الحج في سوريا لأصحاب الجيوب العامرة فقط

الحج في سوريا لأصحاب الجيوب العامرة فقط

بعد قطيعة استمرت اثني عشر عاماً، تعود العلاقات السورية السعودية من بوابة فتح الحج وقبول طلبات السوريين لأداء فريضته، على أن تنطلق رحلات الحجاج من مطار دمشق الدولي إلى مطار جدة، في إجراء قد يبدو أنه لن يكون الأخير وسيمهد لإعادة فتح السفارة السعودية في العاصمة دمشق وتوطيد العلاقات بين البلدين.

وكانت لجنة إدارة مصرف سورية المركزي أصدرت التعليمات الخاصة بتسديد عوائد الخدمات المترتبة على أداء مناسك الحج للعام الحالي ممن حصلوا على موافقة وزارة الأوقاف. وتنص التعليمات على إلزام جميع الراغبين بالحج الذين وصل عددهم قرابة 17500 شخص ممن استوفوا شروط العمر، بالإيداع النقدي بالقطع الأجنبي في الحساب المحدد من قبل وزارة الأوقاف لهذه الغاية لدى بنك البركة سورية بكل فروعه.

كلفة الحج تعادل راتب الموظف لـ 30 عاماً

تختزل الآية الكريمة “ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً” حال السوريين الراهنة إزاء تأدية مناسك الحج الذي بات حكراً على شريحة اقتصادية معينة وذلك بسبب نفقات رحلة الحج والتكاليف الباهظة. تقول السيدة الستينية التي كان يراودها حلم الحج منذ سنوات عديدة: “منذ اندلاع الحرب وأنا أتمنى زيارة مكة المكرمة، لم تسمح الأوضاع بسبب تعليق الحج، وعندما عادت الأمور إلى مجاريها أصبحت التكلفة باهظة جداً. الأغنياء فقط من يستطيعون دفع ما يفوق 100 مليون ليرة سورية، هذا رقم فلكي بالنسبة لأسرة سورية متوسطة الحال”. تؤيدها بالرأي فاطمة (48 عاماً) التي تجد أن الحج للمقتدرين مادياً، فلم يعد بمقدور الفقير تأدية فرائض دينه في ظل هذه التكاليف المرتفعة، فالأولوية للطعام والشراب وحبوب الدواء ودفع إيجار المنزل، تختتم حديثها بالقول: “النية موجودة، لكن الاستطاعة عدم”. أما جهاد (55 عاماً) فيرى أن التكلفة الخيالية للحج تعادل راتب الموظف السوري درجة أولى لمدة 30 عاماً، ما يعني أن الأمر مستحيل لأصحاب الدخل المحدود، ويضيف ساخراً: “صارت الكعبة رفاهية ففرضوا علينا جمركة، التضخم أثر على أركان الإسلام”.

بدورها، ترى نورمان (26 عاماً) أن المبالغ الباهظة غير المنطقية التي وصلت ما بين (85 ـ 200) مليون ليرة سورية كتكلفة رسمية لتأدية فريضة الحج من الأفضل أن تدفع لبناء المدارس أو كفالة اليتامى وإطعام الفقراء الذين هم أولى بالمال وتجوز عليهم الرحمة. يوافقها بالرأي عمار الذي يعتقد أن التبرع بهذه الأموال الطائلة للشرائح الأكثر عوزاً أو القيام بعمليات جراحية للمحتاجين قد يكون أكبر أجراً وإحساناً، بينما يجد الشاب الثلاثيني رامي أن يستثمر هذا المبلغ في مشروع شخصي له أو السفر به إلى أوروبا.

أصحاب الجيبة العامرة وحدهم من يحجون

في الوقت الذي يكابد فيه السوريون لتأمين لقمة العيش يومياً ويصارعون للبقاء في ظل تكاليف الحياة الباهظة، غير أن البعض منهم لا تشمله خريطة الفقر ولا حدود الجوع، لتجد الفئات الغنية نفسها قادرة على دفع مبلغ 6 آلاف دولار وفق سعر المصرف المركزي (13400 ألف ليرة سورية) بسهولة كبيرة، لنصبح أمام فجوة طبقية ساحقة. تكفل راتب بدفع مبلغ 125 مليون ليرة سورية لوالدته الستينية لتأدية مناسك الحج، وهي المرة الأولى لها، يقول الخمسيني وهو تاجر قماش في سوق الحميدية بدمشق: “هذا المبلغ يشمل تذكرة الطيران وحجز فندق 3 نجوم ووجبتي فطور وغداء ورسوم التنقل في الحرم، يفتدي المال خدمة الله وطاعته وهو فريضة من استطاع إليها سبيلاً، والحمد لله أنا مقتدر مادياً.”

يعترف عبد الخالق (58 عاماً) أن عمله في تجارة الطاقة الشمسية والدخل الشهري العالي الذي يجنيه يسمح له بتحمل تكاليف الحج، يقول: “لن أفوت الحج خاصة هذه هي المرة الأولى بعد 12 عاماً، سأعتبر نفسي أنني أخذت إجازة شهر كامل.” وقد دفع الرجل قرابة 185 مليون سورية مقابل خدمات مميزة وحجز فندقي 5 نجوم والترتيبات اللوجستية، ناهيك عن تكاليف التبضع التي سيتكبدها هناك.

تناوب الأشقاء الستة المنتشرون في أوروبا في على تقاسم مبلغ 6 آلاف دولار لإرسال والدتهم الخمسينية إلى الحج، حيث اقتطع كل واحد منهم جزءاً من راتبه لتكبد النفقات، يقول عثمان أحد الأخوة: “تشاركت مع أخوتي على اقتسام الكلفة وإسعاد والدتنا التي لطالما حلمت بهذه اللحظة، من غير المعقول أن نحرم أمنا من هذه السعادة، المبلغ ليس بكبير إذا قسم على الجميع، اختصر كل واحد منا بعض النفقات وأجلها للشهر القادم في سبيل تحقيق أمنية الوالدة.”

الحج بالنيابة 

في ظل انعدام الدخل وتكاليف الحج الباهظة يلجأ بعض السوريين إلى توكيل شخص يعيش في السعودية للحج بالنيابة عن الآخر، حتى لو كان قادراً جسدياً لكنه عاجزاً مادياً، في محاولة لتقليص النفقات إلى النصف. هذا ما فعلته فادية (50 عاماً) التي فوضت صديقتها المقيمة في السعودية بالحج بالنيابة عنها مقابل دفع تكاليف بسيطة كالتنقل وشراء لباس الحج، وتشرح لنا تجربتها: “لا أستطيع أبداً دفع مصاريف الحج، طلبت من صديقة الطفولة الحج بالنيابة عني، ولم تمانع أبداً، حتى أنها عرضت استضافتي في منزلها، لكن بالرغم من عرضها السخي أجد نفسي عاجزة عن دفع تذكرة الطيران والفيزا، هذا حل جيد ومريح نفسياً ومادياً، إلى حين يرزقني الله والحج شخصياً”.

ويضيف المحلل الاقتصادي عابد فضيلة شارحاً الأمر أن الأثر الاقتصادي في تسيير أفواج الحج “عبء مادي على مدخرات الحجاج السوريين من القطع الأجنبي، لكنه في الوقت ذاته عبء محبب وشرعي ومرغوب على المستوى الاجتماعي، كما أن له آثاراً اقتصادية إيجابية تتمثل بالنفقات الاحتفالية التي تصرف عند عودتهم من الحج إلى بلادهم مثل كثرة الإنفاق على الضيافة والزينات والهدايا لصالح السوق السورية وإنعاشها”.

تحت شجرة بوذا وشعرية التمرد النسوي

تحت شجرة بوذا وشعرية التمرد النسوي

لا أخفي ارتباكي وأنا أكتب عن ديوان (تحت شجرة بوذا) للشاعرة فرات إسبر التي تخطت بشجاعة وصدق كل الخطوط الحمراء في الكتابة التي يضعها عالمنا العربي لدرجة أنني توقفت مراراً مبهورة بجرأتها وسعيدة أنها قفزت فوق الرقابة. ديوان أشبه بجدارية عن الوطن والغربة والحنين والحب واليأس والأحلام، شعر يزخر بمشاعر غنية بالحياة والماء والزهور والأشجار والدماء، ووجدت نفسي أمام تحد في كتابة مقال يُعبر عن روح الكتاب. لذا وجدت الأنسب أن أختار جملاً معينة من قصائد مدهشة الإبداع تختزن روح الشاعرة المبدعة. في مقطع بعنوان موت تُعبر الشاعرة عن نفسها: بقدر ما أحيا أموت وبقدر ما أموت أحيا –تزهر حياتي مثل ربيع– وأجمع أوراقها مثل خريف. ولم أعرف لماذا تذكرت عبارة سيمون دو بوفار (نحن لا نولد نساء بل نُصنع نساء) لأن فرات إسبر في ديوانها (تحت شجرة بوذا( كتبت عن المرأة كإنسانة وليست كأنثى. ورغم إعجابي الكبير بالشاعر نزار قباني وهو شاعر المرأة والحرية، فإن أغلب أشعاره كانت عن افتتانه بالأنثى المثيرة والساحرة، لكنه برأيي لم يغص كثيراً في روح المرأة كإنسانة، بل ظهرت نرجسيته الذكورية في جمل كثيرة (وما بين حب وحب أحبك أنت). لا أقارن على الإطلاق بين شعر نزار قباني [وهو أيقونه في الشعر والإبداع وبين شعر فرات إسبر]، لكن أصابني ذهول وأنا أقرأ عبارة ( حيضهن تخضر الأرض) هي عبارة ثورية وفيها تحد كبير لكل المفاهيم الدينية خاصة والاجتماعية التي تعتبر المرأة في فترة الحيض مدنسة لا يجوز أن تصوم ولا تدخل الكنيسة أو الجامع وبشجاعة امرأة تتفجر الحرية في أعماقها وتقدس المرأة كواهبة للحياة والحب. المرأة التي كانت في زمن مضى آلهة [آلهة الخصب والحب والإنتقام.. ]، تأتي عبارة (وبحيضهن تخضر الأرض) كإعلان ثورة لمفهوم الحيض الذي يُغني الأرض بالدم وعندها تنبت الأشجار والنباتات.

تكتب فرات عن الله بحرية متصوف لا يحتاج لوسيط بينه وبين إلهه في مقطع بعنوان (انهض يا قلبي الينبوع): سكرتُ سكرتُ، اليوم بالدمع –

 قلتُ لربي: آه يا ربي، هذا النبع قيدني بالدمع.

 طفتُ في الأرض سكرى من شدة الوجد

  • وقلت لكل زهرة عند مفرق النبع –
  •  ها قلبي – ها قلبي –
  •  أطوف به بين الدرب والدرب
  •  – بين الوهد والوجد .

تبحث فرات في كل شعرها عن مُسكن للحنين إلى وطن تعشقه، عارفة سلفاً أن لا دواء للحنين أتأمل ما كتبت: من يؤنس وحشة الضوء بعد هذا الكسوف؟ في سماء كلها سفر إلى جنه أو عدم نتقاسم الذكريات كأنها رغيف خبز نصف لي ونصف لذاكرتي التي تنقر ذاكرتي وتُشجعني على النسيان . هذه الذاكرة طوفان والزمن رسام بديع.

لكنها تعرف أن النسيان مستحيل وأن وجع الحنين لا دواء له تعبر عن وجع الحنين:

  • لي مدينة اسمها الأسى – ولي قلب اسمه الشوق !

لا يفصل المحيط فرات إسبر عن مدينتها الساحلية الجميلة جبلة، تعبر روحها المشتاقة إلى حد الوجد المحيط لتقف في موقف باصات جبلة، وتجلس قرب بحرها وتتأمل الزهور على نوافذها، وتحس بوجع الحنين والكارثة التي حلت بسوريا. لم تجعلها الغربة تنسى أبداً مدينتها جبلة ولا تنسى اللاذقية ودمشق وتتذكر أدق التفاصيل وباعة الكتب المستعملة في دمشق، فرات تحس أن للأمكنة أرواحاً وروحها مسكونه بعشق وطن يستحيل أن يخف.

  • أنام على حلمي بدون وسادة مسكونة بالوحدة حتى الموت.

وتعترف بهزيمتها حين تقول: أنا الغريبة التي أجيد اللغات والكتابة ولكنني لا أجيد قتل الحنين.

في مقطع بعنوان (رجفة): الشجرة ترتجف أمام الباب – أنظر إليها ، تنظر إلي – غصن أخضر منها، غصن يابس مني – اتحدنا في دورة الحياة – وكسرتنا الرياح.

لا أخفي إعجابي بالإبداع والفكر الحر حين تكتب:  أحب الضعف كي يحبني الله

  • أحب القوة كي لا أحب الله. أهذا اختبار القوة أم اختبار الضعف يا الله؟

تكتب عن الحب:

  • اليأس خلق سماء بيننا أعطى معنى لي بأن لا أعود إلى المُتشابهات / أنت من طين وأنا من ماء. كلما جُبلنا إزددنا إبتعاداً
  • – أيها الحب، أغنية أنت في أذني التي لا تسمع، وفي عيني التي لا ترى، فاذهب إلى مصيرك حيث الصوفي والعاشق الواهمون بوجودك، ويصورونك بالبديع من الجمل.
  • ولا ثمار في القبل.

وجع الوطن ينخر في قلب فرات، موجع ومؤثر ما كتبته عن سوريا وعن جبلة وعن دمشق كم مؤلم أن تكتب: بلادي يُوقظها الدم من نعاسها، يضع خنجراً في صدرها ويدعوها للصلاة.

وتكتب: شقيقان نحن يا هابيل، شقيقان يا غراب، الأرض سدوم كلها والإنسان جرح يقطع بطنها.

وتضيف: أسمع صوت نساء الحارة الغريبات، الوحيدات، الحزينات. ومن رماد إلى رماد أنطفئ شوقاً ثم أموت.

كنتُ أتمنى لو أعيد كتابة الديوان كله (تحت شجرة بوذا)، فمن الصعب تقطيع الإبداع، لكني حاولت أن أنقل روح مبدعة حرة لا تعترف بالخطوط الحمر ولا بالسقف المنخفض للإبداع، لأن الإبداع الحقيقي لا سقف له وقد يصل إلى السماء ويتجاوزها. أخيراً أختم بعبارة كتبتها فرات: ليموت الوحش لتقتله الشاعرات.

قرأت الكثير من الشعر لشاعرات ومنهن مبدعات لكن كانت أغلب المواضيع التي تناولنها بشعرهن عن ظلم المرأة وآلام الحب، وظلم القوانين والرغبة بالتحرر والحرية، لكن ظل الخوف كوشاح يُغلف تلك القصائد. لم تكتب شاعرة عبارة ثورية كما كتبت فرات (بحيضهن تخضر الأرض)، ولم أقرأ لشاعرة حواراً لها مع الله بحرية دون أي اعتبار لجنات الخلد ولنار جهنم. فرات تتكلم مع رب العالمين الذي خلقها حرة أي تفكر بحرية، وتسأل وتعترض. أحد الفلاسفة يقول (الإنسان سؤال) .

أخيراً حين أنهيت قراءة ديوان (تحت شجرة بوذا) لفرات إسبر وجدتني أفكر في فيرجينيا وولف ولا أعرف لم فكرت بها بعمق وهي العظيمة التي أعتبر نفسي تلميذتها، فثمة رابط خفي بين كتابة فرات إسبر الحرة وبين كتب فيرجينيا وولف خاصة كتاب (غرفة تخص المرء وحده)، وهو كتاب نقدي للعديد من أهم روايات بداية القرن التاسع عشر. روايات لكاتبات عظيمات اضطرهن ظلم المجتمع أن يكتبن بطريقة تحميهن من الأذى والمحاكمة وربما القتل، كل الكاتبات اللاتي كتبت عنهن فيرجينيا وولف لجأن إلى أن تكون بطلة الرواية (مجنونة) لأن المجنون لا يُحاسب على أقواله وأفعاله، وكان صوت المجنون هو صوت الكاتبات.

فرات إسبر لا تحتاج أن يكون بطل شعرها مجنوناً فهي تملك روحاً حرة وجرأة، وربما من حظها أنها بعيدة عن العالم العربي الذي يتراجع في مجال الحرية ويدين ويُكفر.

نحن نحتاج في هذا الزمن إلى شاعرات تحديداً يقطعن الصلة مع ماض متخلف مع جرائم الشرف والعذرية، وربط شرف المرأة بالرجل الذي يُقرر حياتها. نحتاج إلى ثورة فكرية أولاً ثم تلحقها الثورة الأدبية والفنية. وأحب أن أختم بعبارة عظيمة للشاعرة الإيرانية (فروغ فرخ زاد) التي كتبت (أثمت إثماً مُشبعاً باللذة)، كان ثمن هذه العبارة أن طلقها زوجها وطردها والدها من البيت.

شعاع من الفن التشكيلي السوري: نصير شورى (1920-1992م)

شعاع من الفن التشكيلي السوري: نصير شورى (1920-1992م)

في الخامسة من عمره حظيت إحدى لوحاته بإعجاب العديد من أساتذة الرسم، نصير شورى الذي ولد عام ١٩٢٠ والذي كان محط عنايةٍ خاصة من والديه: محمد سعيد شورى، الأديب والشاعر الدمشقي المعروف، وأمه، عائشة هانم، ذات الأصول العريقة. فكان أن تلقى تعليماً خاصاً منذ نعومة أظفاره وتحديداً في الرسم والأدب،  درس نصير شورى المرحلة الابتدائية في مدرسة التجهيز في دمشق، أكمل المرحلة الثانوية في ثانوية جودت الهاشمي في دمشق، والتحق بمعهد الفنون الجميلة في دمشق، نتيجة هذه المرحلة كانت مرحلة الواقعية الانطباعية. حيث أبدع في مزج واستنباط الألوان التي عالج فيها مواضيع ملتصقة بالبيئة والطبيعة من عمارة قديمة وقرى ومناظر طبيعية وورود وأمومة ووجوه إنسانية وموضوعات إنسانية متنوعة. أخذه الشغف باللون والرسم في رحلةٍ إلى مصر ليكمل دراسته في كلية الفنون الجميلة بالقاهرة، والتي تخرج منها عام ١٩٤٧، تعلم نصير على يد كبار الفنانين المصريين، مثل محمد ناجي، وراغب عياد، ومحمود مختار، وتميزت دراسته بتنوعها، حيث درس الرسم والتصوير والنحت، وتأثر بالعديد من التيارات الفنية، مثل الواقعية والتجريد، وخلال فترة دراسته، شارك نصير شورى في العديد من المعارض الفنية، ونال إعجاب الفنانين والنقاد، وبدأ بتكوين أسلوبه الخاص، مستوحياً من التراث العربي والإسلامي، وظهرت موهبة نصير شورى الفنية بشكل لافت خلال هذه المرحلة. ويشير عدد من الباحثين إلى أن دراسته في مصر لم تؤثر به بعمق حيث كانت الواقعية والسوريالية هما الاتجاهان السائدان هناك، يرجع ذلك إلى بدايات شورى حيث تعلّم الرسم على يد الرسام عبد الحميد عبد ربه ثم الفنان جورج بولص خوري؛ خريج المدرسة الوطنية العليا للفنون الزخرفية في باريس.

  ساعدت دراسة نصير شورى في القاهرة على تطور أسلوبه الفني، فقد بدأ بتجربة تقنيات جديدة، وظهرت في أعماله تأثيرات من التراث العربي والإسلامي  وإثر تخرج نصير شورى من كلية الفنون الجميلة بالقاهرة عاد إلى دمشق وبدأ مسيرته الفنية المهنية، برفقة نضوج معارفه العلمية من خلال دراسته الأكاديمية التي بدأها في مصر، وأكملها في أكاديمية الفنون الجميلة في روما- إيطاليا، والتي تخرج منها عام ١٩٥١ م، وقد كان أول من حصل على درجة الأستاذية (بروفيسور) بين أعضاء الهيئة التدريسية في كلية الفنون بجامعة دمشق، لذلك يعتبر نصير شورى من أهم المؤسسين لكلية الفنون الجميلة في جامعة دمشق، ويمكن القول إنه درّس وأثر قي كل من تعلم وتخرج من هذه الجامعة فقد عمل فيها مدرساً لمادة الرسم والتصوير، وشغل منصب وكيل علمي لعدة سنوات، ساهم مع حمّاد وعبد النشواتي وجلال قصيباتي وأدهم إسماعيل في تأسيس “مرسم فيرونيز” سنة ١٩٤١، معبّرين عن قطيعة فنية مع التيارات التقليدية في الفن، كما ساهم في تأسيس “جمعية أصدقاء الفن” في دمشق عام ١٩٥٠ ، وأصدر كتابًا بعنوان “الفن التشكيلي في سورية”.

   كان لنصير شورى حب كبير للطبيعة، تجلى ذلك في العديد من أعماله الفنية، فقد رسم المناظر الطبيعية الخلابة، مثل الجبال والوديان والأنهار، واستخدم الألوان الزاهية لتصوير جمالها، إثر هذه المرحلة جاءت مرحلة الواقعية ومن ثم الانطباعية على الرغم من الفروق بين الواقعية التي هي رسم الواقع، والانطباعية أي الرسم من الطبيعة، والتي تأثرت بعوامل عدة وهي مرحلة السفر وتأثره باتجاهات الفن التشكيلي الجديد، وتعمقه بشكل كبير بمعطيات التراث العربي، إضافةً إلى تأثير صديقه المقرب جداً الفنان محمود حمّاد (الذي غادر الحياة قبله بأربع سنوات في عام 1988) والذي كان قد سبقه في الفن التجريدي الحروفي الذي يقصد به استخدام الحرف بتكوينات فنية مجردة، بالاعتماد على الإحساس واللون والانفعالات، وبعد ذلك اتجه نصير شورى إلى الفن الرومنسي الجميل، وإلى نوع من التلخيص الحذر للشكل المشخص، والاختصارات المدروسة للون، وقد انتقل شورى إلى التجريد في منتصف الستينيات مع ظهور مساحات مستطيلة بالألوان والخطوط في لوحاته، قبل أن يزاوج بين التشخيص والتجريد في مرحلة لاحقة ضمن ابداعه الخاص الذي كان يخضع لقواعده أو قيوده الذي يختارها بنفسه. وقبل رحيله بنحو سنتين، اتجه إلى رسم لوحات بلون واحد ومشتقاته، وكانت لوحات كبيرة لها مواصفات خاصة مبرزاً التدرجات الضوئية التي أصبحت تعكس الحالة الداخلية الوجدانية معبّراً عنها بدينامكية وحركة لونية تشير إلى حساسيته الشديدة تجاه مفهوم التناغم.

أقام العديد من المعارض الفردية في سوريا والعالم العربي، وشارك في معارض جماعية دولية، كما أنه أصدر كتاباً بعنوان “الفن التشكيلي في سوريا” ١٩٨٠ ونال العديد من الجوائز، أهمها جائزة “بينالي الإسكندرية” عام ١٩٦١.من أهم أعماله الفنية: لوحة “الريف السوري” (1950)، لوحة “القدس” (1970)، لوحة “الأشجار” (1980)

  يمكن القول هنا: إن نصير شورى جمع بين العفوية الانطباعية والعقلانية في التجارب المخبرية المجردة وشبه الزخرفية، وما دفعه لذلك كان محاولة التوفيق بين الحب القديم للتعبير الحر، وبين التجارب المأخوذة من قبل المختبر، وهذا ما أدى به الوصول إلى الاغتراب الشكلاني المجرد أي الابتعاد عن الشكل باتجاه التجريد. تجلّت غنائيته اللونية في تلك المرحلة قبل أن يذهب في تحوّلات عميقة في مشواره، والتي يلخّصها في مقابلة صحافية بقوله إنه “مرّ بثلاث مراحل. كان في الأولى انطباعياً وفي الثانية تجريدياً، ويومها بدأ ولعه بمادة الإكريليك، أما في المرحلة الثالثة فإنه عاد إلى الطبيعة، بعدما علمته المرحلة التجريدية خصائص جديدة في اللون، سماها الواقعية الجديدة، قدم نظاماً شكلياً ولونياً جمع بين التناغم أحياناً والتضاد أحياناً أخرى، وبين الهندسة والطبيعة، وبين الألوان الحارة والباردة، للوصول إلى تكوين له أصالته مستخدماً الدمج والابتكار وخلق تناغمات وتدرجات لونية، لتقديم لوحة فنية مستقلة.

ومع اتقاد لونه، وحضور ابداعه شحب شعاع روحه وانطفأ سمة ١٩٩٢ تاركاً خلفه إرثاً فنياً متميزاً بأصالته وابداعه.

يعتبر نصير شورى من رواد الحركة الفنية التشكيلية في المشهد الثقافي السوري، قد كان لفاعليته الأكاديمية والإبداعية الأثر الحاضر واقعاً وإن كان ذكره غير متناسب مع منجزه.

للاستزادة:

  1. بطرس المعري، شورى وحماد: سورية في لوحة صديقين، صحيفة العرب الجديد، 2017م.
  2. سعد القاسم، مئوية شورى 1920-2020م، وزارة الثقافة، الهيئة العامة السورية للكتاب، دمشق، 2021م.
  3. طارق الشريف، الفنان الراحل نصير شورى، مجلة الحياة التشكيلة، 1992م.
  4. طارق الشريف، نصير شورى سيمفونية الألوان، وزارة الثقافة، الهيئة العامة السورية للكتاب، دمشق، 2021م.
  5. غازي الخالدي، نصير شورى والتجريد الملحمي المُغني، مجلة الحياة التشكيلية، 1993م.
  6. عفيف البهنسي، الفنون التشكيلية في الإقليم السوري، 1960.
  7. فاروق يوسف، نصير شورى الذي رأى العالم بعيني طفل يتعلم المشي، صحيفة العرب، 2016.
  8. محمود حماد، نصير شورى، وزارة الثقافة، دمشق، 1992م.

 وفي دراسة مصدر واكب الفنان نصير شورى وعاصره، لا بدَّ من البحث في كتاب عنوانه (نصير شورى…سيمفونية اللون) الذي صدر عن الهيئة العامة السورية للكتاب بتوقيع طارق الشريف وهو ناقد، وكان قد ألفهُ قبل وفاته عام 2013 وبقي مخطوطاً عند عائلته إلى أن تم نشره بخمس وتسعين صفحة مقسمة إلى ثلاثة فصول، وملحق صور يضم صور 38 لوحة من المراحل المختلفة لتجربة نصير شورى الثرية، وصدر كتاب يحمل عنوان (مئوية شورى) تضمن، مجموعة من شهادات الفنانين والمثقفين والنقاد بينهم الناقد طارق الشريف الذي وصف نصير شورى بأنه «علم بارز من أعلام الفن التشكيلي في سورية، ورائد من رواد الحركة الفنية، ومعلّم له دوره الكبير في توطيد هذه الحركة ورفدها بالأعمال الفنية المتنوعة، التي أسهمت في تطوير الرؤية الفنية وتجديدها، ووضع الأسس والمقومات لانطلاقة الفن التشكيلي وتحديثه، وتقديم الفن الأصيل المعبر عن الواقع، وما فيه من موضوعات وأشكال».

     *تنشر هذه المادة ضمن ملف صالون سوريا حول “المنعطف السوريّ

نذير نبعة: رسام الحياة ومؤرِّخ الألوان السورية

نذير نبعة: رسام الحياة ومؤرِّخ الألوان السورية

 “كنت أحلم بلوحةٍ تستطيع أن تخاطب بجمالياتها شريحة أوسع من الناس، لوحة تستطيع تجاوز مجموعة الجمهور التي تتكرر في حفل الافتتاح لأي معرض”. ربما توضح تلك الكلمات، وهي للفنان نذير نبعة، مدى تبنيه وإخلاصه للفن، الذي كان رفيق دربه لأكثر من ستين عاماً، فهو الفنان الذي أبدع بريشته وألوانه وخياله الخصب حيوات شاسعة ومتكاملة ومتنوعة، صوَّرها بطرقٍ تعبيرية شاعرية، حكائية، غنائية، حالمة، محمَّلة بالأبعاد النفسية والعاطفية والروحية، حافلة بالإيحاءات والصور والحكايات والذكريات، وأظهر من خلالها قدراتٍ فنية استثنائية في تحويل الخيال والذاكرة والأساطير الشعبية إلى تجلياتٍ بصرية لونية، ليبرز كواحدٍ من أهم مؤسسي الحداثة التشكيلية في سوريا، وكمرجعية في علم التكوين الفني واللغة البصرية وفلسفة الألوان.   

ولد نذير نبعة (1938- 2016) في منطقة بساتين المزة، التي شكلت طبيعتها الساحرة هاجسه اللوني الأول وساهمت في إغناء موهبته الفطرية، وتحريض بصره على التقاط المشهد الفني، فبدأ منذ طفولته برسم بعض الزخارف والورود على ثياب الفلاحات التي كانت والدته تقوم بخياطتها وتطريزها. وخلال دراسته الإعدادية برزت موهبته الفنية من خلال تقديم بعض الرسوم، التي تنتمي للمدرسة الانطباعية، كالمناظر الطبيعية والطبيعة الصامتة والبورتريه، والتي أظهرت مدى قدراته على فهم واستخدام بعض قواعد الفن التشكيلي، وقد ساعدته موهبة المتفردة على المشاركة في معرض “الجمعية السورية للفنون الجميلة” عام 1952، وهو في عمر الرابعة عشر، إلى جانب 38 فناناً من الذين قُبلت لوحاتهم في معرض الجمعية التي أصبح حينها واحداً من أعضائها وشارك في معظم معارضها السنوية حتى حصوله على الشهادة الثانوية عام 1958.

 في عام 1959 سافر نبعة إلى القاهرة  ليدرس فن التصوير في كلية الفنون الجميلة هناك، حيث تتلمذ على يد كبار أساتذة الكلية، مثل حسين بيكار وعبد العزيز درويش وعبد الهادي الجزار وحامد ندا، واطلع على عالم الفن القديم، الآشوري والبابلي والفينيقي والفرعوني واليوناني والروماني، إلى جانب دراسة أساليب الفن المعاصر بمختلف مدارسه التشكيلية. وخلال دراسته بدأ يظهر كفنان متفردٍ يَشقُّ طريقاً فنياً يختلف عن السائد، فنال درجة الامتياز عن مشروع تخرجه من الجامعة، وهو بعنوان “عمال مقالع الحجارة” الذي استلهم موضوعه من زياراته لقرية برقاش، القريبة من القاهرة، ولقائه بعمال مقالع الحجارة. وقد عالج الموضوع بطريقة تعبيرية حداثوية ومتحررة من الحالة التصويرية التقريرية، إذ يبدو التكوين في اللوحة حياً وحيوياً ومتحركاً، يوحي بحالة من النشاط واستمرارية العمل وكأننا أمام شريط سينمائي.

نحو هوية فنية سورية

بعد عودته إلى سوريا عام 1964 راح نبعة يبتكر أسلوبه الفني التعبيري الخاص، الذي يوفِّق بين التقنية والمضمون ويؤسس لاتجاهاتٍ وفضاءاتٍ فنية تحمل ملامح محلية، فبات يستلهم موضوعاته الفنية من فنون البلاد وتراثها الشعبي، بما يتضمنه من قيمٍ إنسانية وجمالية، وقد ساعدته مرحلة إقامته في مدينة دير الزور، التي عمل كمدرسٍ للتربية الفنية في بعض مدارسها، أن يُغني لوحاته برؤى وفضاءات تشكيلية ساحرة وشاسعة، استوحاها من التفاصيل الجمالية المدهشة للبيئة الريفية وألوانها الرحبة، ومن المثيولوجية الفراتية، والمناطق الأثرية الغنية بالرموز، والتاريخ الآشوري والسومري، والأساطير القديمة للبلاد وملاحمها الشعبيية الغنية بالحكايات، والتي ربطها بالحاضر بعد تجسيدها بشكلٍ تعبيري حكائي، ليُشكل من خلال تلك الموضوعات ملامح هوية فنية سورية أصيلة، تجلت بشكلٍ واضح في معرضه الأول الذي أقامه عام 1965، في صالة الفن الحديث في دمشق. وقد حظي المعرض حينها باهتمام ثقافي بالغ، وكرَّسه كفنان صاحب بصمةٍ إبداعية متفردة ورؤيةٍ تجديدية مؤثِّرة، ساهمت في تطوير وإغناء الحركة التشكيلية في سوريا آنذاك. ومن أبرز لوحات المعرض: “ننليل”، “عشتار”، “العجاج”، “خسوف القمر”، “الزير”، “صرخة سيزيف”، “الحوت يبتلع القمر” و “كاهنة مردوخ”، وهي اللوحة التي تم اقتناءها من المعرض. وقد استطاع نبعة من خلال  تلك الأعمال أن يبتكر مدرسته الواقعية الخاصة التي مزجها مع التعبيرية والرمزية، ليُقدم اقتراحاتٍ وموضوعاتٍ بصرية رائدة ومثيرة للاهتمام، تجاوزت الأنماط الفنية السائدة في تلك المرحلة، حيث تناول أكثر من فكرةٍ وموضوع في اللوحة الواحدة، من خلال تكوينات غنية ومبتكرة ومتنوعة، مزجت العديد من العوالم والفضاءات والمشهديات، قدمها بلغةٍ تعبيرية سردية، استندت إلى المفاهيم الفنية المعاصرة وابتعدت عن المباشرة والتقريرية.

فنان ملتزم بالقضايا الإنسانية والوطنية

بعد وقوع نكسة حزيران عام 1967 برز نبعة كفنان ملتزم بقضية الإنسان العربي والفلسطيني، ومدافعاً، من خلال فنه، عن حقه باستعادة أرضه ووطنه وكرامته، فانتهج أسلوباً فنياً جديداً، جمع بين ثورية الموضوع وفنية التعبير، وتناول في معظم لوحاته الفدائي الفلسطيني البطل، وأظهره بشكلٍ أسطوري وملحمي، ومنحه الكثير من صفات البطولة والخلود بوصفه المُنقذ والأمل. ولم يكتفِ نبعة بذلك فقط بل انتسب في تلك الفترة لمنظمة التحرير الفلسطينة، وصمم شعارها وعدداً من ملصقاتها وشعاراتها السياسية، التي أصبحت جزءاً هاماً من الذاكرة البصرية الفلسطينية، بالإضافة لتصميم أغلفة عددٍ من الكتب والمجلات التي تناولت الواقع الفلسطيني والمقاومة، كمجلة “فلسطين الثورة” التي صمم ماكيت عددها الأول وساهم في وضع رسوم بعض أعدادها، هذا إلى جانب إبداعه لمجموعة من الرسوم الغرافيكية، بعنوان “الأرض المحتلة”، استوحاها من قصائد عددٍ من الشعراء الفلسطينيين، كالشاعر محمود درويش وسميح القاسم وتوفيق زياد وسالم جبران وراشد حسين. وقد استطاع من خلالها أن يقدم نفسه كفنان غرافيك محترف ومُلهم، يجمع بعبقريته الفنية، بين أفكاره الوطنية وأدواته التعبيرية الفنية.

 وفي عام 1968 وبعد انتصارات معركة الكرامة زار نبعة وعدد من أصدقائه الفنانين المصريين معسكرات الفدائيين الفلسطينين في الأغوار، فأثمرت الزيارة، التي استمرت لمدة 15 يوماً وكانت مُلهمة لنبعة وأصدقائه، عن إقامة معرض فني مشترك، مستوحى من حياة الفدائيين وبطولاتهم وعملياتهم الفدائية، وقد جال المعرض حينها في عدد من المحافظات السورية، وبعض العواصم العربية كالقاهرة وعمان.

التوجه نحو الفن المعاصر

سافر نبعة عام 1971 لمتابعة دراسته الفنية في المدرسة الوطنية العليا للفنون الجميلة في باريس، والتي وضعته وجهاً لوجه مع الثقافة الغربية والفن العالمي المعاصر، فكان، إلى جانب دراسته، يزور المتاحف والمعارض الفنية ويطلع على تجارب الفنانين المعاصرين، ليطور معارفه وثقافته وخبراته التقنية التي أغنت وعمقت رؤيته الفنية، فنال مشروع تخرجه، وهو عمل عن النباتات، جائزة المدرسة. وقد شكلت تلك المرحلة منعطفاً فنياً بارزاً في طريقة التعبير الفني عند نبعة، تجلت من خلال المزج بين التجريدية والواقعية. وعند عودته إلى دمشق، عام 1974 تجاوز كل الأشكال الفنية التي لجأ إليها في المراحل السابقة ليتجه إلى مدرسة الواقعية السحرية، التي يُعد من أبرز مؤسسيها وروادها في سوريا، فرسم النباتات، والمناظر الطبيعية، والطبيعة الصامتة، والوجوه، وعوالم المرأة، هذا إلى جانب استمراره في تناول موضوعات البيئة الشعبية والرموز والتفاصيل المُستقاة من التراث السوري، ولكن برؤية تجديدية معاصرة، حافظت على روح التراث وأصالته وقيمه الجمالية والروحية دون إهمال تقنيات الفن المعاصر، ليؤكد نبعة، مرة أخرى، مدى انتمائه للهوية السورية، وأن الفن لا ينبغي أن ينفصل عن البيئة والواقع المحلي. ومن أبرز لوحاته في تلك المرحلة: لوحة “نباتات ووجه”، “تفتح الزنابق”، و “عازفة المزمار” وغيرها.

الدمشقيات

خلال مرحلة “الدمشقيات” التي بدأها عام 1975 اتجه نبعة، بشكل أكبر، نحو مفاهيم الحداثة والمزج بين أكثر من مدرسة وتقنية وأسلوب في اللوحة الواحدة، محاولاً تقديم اللوحة التي تنتصر للفن المعاصر وتقنياته، والتي أسماها لوحة “الفكرة” كونها تحمل كثافة بصرية شاسعة وتتضمن العديد من التكوينات والتفاصيل وتخلو مساحتها من أي فراغ. ويقول الناقد صلاح الدين محمد عن تلك المرحلة :”بالنسبة لنا لو أن نذير نبعة لم ينجز هذه المرحلة لكان هناك فجوة في سلم ارتقاء الفن السوري ومعطياته”.

 ومن خلال لوحات الدمشقيات، التي تحولت لمرجعية أسلوبية ألهمت الكثير من الفنانين، أبرز نبعة تفاصيل الحياة الدمشقية من زوايا مختلفة، فأعاد بناء أزقة وحارات المدينة القديمة بطرق تعبيرية غنائية وحالمة وغنية  بفضاءات جمالية مكثَّفة، كما تناول الذاكرة التراثية للمدينة وبعض فنونها الشعبية وصناعاتها اليدوية الفنية التقليدية كالزخارف والصدفيات، وأضاء على الكثير من التفاصيل والرموز الدمشقية العالقة في الوجدان الجمعي السوري. وفي إحدى لقاءاته  يقول نبعة عن لوحاته الدمشقية: “أعتبر هذه اللوحات قصيدة عشقٍ غنائية طويلة لمدينة دمشق، لأنها بالنسبة لي هي الأم، الأخت، الحبيبة، المدينة والوطن”.

وفي لوحات “الدمشقيات”حضرت المرأة على نحو فريد وملفت، وبحالاتٍ وتفاصيل متنوعة، وضمن فضاءاتٍ لونية، أضفت على اللوحة المزيد من السحر والجمال والتناغم، فظهرت ضمن البيوت الشعبية وأجوائها الحميمية والأليفة، ومحاطة بالزخارف والنقوش والأواني الخزفية والصدفيات، بشكلٍ يبرز عمق ترابط المرأة مع تلك العناصر الفنية المحفورة في وجدان وذاكرة الدمشقيين. كما ظهرت المرأة أيضاً وهي محاطة بالمصابيح والسيوف والمباخر وأطباق القش وغيرها من التفاصيل الفنية الدمشقية، أو محاطة بالأزهار ونباتات الزينة وزجاجات وأصص الورود، وثمار الرمان، وأغصان الياسمين، وسنابل القمح. وفي لوحات أخرى ظهرت وهي تعزف على الآلات الموسيقية التقليدية كالعود والناي، كما ظهرت وهي ترتدي الأزياء التقليدية، المليئة بالنقوش والألوان، وتتزين بالحلي والجواهر والأساور والأقراط والعقود، بشكل بديعٍ ومتناغم، أضفى الكثير من الحيوية والرشاقة على اللوحة. ومن أشهر لوحاته الدمشقية: “هلال” ،المساء”، “الربيع”، بدوية”، ” البحر”، “ست الحس”.

ويُعد نبعة من أبرز الفنانين التشكيليين السوريين والعرب الذين تناولوا موضوعات المرأة بشكلٍ موسع، لذا لقب بـ “رسام المرأة العربي”، كما أنه، وخلافاً لكثيرٍ من الفنانين، لم يُظهر المرأة بشكل إيروتيكي بحت أو تصويري مباشر، وإنما تناولها بكل حالاتها الجمالية والنفسية والوجودية وبوصفها رمزاً للعطاء والخصوبة والحياة، فقدمت لوحاته المرأة القادمة من الأسطورة والأحلام، المرأة التي تفيض سحراً وأنوثة وجمال، المرأة التي تعزف الموسيقى، المرأة التي تشبه المدينة، المرأة المتماهية مع الطبيعة، المرأة التي ترمز للأرض والوطن، والمرأة الحبيبة والأم، والتي تهب معنى للحياة والوجود.

التجليات

في التسعينيات اتَّجه نبعة نحو مرحلة فنية جديدة، أسماها “التجليات”، انتمت معظم أعمالها للمدرسة التجريدية، واستمرت حتى نهاية حياته، وقد ابتعد فيها عن الجانب التزييني والزخرفي وعن الأجواء الشرقية والأسلوب الانطباعي والواقعي، ليتجه نحو فلسفة الألوان وتجلياتها وفضاءاتها الشاسعة وحركاتها التعبيرية الرمزية والمتداخلة بشكل متناغم ومتحاور في مساحات اللوحة الفنية، التي تطرح الكثير من المفاهيم التشكيلية التقنية المعاصرة. وقد استوحى ألوان  لوحاته من الطبيعة السورية وبراريها وجروفها الصخرية، وحمَّلها بالكثير من الأفكار والعواطف والذكريات، ضمن فضاءٍ تصويري واسع الأفق، يوازن بين الموضوع والجانب الفني التقني الأكاديمي. ورغم توجهه نحو الأعمال التجريدية واستخدامه لمختلف أنواع التقنيات الفنية، حافظت لوحاته على الروح الجمالية وعلى الشاعرية اللونية والحالة الحسية ذاتها.

وضمن مرحلة التجليات رسم نبعة، الملتزم بالقضايا الوطنية، مجموعة لوحات بعنوان “المدن المحروقة”، انبعثت فكرتها عقب ارتكاب إسرائيل لمجزرة قانا/ جنوب لبنان عام 1996، وقد تناول مأساة المجزرة بأسلوبٍ تعبيري تخلى فيه عن السخاء اللوني، الذي كان يُميّز أغلب لوحاته، ليستخدم تقنية الحبر الأسود، الذي عبَّر من خلال خطوطه وقتامته عن حجم المأساة، وأبرز وجوه الشهداء الشاحبة والغارقة في جحيم الموت والألم. وقد استمرت تجربة “المدن المحروقة” لعدة سنواتٍ، رسم خلالها، باستخدام أكثر من أسلوبٍ وتقنية وطريقة تعبير، لوحاتٍ عن بيروت وجنين وغزة، التي عاشت مختلف أشكال القتل والوحشية من قبل الاحتلال الإسرائيلي، ومن ثم بغداد التي تعرضت للقصف الوحشي خلال الغزو الأمريكي لها عام 2003. ويقول نبعة عن تلك التجربة في أحد لقاءاته: “أنا لم أرسم الدمار والأبنية المحروقة، وإنما رسمت الحرقة داخل صدري، وصدر كل مواطن عربي وهو يتابع انهيار هذه المدن وإحراقها، وهو عاجز عن القيام بأي دور”. 

وفي سنواته الأخيرة رسم نبعة مجموعة رسومات بالحبر الصيني عن ممارسات تنظيم داعش في سوريا، أسماها “المفاتي”، كرمز للفتاوى التي كان التنظيم من خلالها يحاول تحليل العنف والقتل.

بعض مساهماته في مجال الثقافة  

إلى جانب إرثه الفني الغني عمل نبعة في نهايات الستينيات مع مديرية الكتب المدرسية، إلى جانب الفنان ممتاز البحرة وعبد القادر أرناؤوط، في تصميم أغلفة ورسوم الكتب المدرسية، كما عمل في تلك المرحلة مدرساً في معظم أقسام كلية الفنون الجميلة في دمشق حتى عام سفره إلى باريس، وكان من أبرز وأهم أساتذة الكلية والأكثر تأثيراً في الطلاب الذين تتلمذوا على يده. وبعد عودته من باريس عاد للتدريس في الكلية، ثم أسس في العام 1980، بالتعاون مع الفنان فاتح المدرس وإلياس الزيات ومحمود حماد، قسم الدراسات العليا في الكلية، وعمل فيه أستاذاً لعدة سنوات، حيث تخرج على يده كبار الفنانين السوريين الذين أصبحوا من رواد الفن التشكيلي في نهايات القرن الماضي.

وإلى جانب التدريس عمل نبعة في مجلة الطليعة، التي كانت تستقطب أبرز الأسماء الثقافية والفنية السورية، حيث كان مسؤولا عن تصميم غلاف المجلة الأسبوعية، وعن إنجاز الرسوم الداخلية، بالإضافة لصفحة خاصة به كرسام للمجلة، وقد أصبحت رسوماته في تلك المجلة مرجعاً هاماً لكثير من الفنانين الشباب، الذين عملوا في نفس المجال، بعد أن رفع من سوية فن الرسم الصحفي والغرافيك. وبين عامي 1975 و 1976 عمل نبعة رساماً في مجلة الموقف الأدبي، التي كان يرأس تحريرها الكاتب زكريا تامر، وكانت تلك التجربة غنية وفريدة من نوعها، إذ كان الرسم في المجلة عملاً فنياً موازياً للعمل الأدبي (الشعري أو القصصي)، يُدرج إلى جانبه في صفحات منفردة، ليعَبِّر عنه بلغة تشكيلية تقدم للقارئ متعة بصرية تعادل المتعة الأدبية، ولشدة ما كانت تحمله تلك الرسوم من حالة شاعرية وقصصية وسردية وخيالية، أسماها البعض :”أشعار نذير نبعة المرسومة”، وكان كثير من القراء يحتفظون بالمجلة لكي يتأملوا رسومات نبعة التي كانت تُشكل ما يشبه المعرض الفني داخل المجلة.

وإلى جانب ذلك كان نبعة من أبرز مؤسسي مجلة “أسامة”، التي تعتبر من أهم مجلات الأطفال في سوريا حتى يومنا هذا، وهو من صمم غلاف عددها الأول، وكان، إلى جانب ممتاز البحرة ولجينة الأصيل، أول الفنانين الذين رسموا في المجلة وصمموا عدداً من أغلفتها لعدة سنوات، ليشكل إلهاماً ومرجعاً للرسامين الذين جاؤوا من بعده. كما ساهم، بالتعاون مع دار الفتى العربي، في إنجاز رسومات سلسلة من الكتب التي شارك فيها أهم وأشهر الفنانين والكتاب، بالإضافة لمساهمته، بالتعاون مع دار النورس، في إصدار كتب شعرية للأطفال، هذا إلى جانب تصميم وإنجاز الديكورات المسرحية لعددٍ من مسرحيات الأطفال ومسرحيات المسرح القومي ومسرح العرائس.

أبرز معارضه :

– المعرض الفردي الأول في صالة الفن الحديث/ دمشق/ عام 1965

– المعرض الفردي الثاني في صالة الصيوان/ دمشق/ 1966

– معرض في صالة الصيوان/ دمشق/ 1968

–  معرض في صالة غاليري ون/ بيروت/ 1969

– معرض في المركز الثقافي العربي/ دمشق/ 1979

– معرض في متحف الشارقة/ 1996

– معرض في غاليري بوزار/ دبي/ 1997

– معرض في مهرجان القرين الثقافي/ الكويت/ 1998 

– معرض استعادي في مركز المجمع الثقافي في أبوظبي/ 1998

– معرض في متحف الفن الحديث/ الكويت/ 2001

– معرض التجليات في غاليري أتاسي/ دمشق/ 2003

–  شارك في العديد من المعارض المشتركة في القاهرة، مدريد، باريس، سان باولو، بولونيا، إيطاليا، طوكيو، موسكو، براتيسلافا وغيرها.

بعض الجوائز والتكريمات:

– جائزة معرض غرافن آي/ عام 1967

– جائزة تقديرية من بينالي الأسكندرية الدولي/ 1968

– جائزة المدرسة الوطنية العليا للفنون الجميلة في باريس/ 1974، عن مشروع تخرجه.

– دبلوم في مجال الغرافيك من معرض لايبزج الدولي/ 1978

– دبلوم في مجال رسوم الأطفال من معرض براتيسلافا/ 1979

– الجائزة الفضية للمعرض الدولي السادس لرسوم كتب الأطفال/ مؤسسة نوما اليونيسكو/ اليابان/ 1989

– جائزة لجنة التحكيم في بينالي القاهرة الدولي/ 1995

– دبلوم شرف من بينالي القاهرة الدولي/ 2004

– وسام الاستحقاق السوري من الدرجة الممتازة / 2005

أهم المراجع

– كتاب “نذير نبعة: عين على العالم.. عين على الروح”. تأليف: يوسف عبدلكي. الناشر: صالة تجليات للفنون/عام 2009.   

– إحياء الذاكرة التشكيلية في سورية/ مختارات من مجموعة المتحف الوطني في دمشق. صادرة عن الأمانة العامة لاحتفالية دمشق عاصمة الثقافة العربية 2008، والمديرية العامة للآثار والمتاحف في سوريا.

لقاء مع الفنان نذير نبعة في برنامج “ينابيع” على قناة القرين/ الكويت.

لقاء مع الفنان نذير نبعة على هامش معرض فناني بلاد الشام، عام 2000.  

لقاء مع الفنان نذير نبعة، منشور في مجلة العربي/ أرشيف.

لقاء مع الفنان نبعة، منشور في جريدة الثورة عام 2009/ أرشيف.

– مجموعة من لوحات الفنان نبعة من مراحل فنية مختلفة.   

     *تنشر هذه المادة ضمن ملف صالون سوريا حول “المنعطف السوريّ

حياة واحدة لا تكفي: لو كانت لنا حياتان هل نضمن أن الثانية سنعيشها كما نريد؟

حياة واحدة لا تكفي: لو كانت لنا حياتان هل نضمن أن الثانية سنعيشها كما نريد؟

الحق الإنساني في حياة سعيدة وسطوة الواقع الذي يسلبه، هو ما تثير عزة طويل أسئلة حوله في روايتها الأولى (النوفيلا) التي صدرت حديثاً بعنوان “لا شيء أسود بالكامل” عن دار هاشيت أنطون نوفل. جاء العنوان كدعوة لتلمس امكانية الذهاب نحو الطرف الأول واقتناص الحلم وزعزعة السواد الطاغي، فنحن أسرى الوجود ولا شيء يمنح بسهولة. ولعل دعوة التفاؤل تلك من باب الرغبة بنكران الواقع المر والتشبث بالأمل دون تجاهل أن هذا النكران ليس إلا “قاعدة حتمية للألم الطويل الأمد” حسب رأي الراوية. وهكذا من التفاؤل إلى الغوص في جذور الألم والنبش في أسبابها، تأخذنا عزة في عملها كأننا نغوص في داخلنا وذواتنا.

تبدأ الرواية بحوار في جلسات علاج نفسي لإحدى النساء، ثم تتابع على شكل لوحات تختلط فيها الشخصيات والأحداث وتتناوب الذكريات مع الواقع دون ترتيب زمني في خليط آلام الحاضر والماضي الممتد دون شفاء، بدءاً من الأزمة اللبنانية عام 1958إلى تتالي الحروب الخارجية والأهلية وما أفرزته على صعيد المجتمع والأفراد والعلاقات وما تركته في الذاكرة الفردية التي لن تستوعبه. فسنرى كيف يتوارث الألم وتكرسه الأمهات في وعي أطفالهن الذين يرضعونه مع الحليب ويمتصون ذاكرة الحرب والأسى من هلع العيون. فالحروب لا تنتهي بتوقف الرصاص بل تحكم ذاكرة البشر وتترك ذات الإنسان مهشمة ومرضوضة ومرتبكة تجاه الحياة والآخر. ولعل هذا ما يفسر جلسات العلاج النفسي المذكورة في بداية الرواية. تقول إحدى الشخصيات: “كانت الفيلا المهجورة تشبهنا صلبة من الخارج وخربة من الداخل نحتمي فيها من زوابعنا”.

ولا يسلم من ذلك حتى الأجنة، حيث يرثون في الجزء الأخير من الحمل جزءاً من أحاسيس الأمهات إذ يشعرون بها لأن وعي الجنين وذاكرته تكون قد تشكلت كما تخبرنا الراوية ولهذا فإن أطفال فلسطين هم الأكثر تأثراً إذ يكبرون بالألم والكوابيس.

تجمع عزة طويل في روايتها غير التقليدية منذ البداية بين مجتمعين مترابطين عبر التاريخ بقدر خصامهما الحالي في لبنان وسوريا حيث تتشابك العلاقات الاجتماعية بغض النظر عن العلاقات الرسمية لنرى مثلا أن لبنانية ولدت وعاشت في لبنان (وطى المصيطبة) طوال حياتها كلبنانية والدها سوري ثم  تتزوج من سوري وتذهب معه خطيفة، في إشارة إلى تشابك الأنساب والحياة وحيث تغص الآن لبنان باللاجئين السوريين كما كانت تغص سوريا باللاجئين اللبنانيين أثناء حروبهم، لتوازي بين الحرب اللبنانية والسورية عبر تذكر المجازر غير المبررة في كلا البلدين والتي ذهب ضحيتها الأبرياء في الحالتين مع تعددها واختلاف المرتكبين وتشابه النتائج.

ورغم ذلك فالبشر يعيشون ويحبون وينجبون الأطفال ويحتلمون في الأبنية المهدمة والملاجئ وتحت القصف وكأنهم يشهرون البقاء في وجه الحرب والرغبة – الحياة مقابل الموت، فهل هي بذور التفاؤل أم غريزة مقاومة الفناء عبر آلية النكوص البدائي نحو الحياة (التناسل)؟ تقول الكاتبة عن تلك الحالة إنها “أكثر صور العنف إدهاشاً ” .

 لكن في هذه المجتمعات والتي لم تترك لها حروبها الأهلية فرصة التعافي أو التطور، تأتي الحياة لا كخلاص أو كما نحلم بل ناقصة وبعلاقات مشوهة يمارس فيها القوي سلطته على الضعيف ويفرغ ما اختزنه من عنف الحرب على الأضعف فتنتهي بالقهر والنهايات المأزومة.

وهو ما تضيئه الكاتبة بطرح قضايا جندرية معيشة فالمرأة التي تعاني رغم أنها كانت رفيقة النضال أو تعرضت للأذية كالرجل في الحرب والمجازر وربما تحدت واقعها والأهل  للارتباط به كالذهاب خطيفة دون مشورتهم، إلا أنه يمارس عليها سلطته الذكورية الموروثة، من الضرب والخيانة والاهمال حتى أنها قد تتحمل الهجر والذل للبقاء بجانب أولادها بعد الطلاق.

تقول أم شادي عن زوجها المتوفي: “حتى القهوة كان يشربني إياها مفحمة”.

ولم يكن المنفى أفضل إذ وضع المرأة في ظروف صعبة حتى أصبحت العودة الى لبنان وسط الحرب أرحم.

أتت الرواية على شكل لوحات أو مشاهد سينمائية وبؤر أحداث تبدو منفصلة أو ذكريات مسترسلة كأنها حديث أرواح، إلا أن الكاتبة عمدت إلى تقديمها بلغة مفعمة بالأحاسيس والنبش الجواني لما يحتدم داخل الشخصيات التي تبدو كلها في حالة اختزان معاناة طويلة تنتظر فرصة للبوح واسترجاع حياتها من خلال ذروة ما تبدأ في كل مشهد، لتتابع بسرد كثيف مشدود متناوب بين الراوية وشخوصها بلغة غنية ومؤثرة. وحيث تنجو الشخصيات من فكرة البطولة لتكون كلها ذات قلق مضطرم ومعاناة مستمرة تعيش أزمتها الداخلية التي تصل إلى القارئ في السرد الموشى بإضاءات رمزية عديدة (برودة الجسد، أو عدم القدرة على الانتصاب، أو العصافير، الحمامة، الجدار)، أو عبر موازاة الأحداث والإشارات المتناقضة (كالموت مقابل الحميمية أو ثالوث الموت مقابل ثالوث الحياة والموسيقا مقابل الدمار)،

 فيرى القارئ الواقع بأعين الشخصيات ويعيش انكسارهم ومشاعرهم ويتلمس العالم الروحي لهم عبر رسم الصورة وبناء اللقطة، فيستغرق فيها لزمن أطول مما فعله السرد.

البطل الحقيقي في الرواية هو الفقد، الفقد بالموت وقبل الموت وبعده، بالحرب أو المرض أو الحوادث، وعجز الإنسان أمام الموت البارد ذي الحضور الرهيب، ورغم أن الإنسان هو من يستدرجه في أحيان كثيرة بما يرتكبه من حروب ومجازر، إلا أنه ميزان علاقتنا بالآخر، إذ يختلف إحساسنا بحجمه، حسب علاقتنا بالشخص. الموت أزمة الأحياء فقد تغدو الحياة بعد تجربة الفقد مجرد أيام للذكريات وكأنها تمجيد للموت. وأمام سطوة النهاية وعدم القدرة على نسيان الأحبة يحاول البشر إيجاد أشكال للتواصل مع العالم الآخر بمعنى إبقاء صلة ما بمن نحب كزيارة القبور وزراعة الورد أو بناء المنزل بالقرب منها لردم تلك الهوة بين الأحياء والأموات، أو المصالحة مع هذا المخيف الجاثم فوق خط النهاية. ولكن كل هذا ليس سوى محاولات قد تحقق العزاء الصادق للفرد.ولهذا لم تكتف الروائية بتقديم الواقع وأثره في شخصياتها والمكان ولم تكتف بنبش التاريخ وحوادثه المفصلية، بل عادت أيضاً إلى بنية الذاكرة الجمعية الدينية والثقافية التي وضعت كثيراً من المفاهيم والعادات التي مازلنا نمارسها كمفهوم الموت وعادة لبس الأسود في الحزن، مثيرة قضايا معاصرة ووجودية في علاقة الإنسان بالحتمية والطبيعة فتتنقل بين الواقع العام والتاريخي والاجتماعي بمهارة تنقل الضوء، لكن رمزية عودة تموز في الربيع التي تعني نهوضه من عالم الأموات أتت في الرواية بشكل معاكس.

في الخاتمة تابعت عزة طويل أسلوب روايتها الخارج عن المألوف، في ترك حياة الشخصيات معلقة على شفا الحديث الذي قد يسترسل إلى ما لا نهاية دون أن تضع أي نهاية لها، لكنها آثرت التدخل بلسان الراوي العليم الذي كان يشارك في السرد لتخبرنا أن الرواية ليست من صنع خيالها بل جزء من حياة أو رحلة مع الحياة والموت ولهذا تقول لا أهمية للنهايات. لكنها تعترف أنها بعد كل هذا قد بدأت تفهم من أين يأتي هذا الألم.

 رواية عزة طويل رواية شيقة وغنية ورغم أنها قصيرة لكنها ذات أبعاد ممتدة في ذاتنا نحن أبناء الأوطان المبتلاة بالحروب وكل هذا الألم.

حليم بركات طائر الحوم الذي لم يعد

حليم بركات طائر الحوم الذي لم يعد

مرةً أُخرى، اقتُلع حليم بركات من جذوره، تحمله رياح هذا العالم إلى عالمٍ آخر مُحتمل. لطالما تحدّث عن تجارب الاقتلاع هذه وهو المهاجر من الكفرون (قريّة من قرى السّاحل السوريّ) إلى مدينته الملّونة بيروت، ومن ثمّة إلى مدن العالم الغربيّ، ليستقرّ في الولايات المتّحدة الأمريكيّة. تنقّل في محطّاته السّابقة بين مُدن الاغتراب؛ متاهات الإنسان العربي بين الحلم والواقع، بينما كان العالم الآخر (الموت) محطته الأخيرة. حيث وافته المنية في ٢٣أيار ٢٠٢٣. وهو الذي طالما كتب عن تجربة الموت التي واجهها منذ طفولته الأولى، فقد تُوفّي والده قبل أن يُكمل العاشرة، ثم تُوفّي أصدقاؤه واحداً تلو الأخر، وكان قد رثاهم في مؤلّفه غربة الكاتب. مثل هشام شرابي وسعدالله ونوس وادوارد سعيد.شبّه حليم بركات طائر الحوم وهو الطّائر العابر للقارات، بأبيه الذي طار ولم يعد وأيضاً بأمّه التي غادرت الكفرون إلى بيروت لتُعيل أسرتها ثم لتموت هناك،  لكن لاندري إن كان يُضمر في روايته طائر الحوم سيرته ذاتها!

درس حليم اسبر بركات في بيروت، ونال الماجستير من الجامعة الأمريكيّة سنة ١٩٦٠ انتسب في السابعة عشرة من عمره إلى الحزب السوريّ القوميّ الاجتماعيّ مع من افتُتن بهم من رواد الحداثة الفكرية مثل: أدونيس وفؤاد رفقة ويوسف الخال وغيرهم، وكان أن تعلق بصفية بنت أنطون سعادة ولما لم يستطع الظفر بها فارق الحزب بعد أن روى الكثير من سيرته في روايته (المدينة الملونة) مستبدلاً اسم البطلة صبا باسم صفية كما يُشير النُّقاد.

   في محاضرةٍ له في جامعة دمشق (٢٠٠٦) قال بركات إنه كتب باكورة رواياته قممٌ خضراء وهو طالبٌ جامعي، غير أنّ ما كرّس اسمه كروائي هو روايته التّالية “ستة أيام” التي أصدرتها عام١٩٦١ دار مجلّة شعر. وقد ذاعت شُهرة هذه الرواية لما قدّر النقاد والقرّاء نبوءتها بحرب الأيام الستة عام ١٩٦٧ أي بالهزيمة أو النّكسة. رغم أنّ حليم بركات كان يتحفّظ على “نبوءة” روايته، ويفضّل القول بالوعي بالواقع العربيّ في تلك الرواية.

   أثّر أدبه على مكانته في العالم العربي فقد كان يُعدّ لإحدى رواياته عندما مضى مع عددٍ من طلبته في الجامعة الأميركيّة في بيروت إلى مخيم زيزيا جنوب عمّان، وأقاموا حيناً للبحث في أوضاع اللاجئين، ومن ذلك كان عمله “نهر بلا جسور”. ويقول إنّ هذا، ومُجمل اهتمامه بالقضيّة الفلسطينيّة كان سبباً في عدم ترقيته في الجامعة الأميركيّة حيث درّس من ١٩٦٦ حتى ١٩٧٢ فغادرها إلى جامعة هارفرد، فجامعة أوستن قبل أن يستقرّ به المقام في جامعة جورج تاون.

ناقش بركات في كتابه “غربة الكاتب العربي” غرباتٍ عديدةٍ داخل الوطن وخارجه محللاً العلاقة بين المعرفة والسلطة وبين المثّقف والحاكم، ومُميزاً بين علاقات اللامبالاة والاضطهاد والوصاية والمشاركة، عبر شخوص أصدقائه، فيذكر عبد الرحمن منيف الذي كان على تواصلٍ دائمٍ معه وكان أن راسله  منيف يوماً قائلاً: 

حملت نفسي وذهبت إلى الكفرون. قضيت هناك أسبوعاً استطعت خلاله أن أستعيد نفسي. الهواء الرخي، خاصةً في الصباح الباكر، حبّات التين، عنقود من العنب، وأيضاً أواخر الدراق. أما الجبلان اللذان يُطلان على الكفرون و يحرسانها، من ناحية الغرب والقبلة، فإنهما يتغيران عشرات المرات خلال النهار الواحد، تبعاً للضوء و لزاوية النظر.

ويكمل : أصبحت أشاركك عشق الكفرون ولو اختلفت معك بولعي بالصيد هوايتي المفضلة، لكن أعدك أني لن أصيد طائرك طائر الحوم.

وفي الكتاب نفسه يضيء حليم بركات على أدونيس في أغاني مهيار الدمشقي وعالم الشعر الأغنى:

المأساة هي في أن تصغي، فالألحان لا تظل في الخارج. تخترقك، وتحس بانهيارات في أعماقك، وبأنك تنمو. تُرى، أهناك ما هو أروع من الشعور بأنك تنمو؟ العالم يستيقظ فيك، ريح تحرك أغصانك، الأوراق اليابسة تسقط، زبد البحر يغسل وجهك، تعطش، تشرب دونما ارتواء. ضلوعك تتسع وتحتضن العالم بفرح.

أمّا في عالم جبرا ابراهيم جبرا الروائيّ يتساءل بركات: هل يمكن الفصل بين الكاتب والكتابة؟ وإذا لم يكن من الممكن الفصل بينهما فهل يجوز اعتبارهما واحداً نتيجة لعمليةٍ متواصلةٍ من الاندماج الكلي؟ وإذا لم يكن من الممكن الفصل أو الدّمج، فكيف نفهم العلاقة بين الكاتب والكتابة كتعبيرٍ عن الذّات، وبين الذّات والواقع في مختلف أبعاده؟ أليست الكتابة عمليّة خلقٍ وإنتاج في آنٍ واحد؟ 

في روايته “عودة الطائر إلى البحر”  نجد معاينة الروائيّ والّرواية لهزيمة 1967، فالأستاذ الجامعيّ رمزي الصفدي يحضر من بيروت إلى عمان والقدس ونابلس وجنين… ولهذه الرّواية ريادتها المتمثّلة بسرد الأساطير والموسيقى، حيث الهولندي الطائر رمز للعربيّ وللفلسطينيّ بخاصة. ويمضي رمزي الصفديّ بهذا الرّمز إلى شخصية “الفدائي” فيراه الجسر الوحيد الذي يصل العرب بالمستقبل، ويعبر بهم سور المأساة، لذلك لن يستريح العربي في اليوم السابع.

  على الرغم من الانتشار الواسع لحليم بركات كراوٍ عربيّ كانت له بصمةٌ مميّزةٌ في الرّواية السيريّة، ورغم تحدّثه عن أنّ العربيّ معرّضٌ لكلِّ أنواع الظّلم والمنع والقمع والامتثال القسري وفي ظلّ غياب حلولٍ واقعيٍة وجذريةٍ، سيظل يسعى جاهداً للتحرّر من واقعه من خلال الفانتازيا، إلا أنّه كان أيضاً من أهم من كتب بالاجتماع العربي المعاصر، يؤكّد حليم بركات في مؤلفاته أن الكتابة الثوريّة تدل على محدوديّة الفرضية التي تقول بتصادم بين الفن والالتزام بالقضايا السياسيّة الكبرى. فهو يرى أن بإمكان الروائي أن يُخضع السياسة لعملية الخلق والتّفكير النقدي التّأملي في إطار الصراع الإنساني المحتدم.

لقبه مايكل هيدسون الاقتصادي الأميركي بـ إميل دوركهايم العرب، نتيجة أعماله في علم الاجتماع العربي وهو القائل أنّ الثّقافة هي رؤى الحياة والكون وتصوّراتها، وأساليب العمل المفضلة، والقيم والإبداعات والفنون الأدبية من شعرٍ وروايةٍ وقصةٍ والفنون التشكيلية من رسمٍ ونحت، والموسيقى والغناء والرقص، وفرق بين ما يسمى بالثّقافة السّائدة، والثّقافة النّقدية المُضادة، والثّقافة التوفيقيّة. و بيّن أنّ هناك أيضاً ما هو ظاهر للعيان وما هو خفيّ، وما هو اتباع و ما هو إبداع  و ما هو عقلاني وما هو عاطفي.

جسّد بركات فعله الثقافي بالرّواية كما ذكرنا وبالتّفكر بقضايا المجتمع العربي أيضاً، فقد انكبّ مدّة ثلاثين عاماً على كتابة مؤلّفه (المجتمع العربي المعاصر) الصّادر عن مركز الوحدة للدراسات والذي عُدَّ من أهمّ كُتب علم الاجتماع العربي تناول فيه قضايا المجتمع العربيّ باحترافية الأكاديمي المشتبك مع واقعه، احتضن الكتاب أربعة أقسام عُنونت بعناوين أهمّ الإشكاليات العربيّة، فقد جاء القسم الأول بعنوان الهويّة العربيّة والاندماج الاجتماعي، تناول فيه الهويّة العربيّة بين التنوع والاندماج وأنماط الاجتماع العربيّ (البدويّ، الريفيّ، والحضريّ) ومآلات الاندماج الاجتماعي والسياسي. وجاء القسم الثاني بعنوان البنى والمؤسّسات الاجتماعيّة ليتناول الطبقات الاجتماعيّة ومفهوم الطّبقة كما يُضيء على العائلة العربية وعلاقات القرابة ويُناقش الصراع السياسي في إطاره الاجتماعيّ. بينما يعرض القسم الثّالث المعنون بالثّقافة العربيّة أنماط الثّقافة العربيّة واتجاهاتها المعاصرة كما يناقش موضوع القيم العربيّة مصادرها واتجاهاتها، واختتم الكتاب بالقسم الرّابع المعنون باستشراف المستقبل العربيّ ناقش فيه قضايا الثّورة والتنمية والاغتراب وتجاوز حالة الاغتراب.

حليم بركات (١٩٣٣-٢٠٢٣) ولد في ٤ كانون الأول ١٩٣٣، في الكفرون (سوريا) حصل على درجة الإجازة في علم الاجتماع ١٩٥٥ ودرجة الماجستير عام ١٩٦٠ من الجامعة الأمريكيّة في بيروت ثم نال درجة الدكتوراة في علم النّفس الاجتماعي عام ١٩٦٦ من جامعة ميشيغان الأمريكيّة، عمل زميلاً باحثاً في جامعة هارفارد من ١٩٧٢ حتّى ١٩٧٣، ودرس في جامعة تكساس عامي ١٩٧٥ و١٩٧٦ و من هذا العام حتّى ٢٠٠٢ كان أستاذاً لتدريس البحوث في مركز الدّراسات العربيّة المعاصرة في جامعة جورج تاون.

كتب بركات ما يقرب من عشرين كتابًا وخمسين مقالًا عن المجتمع والثّقافة في مجلاّت مثل المجلّة البريطانيّة لعلم الاجتماع، ومجلّة الشرق الأوسط، ومواقف، والمستقبل العربي.. كما أصدر روايات ومجموعة قصصيّة غنيّة بالرمزيّة والرمز خلال حديثها عن الأحداث العالمية. من أهم أعماله:

الروايات

  • القمم الخضراء (1956)
  • الصمت والمطر (1958)
  • ستة أيام (1961)
  • عودة الطائر إلى البحر (1969)
  • الرحيل بين السهم والوتر (1979)
  • طائر الحوم (1988)
  • إنانة والنهر (1995)
  • المدينة الملونة (2006)

الدراسات

  • المجتمع العربي المعاصر (1984)
  • حرب الخليج (1992)
  • المجتمع العربي في القرن العشرين (1999)
  • المجتمع المدني في القرن العشرين (2000)
  • الهوية أزمة الحداثة والوعي التقليدي (2004)
  • الاغتراب في الثقافة العربي (2006)

     *تنشر هذه المادة ضمن ملف صالون سوريا حول “المنعطف السوريّ