تداخل الخاص بالعام في الأحداث الكبرى: الهزات الأرضية الأخيرة في سوريا

تداخل الخاص بالعام في الأحداث الكبرى: الهزات الأرضية الأخيرة في سوريا

في فجر الثالث عشر من آب الجاري حدثت هزة أرضية بقوة 4.8 درجة على مقياس ريختر في كل من سوريا ولبنان والأردن. وتركزت الهزة في سوريا بمدينة سلمية التابعة لمحافظة حماة والتي تبعد عنها ثلاثين كيلومتراً إلى الشرق منها. وفي يوم الجمعة السادس عشر من آب أصاب نفس المنطقة زلزال ثاني تباينت التقديرات بشأن قوته من 4.8 إلى 5.2 درجات.

يقول المثل العامي: “إن الناس تجهل ما لا تعرفه!”، ولكن في مشاعر ذاكرة الناس في سوريا ما يزال زلزال السادس من شباط العام الماضي 2023 حاضراً، ما أدى إلى تضاعف خوف الناس لأنهم يعرفون ماذا يعني الزلزال وماهي تبعاته وآثاره المدمرة.

 ولحسن الحظ، جاءت النتائج سليمة ودون ضحايا، لكن مع وجود عشرات  الإصابات بجروح طفيفة أو بكسور بسيطة نتيجة التدافع أثناء الهرب أو نتيجة لانهيار بعض الجدران المتصدعة من الزلزال الماضي، أو بسبب تداعي البيوت وعدم ترميمها وإصلاحها لأسباب مادية بحتة تعكس حجم التراجع الاقتصادي وضعف القوة المالية وانصراف الناس للإنفاق وبالحد الأدنى على الضروريات المباشرة والآنية.

إن المتابع للمشهد السياسي والاقتصادي والعسكري العام في المنطقة يعتقد أن حدثاً مثل هزة أرضية سيمر خفيفاً وسريعاً وكأنه شأن شخصي ذو نطاق ضيق ولا ينعكس إلا على أهل المنطقة التي ضربتها الهزة، فالموت المحدق من كل حدب وصوب يقتل يومياً عشرات الأشخاص في غزة وفي لبنان وفي سوريا أيضاً. نظن أنه وفي سطوة الموت بالمدافع وبالقنابل وفي زحمة التدمير العنيف وحروب الإبادة الدائرة، أن موتاً طبيعياً ينتج عن تمرد بسيط أو جراء تحرك عنيف للطبيعة لا قيمة له أبداً ولا ينبغي أن نحرك ساكنا حياله.

لكن المشهد كان مختلف تماماً وتحديداً في مدينة سلمية المعروفة بمدينة الفكر والشعر والثقافة نسبة إلى الشاعر والكاتب المسرحي محمد الماغوط والشعراء فايز خضور وعلي الجندي، والمفكرين عاصم وسامي الجندي وحسين الحلاق وسواهم الكثيرون و الكثيرات.

يمكن القول وبكل وضوح وثقة، إن انعكاس الهزة الأرضية على ردود الأفعال وما رافقها من تعليقات وكتابات وحوارات مجتمعية في بقعة صغيرة من الجغرافية السورية كان مرتبطاً بشدة بالواقع العام في المنطقة العربية وخاصة ما تشهده من حروب ومن اضطرابات عسكرية وارتدادات شعبية على واقع زاخر بالعسكرة وبالرصاص جراء وجود احتلالات متعددة، ما يفرض حالة عامة من القلق الشعبي العارم وكأن البلاد على فوهة بركان قاتل، ويخلق جواً من الترقب لحل ما يجب التوصل إليه، أو على الأقل ضرورة وجود رد حاسم أو مانع لما يعوقه من تردد سياسي عالي المستوى وحالة من الغموض الجيوسياسي، وبخاصة في ظل حالة الصمت السائدة ما بين الحكام وشعوبهم في دوامة عارمة من إنكار كل طرف للطرف الآخر.

عبر أحدهم على صفحة الفيس البوك بعد حدوث الهزة قائلاً: “نعيش في موقع جغرافي تحفة، مفتوح على جميع جبهات الحروب والكوارث الطبيعية والعسكرية”. يتداخل الخاص بالعام هنا، لم تعد تعني الجغرافيا سوى الانتماء إلى منطقة مشتعلة، والأسماء ليست بذات قيمة، نعيش على وقع الرصاص، نصحو على معركة وننام وصخب المعارك يرافقنا حتى في نومنا.

اللافت أيضا هو درجة السخرية العالية التي رافقت الحدث، سخرية مرة لكنها لاذعة، كأن تكتب إحداهن: “بعد كل هزات البدن اليومية جاءت الهزة الأرضية ليتلاشى البدن، لكن على من؟ بتنا شعبا ضد كافة أنواع الهز”. وقال أحدهم في شكل مباشر يربط بين الضربات المتوقعة ما بين إيران وإسرائيل هازئاً: “بينما ننتظر الرد من فوق ويقصد السماء يأتينا الرد من تحت ويقصد باطن الأرض” إنها السخرية التي تشي بحجم الخراب الراسخ وبحجم العجز المستقر.

 في محيطنا القلق والمشتعل ينتظر الناس النيزك علّه يحمل خلاصاً نهائياً لجميع المشاكل العالقة، يعتقد غالبية اليائسين أن أحلامهم في التغيير والاستقرار وإرساء الأمن والسلام كلها أفعال إعجازية غير قابلة للتحقق، هم متأكدون أنه لا خلاص في ظل مواجهة غير عادلة ومحسومة سلفاً لصالح الأقوى والأكثر شراً وتجاهلاً للحقوق وللعدالة.

 لكن للمصائب وجه آخر، وجه تعاضدي رغم قلة الحيلة وسطوة الخراب، كتب أحدهم على صفحته: “سيارتي في تصرف كل من يحتاج التنقل أو الإسعاف.” كما وضع شخص آخر عنواناً لمركز مبني على أسس الحماية من الزلازل والهزات داعياً الناس لكي يقصدوه ويقضوا ليلتهم هناك مع الإشارة إلى توفر الكهرباء وهذا شأن عظيم في ظل أزمة انقطاع تام للكهرباء، أزمة خانقة وطويلة تعوق الحياة برمتها، فكيف إذا ما زادت الهزات الأرضية واقع الحياة سوءاً وخوفاً. وهنا تجدر الإشارة إلى ما كتبته سيدة تحتفي بالهزة بسخرية فائقة قائلة: “الحمدلله على نعمة الهزات! بفضل الهزة حضرت الهانم الكهرباء لمدة ثلاث ساعات متتالية، هزة محرزة وضاوية!”

على صفحته على الفيس بوك كتب أحد الأطباء: “بينما كنا نقطب جرحاً غائراً في كف شاب ونساعد امرأة على الصحو من إغمائها بسبب الخوف، سمعنا صراخ طفل وصل حتى غزة!” يربط الطبيب هنا بين واقعين داخلي وخارجي، خاص ومحدد وعام غير محدد.

بات ما يجمع الشعوب المنكوبة هو صراخ الأطفال وعجز الأطباء والمشافي وإغماء الناس من شدة الصدمة. يبدو الحال واحداً لكنه يتوسع ويتعمم.

 خرج أحدهم إلى الشارع وهو يحمل بيده طاولة الزهر التقليدية، لقد اختبر هذا الشعب معنى الوقت الطويل خارج البيت بانتظار الفرج أو النجاة، وبدلاً من قضائه بالخوف والترقب، سيلعب الرجال أشواطاً بطاولة الزهر ساخرين من الزلزال وسواه من الشدّات القهرية المتسلسلة.

 أما عن ربط الهزة بالوضع الحربي المتأزم وصراع الوجود المحتدم في الجغرافيا القريبة انتماء والبعيدة جغرافيا، فليس المقصود بتاتاً المقارنة ما بين الحدثين لأن حجمهما وآثارهما وتجلياتهما مختلفة فعلياً، لكن قوة الوجود في خضم هذه الأحداث الجسام في ذات البقعة من الأرض حتى لو بلغت المسافات مئات الكيلومترات هي الرابط الأقوى والأكثر تجذراً، وهي خيط الربط الفعلي لأن ثمة شراكة حقيقية مبنية بين كل من يموت وبين كل من يقتل أيضاً، بين الضحايا جميعهم وبين مصائرهم المجهولة والمتروكة للعبث.

 في لوحة دراماتيكية ساخرة لشخص يخرج إلى سطح بيته ليجد أن خزانات المياه التي سدد ثمن مائها مئات آلاف الليرات قد سالت على السطح بعد انفجار السطح السفلي للخزانات نتيجة الاهتزاز القوي وضغط الهزة. تأمل ملياً في الماء المسفوح كالدم المجاني، وقال ساخراً، ممتلئاً بالقهر: “غداً سأقضي نهاري هنا وأنا أشرب المتة على وقع تدفق المياه المشتراة بمئات آلاف الليرات أيضاً.” صمت وتحسس السطح المعدني لأسفل الخزانات، كاد أن يختنق لأن الخراب  بدا أكبر مما كان يتوقعه وقال: “سأوجل شرب المتة على السطح لما بعد الغد، بعد أن أشتري خزانات جديدة.”

 هكذا نحن، مجرد خزانات مهترئة تطرد كل عوامل الحياة من جوفها نحو احتضار طويل ونازف.

رعي المواشي في سورية ومخلفات الحرب

رعي المواشي في سورية ومخلفات الحرب

يرتبط رعي المواشي في ذاكرتي، بالحليب الطازج الذي كنا نحصل عليه من رعاة القطعان الذين كانوا يعتبرون الطرف الجنوبي من مدينة الحسكة مكاناً ممتازاً للرعي حينما كان يسمى هذا الجزء من المدينة بـ “الچول”، وهو برية كان يتخللها بعض من المساحات المشجرة بالصنوبر الحراجي، ثم إن هذه القطعان باتت أبعد بعد أن تحول “الچول”، إلى كتل من المباني الحكومية والسكنية بُعيد بناء المدينة الرياضية في العام ١٩٩٨، وصار الوصول إلى أماكن الرعي محظورا علينا من قبل ذوينا بفعل أن المسافة باتت طويلة، وبالتالي هي خطرة، لكن هذه المسافة لم تكن خطرة بالمطلق في حسابات الرعاة، وفهمت منذ ذاك الوقت أن خطورة الابتعاد عن الكتل العمرانية والمدن تختلف من منظور إنسان لآخر، فما كان يخيف ذوينا غير موجود في حسابات ذوي رعاة المواشي، لكن الأمر اختلف جذريا منذ العام ٢٠١١ وبعد أن أخذت الحرب خطاً تصاعدياً تحول رعي المواشي من مهنة مفرداتها الاسترخاء في الهواء الطلق والنوم بأمان مطلق بين القطيع، إلى مهنة معقدة الظروف.
الألغام.. خطر ممتد
يجتاز سعيد بقطيعه مسافات طويلة جنوب مدينة الشدادي بريف الحسكة ويحاول قدر المستطاع ألا يخرج عن الخارطة التي اعتادها خلال الرعي وتجنب أماكن التي لم يدخلها سابقاً، وبقايا المواسم في الأراضي الزراعية أو الأعشاب التي تنمو على أطراف نهر الخابور تبدو مساحات آمنة بالنسبة له، ويقول لـنا:”ما سمعته عن انفجار ألغام أو عبوات ناسفة تركت في الأراضي المفتوحة بعد انسحاب داعش ومن قبله الفصائل المسلحة بمختلف تمسياتها، أو حتى الألغام التي تنشرها “قوات سورية الديمقراطية”، حول بعض المناطق لمنع السكان من الاقتراب من القواعد الامريكية أو سواها من النقاط الحساسة، يجعلني دائما أفكر في ضرورة ألا أقترب من مكان لا أعرفه، أو غير مجرب من رعاة مواشي آخرين، فالألغام خطرٌ غير متوقع أو محسوب النتائج، والموت قد يبدو خياراً رحيما إذا ما تمت مقارنته بخسارة الأطراف، وبالتالي فقدان القدرة على العمل”.
ويتفق معه “أبو إبراهيم”، الرجل الذي يقترب من إنهاء عقده الرابع من العمر، ويعمل برعي قطيع الماشية الذي يملكه بالقرب من مدينة تدمر، الـذي يقول: أعمل برعي الأغنام منذ كنت طفلاً، كنا نجتاز البادية دون أي خوف من شيء، ربما كانت الذئاب والضباع ما يثير في أنفسنا بعضا من المخاوف لكنها تتبدد في ظل مرافقة “الكلاب للقطيع”، حالياً يجب على الراعي أن يعرف أين يضع قدميه، فالأرض التي يسير عليها بقطيعه قد تحتوي مخلفات حربية كالألغام أو العبوات أو حتى القذائف غير المتفجرة التي تعد من المخلفات الطبيعية للمعارك التي شهدتها البادية قبل أن يتحول داعش من جهة مسيطرة على المنطقة إلى عصابات موزعة على البادية، وهناك ألغام جديدة يزرعها التنظيم على بعض الطرقات أو في بعض المساحات المفتوحة لأغراض تخدم مصالحه، وهذا ما يجعل من الرعي مهمة صعبة فإن انفجر لغم بمجموعة من الأغنام ستكون الخسارة المادية كبيرة، وإن تفجر اللغم بالراعي فسيكون ثمة مصيبة كبرى قد حلت به وبعائلته، ولا يبدو أن نهاية الحرب في سورية ستكون نهاية لهذا الخطر، وربما سنظل نسمع بانفجار المخلفات الحربية حتى زمن طويل ما بعد الحرب.

داعش والعصابات
خلال عدة أشهر شهدت المناطق الواقعة إلى الجنوب من ريف الرقة الواقع إلى الغرب من نهر الفرات عدة حوادث استهداف من قبل خلايا تابعة لتنظيم داعش لـ رعاة مواشي، ويقول أبو جاسم الذي يقترب من الخمسين من العمر إن 11 شخصاً قضوا خلال إحدى الهجمات التي نفذها تنظيم داعش، ويروي تفاصيل الحادثة التي وقعت في الأسبوع الأول من شهر تموز الحالي، أن مجموعة من التنظيم اختطفت راعياً في الخامسة عشرة من عمره، وحين وصل الخبر لسكان القرية هبت مجموعة من شبانها لنجدة الفتى وقطيعه، ليتبين أن الخلية التابعة لـ داعش أعدت كميناً محكماً بانتظارهم ليقضي 9 أشخاص على الفور فيما توفي اثنان في وقت لاحق متأثرين بإصابتهم، ويصف “أبو جاسم”، أن الدافع في مثل هذه العمليات يتعدى السرقة والحصول على التمويل الذاتي ليصل إلى حد الثأر والانتقام من السكان الذين رحبوا وفرحوا بخروج داعش من المناطق التي يعيشون فيها.
بدوره يروي أبو مصطفى القاطن في مدينة تدمر التي كانت إحدى أبرز النقاط التي ينتشر فيها التنظيم وسط سوريا، أن رعي المواشي في مناطق بعيدة عن المدن الكبرى بات أمراً خطراً، ولم يعد أي راع يغامر بالبقاء ليلاً في المناطق البعيدة عن المدن على خلاف ما كان يحدث قبل العام 2011، ويقول الرجل الذي يبلغ من العمر حوالي 60 عاماً في حديثه معنا: الهجمات التي يتعرض لها رعاة المواشي تجعل من عملهم من أخطر المهن التي يمكن ممارستها في ظل انتشار عصابات داعش، وعصابات أخرى تعمل على سرقة المواشي وبيعها في الأسواق أو تهريبها إلى العراق أو الأردن، وهذه المهنة لم تعد كما كانت قبلاً حيث كان الرعاة يقضون عدة أيام في البادية قبل أن يعودوا إلى المناطق التي انطلقوا منها، كما إن بعض الرعاة كانوا يقيمون مخيمات في عمق البادية أو ضمن الأراض الزراعية البعيدة عن التجمعات السكانية ليكسبوا أكبر قدر ممكن من المراعي المجانية، الأمر اليوم بالنسبة لهم مغامرة بأرواحهم وبالقطيع، فإن لم يتمكن عناصر داعش من سرقة القطيع أبادوه بإطلاق الرصاص قبل فرارهم من المنطقة، فهم لا يتركون أي شيء حي خلفهم.
تحول غالبية مربي المواشي إلى الرعي في المناطق الأكثر أمناً بالقرب من المدن الكبرى في الداخل السوري أو في محيط العاصمة السورية من خلال استثمار الأراضي المحصودة بدفع بدل نقدي لأصحاب هذه الأراضي مقابل الحصول على حق رعي مواشيهم لمخلفات زراعات مثل القمح والشعير، كما إن البعض من رعاة المواشي تحول إلى التخييم في مناطق قريبة من المدن وآمنة ليعتمدوا على شراء الأعلاف لمواشيهم ما زاد من تكاليف المهنة وبالتالي قلة الأرباح التي يتوقعونها من العمل، وعلى هذا تبدو مهنة رعي المواشي في سورية واحدة من أخطر ما يمكن أن يعتمد عليه السوريون من مهن لتأمين احتياجاتهم المعاشية.

بيع الأمل: السحر والشعوذة تجارة رابحة

بيع الأمل: السحر والشعوذة تجارة رابحة

 في ظل الظروف الصعبة والمتدهورة، يلجأ الكثير من الناس في سوريا إلى السحر لحل مشكلاتهم الشخصية المأزومة. تغّص دكاكين الشعوذة بالمريدين على نحو يفوق الوصف، تبيع الوهم لناس يركضون وراء بصيص صغير من الأمل ويدفعون الملايين لشراء ما يعتقدون أنه حلول.

أنفقت سمر (37عاماً) عشرات الملايين ثمناً لهوسها المجنون بزيارة رجال السحر والتبصير وجميع أعمال التنجيم دون أي شعور بالذنب في حالة تصل إلى درجة الإدمان، تقول: “منذ قرابة عشر سنوات وأنا مهووسة بقراءة الفنجان والطالع والكف والحسابات الرقمية. بدأ الأمر كتسلية ثم سرعان ما تحول إلى هوس مرضي، عندما أسمع عن أحد ما ماهر في هذه الأمور أقصده حتى لو كان في مكان بعيد جدا”.

 لم يقتصر الأمر عند هذا الحد، بل بلغت درجة الهوس بالشابة التي تعمل صيدلانية لأن تتواصل مع دجال في المغرب كانت قد سمعت عن مهارته في ربط الزوج عن كل النساء باستثنائها، وتتابع حديثها: “لدي مخاوف من أن يهجرني زوجي، أو يتزوج بأخرى، يخفي عني دوماً تفاصيل عمله ولا يسمح لي بإمساك هاتفه. لدي شكوكي حول خيانته، لذلك ألجأ إلى أهل التنجيم لمعرفة أخباره وعما إذا يوجد امرأة غيري في حياته، في إحدى المرات دلوني على منجم  معروف في المغرب، وتواصلت معه عبر الواتساب، طلبت منه حجاب لربط زوجي عن النساء وعدم زيارة أهله”.

 بالرغم من أن أحد الأسباب التي تدفع لأعمال السحر هو الثراء، غير أنها تبذر مالاً كثيراً لقاء هذه الرغبة، ما يجعل المعادلة غير منطقية، تقول: “لا أستطيع ذكر الرقم على وجه الدقة، لكنه يتجاوز 100 مليون على مدار السنوات، كنت وما زالت أقصد أي أحد أسمع بوجوده سواء في دمشق أو في أي محافظة سورية”.

“معملك عمل” بهذه الكلمات تلقت الشابة سارة تعليقات لا متناهية على منشورها في إحدى مجموعات “الفيسبوك” حول شعورها المتواصل بالتعب والإرهاق والبكاء الهستيري والهلوسات وعدم القدرة على النوم ليلاً. بعد أن أجرت تحاليل طبية اتضحت أنها سليمة، تقول: “جافاني النوم منذ شهرين، تجتاحني نوبات هلع وبكاء هستيري غير مبرر، كما كنت أرى ملامح أشخاص غير واضحة، سمعت كثيراً عن أعمال السحر لكن لم يخطر ببالي أن الأمر سيحدث معي بالفعل”.

 امتثلت الشابة لنصائح الفتيات واحتمالية إصابتها بالسحر وأن عليها البحث جيداً في منزلها عن قطعة مشبوهة مرمية في زاوية ما، وبالفعل عثرت الفتاة على  قطعة قماش مهترئة أسفل عامود سريرها بعد أن قلبت بيتها رأساً على عقب بالبحث، وتضيف: “بحثت والدتي وأختي في كل شبر بالمنزل وفي جميع الأماكن غير المتوقعة، وبعد التنقيب الدقيق لمدة ست ساعات وجدنا خرقة قماش ممزقة ملتفة على بعضها بعضاً بإحكام، قمنا بفكها بصعوبة لنجد ورقة صغيرة مكتوب عليه طلاسم غير مفهومة. تكمل الشابة حديثها: “اتصلت أمي على الفور بجدتي لترشدها ما العمل، فنصحتها بإحراقها على الفور ورش ملح مقروء عليه آيات قرآنية في أرجاء المنزل، وبالفعل تحسنت بعد ذلك بكثير وعدت إلى حالتي الطبيعية”.

صور عارية بحجة فك السحر

يستغل المنجمون حوائج الناس وتعلقهم بقشة الأمل للخلاص من مشاكلهم ووضع حد نهائي لمعاناتهم، فيمتثل الكثيرون والكثيرات لرغبات المنجمين وطلباتهم الغريبة دون وعي. وفي الوقت نفسه، هناك بعض الناس ممن لا يذعن لها، كحال فادية الذي دفعها تدهور حالتها الصحية بسبب عمل مكتوب لها من قبل طليقها أن تلجأ إلى أحد الدجالين للخلاص، إلى جانب العراقيل التي تواجهها طوال عامين، تقول لنا عن تجربتها: “عشت جحيماً لا يطاق مع زوجي السابق، لجأت إلى أحد المنجمين الذي بدأ يطلب مني صوراً عارية للقسم الأيسر من جسمي بحجة تطهيري من السحر الذي يتسبب لي بكل هذا الألم، وأنه سيستدعي الجن لخدمته في طرد العمل ورده إلى صاحبه.” تُضيف قائلة: “يتذاكى البعض ولا يطلب صورة لكامل الجسد، بل جزءاً منه للتمويه كي يبرهن أن قصده شريف ولمتطلبات العلاج، باعتبار أن الشخص الذي قد يبيت نوايا سيئة سيطلب حتما صورة طولية لأغراض جنسية بحتة، لكني لم أصدقه وقطعت التواصل معه”.

لم تكن أناهيد بمنأى عن الطلبات الغريبة لمزاج رجال التنجيم تحت مسمى الاتصال بالجن السابع ونيل مبتغاها، تقول السيدة: “لم أنجب لزوجي طفلاً ذكراً ويهددني منذ سنوات بالزواج من امرأة أخرى كي تنجب له ذكراً يحمل اسمه، ذهبت إلى أحد الشيوخ لصنع عمل له كي يمنع ذلك.” تتابع حديثها: “ينجح الأمر لكن يكلفني مبالغ كبيرة مع صور لأجزاء من جسدي، أحياناً يطلب صورا لقدمي أو أصابع يدي وهي مطلية باللون الأسود، أو ارتداء ملابس داخلية باللون الأحمر، لا أمانع في الأمر طالما أن زوجي لن يكون مع امرأة غيري”.

ضغوط الحياة تدفع الأشخاص للالتحاق بقوى غيبية لتحقيق أهدافهم

تؤكد أريج الرز المتخصصة في علم الاجتماع أن “السحر أمر متداول منذ القدم، وتشتهر فيه المجتمعات الشرقية على مر التاريخ، ما يفسر لجوء العديد من الأفراد إليه وممارسته على نحو مستمر، فهو أمر شائع وأصيل ضمن هذه المجتمعات نتيجة القصص المروية عن النتائج المحققة والتي قد تكون محض خرافات وليست حقيقية.” وتضيف أن إيمان البعض بأنها قصص حقيقية عزز لديهم الرغبة باللجوء إلى هذه الأعمال لتحقيق رغبات معينة لديهم يعجزون عن تحقيقها.

اللجوء إلى أعمال التنجيم لا يقتصر فقط على الشريحة البسيطة غير المتعلمة، بل يطال أيضاً فئة المثقفين، والسبب كما توضحه الأستاذة أريج المتخصصة في علم الاجتماع هو: “بعض المثقفين ونتيجة حالة العجز التي قد يمرون فيها لتحقيق أهدافهم، وكثرة القصص المحكية عن أعمال السحر ونتائجه أثيرت لديهم الرغبة في التجربة وتحقيق ما عجزوا عنه..” وتتابع حديثها: “لكن إغفال العقل واللحاق بهذه الأفعال بصورة مطلقة يعتبر أمراً منافياً للعلم، ما يجعل لحاق المثقفين بالسحر أمراً مستغرباً، لكن في ظل الضغوطات التي يعاني منها معظم السوريين\ات ستظهر ميول للالتحاق بقوى غيبية لتحقيق الأهداف المأمولة”.

لا تنكر الرز أن عوامل التربية والعادات الشعبية التي تعمل على ترسيخ مفهوم قوى السحر بتحقيق المستحيل تعمل على تعزيز هذا المفهوم لدى الفرد وتجعله إحدى الطرق التي قد يسلكها عند الحاجة، لا سيما أننا في مجتمعات مارست و تناقلت وترسخت لديها هذه الأعمال على مدار السنين.

صناعة الآلات الموسيقية التقليدية تواجه ما فرضته الحرب وتبعاتها   

صناعة الآلات الموسيقية التقليدية تواجه ما فرضته الحرب وتبعاتها   

لطالما شكَّلت صناعة الآلات الموسيقية التقليدية جزءاً حميمياً ومميزاً من التراث الشعبي، المحفور في وجدان السوريين وذاكرتهم الجمعية، ومعلماً هاماً من المعالم الثقافية والفنية في سوريا، التي تزدان أسواقها الشعبية القديمة، وخاصة في دمشق وحلب، بالعديد من محلات بيع الآلات الموسيقية، وعلى رأسها آلة العود التي أدرجت منظمة اليونسكو صناعتها على قائمة التراث اللامادي، كونها صناعة عريقة وأصيلة، تعود بدايتها لنهايات القرن التاسع عشر، وتُعد من أبرز الهويات الثقافية السورية. ولكن، وبعد ما فرضته سنوات الحرب الطويلة وتبعاتها، باتت صناعة الآلات الموسيقية التقليدية تواجه الكثير من الصعوبات والتحديات التي أثَّرت بشكلٍ كبير على تاريخها العريق، وعلى كميات إنتاجها وجودة صناعتها، وحجم انتشارها عربياً وعالمياً.   

خلال سنوات الحرب  تعرض الكثير من ورش صناعة الآلات الموسيقية لأضرار بالغة أوقفتها عن العمل، وخاصة في مدينة حلب، ومناطق جوبر وزملكا وداريا في ريف دمشق، التي كانت تضم عشرات الورش، فيما خسرت تلك الصناعة عدداً كبيراً من أمهر الصناع والأيدي العاملة الخبيرة، الذين غادروا البلاد لينقلوا خبراتهم إلى الخارج وليفتتح بعضهم ورشاً بديلة في أماكن إقامتهم الجديدة، في بعض البلدان العربية وتركيا وكندا وبعض بلدان أوروبا وغيرها.

وتعاني معظم الورش التي تمارس عملها اليوم من صعوبات عديدة، قد تُجبر بعضها على التوقف عن العمل، ومن أبرزها صعوبة توفير الأخشاب، حيث أدت العمليات العسكرية، التي شهدتها البلاد خلال سنوات الحرب، لاقتطاع وإحراق الكثير من الأشجار والبساتين والمساحات الخضراء، بالإضافة لإحراق وتدمير عددٍ من مستودعات الأخشاب، وخاصة في منطقة غوطة دمشق التي كانت تَمدُّ الصُناع بأجود أنواع الأخشاب،  فيما تعرض جزء كبير من أشجار البلاد، خلال السنوات الماضية، لعمليات القطع الجائر، سواء من قبل الباحثين عن حطبٍ للتدفئة، في ظل أزمة الوقود المستمرة منذ سنوات، أو من قبل تجار الحطب الذين انتشرت أسواقهم في عموم البلاد، هذا عدا عن الحرائق الطبيعية التي التهمت مساحات واسعة من الأحراش والغابات السورية. كل ذلك أدى إلى فقدان معظم أنواع الأخشاب التي  تحتاجها صناعة الآلات الموسيقية، والتي تؤثر في نوعية صوت الآلة وجودتها ومتانتها، وخاصة أخشاب الجوز والزان والمشمش، التي ارتفعت أسعارها اليوم، في ظل ندرة توفرها، إلى أرقام خيالية قد يعجز بعض الصناع عن توفيرها، إذ وصل سعر المتر المكعب من خشب الجوز إلى 25 مليون ليرة، وتجاوز سعر المتر المكعب من خشب المشمش والزان حاجز الـ 15 مليون ليرة.   

وبالإضافة لصعوبة توفير الأخشاب، تُشكل صعوبة استيرادها من الخارج تحدياً إضافياً لصُناع الآلات الموسيقية وللمهنة بشكلٍ عام، وذلك نتيجة ارتفاع أسعارها بشكلٍ كبير في دول المنشأ، مُقارنة بقيمة الليرة السورية، هذا إلى جانب ارتفاع تكاليف شحنها، في حال أمكن ذلك، وصعوبة إيصالها إلى سوريا  التي تشهد ركوداً في حركة الإستيراد والتصدير، في ظل الواقع السياسي الذي تعيشه والعقوبات الاقتصادية المفروضة عليها.  

صعوبات ومعاناة أخرى

إلى جانب معاناتهم في توفير الأخشاب، يواجه صُناع الآلات الموسيقية معاناة كبيرة مع الانقطاع الطويل للكهرباء، التي قد لا تأتي سوى أربع ساعاتٍ في اليوم، والتي أدت إلى شلل حركة العمل في ورشاتهم لتصبح شبه عاطلة عن الإنتاج. وبما أن تلك الورش تحتاج لتشغيل المنشار الكهربائي وأدوات القص والجلخ وغيرها من المعدات الثقيلة، فإنها ستحتاج للاستعانة بمولدات الكهرباء ذات الاستطاعة العالية، والتي ارتفعت أسعارها لأرقام كبيرة جداً. وفي حال توفرت المولدة فسيكلف تشغيلها مبالغ مالية كبيرة، في ظل ارتفاع أسعار الوقود الذي سيتم شراءه من السوق السوداء. ومن أراد اللجوء لتركيب أنظمة الطاقة الشمسية، التي انتشرت في سوريا مؤخراً، فسيحتاج إلى ملايين الليرات، لشراء ألواح الطاقة والبطاريات اللازمة لتشغيل معدات وآلات الورشة. كل ذلك، وإلى جانب ارتفاع إيجار الأماكن التي تصلح لتكون ورشاً للعمل، أدى لارتفاع حجم تكاليف الصناعة، التي أصبحت عائداتها المادية غير مُجدية بالنسبة لكثيرٍ من الصُناع، خاصة في ظل تراجع حجم الإقبال على شراء الآلات الموسيقية، بعد تردي الواقع المعيشي في عموم البلاد.    

وبالإضافة لما ذكر، يعاني معظم الصُناع من صعوبة توفير  الكثير من المواد الأولية ذات الجودة المطلوبة، كبعض أنواع الغراء الأحمر، المصنّع من مواد عضوية، ومفاتيح آلتي العود والبزق ذات النوعية الجيدة، بعد تراجع كميات إنتاجها مع توقف كثير من ورش الخراطة عن العمل. هذا إلى جانب صعوبة توفير ما يلزم من جلود بعض الحيوانات كالأغنام والماعز، والتي تستخدم في صناعة الآلات الإيقاعية كالدفوف والطبول، وذلك نتيجة تراجع حجم الكميات التي كان الصناع يحصلون عليها من المسالخ، بعد ارتفاع أسعار المواشي، وتراجع حجم الإقبال على شراء اللحوم التي ارتفعت أسعارها إلى مستويات غير مسبوقة.  

إلى جانب ذلك، أوجد الواقع الذي تعيشه سوريا صعوبة كبيرة في استيراد كثير من المواد والإكسسوارت التي تدخل في صناعة الآلات الموسيقية، وخاصة أوتار العود والبزق وجلود الآلات الإيقاعية ذات الماركات العالمية المعروفة. وفي حال تمكن المُصنع من استيرادها فسيحتاج لتكاليف مالية كبيرة، يُضاف إليها تكاليف الرسوم الجمركية، لذا أصبحت كثير من تلك المواد تدخل إلى سوريا عن طريق التهريب أو من خلال بعض الأشخاص المسافرين، ولكن ضمن كميات محدودة جداً، بالكاد تلبي حاجة عددٍ محدود من الآلات.

 ورغم عراقة مهنة تصنيع الآلات الموسيقية وأهميتها الثقافية، وبحسب ما أكده الصُناع الذين التقيناهم، لا يتوفر حتى اليوم  أي دعم حكومي من شأنه أن ينهض بواقع الصناعة، ولا يقام لها أي معرض ثقافي لتقديم منتجاتها، أسوة ببعض الدول، وهو ما يُشكل ظلماً لتاريخها وعراقَتها ويُجحف بحقوق الصُناع المعنوية والمادية، وخاصة صُناع آلة العود التي تُشكل إحدى الهويات الثقافية السورية، إذ لا يوجد حتى اليوم أي جمعية خاصة بهم، وإنما يتبع بعضهم، في أحسن الأحوال، للجمعيات الحرفية، وتُصنف مهنتنم  كمهنة صناعية، ضمن ورشات نجارة الخشب، وليس كمهنة ثقافية وفنية، فيما تخضع ورشاتهم، من حيث حجم الضرائب وتسعيرة فواتير الكهرباء والماء،  لقوانين الورش الصناعية والتجارية.

تراجع جودة الصناعة

لطالما كانت سوريا من أهم الدول  العربية في صناعة الآلات الموسيقية، التي تتميز بأنها الأجود والأطول عمراً، بل تُعد من أهم دول العالم في صناعة آلة العود وخاصة العود الدمشقي. لكن تلك الصناعة، وفي ظل العوامل التي ذكرناها، أصبحت مهددة بتراجع جودتها يوماً بعد يوم. ففي ظل صعوبة توفير الأخشاب ذات النوعية الجيدة، يلجأ بعض صناع  آلتي العود والبزق لاستخدام ما توفر من أخشاب قد تكون مصبوغة ومتشققة وغير معالجة، أو معدة لتباع كحطب، وبالتالي لا تُقدم الجودة المطلوبة، فيما يلجأ بعضهم الآخر، في كثير من الأحيان،  لاستخدام أخشاب أشجارٍ مقطوعة حديثاً، لا تصلح للصناعة، كونها تحتاج إلى عملية تجفيف ومعالجة قد تستغرق عدة سنوات.

وفي ظل ارتفاع أسعار أوتار العود المستوردة وصعوبة استيرادها، بات معظم صناع الآلة يستخدمون الأوتار الصينية أو المصنعة محلياً، والتي لا تقدم الجودة المطلوبة وتؤثر على جمالية ودفء وعذوبة صوت الآلة، فيما أصبح استخدام الأوتار الجيدة محصوراً بطلبات بعض العازفين، إذ وصل سعر الأوتار من ماركة “بيراميد لوت”، المصنعة في ألمانيا، إلى نحو 800 ألف ليرة،  وسعر أوتار “الكورشنر”  و “الأورورا” ، المصنعة في تركيا، إلى أكثر من 300 ألف ليرة.

وبعد أن كانت معظم الآلات الإيقاعية تُصنع من أجود أخشاب الجوز والزان، بات بعضها يُصنع من بعض أنواع الأخشاب التجارية كخشب الحور والزنزلخت والكزبرينة وأحياناً الخشب المضغوط، وهو ما يؤثر على جودة الآلة وطبيعة صوتها ومتانتها، إذ يمكن لإطارها أن يتشقق وينحني ويفقد شكله الدائري بعد فترة قصيرة من تصنيعه. فيما استعاض بعض صناع آلة الرق عن استخدام الخشب، بصناعة إطار الآلة من مواد بلاستيكية تُصبُّ في قوالب خاصة بعد معالجتها. ورغم متانة الإطار، نسبياً، إلا أنه يُفقد الآلة طبيعة صوتها الدافئ ورونقه. وإلى جانب ذلك، يضطر بعض الصناع ، نتيجة صعوبة استيراد جلود الآلات الإيقاعية ذات الماركات العالمية، لاستخدام الجلود المصنعة محلياً، والتي  تتأثر بعوامل الطقس بشكلٍ كبير، ولا تُقدم الصوت المثالي للآلة.

نتيجة للظروف السابقة تراجعت كميات الآلات المُصنعة، في مختلف أنواع الورش الموسيقية، إلى مستوياتٍ غير مسبوقة، فمعظم من التقيناهم من صُناع الآلات الإيقاعية في منطقة باب الجابية، وصُناع آلتي العود والبزق في منطقة دويلعة وجرمانا، أكدوا أن حجم إنتاجهم قد تراجع بنسبة 60% مقارنة بالسابق، وهو ما أدى لإيجاد نقصٍ في كميات الآلات المعروضة للبيع في معظم محلات الموسيقا. وقد تأثرت كميات إنتاج الآلات الموسيقية أيضاً بتراجع حجم صادرتها إلى الخارج، في ظل ارتفاع تكاليف الشحن وإيقاف معظم مكاتب الشحن الخارجي عملها في سوريا. كما تأثرت بتراجع حجم الإقبال على شرائها، بعد أن ارتفعت أسعارها بشكل كبير،  نتيجة ارتفاع تكاليف صناعتها ونقلها، فعلى سبيل المثال، بلغ سعر العود التدريبي نحو مليون ليرة، ووصل  سعر بعض أنواع العود الاحترافي  لأكثر من  سبعة ملايين ليرة، ليصبح شراء الآلات الموسيقية بالنسبة لكثير من الناس نوع من الترف والكماليات.  

هل انتهت العبودية أم غيرت أشكالها فحسب؟

هل انتهت العبودية أم غيرت أشكالها فحسب؟

تعيدنا بدرية البدري الروائية العمانية في روايتها فومبي والتي وصلت إلى القائمة الطويلة للبوكر العربية 2024 إلى عهد ظننا أننا تجاوزناه منذ قرن تقريباً وهو العبودية وتجارة الرقيق وزمن السيطرة الاستعمارية على إفريقيا لنهب ثرواتها واستعباد سكانها، ورغم أن هذا صار في الماضي إلا أنه لا يمكن نسيانه بسهولة ولا بد من إلقاء نظرة على تاريخ مليء بآلام بشر قضوا وعانوا ودفعوا أثماناً غالية، فمن ينسى صرخة كونتا كونتي في فيلم الجذور ومشهد صيده في الغابة ورحلته إلى العالم الجديد والمتحضر لكن كعبد، ومن ينسى مانديلا الحائز على جائزة نوبل للسلام.

يأتي عنوان الرواية (فومبي) غريباً ومثيراً وهي تعني الروح الهاربة من قبضة الشيطان حسب معتقدات السكان، فالأرواح الطيبة تكون شفافة بلا لون أما تلك الشاحبة والبيضاء فقد استلبها الشيطان٫ الشيطان الذي رأوه بالرجال البيض غريبي البشرة والسلوك إذ رأوا فيهم قدرة شيطانية لا محدودة لصنع الشر. تبدأ الرواية بأغنية شعبية من الكونغو عن حظ سيء يرافق الجماعة مع استدراك أن كل ما في الطبيعة سيقتل الرجل الأبيض وليس هذا سوى من باب التمني أو الأمل بأن العدل سيأتي يوماً.

تنتقل بدرية البدري الروائية العمانية والتي كانت قد أصدرت ثلاث روايات هي (ما وراء الفقد، والعبور الأخير، وظل هيرمافروديتوس) وعلى مدار ستة فصول بين عدة رواة هي شخصياتها المختلفة في جهة الصراع، إذ ينتقل السرد بينها ليروي الحدث من وجهة نظر السارد ويضيف رؤيته الخاصة، بدءاً من ستانلي الصحفي الأمريكي من أصل بريطاني الـذي تربى في ملجأ أيتام ولعدم اعتراف والده به أنكر نسَبه ووضع لنفسه اسماً كأنما يود أن يلد نفسه. فاستطاع منذ البداية إخبارنا بقدرته على الاحتيال لتحقيق مآربه، وهذا ما فعله للحصول على دعم صحفي للبدء في حملة استكشافية كانت التمهيد لحملات أخرى تبنتها بلجيكا بشخص ملكها الطامع ليس فقط بتحقيق المجد وإطلاق اسمه على الأماكن البكر التي لم يصل إليها أحد بل هي الرغبة بالحصول على ملكية هذه المناطق لاستنزاف ثرواتها، لكن سلطته مقيدة وفق القانون بسلطة البرلمان، وسعياً وراء طموحه في امتلاك دولة الكونغو قام برعاية مؤتمر الاتحاد الأوربي الإفريقي الذي رفع شعار الدفاع عن الدول الإفريقية ضد أساليب العبودية والاتجار بالرقيق ودعم التنوير ونشر الحضارة فيها والديانة المسيحية.

استعمار لأغراض سامية

تحت هذه الشعارات كان الباطن الاستعماري فحتى البلدان التي تبدو محايدة لها مطامعها السرية؛ إذ استعمرت بلجيكا الكونغو منذ 1902 إلى 1960كما استعمرت راوندا حتى عام 1962.

نعم قامت بلجيكا باستعمار الكونغو لأهداف سامية وتحت شعار مناهضة الرق ومنح السكان حريتهم التي يستحقونها كبشر، حشد الملك إمكاناته لزرع الفكرة ونشرها وترسيخها عاملاً بالمقولة ” إيصال المعلومة غير الدقيقة بطريقة تبدو في منتهى الدقة”. حتى اعترفت أمريكا بحق بلجيكا في الكونغو عبر بيان  يؤكد أن احداً لم يقم بعمل نبيل يهدف إلى تحويل شعب همجي إلى شعب متحضر كما فعلت بلجيكا .

هكذا يتم التلاعب بعقول البشر وتكوين الحقائق من الأفكار التي تزرع فيها عبر الإعلام والمؤتمرات وضخ الأخبار. والتلاعب بمصائر البشر عبر استخدام مشبوه للقيم والحقوق والحريات فتتم إقامة بلدان حسب الرغبة لخدمة مصالح الدول الكبرى كما فعلت الولايات المتحدة حين أقامت دولة ليبيريا ( أخذت اسمها من ليبرتي ) للعبيد المحررين بدل إعادتهم لبلدانهم الأصلية، عبر جمعية خاصة استعمارية أمريكية، مورس نفس الاحتيال على سكان الكونغو الذين لا يعرفون القراءة والكتابة ولا حقوقهم فتم استدراجهم للتوقيع على صكوك عبوديتهم وبيع أراضيهم وقوة عملهم  والعمل بالسخرة والالتزام بإحضار العمال اللازمين لجمع المطاط أو الحمل أو مد السكك الحديدية كل ذلك مقابل قطعة قماش ظنوها هدية لهم. هكذا أصبحوا مدينين للملك وعليهم أن يعملوا بشكل متواصل لسداد ديونهم التي تزداد يوما بعد آخر

كان الأفارقة أنقياء لدرجة أنهم تخيلوا الرجل الأبيض على ظهر السفينة التي تمخر نهر الكونغو، الرب يبحر في النهر وأن البندقية التي يقتل بها أبناء قبيلة الباساكو هي عصاه التي يعاقب بها. ثم اكتشفوا الخديعة التي وقعوا بها لكن لم يعد بإمكانهم فعل شيء سوى الرضوخ وصاروا بيد الرجل الأبيض كالبندقية التي يقتل بها أخوتهم وصارت المعادلة أن يكون الشخص إما قاتلاً او مقتولاً وبحثاً عن خلاص فردي تاجروا بأخوتهم واصطادوهم وباعوهم وقتلوهم وعذبوهم حسب رغبة الرجل الأبيض. فكانت الجرائم مثل شرب الماء وقتل العائلات للاقتصاص من فرد فيها تجري ببساطة وقد يكون ذنبه ليس أكثر من أن سلة مطاط من بين سلال كثيرة جمعها لم تكن مملوءة بشكل كاف. كان البيض يقومون بجرائمهم بيد أفارقة غالباً حتى صار الموت مشهداً عادياً بل راحة أمام التعذيب الذي لا يتحمله بشر. كما كان هناك الأفارقة الذين يصطادون أبناء جلدتهم كالحيوانات يبرر أحدهم ذلك: “من نصطادهم يظلون أحياء إلى أن نبيعهم ونقبض ثمنهم، لربما وجدوا هناك حياة مرفهة بانتظارهم وهذا يعني أن ما نفعله خير لهم، الأمر السيء الوحيد أنهم لا يعودون أحراراً ويضطرون لنسيان أحبتهم لكن ذلك أفضل من الموت” متناسياً رحلة الشقاء بين الصيد والبيع من تعذيب وتجويع وضرب حتى يفقدوا قدرتهم على المقاومة فيخرجوهم من الشبكة صاغرين للقيود باليدين والقدمين والرقبة كالحيوانات. لكنه يستدرك بعد أن يقول لا يعودون أحراراً فيقول لا أحد في افريقيا حر الجميع عبيد، سواط كانوا مصطادين أو فارين من الصيد رغم الثورات المتتالية والتي لم تنقطع ضد البيض لكن التفوق بالسلاح ومساعدة الأفارقة تحت الضغط مكنا البيض من السيطرة دوماً.

تبرر الدول الأوربية غزوها لإفريقيا الهادف لاستغلال ثرواتها من ذهب وألماس وعاج ومطاط وكنوز كثيرة متوفرة بمبررات كثيرة أولها إنقاذ الأفارقة من عبودية العرب ولمنع الحروب المستمرة بين القبائل الإفريقية المتناحرة دوماً إضافة إلى تخليص أفراد القبائل من عبوديتهم لرئيس القبيلة. ونقل الحضارة إليهم والتي تبين أنها لم تكن سوى في الأسلحة الموجهة لصدور الأفارقة، لكن البيض لم يكتفوا بالرصاص إذ كانوا ينظرون للسكان على أنهم ليسوا بشراً بل حيوانات. فتفننوا بتعذيبهم من تجويع وضرب بالسياط إلى بتر الأطراف أو ترك الكلاب تنهش الأطفال والفاقدين القدرة على العمل، إلى خصي الرجال وانتهاك نسائهم أمامهم وأطفالهم وإرسال الأيتام تارة إلى معسكرات القوة العسكرية أو إلى طهيهم وتقديمهم وجبات طعام للعمال الذين لا يعرفون أنهم يأكلون أبناءهم.

 لا يمكننا أن نذكر كل أساليب التعذيب التي توردها الكاتبة لكن يبدو أفظعها أن أحد الضباط  كان يزرع وروده بجماجم القتلى، وأثناء جمع المطاط وحتى لا يخسروا شيئاً منه على الأرض كانوا يتركونه يسيل على أجساد الرجال ثم يقومون بنزعه عنهم فيسلخ معه الجلد دون رحمة. أما الحمالون فكم قضى منهم تحت ثقل أحمالهم ودون أن يقدم لهم الطعام الكافي لسند أجسادهم، كتب على النصب التذكاري عند بحيرة ستانلي (حررتهم السكة الحديدية من الأثقال) يا للسخرية فقد بنيت على أجسادهم، لكن القاتل لا يتوقف عن لوم الضحية وعدم تقديرها لما فعله من أجلها.

كشف الأكذوبة وفضح ملك بلجيكا

 تم تعيين جورج واشنطن ويليامز المستكشف وهو ضابط سابق ومؤرخ زنجي من قبل الولايات المتحدة لتقييم الوضع في الكونغو بغية إرسال مواطنيها الأفارقة إلى هناك فكانت صدمته هائلة حين شاهد حجم الجرائم وأدرك الكذبة التي تعمم على العالم ورغم سوء صحته كتب تقريره وفضح ما يجري والسلوك الاستعماري الحقيقي. تابع ذلك ادموند موريل الذي استقال من شركة الملاحة بعد أن كشف الحقيقة فكل الثروات التي كانت تشحن إلى أوربا لم يكن يشحن مقابلها شيء لا بضائع ولا أموال فقط بعض الأطعمة للرجال البيض والضباط هناك، قام ادموند بفضح سجل الشحنات ونشر المعلومات في الصحف ونشر صور الجثث المعلقة فوق النار والمشنوقة وشهادات أشخاص تمكنوا من الفرار والإدلاء بشهاداتهم حول حجم التعذيب الذي يتعرض له شعب القبائل المتبقية فقد تم إبادة العديد منها، إلى أن تم تجريم الملك البلجيكي بكل الأعمال الغير قانونية ونهب الثروات على يد لجنة تقصي الحقائق في الكونغو التي انتحر عضو منها لقسوة ما رأى. أما القاضي الثاني فكان لا يمسك نفسه عن البكاء، أتى التقرير ب 150 صفحة وتبين أن تلك الأطراف المبتورة للترهيب والعقاب لم تكن سوى المادة الأولية لشركة اللحوم المعلبة والتي تحمل صورة حيوان على غلافها.

لكن هناك الكثير من الجرائم لم ينتبه لها أحد كأفعال بريطانيا في الأمازون وسيراليون ونيجيريا والتعتيم على ما يجري في زنجبار.

 تبدأ الرواية بداية مرتبكة فالاسترسال بخيالات ستانلي رافقه استرسال بالجمل الطويلة، لكنها لا تلبث أن تستحوذ على انتباه القارئ في التشويق وتقديم أحداث تاريخية مهمة بطريقة أدبية جذابة عبر تغيير الرواة فرغم تغير السارد بين فصل وآخر وفي داخل الفصل نفسه إلا أن الكاتبة استطاعت أن تمنح لكل صوت خصوصيته وألمه وحزنه والقدرة على التعبير عما يحتدم بداخله، واستفزاز المشاعر القوية التي تتماشى مع طبيعة السرد وطبيعة الحدث.

 تؤنسن بدرية البدرية الأشياء على يد سارديها فمثلاً كان أحدهم يتألم من أجل السوط الذي تخيل أنه يتألم حين ينزل على جسده مستدلاً على ذلك بصوته الذي يبدو كاعتذار.

 كما قدمت الشخصيات المتناقضة والتي تواجه بعضها في الصراع دون أن يختلف مستوى السرد، لم تكتف الرواية بالمعلومة التاريخية وإنما وظفت ذلك لإبراز الحقائق الغائبة والمغيبة.

هل انتهت العبودية؟

حين أكدت واقع القارة الإفريقية وصراعاتها الداخلية بدا الأمر وكأنها تشير إلى التشابه بين الديكتاتوريات المحلية والاستعمار العنصري القاتل. فالملك البلجيكي يقوم بالتشبه والمقارنة مع ملكة مدغشقر وأساليبها الوحشية للسيطرة على شعبها، ومن خلال استعراض الحياة الخاصة للملك وأفراد أسرته ندرك ان للعبودية أشكالاً متعددة فرغم أن عائلة الملك من النبلاء لكنهم كانوا عبيداً للتقاليد الملكية وسلطة الأب القاسي والمتهور حتى انتهى بعضهم للانتحار والقتل أو الجنون والفرار، وفي النهاية تدق الكاتبة جرس الخطر حين تقول: لم تنته الحكاية بل إن أبطالها يتكاثرون في الحياة.

فالعبودية لم تنته وإنما تغير شكلها فما زال الانسان طريدة صيد لشبكات عديدة تستهدفه ليس آخرها المفاهيم الحديثة أو العالم الافتراضي بشبكته الإلكترونية أو زرع الرقاقات في الأجساد البشرية.

فالثورات المتلاحقة في عالم التقنيات أذهلتنا وجعلتنا ننسى الكثير من التفاصيل الصغيرة التي استغلتها الشركات الكبرى وحولتنا إلى مجرد حالات رقمية يتم التحكم بنمط حياتها وطريقة تفكيرها وبرمجتها بأفكار مستحدثة تحت مسميات عديدة من الحداثة إلى الخصوصية في الوقت الذي تنتهك فيه خصوصيتنا تحت نفس الشعارات وعبر برامج الحماية ولم يعد خافياً الجرائم التي ترتكب عبر وسائل التواصل من الاحتيال إلى القتل.

إنها الشركات الرأسمالية العالمية التي تدعم كل أشكال السيطرة لتحقيق أرباح تساعدها على النمو بدءاً من الاستعباد الجسدي واحتلال الدول إلى استعباد العقول وتغيير المفاهيم.

فالسلوك الاستعماري ليس ناتجاً عن حالات وعقد نفسية لدى ملك بلجيكا أو ضباطه ورجاله العاملين أو لدى تجار العبيد ولا تعويض لنقص بل إنها تختار من تعتمد عليهم من هؤلاء لتحقيق سياستها ودعم نفوذها.

رواية فومبي من الروايات المميزة والتي تخاطب الإنسان كقضية عامة وكذات فردية لها خياراتها تسجل من خلالها بدرية البدري حضوراً مميزا للأدب العماني الذي يثبت وجوده بقوة.

عبد السلام العجيلي: شيخ الأدباء وأيقونة الفرات

عبد السلام العجيلي: شيخ الأدباء وأيقونة الفرات

يمثل عبد السلام العجيلي ذاكرة تأسيسية في مدونة الأدب السوري، ذاكرة من من ذهب وضياء، ضمت في أعطافها عبق الماضي وأطياف الحاضر، امتازت بقدرته الفائقة في الجمع بين مفهومين متعارضين ظن الكثيرون أنه لا لقاء بينهما، ألا وهو استلهامه واحترامه للتراث وللإرث المعرفي المنقول عمن سبقه من جهة وميله للتجديد والحداثة ورغبته بربط البلاد بأواصر التقدم واللحاق بركب الحضارة من جهة أخرى.  

فالعجيلي يعد علماً من أعلام الأدب والثقافة، له الريادة في التأسيس والانفتاح على الثقافة العالمية، ولطالما كان التخلف والتأخر الحضاري هاجسه المؤرق لما لهذين الثنائي من نتائج كارثية على مستوى العباد والبلاد، فلا نهضة ولا تحرير ولا عدالة بغياب العلم والثقافة دعامتي الوعي والتقدم الحضاري، لذا تراوح نشاطه بين الرؤى الناقدة للبيئة من عادات وتخلف اجتماعي وبين محاولاته ترسيخ ما يحمله الموروث من قيم إيجابية وعراقة وأصالة فقد عمل على المزاوجة بين العادات الصارمة والأخلاق النبيلة والحذر من رقابة تلك الأعراف بذات الوقت لوعيه بمسؤوليته للنهوض بهذا المجتمع لا أن يكون غريمًا له   وهو الطبيب الرقيق والرفيق بالفقراء والمعوزين.

لقد انتمى جيله إلى موجة أحداث سياسية كبرى تميزت بتنامي التيارات الفكرية والسياسية وقد كان بارزاً في معمعة التحولات الجارية وذلك بربط الكلام بالعمل في انسجام أخلاقه وسلوكه مع ما يكتبه ويقتنع به ويمارسه كالتحاقه بجيش الإنقاذ في فلسطين وتخليه عن مناصب هامة لأجل ذلك ومعاناته مثل الجميع من ثقل النكسة على وجدان الفرد العربي.

جمع عاشق الفرات السياسة مع فطرة البداوة مع استيعابه وانسجامه مع نمط الحياة المدينية لكثرة ما ارتحل وسافر وتعرف على الأمكنة والبلدان، هو الهاوي الأبدي للكتابة على الرغم أنه لم يحترفها بمعنى التفرغ ولم يمارسها إلا في أوقات فراغه ومع ذلك اتسع عالمه ليحاور ويجرب أغلب الأشكال الأدبية إلى جانب مهنته الأساسية كطبيب ومهامه الأخرى التي كلف بها مثل إشغاله مناصب في البرلمان والوزارة فقد جرى تكليفه العام ١٩٦٢ بين شهري نيسان “ابريل” وأيلول “سبتمبر” بثلاث وزارات، الثقافة والإعلام والخارجية.

رحلته مع السرد:

عبد السلام العجيلي حكاء من طراز خاص يكتب بعفوية الفنان دون أن يفكر في أي مكان أو مذهب أدبي سيصنف أو يحتسب، فقد بلغ رصيده من الأعمال الأدبية حوالي أربعة وأربعين كتابًا، وقد ترجم البعض منها إلى اللغات العالمية، ومما يلفت الانتباه قدرته على التنقل بين الأجناس الأدبية إذ نرى نتاجه موزعاً بين الشعر والقصة والرواية والمقالات بالإضافة لأدب الرحلات والمذكرات والسير الذاتية، ويرى محمد أبو معتوق أن العجيلي استطاع «أن يؤسس ملامح السّرد التقليدي ودعائمه في سورية، من قصة ورواية…».

عرف عن طبيب الفقراء التزامه العروبي واعتزازه بقوميته وما مشاركته في حكومة الانفصال إلا محاولة منه لرأب الصدع وتلافي العوائق ولكن القوى المهيمنة كانت أقوى منه وقد ضمن مكابداته تلك في أعماله المتعددة، فالأدب لديه انعكاس تلقائي لأحاسيسه وأفكاره وقد صرح بذلك بما معناه ” أنا أكتب كي أنفث عما يعتمل في أعماقي” فقد كان مهموماً بفكرة الوحدة العربية إبان المد القومي بالمنطقة، لذلك حفرت حادثة الانفصال بين سوريا ومصر آثاراً عميقة في وجدانه ظهرت في روايته “باسمة بين الدموع” التي صدرت بفترة الخمسينات تعرض فيها لمافيات الفساد المهيمنة، وقد اعتمد فيها أسلوب الخطف خلفاً المستعار من السينما بأن يبدأ بنهاية العمل ليتدرج بعدها إلى البدايات، وقد رصد فيها النفاق الاجتماعي والسياسي في المجتمع> وكذلك في رواية “قلوب على الأسلاك” التي صنفت من بين أفضل مئة رواية عربية اشتغل فيها على تقنية الترجيع والاستباق وعبر مشهديات منفصلة بدت كلوحات نصية يترك عبء الربط فيما بينها على عاتق القارئ الحصيف، وقد سمح بذلك أسلوب التداعي للأفكار التي يدرجها البطل في مذكراته، فهو يصور الطبقة المخملية في المجتمع التي ولدت من رحم الطبقة الإقطاعية المرتحلة بعيني شاب ريفي يأتي إلى العاصمة وهو يكتشف ناسها وأهلها وينتبه لاهتماماتهم التي تتقنع بالشعر والأدب عبر صالونات الثقافة وعبر إطار علاقات عاطفية لبطله التي يوحي العجيلي أنها هدفه من العمل، ولكن يتبدى في ثناياها مواقف تلك الفئة التي تتبوأ المراكز الهامة والمفصلية بالبلد، وتختار بناء تلفريك يربط ساحة الأمويين بجبل قاسيون في العاصمة دمشق، بذات الفترة التي تحتاج البلاد لخطط تنموية أكثر أهمية وتوطيد بنى تحتية تضمن حاجات الشعب وتدعم الاستقرار وعدم التبعية للخارج، وهنا يصور حالة التوتر الذي ساد عقب الانقلاب السياسي الذي  دفع بجمعهم إلى الهروب الكبير، كتعبير عن الفشل والعجز، مما يلخص موقف البرجوازية المحلية غير الحقيقي من مشروع  التحديث والتنمية ومن قضية الوحدة كذلك، حيث الهروب من المركب قبل الغرق واللحاق بمصالحها هو هدفها غير المعلن، وترك الجماهير وقاع المجتمع لتقلبات السياسة الهوجاء.  

تتميز سردياته بالتنوع وغنى الأمكنة التي يتجاور فيها مجتمعا البداوة والحضر بالإضافة لتجاور الأساليب الفنية المختلفة كما ينوع بين الخيال العلمي والواقعية الصرفة ويزاوج بين التوجه للعلم وبين استثمار الطقوس الروحانية والأعراف المتوارثة مروراً بالعجائبي كما في قصة ” العراف”، أو أسلوب القصة داخل قصة كما في قصة “الأحجية”.

وتميز أيضاً بتشريح علاقة الشرقي بالغرب في روايته الأخيرة “أجملهن ” والتي كانت واضحاً فيها التمييز الدقيق بين مفهومي الآخر المتحضر الذي يجب الاستفادة من تقدمه وتطوره وبين المستعمر الذي يمتص خيرات البلاد ويرسخ الجهل والتخلف فيها.

أما في مجال القصة القصيرة فقد عُد أحد روادها في سورية كما صنفه القاص المصري يوسف إدريس وقد اتسمت مجموعته القصصية الأولى “بنت الساحرة” بالواقعية والمباشرة والبساطة باعتماده صوته الشخصي في سرد الأحداث كما عُدت نموذجاً للوعظ الأخلاقي المحافظ، وقد اعترف الكاتب نبيل سليمان في كتابه النقدي اللاذع” الأدب والأيديولوجيا في سورية” بالمستوى الأدبي الرفيع لعبد السلام العجيلي رغم تصنيفه بخانة شواهد الأدب القديم، وأرى هنا من الضروري أن نفهم ونقيم تجربته الأدبية في سياقها الزمني الذي كتبت فيه والتي كانت في باكورة المنجز العربي عمومًا.

كذلك أفرد العجيلي مساحة لأدب الرحلات لكونه كثير الأسفار والتنقلات بين المدن والعواصم وقد نقل تجربته إلى قراءه وألف عن رحلاته ثلاثة كتب هي: ” دعوة إلى السفر” و ” خـواطر مسافر” و” حكايات من الرحلات.”

وأيضا برع في فن الرسائل الذي كان حاضرًا في قصته (لقاء كـل مساء وثلاث رسائل أدبية) من مجموعة “الخيل والنساء” حين تحدث عن الحب والعلاقات الإنسانية.

حكايته مع المدينة:

 المكان الأول ” الرقة” تلك المدينة الواقعة على كتف الفرات التي كانت معلماً حاضراً في وجدانه أينما ارتحل وأينما حل، وهي التي ارتبطت باسم العجيلي بشكل بارز وجلي، حيث أواصر الارتباط العالية للأديب بالمدينة وكأن المدينة هو، وكأنه المدينة.

انحدر عبد السلام العجيلي من بيئة بدوية من عشائر البو بدران التي نزحت من الموصل إلى ضفاف الفرات، وقد تخرج طبيبًا من جامعة دمشق واستقر في مدينته الرقة بعد التخرج وافتتح عيادته بها، وهو الذي عشق السفر والترحال عبر أصقاع الأرض ومع ذلك بقي رجوعه إليها دائماً وظل عاشقاً متيماً لمدينته “الرقة” عروس البادية السورية.

 وترجع تسمية الرقة على الغالب بأن الرقة بطائح الماء بعد الفيضان، فيضان النهر أو ما يتبقى منه حين يحل الجزر بعد المد، ومفردها البطيحة أي الرقة، الرقة درة الفرات، والعجيلي الذي سلخ تسعة عقود من الزمن كان جلها فيها لدرجة سميت “رقـة البـدري” وهي كلمة مختصرة من بدوي وحضري، نعم هي الرقة التي لطالما كانت غاوية ومغوية ولطالما قصدها الملوك والشعراء ورجال الفكر والسياسة منذ هارون الرشيد ومن قبله هشام بن عبد الملك وسواهم، وقد قال عنه نزار قباني بأنه: أروع بدوي عرفته المدينة، وأروع حضري عرفته الصحراء.”

 كان العجيلي صاحب نكتة ونوادر ساخرة وقد انضم إلى “عصبة الساخرين” قديماً، مع المرحـومين عبـاس الحامض، وممتاز الركابي وعبد الغني العطري وسعيد الجزائري. ومع نشأت التغلبي وآخرين، وقد قال في إحدى الكلمات التي ألقاها:” أن الله في الدار الأخرى، لن يحاسب الكتّاب على ما كتبوه وهم أحياء على ظهر البسيطة، بل إنه سوف يحاسبهم على ما لم يكتبوه” في تورية عميقة للرقيب الاجتماعي والسياسي في حجب المخزون الثقافي المختبئ في داخله وكثافة ما يود قوله لو منح مزيداً من العمر فقد عاش حياة مفعمة بالعمل والإبداع، كان مع الناس وللناس في زمن مبكر اتسمت المنطقة بالتخلف وسيطرة الرجعية غداة تحررها من ربقة الاستعمار ولطالما عُد رائداً من رواد النهضة في سورية والوطن العربي فهو الطبيب والأديب والسياسي المفوه الذي اجتمعت القلوب على محبته.

وقد وصف أهل الرقة جنازته “بأنه مات على سروج الخيل” أي كان يعمل ويكتب ويسافر حتى آخر أيامه بكل روح العطاء والإقبال على الحياة ورحل في صحبة الضوء مشعاً وخالداً.

     *تنشر هذه المادة ضمن ملف صالون سوريا حول “المنعطف السوريّ