمقراطية) في التعامل مع سكان مخيم الهول، والمقاتلين الأجانب، وعناصر (داعش) المعتقلين وتمويل مشاريع إرساء الاستقرار والتعافي المبكر في المناطق المحررة من (داعش) والخاضعة لسيطرة النظام السوري».

في المرحلة الخامسة، يتم «إعلان وقف إطلاق النار في جميع أنحاء البلاد، وانسحاب جميع العناصر غير السورية من خطوط المواجهة والمناطق الحدودية مع دول الجوار، مما يؤدي إلى إعلان وقف العمليات العسكرية الكبرى وإعلان وقف إطلاق النار في كل أنحاء البلاد ووقف جميع العمليات العسكرية بما في ذلك القصف الجوي والغارات ووقف جميع العمليات الجوية العسكرية الأجنبية فوق سوريا، ما لم يكن ذلك في إطار عملية وقف إطلاق النار، واالتزام الشركاء على الأرض في سوريا والحلفاء الإقليميين (بما في ذلك تركيا) بوقف إطلاق النار المعلن في جميع أنحاء البلاد».

وفي المرحلة السادسة والأخيرة، يتم «انسحاب جميع القوات الأجنبية، والمشاركة الإيجابية مع البلدان المجاورة والالتزام بالاستقرار والأمن الإقليميين، بما في ذلك الوفاء بالالتزامات بموجب منظمة حظر الأسلحة الكيماوية، والحد من النفوذ الإيراني في أجزاء معينة من سوريا، وانسحاب جميع القوات الأجنبية والمقاتلين الأجانب من سوريا لما بعد عام 2011، وانسحاب القوات الأميركية وقوات التحالف من شمال شرقي سوريا، بما في ذلك من قاعدة التنف»، في المقابل يتم «فتح قنوات تنسيق بين الجيش السوري والأجهزة العسكرية والأمنية في دول الجوار لضمان أمن الحدود مع سوريا».

حرائق تبدل وجه دمشق

حرائق تبدل وجه دمشق

على وقع ألسنة النار المتصاعدة، كان الخبر يتصاعد ويتسع: “حريق في زقاق المحكمة”. أعمدة خشبية عريقة تأكلها النار، تسقط قطعا متفرقة. كان موتها مضاعفا. احتراق، فسقوط ينهي عمرها الذي عاشته متصلة ببعضها وكاملة من جدار إلى جدار. وصلت الأخبار، انه “ماس كهربائي”، اشتعل في أحد المحال وانتقل إلى خمسة أخرى. وفاة عامل إطفاء، وثلاثة من الباعة وأصحاب المحال في المشفى.
رتابة الخبر، واعتياد توارد الأخبار السيئة في ظل وضع عام غير مستقر ينذر دوما بالأخطار، لا تخفف من فداحة المشهد في اليوم التالي، محال الزقاق كلها مفتوحة. اعتاد “الشوام” على ملاحقة أرزاقهم حتى وسط الحرائق. في مقدمة السوق، حطب محترق، بات بلا هوية وبلا تاريخ. رائحة الحريق تعبق في المكان، ثلاثة محلات فارغة من بضاعتها. محلان مغلقان ومحل يرتب أصحابه وعماله القماش من جديد. يبدو أنهم لم يناموا ليلهم، بقوا هنا لتنظيف المحل والرفوف وإعادة ترتيب الأقمشة عليها. نظرة إلى الأعلى، تلسعك قشعريرة مؤلمة، السقائف المليئة بالبضائع بلا سقف، بلا بضاعة، بلا رائحة التخزين والنفتلين. يبدو أنها قد فارقت الحياة دونما رجعة.

لامكان للفرح
أغلب المحال في زقاق المحكمة، ملك لعائلة واحدة، تتكرر الكنية على واجهات المحال، كلهم أخوة وأبناء عمومة. ويعتبر زقاق المحكمة سوقا موازيا لـ “سوق الحرير”، و “سوق تفضلي يا ست” أو “خان الجمرك” و “سوق الصوف”، لكنه يختص ببيع أقمشة البرلون والتنتنة والريكامو المطرز والنايلون السميك والرقيق وكلف قمصان النوم وقمصان النايلون الداخلية النسائية الطويلة والتفريعات. وتتواجد فيه بعض الورش الصغيرة لصناعة الجوارب المنوعة والمصنوعة من القطن أو القطن الممزوج أو من الأقمشة التركيبية، لكنه يصنف على أنه “سوق الدراويش”، سوق الأقمشة الأقل سعرا وربما بنفس الجودة، لكن لكل سوق زبائنه.
في سنوات الحرب تراجعت مبيعات تجار السوق بشدة، وتراجع الإقبال على السوق بفعل توقف مناسبات الأفراح ونزوح البعض وحصار البعض الآخر. وبسبب هجرة وغياب الفنيين مثل معلم الحبكة ومعلم القص والدرزة الخاصة بهذه الصناعة التقليدية والمميزة، وبسبب طبيعة الأقمشة المستعملة والتي تتطلب حياكة حرفية وأدوات وصنعة خاصة، أضاف الباعة أصنافا جديدة إلى تجارتهم لجذب جمهور جديد من الزبائن، مثل الأقمشة الرخيصة والتي تشترى بالكيلو أو بالبالة أي بالحاوية، وتحتوي على مزيج من أنواع الأقمشة للفساتين والسراويل والسترات والستائر وكلف المعاطف والتنانير والقمصان، كما أضاف منتجو وباعة الجوارب بضائع جديدة إلى محالهم مثل القبعات الصوفية والشالات، لتعويض نقص الطلب على بضائعهم بسبب قلة الزبائن وبسبب نقص السيولة.
داهم البكاء سيدة تعمل خيّاطة فور دخولها إلى السوق، كانت على موعد مع أبي معتز البائع الذي وعدها بإحضار كلفة جميلة وجديدة لتفريعات العرائس التي دخلت حديثا على خط الخياطة المنزلية لارتفاع أسعارها جاهزة، كان محل أبا معتز محترقا بأكمله.
عبرت النساء عن تعاطفهن مع الباعة بعبارات: “الله يجبر كسركم، والله يعوض، والحمد لله على سلامتكم”. كان الجميع مكسورا وقلقا، أحد الباعة قال لسيدة عاندته في سعر بضعة أمتار من القماش: “اليوم في! بكرا الله يعلم”. أكثر من سيدة قالت له: “طول بالك”، فأجاب: “كلنا تحت ألطاف الله”، عشرات الألسن أجابت: “الله يتلطف!”. حوارية مسكونة بالوجع والود، خوف وحسرة وإصرار على الشراء والمضي بالحياة في كل تفاصيلها، ترقبا لساعة فرح أو حزن لا فرق، طالما تعاضد السوريون والسوريات فيما بينهم بسردية معممة، إيمانية، ومجبولة بالمحبة والمساندة، حتى لو بالكلمات والأدعية.

فتى يسأل
فتى في الرابعة عشرة من عمره، يسأل عن نوع محدد من قماش تول أسود، يفرد القماش على كف يده ويتفحصه بدقة، ويجيب بأنه يريد نوعا آخر. والدته خياطة، ترسله للتسوق بدلا عنها توفيرا في الوقت وكسبا لراحة نسبية، يقول للبائع: “”هذا تول خشن”، ولآخر بأنه “تول مفرّغ جدا”. ويقول لثالث بائع بأن ما لديه من تول “يتمزق بسرعة”. يبدو أنه قد اكتسب خبرة من والدته، يظنه أحد الباعة خياطا، فيجيب، بأنه لا يحب الخياطة أبدا، وسيصبح لاعب كرة سلة، ولكنه لا ينسى بأن يقول لهم: بأنه ممتن لأمه ومهنتها التي تعينهم على حياتهم القاسية، ويؤكد بأنها تتكفل بكل تكاليف عيشهم .
في زقاق المحكمة ازدحام كبير، سيدة تطلب وصلة لتنورة، يجيبها صاحب المحل بأن ما لديه من قماش لونه أكثر اسودادا من لون تنورتها. يجيبها بكل أمانة قائلا: “سيبرز الفرق واضحا بين اللونين”. تتحاور السيدة مع خياطة موجودة في نفس المحل، تقترح عليها وصل التنورة من الأعلى، حيث لن يظهر الفرق في اللونين بعد تغطيته بالكنزة. توافق السيدة على مقترح الخياطة، فيعاود البائع تقديم نصيحة جديدة قائلا: “البسي فوق التنورة قميصا طويلا، تضمنين حينها عدم ظهور أي فرق بدرجة اللون، وتمنحين التنورة قيمة أكبر”. وافقت السيدة ممتنة للبائع، واشترت ما يكفيها للوصلة.
ثمة تعاقد مألوف ومتكرر ما بين الباعة والزبائن وخاصة الزبونات الدائمات والخياطات، تعاقد يرحب بالنصيحة ويثمنها عاليا، وقد يصل في بعض الحالات لأن يقوم بائع بإرشاد بعض السيدات إلى خياطة محددة بالاسم والعنوان، إما لمهارتها بالشك أو قصات فساتين السهرة مثلا، أو لبساطة أجرها، أو لأنها مقطوعة وتحتاج دعما، كل التبدلات واردة، إلا تلك العروة الوثقى ما بين مستفيدين اثنين، اجتمعا على المودة والرغبة بالدعم، كل من موقعه.

تاجر وكأس شاي
يتجمع خمسة من تجار السوق على إحدى الزوايا، يشربون الشاي، يقول أولهم: ” أنا متأكد بأن فلانا (ويقصد أحد الباعة الذين احترق محله) لن يعود أبدا إلى السوق”. ويقول آخر بأنه قلق على سلامة بائع متضرر آخر: “من أسبوعين أجرى عملية قسطرة قلبية، أتمنى أن ينجو قلبه من هذه المحنة”.
يُجمع الباعة والزبائن على أن كل شيء يتبدل بقوة وخارج المتوقع. الجميع يشير إلى أن حجم التبدلات أكبر من قدرة الناس باعة وزبائن على تحملها أو تصديقها.
في بلد الحرائق، قد يقول البعض: ” إن ما بعد حريق زقاق المحكمة ليس كما قبله”. لكن حريقا جديدا قد يطوي صفحة الحريق الذي بات قديما، ليعبث بالحياة من جديد.
الخسارات كبيرة وفرص التعويض معدومة، والتعاضد والتكافل المادي بات عملة قديمة لا قوة فعلية لها اليوم، لأن أسسه ضعيفة جدا وتكاد أن تكون مستحيلة، بسبب العجز المتراكم للأفراد وبسبب غياب الحماية والتعويضات وغياب برامج التأمين والمساندة بتعويضات فورية أو متدرجة، عبر غرفة التجارة أو النقابات أو المؤسسات.
تقول زبونة دائمة لأحد المحال، بعد أن هالها ما رأته من خراب: “ميت لا يجر ميت”. يصمت البائع، بانفعال بالغ ويجيبها: “كلنا موتى”.
على بعد دكانين من مركز الحريق، يعتذر أحد الباعة من سيدة تطلب قماش بطانة، يقول لها نحتاج عشرة أيام لمعاودة البيع، ترجوه: “عرس ابني بعد أسبوع والخياطة طلبت مترا إضافيا”. يكرر اعتذاره ولكن بغضب، ويقول: “لم نصحُ من صدمتنا بعد، نحن عدة شركاء وعلينا جرد البضاعة وإحصاء كل ما خسرناه وكل ما تبقى من البضائع كي نصفي الذمم المالية”. ترحل المرأة صامتة دون أي رد. يعود الشاب إلى عمله وهو يقول، لفتى يمسك ورقة وقلما، سجّل: “ثلاث أثواب بطانة سميكة لمّيع عرضين”.
دمشق 30 أيلول 2021