نذير نبعة: رسام الحياة ومؤرِّخ الألوان السورية

نذير نبعة: رسام الحياة ومؤرِّخ الألوان السورية

 “كنت أحلم بلوحةٍ تستطيع أن تخاطب بجمالياتها شريحة أوسع من الناس، لوحة تستطيع تجاوز مجموعة الجمهور التي تتكرر في حفل الافتتاح لأي معرض”. ربما توضح تلك الكلمات، وهي للفنان نذير نبعة، مدى تبنيه وإخلاصه للفن، الذي كان رفيق دربه لأكثر من ستين عاماً، فهو الفنان الذي أبدع بريشته وألوانه وخياله الخصب حيوات شاسعة ومتكاملة ومتنوعة، صوَّرها بطرقٍ تعبيرية شاعرية، حكائية، غنائية، حالمة، محمَّلة بالأبعاد النفسية والعاطفية والروحية، حافلة بالإيحاءات والصور والحكايات والذكريات، وأظهر من خلالها قدراتٍ فنية استثنائية في تحويل الخيال والذاكرة والأساطير الشعبية إلى تجلياتٍ بصرية لونية، ليبرز كواحدٍ من أهم مؤسسي الحداثة التشكيلية في سوريا، وكمرجعية في علم التكوين الفني واللغة البصرية وفلسفة الألوان.   

ولد نذير نبعة (1938- 2016) في منطقة بساتين المزة، التي شكلت طبيعتها الساحرة هاجسه اللوني الأول وساهمت في إغناء موهبته الفطرية، وتحريض بصره على التقاط المشهد الفني، فبدأ منذ طفولته برسم بعض الزخارف والورود على ثياب الفلاحات التي كانت والدته تقوم بخياطتها وتطريزها. وخلال دراسته الإعدادية برزت موهبته الفنية من خلال تقديم بعض الرسوم، التي تنتمي للمدرسة الانطباعية، كالمناظر الطبيعية والطبيعة الصامتة والبورتريه، والتي أظهرت مدى قدراته على فهم واستخدام بعض قواعد الفن التشكيلي، وقد ساعدته موهبة المتفردة على المشاركة في معرض “الجمعية السورية للفنون الجميلة” عام 1952، وهو في عمر الرابعة عشر، إلى جانب 38 فناناً من الذين قُبلت لوحاتهم في معرض الجمعية التي أصبح حينها واحداً من أعضائها وشارك في معظم معارضها السنوية حتى حصوله على الشهادة الثانوية عام 1958.

 في عام 1959 سافر نبعة إلى القاهرة  ليدرس فن التصوير في كلية الفنون الجميلة هناك، حيث تتلمذ على يد كبار أساتذة الكلية، مثل حسين بيكار وعبد العزيز درويش وعبد الهادي الجزار وحامد ندا، واطلع على عالم الفن القديم، الآشوري والبابلي والفينيقي والفرعوني واليوناني والروماني، إلى جانب دراسة أساليب الفن المعاصر بمختلف مدارسه التشكيلية. وخلال دراسته بدأ يظهر كفنان متفردٍ يَشقُّ طريقاً فنياً يختلف عن السائد، فنال درجة الامتياز عن مشروع تخرجه من الجامعة، وهو بعنوان “عمال مقالع الحجارة” الذي استلهم موضوعه من زياراته لقرية برقاش، القريبة من القاهرة، ولقائه بعمال مقالع الحجارة. وقد عالج الموضوع بطريقة تعبيرية حداثوية ومتحررة من الحالة التصويرية التقريرية، إذ يبدو التكوين في اللوحة حياً وحيوياً ومتحركاً، يوحي بحالة من النشاط واستمرارية العمل وكأننا أمام شريط سينمائي.

نحو هوية فنية سورية

بعد عودته إلى سوريا عام 1964 راح نبعة يبتكر أسلوبه الفني التعبيري الخاص، الذي يوفِّق بين التقنية والمضمون ويؤسس لاتجاهاتٍ وفضاءاتٍ فنية تحمل ملامح محلية، فبات يستلهم موضوعاته الفنية من فنون البلاد وتراثها الشعبي، بما يتضمنه من قيمٍ إنسانية وجمالية، وقد ساعدته مرحلة إقامته في مدينة دير الزور، التي عمل كمدرسٍ للتربية الفنية في بعض مدارسها، أن يُغني لوحاته برؤى وفضاءات تشكيلية ساحرة وشاسعة، استوحاها من التفاصيل الجمالية المدهشة للبيئة الريفية وألوانها الرحبة، ومن المثيولوجية الفراتية، والمناطق الأثرية الغنية بالرموز، والتاريخ الآشوري والسومري، والأساطير القديمة للبلاد وملاحمها الشعبيية الغنية بالحكايات، والتي ربطها بالحاضر بعد تجسيدها بشكلٍ تعبيري حكائي، ليُشكل من خلال تلك الموضوعات ملامح هوية فنية سورية أصيلة، تجلت بشكلٍ واضح في معرضه الأول الذي أقامه عام 1965، في صالة الفن الحديث في دمشق. وقد حظي المعرض حينها باهتمام ثقافي بالغ، وكرَّسه كفنان صاحب بصمةٍ إبداعية متفردة ورؤيةٍ تجديدية مؤثِّرة، ساهمت في تطوير وإغناء الحركة التشكيلية في سوريا آنذاك. ومن أبرز لوحات المعرض: “ننليل”، “عشتار”، “العجاج”، “خسوف القمر”، “الزير”، “صرخة سيزيف”، “الحوت يبتلع القمر” و “كاهنة مردوخ”، وهي اللوحة التي تم اقتناءها من المعرض. وقد استطاع نبعة من خلال  تلك الأعمال أن يبتكر مدرسته الواقعية الخاصة التي مزجها مع التعبيرية والرمزية، ليُقدم اقتراحاتٍ وموضوعاتٍ بصرية رائدة ومثيرة للاهتمام، تجاوزت الأنماط الفنية السائدة في تلك المرحلة، حيث تناول أكثر من فكرةٍ وموضوع في اللوحة الواحدة، من خلال تكوينات غنية ومبتكرة ومتنوعة، مزجت العديد من العوالم والفضاءات والمشهديات، قدمها بلغةٍ تعبيرية سردية، استندت إلى المفاهيم الفنية المعاصرة وابتعدت عن المباشرة والتقريرية.

فنان ملتزم بالقضايا الإنسانية والوطنية

بعد وقوع نكسة حزيران عام 1967 برز نبعة كفنان ملتزم بقضية الإنسان العربي والفلسطيني، ومدافعاً، من خلال فنه، عن حقه باستعادة أرضه ووطنه وكرامته، فانتهج أسلوباً فنياً جديداً، جمع بين ثورية الموضوع وفنية التعبير، وتناول في معظم لوحاته الفدائي الفلسطيني البطل، وأظهره بشكلٍ أسطوري وملحمي، ومنحه الكثير من صفات البطولة والخلود بوصفه المُنقذ والأمل. ولم يكتفِ نبعة بذلك فقط بل انتسب في تلك الفترة لمنظمة التحرير الفلسطينة، وصمم شعارها وعدداً من ملصقاتها وشعاراتها السياسية، التي أصبحت جزءاً هاماً من الذاكرة البصرية الفلسطينية، بالإضافة لتصميم أغلفة عددٍ من الكتب والمجلات التي تناولت الواقع الفلسطيني والمقاومة، كمجلة “فلسطين الثورة” التي صمم ماكيت عددها الأول وساهم في وضع رسوم بعض أعدادها، هذا إلى جانب إبداعه لمجموعة من الرسوم الغرافيكية، بعنوان “الأرض المحتلة”، استوحاها من قصائد عددٍ من الشعراء الفلسطينيين، كالشاعر محمود درويش وسميح القاسم وتوفيق زياد وسالم جبران وراشد حسين. وقد استطاع من خلالها أن يقدم نفسه كفنان غرافيك محترف ومُلهم، يجمع بعبقريته الفنية، بين أفكاره الوطنية وأدواته التعبيرية الفنية.

 وفي عام 1968 وبعد انتصارات معركة الكرامة زار نبعة وعدد من أصدقائه الفنانين المصريين معسكرات الفدائيين الفلسطينين في الأغوار، فأثمرت الزيارة، التي استمرت لمدة 15 يوماً وكانت مُلهمة لنبعة وأصدقائه، عن إقامة معرض فني مشترك، مستوحى من حياة الفدائيين وبطولاتهم وعملياتهم الفدائية، وقد جال المعرض حينها في عدد من المحافظات السورية، وبعض العواصم العربية كالقاهرة وعمان.

التوجه نحو الفن المعاصر

سافر نبعة عام 1971 لمتابعة دراسته الفنية في المدرسة الوطنية العليا للفنون الجميلة في باريس، والتي وضعته وجهاً لوجه مع الثقافة الغربية والفن العالمي المعاصر، فكان، إلى جانب دراسته، يزور المتاحف والمعارض الفنية ويطلع على تجارب الفنانين المعاصرين، ليطور معارفه وثقافته وخبراته التقنية التي أغنت وعمقت رؤيته الفنية، فنال مشروع تخرجه، وهو عمل عن النباتات، جائزة المدرسة. وقد شكلت تلك المرحلة منعطفاً فنياً بارزاً في طريقة التعبير الفني عند نبعة، تجلت من خلال المزج بين التجريدية والواقعية. وعند عودته إلى دمشق، عام 1974 تجاوز كل الأشكال الفنية التي لجأ إليها في المراحل السابقة ليتجه إلى مدرسة الواقعية السحرية، التي يُعد من أبرز مؤسسيها وروادها في سوريا، فرسم النباتات، والمناظر الطبيعية، والطبيعة الصامتة، والوجوه، وعوالم المرأة، هذا إلى جانب استمراره في تناول موضوعات البيئة الشعبية والرموز والتفاصيل المُستقاة من التراث السوري، ولكن برؤية تجديدية معاصرة، حافظت على روح التراث وأصالته وقيمه الجمالية والروحية دون إهمال تقنيات الفن المعاصر، ليؤكد نبعة، مرة أخرى، مدى انتمائه للهوية السورية، وأن الفن لا ينبغي أن ينفصل عن البيئة والواقع المحلي. ومن أبرز لوحاته في تلك المرحلة: لوحة “نباتات ووجه”، “تفتح الزنابق”، و “عازفة المزمار” وغيرها.

الدمشقيات

خلال مرحلة “الدمشقيات” التي بدأها عام 1975 اتجه نبعة، بشكل أكبر، نحو مفاهيم الحداثة والمزج بين أكثر من مدرسة وتقنية وأسلوب في اللوحة الواحدة، محاولاً تقديم اللوحة التي تنتصر للفن المعاصر وتقنياته، والتي أسماها لوحة “الفكرة” كونها تحمل كثافة بصرية شاسعة وتتضمن العديد من التكوينات والتفاصيل وتخلو مساحتها من أي فراغ. ويقول الناقد صلاح الدين محمد عن تلك المرحلة :”بالنسبة لنا لو أن نذير نبعة لم ينجز هذه المرحلة لكان هناك فجوة في سلم ارتقاء الفن السوري ومعطياته”.

 ومن خلال لوحات الدمشقيات، التي تحولت لمرجعية أسلوبية ألهمت الكثير من الفنانين، أبرز نبعة تفاصيل الحياة الدمشقية من زوايا مختلفة، فأعاد بناء أزقة وحارات المدينة القديمة بطرق تعبيرية غنائية وحالمة وغنية  بفضاءات جمالية مكثَّفة، كما تناول الذاكرة التراثية للمدينة وبعض فنونها الشعبية وصناعاتها اليدوية الفنية التقليدية كالزخارف والصدفيات، وأضاء على الكثير من التفاصيل والرموز الدمشقية العالقة في الوجدان الجمعي السوري. وفي إحدى لقاءاته  يقول نبعة عن لوحاته الدمشقية: “أعتبر هذه اللوحات قصيدة عشقٍ غنائية طويلة لمدينة دمشق، لأنها بالنسبة لي هي الأم، الأخت، الحبيبة، المدينة والوطن”.

وفي لوحات “الدمشقيات”حضرت المرأة على نحو فريد وملفت، وبحالاتٍ وتفاصيل متنوعة، وضمن فضاءاتٍ لونية، أضفت على اللوحة المزيد من السحر والجمال والتناغم، فظهرت ضمن البيوت الشعبية وأجوائها الحميمية والأليفة، ومحاطة بالزخارف والنقوش والأواني الخزفية والصدفيات، بشكلٍ يبرز عمق ترابط المرأة مع تلك العناصر الفنية المحفورة في وجدان وذاكرة الدمشقيين. كما ظهرت المرأة أيضاً وهي محاطة بالمصابيح والسيوف والمباخر وأطباق القش وغيرها من التفاصيل الفنية الدمشقية، أو محاطة بالأزهار ونباتات الزينة وزجاجات وأصص الورود، وثمار الرمان، وأغصان الياسمين، وسنابل القمح. وفي لوحات أخرى ظهرت وهي تعزف على الآلات الموسيقية التقليدية كالعود والناي، كما ظهرت وهي ترتدي الأزياء التقليدية، المليئة بالنقوش والألوان، وتتزين بالحلي والجواهر والأساور والأقراط والعقود، بشكل بديعٍ ومتناغم، أضفى الكثير من الحيوية والرشاقة على اللوحة. ومن أشهر لوحاته الدمشقية: “هلال” ،المساء”، “الربيع”، بدوية”، ” البحر”، “ست الحس”.

ويُعد نبعة من أبرز الفنانين التشكيليين السوريين والعرب الذين تناولوا موضوعات المرأة بشكلٍ موسع، لذا لقب بـ “رسام المرأة العربي”، كما أنه، وخلافاً لكثيرٍ من الفنانين، لم يُظهر المرأة بشكل إيروتيكي بحت أو تصويري مباشر، وإنما تناولها بكل حالاتها الجمالية والنفسية والوجودية وبوصفها رمزاً للعطاء والخصوبة والحياة، فقدمت لوحاته المرأة القادمة من الأسطورة والأحلام، المرأة التي تفيض سحراً وأنوثة وجمال، المرأة التي تعزف الموسيقى، المرأة التي تشبه المدينة، المرأة المتماهية مع الطبيعة، المرأة التي ترمز للأرض والوطن، والمرأة الحبيبة والأم، والتي تهب معنى للحياة والوجود.

التجليات

في التسعينيات اتَّجه نبعة نحو مرحلة فنية جديدة، أسماها “التجليات”، انتمت معظم أعمالها للمدرسة التجريدية، واستمرت حتى نهاية حياته، وقد ابتعد فيها عن الجانب التزييني والزخرفي وعن الأجواء الشرقية والأسلوب الانطباعي والواقعي، ليتجه نحو فلسفة الألوان وتجلياتها وفضاءاتها الشاسعة وحركاتها التعبيرية الرمزية والمتداخلة بشكل متناغم ومتحاور في مساحات اللوحة الفنية، التي تطرح الكثير من المفاهيم التشكيلية التقنية المعاصرة. وقد استوحى ألوان  لوحاته من الطبيعة السورية وبراريها وجروفها الصخرية، وحمَّلها بالكثير من الأفكار والعواطف والذكريات، ضمن فضاءٍ تصويري واسع الأفق، يوازن بين الموضوع والجانب الفني التقني الأكاديمي. ورغم توجهه نحو الأعمال التجريدية واستخدامه لمختلف أنواع التقنيات الفنية، حافظت لوحاته على الروح الجمالية وعلى الشاعرية اللونية والحالة الحسية ذاتها.

وضمن مرحلة التجليات رسم نبعة، الملتزم بالقضايا الوطنية، مجموعة لوحات بعنوان “المدن المحروقة”، انبعثت فكرتها عقب ارتكاب إسرائيل لمجزرة قانا/ جنوب لبنان عام 1996، وقد تناول مأساة المجزرة بأسلوبٍ تعبيري تخلى فيه عن السخاء اللوني، الذي كان يُميّز أغلب لوحاته، ليستخدم تقنية الحبر الأسود، الذي عبَّر من خلال خطوطه وقتامته عن حجم المأساة، وأبرز وجوه الشهداء الشاحبة والغارقة في جحيم الموت والألم. وقد استمرت تجربة “المدن المحروقة” لعدة سنواتٍ، رسم خلالها، باستخدام أكثر من أسلوبٍ وتقنية وطريقة تعبير، لوحاتٍ عن بيروت وجنين وغزة، التي عاشت مختلف أشكال القتل والوحشية من قبل الاحتلال الإسرائيلي، ومن ثم بغداد التي تعرضت للقصف الوحشي خلال الغزو الأمريكي لها عام 2003. ويقول نبعة عن تلك التجربة في أحد لقاءاته: “أنا لم أرسم الدمار والأبنية المحروقة، وإنما رسمت الحرقة داخل صدري، وصدر كل مواطن عربي وهو يتابع انهيار هذه المدن وإحراقها، وهو عاجز عن القيام بأي دور”. 

وفي سنواته الأخيرة رسم نبعة مجموعة رسومات بالحبر الصيني عن ممارسات تنظيم داعش في سوريا، أسماها “المفاتي”، كرمز للفتاوى التي كان التنظيم من خلالها يحاول تحليل العنف والقتل.

بعض مساهماته في مجال الثقافة  

إلى جانب إرثه الفني الغني عمل نبعة في نهايات الستينيات مع مديرية الكتب المدرسية، إلى جانب الفنان ممتاز البحرة وعبد القادر أرناؤوط، في تصميم أغلفة ورسوم الكتب المدرسية، كما عمل في تلك المرحلة مدرساً في معظم أقسام كلية الفنون الجميلة في دمشق حتى عام سفره إلى باريس، وكان من أبرز وأهم أساتذة الكلية والأكثر تأثيراً في الطلاب الذين تتلمذوا على يده. وبعد عودته من باريس عاد للتدريس في الكلية، ثم أسس في العام 1980، بالتعاون مع الفنان فاتح المدرس وإلياس الزيات ومحمود حماد، قسم الدراسات العليا في الكلية، وعمل فيه أستاذاً لعدة سنوات، حيث تخرج على يده كبار الفنانين السوريين الذين أصبحوا من رواد الفن التشكيلي في نهايات القرن الماضي.

وإلى جانب التدريس عمل نبعة في مجلة الطليعة، التي كانت تستقطب أبرز الأسماء الثقافية والفنية السورية، حيث كان مسؤولا عن تصميم غلاف المجلة الأسبوعية، وعن إنجاز الرسوم الداخلية، بالإضافة لصفحة خاصة به كرسام للمجلة، وقد أصبحت رسوماته في تلك المجلة مرجعاً هاماً لكثير من الفنانين الشباب، الذين عملوا في نفس المجال، بعد أن رفع من سوية فن الرسم الصحفي والغرافيك. وبين عامي 1975 و 1976 عمل نبعة رساماً في مجلة الموقف الأدبي، التي كان يرأس تحريرها الكاتب زكريا تامر، وكانت تلك التجربة غنية وفريدة من نوعها، إذ كان الرسم في المجلة عملاً فنياً موازياً للعمل الأدبي (الشعري أو القصصي)، يُدرج إلى جانبه في صفحات منفردة، ليعَبِّر عنه بلغة تشكيلية تقدم للقارئ متعة بصرية تعادل المتعة الأدبية، ولشدة ما كانت تحمله تلك الرسوم من حالة شاعرية وقصصية وسردية وخيالية، أسماها البعض :”أشعار نذير نبعة المرسومة”، وكان كثير من القراء يحتفظون بالمجلة لكي يتأملوا رسومات نبعة التي كانت تُشكل ما يشبه المعرض الفني داخل المجلة.

وإلى جانب ذلك كان نبعة من أبرز مؤسسي مجلة “أسامة”، التي تعتبر من أهم مجلات الأطفال في سوريا حتى يومنا هذا، وهو من صمم غلاف عددها الأول، وكان، إلى جانب ممتاز البحرة ولجينة الأصيل، أول الفنانين الذين رسموا في المجلة وصمموا عدداً من أغلفتها لعدة سنوات، ليشكل إلهاماً ومرجعاً للرسامين الذين جاؤوا من بعده. كما ساهم، بالتعاون مع دار الفتى العربي، في إنجاز رسومات سلسلة من الكتب التي شارك فيها أهم وأشهر الفنانين والكتاب، بالإضافة لمساهمته، بالتعاون مع دار النورس، في إصدار كتب شعرية للأطفال، هذا إلى جانب تصميم وإنجاز الديكورات المسرحية لعددٍ من مسرحيات الأطفال ومسرحيات المسرح القومي ومسرح العرائس.

أبرز معارضه :

– المعرض الفردي الأول في صالة الفن الحديث/ دمشق/ عام 1965

– المعرض الفردي الثاني في صالة الصيوان/ دمشق/ 1966

– معرض في صالة الصيوان/ دمشق/ 1968

–  معرض في صالة غاليري ون/ بيروت/ 1969

– معرض في المركز الثقافي العربي/ دمشق/ 1979

– معرض في متحف الشارقة/ 1996

– معرض في غاليري بوزار/ دبي/ 1997

– معرض في مهرجان القرين الثقافي/ الكويت/ 1998 

– معرض استعادي في مركز المجمع الثقافي في أبوظبي/ 1998

– معرض في متحف الفن الحديث/ الكويت/ 2001

– معرض التجليات في غاليري أتاسي/ دمشق/ 2003

–  شارك في العديد من المعارض المشتركة في القاهرة، مدريد، باريس، سان باولو، بولونيا، إيطاليا، طوكيو، موسكو، براتيسلافا وغيرها.

بعض الجوائز والتكريمات:

– جائزة معرض غرافن آي/ عام 1967

– جائزة تقديرية من بينالي الأسكندرية الدولي/ 1968

– جائزة المدرسة الوطنية العليا للفنون الجميلة في باريس/ 1974، عن مشروع تخرجه.

– دبلوم في مجال الغرافيك من معرض لايبزج الدولي/ 1978

– دبلوم في مجال رسوم الأطفال من معرض براتيسلافا/ 1979

– الجائزة الفضية للمعرض الدولي السادس لرسوم كتب الأطفال/ مؤسسة نوما اليونيسكو/ اليابان/ 1989

– جائزة لجنة التحكيم في بينالي القاهرة الدولي/ 1995

– دبلوم شرف من بينالي القاهرة الدولي/ 2004

– وسام الاستحقاق السوري من الدرجة الممتازة / 2005

أهم المراجع

– كتاب “نذير نبعة: عين على العالم.. عين على الروح”. تأليف: يوسف عبدلكي. الناشر: صالة تجليات للفنون/عام 2009.   

– إحياء الذاكرة التشكيلية في سورية/ مختارات من مجموعة المتحف الوطني في دمشق. صادرة عن الأمانة العامة لاحتفالية دمشق عاصمة الثقافة العربية 2008، والمديرية العامة للآثار والمتاحف في سوريا.

لقاء مع الفنان نذير نبعة في برنامج “ينابيع” على قناة القرين/ الكويت.

لقاء مع الفنان نذير نبعة على هامش معرض فناني بلاد الشام، عام 2000.  

لقاء مع الفنان نذير نبعة، منشور في مجلة العربي/ أرشيف.

لقاء مع الفنان نبعة، منشور في جريدة الثورة عام 2009/ أرشيف.

– مجموعة من لوحات الفنان نبعة من مراحل فنية مختلفة.   

     *تنشر هذه المادة ضمن ملف صالون سوريا حول “المنعطف السوريّ

حياة واحدة لا تكفي: لو كانت لنا حياتان هل نضمن أن الثانية سنعيشها كما نريد؟

حياة واحدة لا تكفي: لو كانت لنا حياتان هل نضمن أن الثانية سنعيشها كما نريد؟

الحق الإنساني في حياة سعيدة وسطوة الواقع الذي يسلبه، هو ما تثير عزة طويل أسئلة حوله في روايتها الأولى (النوفيلا) التي صدرت حديثاً بعنوان “لا شيء أسود بالكامل” عن دار هاشيت أنطون نوفل. جاء العنوان كدعوة لتلمس امكانية الذهاب نحو الطرف الأول واقتناص الحلم وزعزعة السواد الطاغي، فنحن أسرى الوجود ولا شيء يمنح بسهولة. ولعل دعوة التفاؤل تلك من باب الرغبة بنكران الواقع المر والتشبث بالأمل دون تجاهل أن هذا النكران ليس إلا “قاعدة حتمية للألم الطويل الأمد” حسب رأي الراوية. وهكذا من التفاؤل إلى الغوص في جذور الألم والنبش في أسبابها، تأخذنا عزة في عملها كأننا نغوص في داخلنا وذواتنا.

تبدأ الرواية بحوار في جلسات علاج نفسي لإحدى النساء، ثم تتابع على شكل لوحات تختلط فيها الشخصيات والأحداث وتتناوب الذكريات مع الواقع دون ترتيب زمني في خليط آلام الحاضر والماضي الممتد دون شفاء، بدءاً من الأزمة اللبنانية عام 1958إلى تتالي الحروب الخارجية والأهلية وما أفرزته على صعيد المجتمع والأفراد والعلاقات وما تركته في الذاكرة الفردية التي لن تستوعبه. فسنرى كيف يتوارث الألم وتكرسه الأمهات في وعي أطفالهن الذين يرضعونه مع الحليب ويمتصون ذاكرة الحرب والأسى من هلع العيون. فالحروب لا تنتهي بتوقف الرصاص بل تحكم ذاكرة البشر وتترك ذات الإنسان مهشمة ومرضوضة ومرتبكة تجاه الحياة والآخر. ولعل هذا ما يفسر جلسات العلاج النفسي المذكورة في بداية الرواية. تقول إحدى الشخصيات: “كانت الفيلا المهجورة تشبهنا صلبة من الخارج وخربة من الداخل نحتمي فيها من زوابعنا”.

ولا يسلم من ذلك حتى الأجنة، حيث يرثون في الجزء الأخير من الحمل جزءاً من أحاسيس الأمهات إذ يشعرون بها لأن وعي الجنين وذاكرته تكون قد تشكلت كما تخبرنا الراوية ولهذا فإن أطفال فلسطين هم الأكثر تأثراً إذ يكبرون بالألم والكوابيس.

تجمع عزة طويل في روايتها غير التقليدية منذ البداية بين مجتمعين مترابطين عبر التاريخ بقدر خصامهما الحالي في لبنان وسوريا حيث تتشابك العلاقات الاجتماعية بغض النظر عن العلاقات الرسمية لنرى مثلا أن لبنانية ولدت وعاشت في لبنان (وطى المصيطبة) طوال حياتها كلبنانية والدها سوري ثم  تتزوج من سوري وتذهب معه خطيفة، في إشارة إلى تشابك الأنساب والحياة وحيث تغص الآن لبنان باللاجئين السوريين كما كانت تغص سوريا باللاجئين اللبنانيين أثناء حروبهم، لتوازي بين الحرب اللبنانية والسورية عبر تذكر المجازر غير المبررة في كلا البلدين والتي ذهب ضحيتها الأبرياء في الحالتين مع تعددها واختلاف المرتكبين وتشابه النتائج.

ورغم ذلك فالبشر يعيشون ويحبون وينجبون الأطفال ويحتلمون في الأبنية المهدمة والملاجئ وتحت القصف وكأنهم يشهرون البقاء في وجه الحرب والرغبة – الحياة مقابل الموت، فهل هي بذور التفاؤل أم غريزة مقاومة الفناء عبر آلية النكوص البدائي نحو الحياة (التناسل)؟ تقول الكاتبة عن تلك الحالة إنها “أكثر صور العنف إدهاشاً ” .

 لكن في هذه المجتمعات والتي لم تترك لها حروبها الأهلية فرصة التعافي أو التطور، تأتي الحياة لا كخلاص أو كما نحلم بل ناقصة وبعلاقات مشوهة يمارس فيها القوي سلطته على الضعيف ويفرغ ما اختزنه من عنف الحرب على الأضعف فتنتهي بالقهر والنهايات المأزومة.

وهو ما تضيئه الكاتبة بطرح قضايا جندرية معيشة فالمرأة التي تعاني رغم أنها كانت رفيقة النضال أو تعرضت للأذية كالرجل في الحرب والمجازر وربما تحدت واقعها والأهل  للارتباط به كالذهاب خطيفة دون مشورتهم، إلا أنه يمارس عليها سلطته الذكورية الموروثة، من الضرب والخيانة والاهمال حتى أنها قد تتحمل الهجر والذل للبقاء بجانب أولادها بعد الطلاق.

تقول أم شادي عن زوجها المتوفي: “حتى القهوة كان يشربني إياها مفحمة”.

ولم يكن المنفى أفضل إذ وضع المرأة في ظروف صعبة حتى أصبحت العودة الى لبنان وسط الحرب أرحم.

أتت الرواية على شكل لوحات أو مشاهد سينمائية وبؤر أحداث تبدو منفصلة أو ذكريات مسترسلة كأنها حديث أرواح، إلا أن الكاتبة عمدت إلى تقديمها بلغة مفعمة بالأحاسيس والنبش الجواني لما يحتدم داخل الشخصيات التي تبدو كلها في حالة اختزان معاناة طويلة تنتظر فرصة للبوح واسترجاع حياتها من خلال ذروة ما تبدأ في كل مشهد، لتتابع بسرد كثيف مشدود متناوب بين الراوية وشخوصها بلغة غنية ومؤثرة. وحيث تنجو الشخصيات من فكرة البطولة لتكون كلها ذات قلق مضطرم ومعاناة مستمرة تعيش أزمتها الداخلية التي تصل إلى القارئ في السرد الموشى بإضاءات رمزية عديدة (برودة الجسد، أو عدم القدرة على الانتصاب، أو العصافير، الحمامة، الجدار)، أو عبر موازاة الأحداث والإشارات المتناقضة (كالموت مقابل الحميمية أو ثالوث الموت مقابل ثالوث الحياة والموسيقا مقابل الدمار)،

 فيرى القارئ الواقع بأعين الشخصيات ويعيش انكسارهم ومشاعرهم ويتلمس العالم الروحي لهم عبر رسم الصورة وبناء اللقطة، فيستغرق فيها لزمن أطول مما فعله السرد.

البطل الحقيقي في الرواية هو الفقد، الفقد بالموت وقبل الموت وبعده، بالحرب أو المرض أو الحوادث، وعجز الإنسان أمام الموت البارد ذي الحضور الرهيب، ورغم أن الإنسان هو من يستدرجه في أحيان كثيرة بما يرتكبه من حروب ومجازر، إلا أنه ميزان علاقتنا بالآخر، إذ يختلف إحساسنا بحجمه، حسب علاقتنا بالشخص. الموت أزمة الأحياء فقد تغدو الحياة بعد تجربة الفقد مجرد أيام للذكريات وكأنها تمجيد للموت. وأمام سطوة النهاية وعدم القدرة على نسيان الأحبة يحاول البشر إيجاد أشكال للتواصل مع العالم الآخر بمعنى إبقاء صلة ما بمن نحب كزيارة القبور وزراعة الورد أو بناء المنزل بالقرب منها لردم تلك الهوة بين الأحياء والأموات، أو المصالحة مع هذا المخيف الجاثم فوق خط النهاية. ولكن كل هذا ليس سوى محاولات قد تحقق العزاء الصادق للفرد.ولهذا لم تكتف الروائية بتقديم الواقع وأثره في شخصياتها والمكان ولم تكتف بنبش التاريخ وحوادثه المفصلية، بل عادت أيضاً إلى بنية الذاكرة الجمعية الدينية والثقافية التي وضعت كثيراً من المفاهيم والعادات التي مازلنا نمارسها كمفهوم الموت وعادة لبس الأسود في الحزن، مثيرة قضايا معاصرة ووجودية في علاقة الإنسان بالحتمية والطبيعة فتتنقل بين الواقع العام والتاريخي والاجتماعي بمهارة تنقل الضوء، لكن رمزية عودة تموز في الربيع التي تعني نهوضه من عالم الأموات أتت في الرواية بشكل معاكس.

في الخاتمة تابعت عزة طويل أسلوب روايتها الخارج عن المألوف، في ترك حياة الشخصيات معلقة على شفا الحديث الذي قد يسترسل إلى ما لا نهاية دون أن تضع أي نهاية لها، لكنها آثرت التدخل بلسان الراوي العليم الذي كان يشارك في السرد لتخبرنا أن الرواية ليست من صنع خيالها بل جزء من حياة أو رحلة مع الحياة والموت ولهذا تقول لا أهمية للنهايات. لكنها تعترف أنها بعد كل هذا قد بدأت تفهم من أين يأتي هذا الألم.

 رواية عزة طويل رواية شيقة وغنية ورغم أنها قصيرة لكنها ذات أبعاد ممتدة في ذاتنا نحن أبناء الأوطان المبتلاة بالحروب وكل هذا الألم.

حليم بركات طائر الحوم الذي لم يعد

حليم بركات طائر الحوم الذي لم يعد

مرةً أُخرى، اقتُلع حليم بركات من جذوره، تحمله رياح هذا العالم إلى عالمٍ آخر مُحتمل. لطالما تحدّث عن تجارب الاقتلاع هذه وهو المهاجر من الكفرون (قريّة من قرى السّاحل السوريّ) إلى مدينته الملّونة بيروت، ومن ثمّة إلى مدن العالم الغربيّ، ليستقرّ في الولايات المتّحدة الأمريكيّة. تنقّل في محطّاته السّابقة بين مُدن الاغتراب؛ متاهات الإنسان العربي بين الحلم والواقع، بينما كان العالم الآخر (الموت) محطته الأخيرة. حيث وافته المنية في ٢٣أيار ٢٠٢٣. وهو الذي طالما كتب عن تجربة الموت التي واجهها منذ طفولته الأولى، فقد تُوفّي والده قبل أن يُكمل العاشرة، ثم تُوفّي أصدقاؤه واحداً تلو الأخر، وكان قد رثاهم في مؤلّفه غربة الكاتب. مثل هشام شرابي وسعدالله ونوس وادوارد سعيد.شبّه حليم بركات طائر الحوم وهو الطّائر العابر للقارات، بأبيه الذي طار ولم يعد وأيضاً بأمّه التي غادرت الكفرون إلى بيروت لتُعيل أسرتها ثم لتموت هناك،  لكن لاندري إن كان يُضمر في روايته طائر الحوم سيرته ذاتها!

درس حليم اسبر بركات في بيروت، ونال الماجستير من الجامعة الأمريكيّة سنة ١٩٦٠ انتسب في السابعة عشرة من عمره إلى الحزب السوريّ القوميّ الاجتماعيّ مع من افتُتن بهم من رواد الحداثة الفكرية مثل: أدونيس وفؤاد رفقة ويوسف الخال وغيرهم، وكان أن تعلق بصفية بنت أنطون سعادة ولما لم يستطع الظفر بها فارق الحزب بعد أن روى الكثير من سيرته في روايته (المدينة الملونة) مستبدلاً اسم البطلة صبا باسم صفية كما يُشير النُّقاد.

   في محاضرةٍ له في جامعة دمشق (٢٠٠٦) قال بركات إنه كتب باكورة رواياته قممٌ خضراء وهو طالبٌ جامعي، غير أنّ ما كرّس اسمه كروائي هو روايته التّالية “ستة أيام” التي أصدرتها عام١٩٦١ دار مجلّة شعر. وقد ذاعت شُهرة هذه الرواية لما قدّر النقاد والقرّاء نبوءتها بحرب الأيام الستة عام ١٩٦٧ أي بالهزيمة أو النّكسة. رغم أنّ حليم بركات كان يتحفّظ على “نبوءة” روايته، ويفضّل القول بالوعي بالواقع العربيّ في تلك الرواية.

   أثّر أدبه على مكانته في العالم العربي فقد كان يُعدّ لإحدى رواياته عندما مضى مع عددٍ من طلبته في الجامعة الأميركيّة في بيروت إلى مخيم زيزيا جنوب عمّان، وأقاموا حيناً للبحث في أوضاع اللاجئين، ومن ذلك كان عمله “نهر بلا جسور”. ويقول إنّ هذا، ومُجمل اهتمامه بالقضيّة الفلسطينيّة كان سبباً في عدم ترقيته في الجامعة الأميركيّة حيث درّس من ١٩٦٦ حتى ١٩٧٢ فغادرها إلى جامعة هارفرد، فجامعة أوستن قبل أن يستقرّ به المقام في جامعة جورج تاون.

ناقش بركات في كتابه “غربة الكاتب العربي” غرباتٍ عديدةٍ داخل الوطن وخارجه محللاً العلاقة بين المعرفة والسلطة وبين المثّقف والحاكم، ومُميزاً بين علاقات اللامبالاة والاضطهاد والوصاية والمشاركة، عبر شخوص أصدقائه، فيذكر عبد الرحمن منيف الذي كان على تواصلٍ دائمٍ معه وكان أن راسله  منيف يوماً قائلاً: 

حملت نفسي وذهبت إلى الكفرون. قضيت هناك أسبوعاً استطعت خلاله أن أستعيد نفسي. الهواء الرخي، خاصةً في الصباح الباكر، حبّات التين، عنقود من العنب، وأيضاً أواخر الدراق. أما الجبلان اللذان يُطلان على الكفرون و يحرسانها، من ناحية الغرب والقبلة، فإنهما يتغيران عشرات المرات خلال النهار الواحد، تبعاً للضوء و لزاوية النظر.

ويكمل : أصبحت أشاركك عشق الكفرون ولو اختلفت معك بولعي بالصيد هوايتي المفضلة، لكن أعدك أني لن أصيد طائرك طائر الحوم.

وفي الكتاب نفسه يضيء حليم بركات على أدونيس في أغاني مهيار الدمشقي وعالم الشعر الأغنى:

المأساة هي في أن تصغي، فالألحان لا تظل في الخارج. تخترقك، وتحس بانهيارات في أعماقك، وبأنك تنمو. تُرى، أهناك ما هو أروع من الشعور بأنك تنمو؟ العالم يستيقظ فيك، ريح تحرك أغصانك، الأوراق اليابسة تسقط، زبد البحر يغسل وجهك، تعطش، تشرب دونما ارتواء. ضلوعك تتسع وتحتضن العالم بفرح.

أمّا في عالم جبرا ابراهيم جبرا الروائيّ يتساءل بركات: هل يمكن الفصل بين الكاتب والكتابة؟ وإذا لم يكن من الممكن الفصل بينهما فهل يجوز اعتبارهما واحداً نتيجة لعمليةٍ متواصلةٍ من الاندماج الكلي؟ وإذا لم يكن من الممكن الفصل أو الدّمج، فكيف نفهم العلاقة بين الكاتب والكتابة كتعبيرٍ عن الذّات، وبين الذّات والواقع في مختلف أبعاده؟ أليست الكتابة عمليّة خلقٍ وإنتاج في آنٍ واحد؟ 

في روايته “عودة الطائر إلى البحر”  نجد معاينة الروائيّ والّرواية لهزيمة 1967، فالأستاذ الجامعيّ رمزي الصفدي يحضر من بيروت إلى عمان والقدس ونابلس وجنين… ولهذه الرّواية ريادتها المتمثّلة بسرد الأساطير والموسيقى، حيث الهولندي الطائر رمز للعربيّ وللفلسطينيّ بخاصة. ويمضي رمزي الصفديّ بهذا الرّمز إلى شخصية “الفدائي” فيراه الجسر الوحيد الذي يصل العرب بالمستقبل، ويعبر بهم سور المأساة، لذلك لن يستريح العربي في اليوم السابع.

  على الرغم من الانتشار الواسع لحليم بركات كراوٍ عربيّ كانت له بصمةٌ مميّزةٌ في الرّواية السيريّة، ورغم تحدّثه عن أنّ العربيّ معرّضٌ لكلِّ أنواع الظّلم والمنع والقمع والامتثال القسري وفي ظلّ غياب حلولٍ واقعيٍة وجذريةٍ، سيظل يسعى جاهداً للتحرّر من واقعه من خلال الفانتازيا، إلا أنّه كان أيضاً من أهم من كتب بالاجتماع العربي المعاصر، يؤكّد حليم بركات في مؤلفاته أن الكتابة الثوريّة تدل على محدوديّة الفرضية التي تقول بتصادم بين الفن والالتزام بالقضايا السياسيّة الكبرى. فهو يرى أن بإمكان الروائي أن يُخضع السياسة لعملية الخلق والتّفكير النقدي التّأملي في إطار الصراع الإنساني المحتدم.

لقبه مايكل هيدسون الاقتصادي الأميركي بـ إميل دوركهايم العرب، نتيجة أعماله في علم الاجتماع العربي وهو القائل أنّ الثّقافة هي رؤى الحياة والكون وتصوّراتها، وأساليب العمل المفضلة، والقيم والإبداعات والفنون الأدبية من شعرٍ وروايةٍ وقصةٍ والفنون التشكيلية من رسمٍ ونحت، والموسيقى والغناء والرقص، وفرق بين ما يسمى بالثّقافة السّائدة، والثّقافة النّقدية المُضادة، والثّقافة التوفيقيّة. و بيّن أنّ هناك أيضاً ما هو ظاهر للعيان وما هو خفيّ، وما هو اتباع و ما هو إبداع  و ما هو عقلاني وما هو عاطفي.

جسّد بركات فعله الثقافي بالرّواية كما ذكرنا وبالتّفكر بقضايا المجتمع العربي أيضاً، فقد انكبّ مدّة ثلاثين عاماً على كتابة مؤلّفه (المجتمع العربي المعاصر) الصّادر عن مركز الوحدة للدراسات والذي عُدَّ من أهمّ كُتب علم الاجتماع العربي تناول فيه قضايا المجتمع العربيّ باحترافية الأكاديمي المشتبك مع واقعه، احتضن الكتاب أربعة أقسام عُنونت بعناوين أهمّ الإشكاليات العربيّة، فقد جاء القسم الأول بعنوان الهويّة العربيّة والاندماج الاجتماعي، تناول فيه الهويّة العربيّة بين التنوع والاندماج وأنماط الاجتماع العربيّ (البدويّ، الريفيّ، والحضريّ) ومآلات الاندماج الاجتماعي والسياسي. وجاء القسم الثاني بعنوان البنى والمؤسّسات الاجتماعيّة ليتناول الطبقات الاجتماعيّة ومفهوم الطّبقة كما يُضيء على العائلة العربية وعلاقات القرابة ويُناقش الصراع السياسي في إطاره الاجتماعيّ. بينما يعرض القسم الثّالث المعنون بالثّقافة العربيّة أنماط الثّقافة العربيّة واتجاهاتها المعاصرة كما يناقش موضوع القيم العربيّة مصادرها واتجاهاتها، واختتم الكتاب بالقسم الرّابع المعنون باستشراف المستقبل العربيّ ناقش فيه قضايا الثّورة والتنمية والاغتراب وتجاوز حالة الاغتراب.

حليم بركات (١٩٣٣-٢٠٢٣) ولد في ٤ كانون الأول ١٩٣٣، في الكفرون (سوريا) حصل على درجة الإجازة في علم الاجتماع ١٩٥٥ ودرجة الماجستير عام ١٩٦٠ من الجامعة الأمريكيّة في بيروت ثم نال درجة الدكتوراة في علم النّفس الاجتماعي عام ١٩٦٦ من جامعة ميشيغان الأمريكيّة، عمل زميلاً باحثاً في جامعة هارفارد من ١٩٧٢ حتّى ١٩٧٣، ودرس في جامعة تكساس عامي ١٩٧٥ و١٩٧٦ و من هذا العام حتّى ٢٠٠٢ كان أستاذاً لتدريس البحوث في مركز الدّراسات العربيّة المعاصرة في جامعة جورج تاون.

كتب بركات ما يقرب من عشرين كتابًا وخمسين مقالًا عن المجتمع والثّقافة في مجلاّت مثل المجلّة البريطانيّة لعلم الاجتماع، ومجلّة الشرق الأوسط، ومواقف، والمستقبل العربي.. كما أصدر روايات ومجموعة قصصيّة غنيّة بالرمزيّة والرمز خلال حديثها عن الأحداث العالمية. من أهم أعماله:

الروايات

  • القمم الخضراء (1956)
  • الصمت والمطر (1958)
  • ستة أيام (1961)
  • عودة الطائر إلى البحر (1969)
  • الرحيل بين السهم والوتر (1979)
  • طائر الحوم (1988)
  • إنانة والنهر (1995)
  • المدينة الملونة (2006)

الدراسات

  • المجتمع العربي المعاصر (1984)
  • حرب الخليج (1992)
  • المجتمع العربي في القرن العشرين (1999)
  • المجتمع المدني في القرن العشرين (2000)
  • الهوية أزمة الحداثة والوعي التقليدي (2004)
  • الاغتراب في الثقافة العربي (2006)

     *تنشر هذه المادة ضمن ملف صالون سوريا حول “المنعطف السوريّ

الحراك المدني في السويداء والخيار العسكري!

الحراك المدني في السويداء والخيار العسكري!

جملةٌ من الأحداث التي قامت بها سلطات النظام السوريّ بخصوص السويداء، مؤخراً، تثير أسئلة وتقود إلى تحليلات عن الرسائل المتضمّنة لتلك السلوكيات عسكريّاً وأمنيّاً.

وفي التفاصيل، حرّكت قوات النظام السوريّ تعزيزات عسكرية نحو محافظة السويداء، جنوب العاصمة دمشق، وكان أكبرها يوم الأحد 28 نيسان / أبريل 2024، حيث وصلت إلى مطار “خلخلة” العسكريّ في ريف السويداء الشماليّ.

ويرى مراقبون أنّ هذه الخطوة؛ تمثل موقفاً سياسياً سيحمل تغييرات ميدانية متتالية في المنطقة، وقد جاءت بعد استمراريّة الحراك المدنيّ في السويداء، والذي سوف يتوّج عامه الأوّل من المظاهرات يوم 17 آب / أغسطس المقبل.

وكأنّ تلك التحركات العسكريّة كانت بمثابة جسّ نبض الشارع، وليأتي فيما بعد؛ سلوك بات مكشوفاً لدخول المناطق المعارضة في سورية، كما رأينا طيلة السنوات العشر الماضية، ألا وهو التلويح بوجود خلايا نائمة من “تنظيم الدولة الإسلاميّة داعش” في السويداء، فجأة تظهر بلا مقدمات، وذلك بحسب ما نشرت وكالة الأنباء السوريّة، سانا التابعة للنظام، حيث زعمت الوكالة أن “خلية من تنظيم (داعش) حاولت تنفيذ عملية إرهابية ضد المدنيين في مدينة السويداء، وأن الجهات المختصة قد قتلت إرهابياً حاول تفجير نفسه بحزام ناسف، وألقت القبض على إرهابي آخر بحوزته حزام ناسف آخر”. وبما أن الإعلام رسميّ هنا، فاحتمالية المصداقية مشكوك فيها نظراً للسيناريوهات المشابهة في معظم المناطق التي شهدت احتجاجات مدنية، دون وجود أيّة وسيلة إعلاميّة أخرى مستقلة تنقل تلك المزاعم من وجهة نظر محايدة.

توجهنا لسؤال بعض الناشطين والناشطات على الأرض في السويداء، وأجمع معظمهم على أن تلك الخطوات التي ينتهجها النظام، لا قيمة لها إذا استمرت سلمية الحراك الشعبيّ، ومن بين هؤلاء الدكتور جمال الشوفي، وهو كاتب وباحث، حيث قال لموقع صالون سوريا: “إنّ هناك عدة مؤشرات حول إرسال التعزيزات العسكريّة في هذه الفترة؛ أوّلها محاولة ترهيب الشارع الشعبيّ في السويداء وخاصة حراكه السلميّ. ما يُعزّز ذلك، هو تناول العديد من الصفحات على الإنترنت، منها تنسب لجهات وشخصيات رسمية، توجيه تهديدات مباشرة للحراك بذاته، ونشر قوائم تصفيات وغيرها. فيما المؤشر الثاني متعلق بالتطورات في الوضع الإقليميّ واحتمال تمدّد العمليات العسكريّة للمنطقة الجنوبيّة، لتخفيف الضغط عن حزب الله في جنوب لبنان. أضف لذلك ملء فراغ محتمل لانسحاب روسيّ من الجنوب السوريّ، وهذا يعزز فكرة مواجهات عسكرية محتملة في المنطقة. كما توجد مؤشرات تأتي من الانتشار شرقاً باتجاه حدود البادية مع الحدود الأردنيّة بما يتعلق بتهريب المخدرات، وهذا لا يمكن البتّ في وضعه، تبعاً لنوع القوات المنتشرة هناك”.

ويضيف د.الشوفي: “يمكن لهذه الاحتمالات؛ سواء بالاغتيالات الفردية أو نشوب معارك جزئية، أن تؤثر على الحراك السلميّ من خلال انجرار الفصائل المحلية له، وانتشار الخوف العام، خاصة إذا تمت هذه التحركات على أيدي العصابات المحلية. هنا من المهم جداً الحذر في التعامل مع هذه السيناريوهات، وإن كان لابد من مجابهة من نوع ما، أن تكون مستقلة عن الحراك السلمي الذي يجب أن يبقى مستمراً ما يتطلب تنظيمه وحمايته. نحن بحاجة لحراك مجتمعي يعمل على تعزيز فكرة الأمان والسلم المجتمعيّ ومنع الاصطدام المحلي وتطويقه إن حصل”.

ويختم د.الشوفي كلامه: “يجب على الحراك أن يُمتّن رصيده وحاضنته المحلية والاجتماعية، وأن يبتعد عن استفزازها في الوقت الحالي، والاستمرار بإصراره على السلميّة والتغيير السياسيّ الوطنيّ والابتعاد عن الدخول في تشابك وتعارض الأجندات السياسية المحلية والإقليميّة والثبات على مطالب مُوَحَّدة وطنياً” بحسب قوله.

فيما ترى المحامية نيرفانا نصر، أن إرسال تلك التعزيزات العسكريّة “ربما يفتح الباب للاستفزاز والمواجهة”. وتؤكد في حديثها لـ”موقع صالون سوريا”: “سينتج عن ذلك مواجهة من نوع ما، وذلك سوف يؤثر على سلميّة الحراك الذي يؤكد على ضرورة التغيير السياسيّ دون عنف، ويعبّر عن مطالبه بشكل راقٍ بعيداً عن الفوضى. ولهذا يحاول الجميع الابتعاد عن العسكرة. ونشهد دوراً كبيراً للمجتمع المدنيّ والنقابات الحرّة كـ”تجمع المحامين الأحرار” وغيرهم في التعبير القانونيّ والحق بالتظاهر. أعتقد أنّ السلطة تحاول تخويف الأهالي بالحشود العسكريّة وإعادة تجارب سابقة كما فعلت ببقية المدن السورية من رمي براميل وتدمير وتهجير” على حد تعبيرها.

من جهة أخرى يؤكد الصحفي مرهف الشاعر أنّ تلك التحركات تحمل نيّات مبطنة تجاه الحراك السلميّ بالدرجة الأولى، والمستمر بشكل يوميّ منذ قرابة التسعة أشهر، خاصة وأن هناك بعض المجموعات المرتبطة أمنيّا أصدرت بياناً أعلنت فيه عزمها “ضبط الوضع الأمنيّ في السويداء من خطف وسلب، وهي ذات المجموعة المُتهمة بأدلة صريحة على ممارسات خطف سابقة ودعمها لمجموعة راجي فلحوط، والذي انتفضت السويداء عليه قبل عامين” بحسب تأكيده.

ويعتقد مرهف أن المشهد حالياً “ضبابيٌّ”، ويجب “الحذر من تكرار التجارب ذات الطابع الدمويّ بحق المدينة لإخماد صوت الانتفاضة، وتلك التجارب قد تقوم بها السلطة بشكل مباشر أو من خلال فتنة داخلية ما، وهو الشغل الشاغل لها على الدوام في السويداء، حيث شهدت المدينة لقاءً لأغلب قياداتها ووجهائها بغض النظر عن اصطفافهم السياسيّ فقد أكّدوا على ضرورة وحدة الصفّ والوقوف في وجه أيّة محاولة للتصعيد أو الضغط العسكريّ”.

ومن وجهة نظر تحليلية على المستوى الإقليمي، يقول مرهف الشاعر لـ “موقع صالون سوريا”: “يبدو أن هذه المؤشرات والحشود رسالة من السلطة بتخليها عن الحليف الإيرانيّ في الجنوب السوريّ بعد الضربات المتكررة التي تلقتها في مواقع عسكريّة من قبل الإسرائيليين، وقد تكون هذه المناورة لإعادة تموضع بحجة حماية الحدود، وأيضاً تكرار سيناريو (داعش) المصطنع في المدينة فيما حذر البعض أن هناك تنازلات من السلطة لصالح إسرائيل والتي لم تصرّح بأيّة مناصرة لـحماس وغزة حفاظاً على الكرسي في دمشق، ما يفتح الاحتمالات على صفقة إقليمية ومساومة قد تكون سُلطة النظام الشريك والمسؤول الأول فيها في منطقة الجنوب السوريّ بدعم وتوجيه روسيّ” بحسب رأيه.

لقد شكّل حراك مدينة السويداء، انتعاشاً سياسياً وتعبيراً واضحاً عن السلمية والرغبة بالتغيير السياسيّ في البلاد، غير أن أساليب العسكرتارية التي تتبعها سلطات النظام في دمشق، أبعد ما تكون عن السلمية، وقد أصبح واضحاً أن ملعبها هو السلاح وابتكار فبركات “الخلايا النائمة” لتبرير سحق المدن التي يحدث فيها أي حراك مدنيّ.

التشكيلية السوريّة يارا عيسى تستلهم الألم السوري

التشكيلية السوريّة يارا عيسى تستلهم الألم السوري

تعملُ التشكيلية السوريّة يارا عيسى (1989) من وحي الألم السوريّ، إنّها تُعيد إنتاج ذاكرة الحياة الضاربة بالحرب واللجوء، تُعيدها بصيغة إنسانيّة، كان لها أثر كبير على حياتها الشخصيّة، كما شعرنا من خلال حديثنا معها. فهي المُتخرجة من كلية الفنون الجميلة عام (2016) جامعة دمشق، والتي عاشت الأحداث السّورية بشكل جوهريّ عبر بوابة العمل الإغاثيّ الإنسانيّ، حتى أواخر العام 2018. واليوم في باريس ضجّت ذاكرتها بآلاف الصور عن سوريا وعن السّوريين وعن الأحداث الرهيبة التي عاشوها، والتي كانت هي جزءاً منها، لم يكن ثمّة طريقة لفهمها ومواجهتها على ما يبدو سوى بالفن.

بالنسبة لـيارا التي تجمّع تلك المرايا المكسورة في داخلها، هناك اقتراحات جديدة تقدمها للعالم، وهذا الحوار فيه محاولة مشتركة بيننا وبينها لقراءة أعمالها ومواكبة تجربتها التي تحضّر فيها حالياً لإطلاق أعمال فنية ضمن معرض مقبل في فرنسا:

هل تلخّصين لنا ما هي هذه التجربة؟ متى سوف تكتمل؟ ومتى من المحتمل أن تظهر للضوء؟ هل سيكون لها امتدادات على مستوى الأسلوب ومعالجة الفكرة؟

يارا: اسم التجربة التي أعمل عليها حالياً هي “الأزرق لم يعد آمناً بعد الآن” (The Blue is not save any more). من المحتمل أن تكتمل خلال هذا العام وأن تظهر قريباً للضوء. بعد البدء ها هنا، أشعر أنّني أكتشف عوالمَ وتقنيات أخرى، وبالتالي أعتقد أنّ هذه التجربة بالنسبة لي ماتزال غنية بالمساحات المليئة بالحرية على مستوى الفكرة.

شعرت أنّ الجسد في معظم أعمالك هنا يعيش في ضجيج مشّوش من التفاصيل، هناك مجموعة من الأجساد؛ هي لأشخاص بأعمار متفاوتة، على وجه التحديد: في أحد أعمالك يبدو بأنهم قد سجوا على بحر أو سماء أو أزرق ما تتركينه أمامنا لاحتمالات إنسانية تجعلنا نرى الأجساد كأنها ذكرى، ترى من هؤلاء؟ ولماذا يجتمعون بهذا الحزن؟ 

يارا: السّماء والبحر هما فسحتان مليئتان بالتناقضات؛ الأمل والموت، الحبّ والحرب، القُرب والبُعد، المنفى والوطن، الأمان والخوف، الوجود والعدم. كلّها تناقضات جمعتها تلك المساحات الزرقاء والتي منذ أن بدأت الحرب في سوريا عام (2011)، تحوّلت تلك المساحة إلى فضاءات غير آمنة للسوريين. اكتظت السّماء بالدخان، والبحر قام بابتلاع المئات. وصرنا نستطيع استشعار الخطر في أيّة جملة تتضمن كلمات كالبحر والسّماء، على الرغم من أن تلك المساحات الزرقاء كانت مدعاةً للسلام. أمّا فيما يتعلق بأعمار الشخوص التي تقدمها أغلب الأعمال، فقد حاولت أن أنقل جميع الفئات العمريّة من الأمان إلى العدم، فالحرب في مساحاتها لم ترحم حتّى الأطفال أو الرضّع.

إذاً، نحن أمام مواجهة فنيّة لأمكنةٍ غيّرت إلى حدٍّ ما دلالاتها بسبب الحرب في سوريا، هل نعتبر أنّك تقترحين المواجهة مع الذاكرة من أجل التحرّر من الألم الجمعيّ أم ماذا؟

يارا: يمكنك أن تعتبر هذه الأعمال توثيقاً للذاكرةِ العاطفيّةِ ضمن تشكيلاتٍ لونيّة وسياق عمل فنيّ مُتصل يسمح لنا بالتخيل والمشاهدة العاطفية عن بعد. وكأنّنا ننظر من السّماء إلى البحر، أو من البحر إلى السماء لنجد أنفسنا نخوض تلك التجربة العاطفيّة مع أبطال هذه الأعمال الذين لم يمتلكوا كثيراً من الخيارات؛ فإمّا الموت بفعل القنابل تحت السّماء أو الغرق في البحر طمعاً بالنجاة. إنّ هذه الشخوص والإيحاءات التعبيريّة؛ سواء في ملامح الوجوه أو في تعبيراتِ الجسد، ما هي إلا محاولة لإيصال التناقضات العاطفيّة والتي كوّنت بدورها هذا المزيج بين الحزن، والفرح، والأمل، والخيبة! سوف نرى هذه الحالات العاطفيّة تتوارى وتظهر لنا على اللوحة من خلال تداخل الألوان والخطوط، وانتهاكها في بعض الأحيان خصوصية الأزرق لتعطيه طاقة انفعاليّة وردَّ فعل قاسياً وعاطفياً، وانعكاسُ ردّ الفعل على الجمهور كما المرايا المكسورة المُعاد تشكيلها إذاً هو توثيق وانعكاس لعواطفنا نحن من عانينا من الحرب.

لاحظنا تقارباً في تكون بعض الأعمال لجهة التشكيل الأول لهويتها، والذي ما يلبث أن يقدم ذلك التشكيل انزياحاً لولادات غريبة في ذات العمل، إلى أيّة درجة نستطيع القول إنك تعودين لأعمالك تبعاً لظروف ما، من أجل وضع لمسة أخرى عليها.. ومتى تشعرين أن العمل قد تشكل تماماً؟

يارا: التقارب هو بسبب وحدة الحالة العاطفيّة التي تجمع هذه الأعمال، إنّها حالات عاطفية مستوحاة من معاناتنا كأناس من الحرب، ومستوحاة من تجربتي الشخصيّة على اعتبار أنّني بقيت في سوريا حتى منتصف عام (2019)، وقد كُنت على تماس مباشر مع الأحداث والنزاعات على الأرض، أضف إلى أن ذلك ينبع -أيضاً من كوني سورية في الدرجة الأولى وعملتُ مع المنظمات الحقوقيّة والإنسانيّة هناك. بالنسبة لنضوج العمل الفني، أعتقد أنّه يتطلب وقتاً وممارسة طويلة الأمد، وتلك الممارسة توحّد بين الحالة العاطفية من جهة، وحالة العمل من جهة أخرى، وفي كلّ مرة؛ دائماً أجد بأن هناك نتائج أفضل.

ما المقصود “بأنك تجدين أن هناك دائماً نتائج أفضل في كل مرة”! هل تعنين مثلاً التعديلات التي تشعرين أنها لازمة لتكون النتيجة أفضل في لوحة جديدة لنفس الموضوعة، أم القصد هو أنه في كلّ عمل جديد تشعرين بأنّ نتيجة الفكر، ككل، أفضل، بما أنّ الموضوع مشترك في أفكار اللوحات حسب ما رأينا؟ 

يارا: الفن بالنسبة لي عمل تراكميّ، لا يوجد هناك نتيجة مُثلى، لأن العمل الفنيّ يسعى دائماً للكمال، والفنان يفني حياته في محاولة إنتاج عمل فنيّ أفضل أو أنضج.. إلخ، ليرتقي إلى الكمال، وهذه العملية هي من تُعطي الفنّ قيمته الخلّاقة، والإبداع الذي يرافق هذه المحاولات هو من يمنح هذه الأعمال رونقها الخاص، لأنّ هذه العملية تمنح الفنان خصوصيته وبصمته التي استمدها من هذه التجربة. أسعى مع كلّ عمل جديد إلى الارتقاء بالعمل والحصول على نتيجة أفضل لذلك أبذل في كلّ مرة جهداً مضاعفاً. وكلّ مرّة أشعر بأن العمل الفنيّ يأخذني إلى أماكن أعمق، لذلك أشعر دائماً أن هناك نتيجة أفضل. أتوقف عندما يجب أن أتوقف وأنهي العمل ليس لأنّه وصل لأفضل شكل، بل لأن هذه الخطوة انتهت.

لاحظنا أن هناك كائنات غريبة تشبه الأسماك أو لها أجساد حيوانات تمشي على أربع قوائم، وهي متداخلة بطريقة سوريالية مع بعضها في أحد أعمالك، هل يمكن أن يشرح الفنان فكرته إلى جانب عمله بجملة أو جملتين؟ هل هي ضرورة برأيك ولماذا؟ 

يارا: بالطبع، أعتقدأنّها ليست ضرورة، ولكن، هذا يعود إلى خصوصيّة العمل الفنيّة والهدف منه، لنبدأ من توقيع الفنان على اللّوحة، ووضعه لتاريخ العمل، وهذا يفيد في تحديد الحقبة الزمنيّة التي أتمّ بها الفنان هذا العمل. أو قد نرى أحياناً العديد من الأعمال التي تحمل عناوين تدلّ على الأحداث التي ترافقها، مثل تلك الأعمال الملحميّة للمعارك عبر التاريخ، أو تلك الأعمال التي تهدف إلى تسليط الضوء على قضايا إنسانية… إلخ، فخصوصية العمل الفني تختلف وأهدافه قد تكون مختلفة. برأيي الشخصي لا أفضّل الأعمال التي توضع بجانبها ملاحظات، أحبّ التأمل وأن أعيش تجربتي الشخصية مع العمل، دون أن ألجأ إلى الملاحظات المنوطة بجانبه، مع الأخذ بعين الاعتبار تجربة الفنان والخلاصة التي يطرحها أمامنا.

إذاً أنت تراهنين على المتلقي وعلى ثقافته في فهم الأعمال الفنية والتواصل معها وتتركين له حرية فهم العمل، ترى كيف تفكرين بهذا الجانب عندما ما تختارين موضوعاً راهناً لازال يتغير مثل الحدث السوريّ؛ خصوصاً وأنّك تتوجهين لمجتمع متنوع مثل المجتمع الفرنسي؟

يارا: ضمن هذه التجربة تحديداً أعتمد بصورة عامة على ذاكرة المتلقي، على وجه الخصوص المتلقي الذي لديه ذاكرة لجوء أو حرب، أو على أشخاص تهتم إنسانيتهم بهذه القضايا، أو لربما من يستطيع أن يشعر بهذه الانفعالات اللونية على اللوحة. أما فيما يتعلق بالأعمال الفنية القادمة؛ لربما سوف أتجه إلى مفاهيم أكثر شمولية كالخوف والدهشة والألم كي أستطيع أن أصل إلى العالم في كل مكان. لقد عانينا فعلياً من الحرب، ولكن الكوارث والحروب والنزاعات بكلّ أنواعها موجودة في كلّ مكان، لربما المفاهيم الأكثر شمولية هي الأقوى والأبقى والأكثر تأثيراً ولها شعور جمعيّ؛ تخاطب أكبر شريحة ممكنة من الناس، في المحصلة يرغب الفنان أن يعبّر عن ذاته!

*الصور المرفقة بعدسة المصور: أنس علي

سأختار المضحك فقط

سأختار المضحك فقط

لا بدَّ في مواقف الحزن القصوى، كمجمع عزاءٍ مثلاً، من وقوع حوادث مضحكة، لا يملك المرء فيها إلا أن يستسلم للضحك بعد مكابدة طويلة. للأسف، أو ربما لحسن الحظ، تنفلت الضحكة عاليًا في النهاية ويحدث ما كنا نخافه. الأمر ذاته في الحروب والأزمات الكبرى، خصوصًا في المرحلة التي تلي الحرب، لا بد لمواقف مشابهة من أن تحدث، أو بمعنى أدق، من أن تتوالد. وهل ثمة ما هو أحق من جراحنا الشخصية كي نضحك عليه!

بعد مضي نحو ثلاثة عشر عامًا على الحرب السورية، بكل ما جرّته على شعبها من تشرد وفقر واغتراب، لا تزال تتجلى إلى اليوم، مخلّفات تلك الأزمة بأشكالٍ عدّة. سأختار منها المضحك فقط، تخفيفًا عن الجميع، تاركةً لغيري الحديث عن القهر والأسى. علمًا أن ما سيُذكر مبكي في جوهره، على غرار ما قاله المتنبي: ” لا تحسبنّ رقصي بينكم طربًا، فالطير يرقص مذبوحًا من شدة الألمِ”.

دَعَوات مبتكرة

لا غريب أن المنتَج الأساس في الحروب كلها، مشردون يجوبون الطرقات ويفترشونها. إما ضاقت بهم السبل، أو استسهالًا، لا فرق، إلا أنهم يلجؤون إلى التسول طريقةً يكسبون بها لقمة العيش، ما جعل التمييز بين المحتاج وغيره أمرًا صعبًا. وفي غياب وجود إحصائيات رسمية لأعداد المتسولين في سورية، نعتمد على “حسّنا العالي” في تقدير العدد الآخذ في ازدياد، وفي كشف المتسول المحق من المتسول الكذّاب. ما أثار اهتمامي أكثر من العدد المهول، هو الأسلوب المبتكر للفت الانتباه. بات المتسول على علمٍ بدواخلك وأمنياتك، فهو في النهاية من الشعب، وإلى الشعب يعود. فإذ به يلعب على هذا الجانب، يدغدغ فيك رغباتك الدفينة وأسرارك الخفية التي لا تبوح بها حتى لنفسك.

منذ أيام، اقترب مني أحد أفراد هذه الجماعة، وأصرُّ على تسميتهم جماعة، لأني أكاد أجزم بوجود تنظيم سري لهم، يجتمعون ويتباحثون في شؤون المواطن ونقاط ضعفه والكلمات المفتاحية التي تحرك مشاعره. اقترب وقال: “الله يسفّرك”! نظرت إليه بذهول، كيف تحولت تلك الدعوات من “الله يخليلك أهلك” وما إلى ذلك، إلى “الله يسفّرك”!

مرة أخرى قالت لي إحداهن: “الله يبعتلك نصيبك عَ ألمانيا أو عَ دبي” ما كان مني سوى أن أضحك أمام هذه الابتزازات العاطفية. وللصدفة كان صديقي المغترب معي، وحين جاء دوره في الدعوات، لم تفلح معه دعوة “الله يسفّرك” التي سبق وتحققت. واعترف لها، لسوء حظه، أنه في زيارة. طمعت الأخت بمال المغترب الذي كان، لكنها لم تحصّل في النهاية سوى خمسة آلاف ليرة سورية، متأففة أن ما نالته أقل من نصف دولار!

زواج بيرفع الراس

من تداعيات الحروب أيضا، كثرة الزيجات. ولكن هل كل الزيجات زيجات! اختلفت معايير الزوج المثالي مع تفاقم الأزمة. لدرجة أصبحت فيها المزية الأساسية للزوج، اغترابه. وكلما كانت سنوات اغترابه أكثر، كلما كان أفضل، إذ إنه سيحمل جنسية البلد الحاضن، أي على مبدأ النبيذ المعتق.

الاسم لا يهم، وكذلك العمر والحالة الاجتماعية والمهنة، هذه أمور ثانوية نسأل عنها لاحقًا، لدرجة بتنا نقول: “زوّجنا البنت ع ألمانيا” أو “الشب كتير أكابر، ما عاد نذكر من أي عيلة، بس عَ كندا”.

ليت الأمور توقفت عند هذا الحد. صار معيار تقييم نجاح الأنثى في العلاقات، المسافة التي تقطعها كي تلتقي بالزوج. وكأننا في ماراثون، الفائزة ليست الأسرع، إذ ليس من خط نهاية نصل إليه ونقطع الشريط، بل من تبتعد أكثر. وبذلك، توفَّر للفتيات أسلوب مفاخرة جديد، إذ قالت لي إحداهن: “والله إجاني عريس ع هولندا، حركيلنا حالك، مانك شاطرة”.

ومنذ ذلك الوقت، وأنا أبحث عن الحركات التي فعلتها تلك المحظوظات المسافرات القاطعات مسافات، دون جدوى. انتسبت مؤخرًا إلى نادي رياضي، علّني أزيد من لياقتي وأدخل السباق. لكنّي أخاف أن أتحمس كعادتي، فأستمر في الركض وأصل إلى القطب الجنوبي. لا أعتقد أن ثمة مغتربين هناك!

الألمانية هي اللغة الأم

سألت صديقي عن زميلٍ لنا إن كان يتعلّم الألمانية حقًا! أجابني: “شو الغريب؟ أبو حسن الخضرجي عنا بالحارة عم يتعلم ألماني”. أينما تحركت وكيفما التفتت، في المقهى والشارع والسينما وحتى في أثناء نومك، هناك من يتعلم الألمانية. باتت لغة العصر. قد يبدو الأمر مبهجًا ومدعاة فخر. لغة جديدة تعني ثقافة جديدة. لكن الأمر ليس كذلك أبدًا.

حين كنت في معهد اللغة الألمانية منذ سنتين، اقتصر تعلّم بعضهن اللغة على الأساسيات، بحجة أن “لَمْ الشمل” لا يتطلّب أعلى من المستوى الأدنى! تفاجأت بجرأة بعضهن. اللغة صعبة وليست أمرًا يؤخذ استسهالًا. ستقولون لي: تعلمتِ اللغة إذًا!

وهنا موضوع آخر، أصبح تعلُّم اللغة محط شك، وخصوصا بالنسبة للفتاة. إذ يوحي بوجود عريس محتمَل، أما الدراسة سعيًا خلف فرصةٍ ما، لهو أمر مستبعد! يبدو أنه مستبعد حقًا. دليل أنني في سوريا الآن أكتب ما أكتبه وبلغتي الأم التي أحب.

اقتصاد ملون جديد

مع انهيار العملة السورية، انهار الشعب والبلد. بينما ازدهر المغترب وأبو المغترب وأم المغترب وأخوات المغترب! غدت حياة كل هؤلاء معلّقة إلى سعر الأحمر والأخضر. يأملون أن ترتفع قيمته دون اكتراث لقيمة الليرة، إضافة إلى أن هبوطه لن يسهم في خفض أسعار السلع التي تعرف طريقًا واحدًا فقط، لا تسلك سواه، صعودًا وبسرعة قياسية.

أُضيف إلى طابور البنزين والخبز، وصفد البيض في المؤسسة الاستهلاكية، طابورٌ آخر، هو طابور الحوالات المالية، عدا عن تلك الطوابير الخامسة المخفية في الأزقة وعتمة الطرقات.

ولدت كذلك شيفرة جديدة بين أبناء الشعب، إذ نقول: “بدك تبيع أو تشتري، بندورة ولا خيار؟” في إشارة إلى العملات الصعبة. حتى انقلب الأمر الذي بدأ مزحة، أزمة وجودية. فالخيار والبندورة في الواقع، يحتاجان إلى قرض كي تبتاعهما!

تحويل الأزمات إلى نكات

يقال إنه متى كَثُر الكلام المضحك وقت الكوارث فإنها كارثة أكبر. لكن ما الذي نملكه أمام هذه الكوميديا البشرية سوى أن نضحك! هل تنفع الشكوى! إذًا لا بد من تحويل أزماتنا إلى نكات، والأكثر من ذلك توثيقها. فهي إرثنا المتجدد والمتحوّل بتحولنا. قد تكون هذه المواقف المضحكة المبكية، في جزءٍ منها، من يوميات المواطن السوري عامةً، ويومياتي أنا، ابنة اللاذقية خاصةً، أو لنقل ابنة “الحفرة السعيدة” كما يسميها أحد مثقفي اللاذقية. حتى مثقفونا باتوا يضحَكون ويُضحِكون. “الحفرة السعيدة”! يبدو أننا في حفرة فعلًا، ضحكنا أم بكينا، سيرتد الصدى ويصم آذاننا عن سماع أصوات العالم، ويحجب ضوضاءنا عنه.