عن ذاكرة المونديال في سورية

عن ذاكرة المونديال في سورية

لمونديال كأس العالم ذاكرة خصبة عند أغلب الشعوب، تكتظ بذكريات أحداثٍ فريدةٍ وحكاياتٍ شاسعةٍ وتفاصيل قصصٍ ملوَّنة ومفرحة واكبت مشاهدة تلك الشعوب للمونديالات التي عايشتها. قد تتشابه ذاكرة السوريين مع سواها ولكنها تختلف بعض الشيء، فكثيرٌ ما تقتحمها ذكريات أخرى تعيدهم إلى وقائع وأحداث مؤلمة ومريرة عاشوها في مراحل مختلفة من حياتهم، إذ قلما تخلو ذكريات مونديالٍ من استحضار بعض المنغصات والمصاعب والمتاعب التي واكبت أحداث الاحتفال به.

2002 مونديال الفقر والتسكع

كنا طلبة جامعيين، وكمعظم الشباب في سورية يحاصرنا شبح البطالة وانعدام فرص العمل، نحصل على قوت يومنا بشق الأنفس وبالكاد نتدبر أجور المواصلات، أن تملك عملاً في ذلك الوقت هو أمرٌ نادرٌ يجعلك من المحظوظين. كنت حينها أسكن غرفةً متواضعةً تحولت إلى فندقٍ للأصدقاء الغارقين في مستنقع العوز والحاجة، الضياع والخوف من الغد المجهول، في رحلة بحثهم عن فرَجٍ ومأوىً ما.

أطلَّ مونديال كأس العالم في ظروفٍ ماديةٍ ومعنويةٍ يرثى لها، طالت جميع الأصدقاء، إنه العرس العالمي الذي نعشقه وننتظره، ولكن كيف سنشارك فيه، أينَ سنحضره وكيف؟ لم تعد حقوق البث آنذاك متاحة للجميع كحال ما سبق مونديال 2002، فقد احتكرتها المحطات الرياضية المأجورة، ما الحل إذاً؟ إما أن نرتاد المقاهي التي اشترت خدمة قناة الجزيرة الرياضية أو أن نشترك بخدمة تلك القناة وهما خياران بعيدا المنال، يحتاج كلٌّ منهما إلى مبالغ كبيرة لا يمكننا جمعها مهما تعاونّا.

تنبعث أصوات المباريات من المقاهي والمنتزهات والشوارع، تستنفر آذاننا، تمتلئ أعيننا بالشغف لرؤية شاشات العرض، تتقافز أرواحنا نحو الأصوات، ولكن فقر الحال كان يلجم رغباتنا، فأمثالنا يحتاجون معجزةً ماليةً للاحتفال برياضةٍ عُرفت تاريخياً بأنها “رياضة الفقراء”، إذ أن حضور مباراةٍ في أرخصِ مقهى يكلِّف آنذاك ما بين مائة وخمسين ومئتين ليرة( ٣ أو ٤ دولارات) وهو مبلغ كان يؤمن لنا طعام يومين أو ثلاثة. احتال بعض الأصدقاء على الأمر وعملوا كندلاءَ وعمال مطبخٍ في بعض المقاهي لتتسنى لهم فرصة متابعة المونديال.

أسمينا ذلك المونديال “مونديال التسكع”، قاومنا الواقع وتحدينا الفقر والظروف القاهرة لنقتنص أي فرصةٍ لمتابعة أحداث المباريات، فنجحنا في مشاهدة معظمها وقوفاً على الأقدام، بالنّظر خلسةً من الشوارع الى شاشات المقاهي، أو باستراق النظر من بعيدٍ إلى شاشات العرض الكبيرة في بعض المنتزهات.  

لقد كان مونديالاً درامياً مؤثراً مع مشاهد تجمهُر مئات الفقراء خلف أسوار المقاهي والمنتزهات ليحظوا بشيءٍ من المتعة الممزوجة بطعم الألم. إنه شعبٌ يستحق الحياة لكنه لا يعيشها إلا بدفع أثمانٍ باهظة وبتقديم تضحياتٍ كبيرة. أذكر أن بعض الأصدقاء تابعوا معظم المباريات من خلف سور حديقة معرض دمشق الدولي القديم، وكان لي نصيبٌ من تلك المشاهدات التي ستحفر في الذاكرة مع رائحة التبغ الرخيص وطعم الشاي البارد.

ولعل النور الحقيقي الوحيد في ذلك المونديال قد انبلج في مباريات الدوري النهائي، بعد أن تمكنتُ وصديقي من استدانة بعض نقودٍ أدخلتنا إلى المقهى كفاتحين مختالين بالانتصار. كان عرساً حقيقياً، أن تحتفل بعد تعبٍ ومشقة، وأنت مسترخٍ على كرسيك، تشرب قهوتك بنشوة، وتسترق لحظات من فرحٍ عالمي، في بلادٍ الفرح فيها مدفوع الثمن والثمن في الغالب معدوم.

2010 مونديال الاحتفال الأخير

لم يتغير وضعنا الاقتصادي كثيراً عن السنوات الماضية، وظروف العمل والسكن والاستقرار على حالها. لكن القدر ابتسم لنا في ذلك المونديال، نعم، إنها نعمة الأصدقاء، زاد حياتنا وبلسم جراحنا. وهبتنا السماء هديةً ثمينة، فصديقنا الذي استثمر مقهىً، بعد جمع المال من أقاربه وأخوته المغتربين، قدم لنا دعوةً مفتوحةً وشبه مجانية لمتابعة المونديال، فبرأيه الرّبح هو لمّة الأصدقاء على الفرح والمودة، وهكذا جعل من مقهاه بيتاً حميمياً دافئاً وحضناً للمحبة وملتقى للتواصل والبهجة.  

كنا ثلّةً من عشرين شخصاً، نرتاد المكان بشكلٍ شبه يومي، وسط أجواء من الألفة والمرح والفكاهة وبعض المناكفات. تتوزع الأعلام على الطاولات، تتزيَّن الوجوه بالرسوم، تلتف الرؤوس والمعاصم بأعلام الفرق المفضلة، تعلو الهتافات والضحكات الرنانة، وتدور الرهانات على الفرق التي ستفوز، هكذا تُعاش أجواء المونديال حقاً وهكذا يكون تفاعل الجمهور. إنه عرسٌ للفرح والجمال في مكانٍ يُشعرك بالاطمئنان والدفء، ويذكرك بالوجه الجميل لدمشق الحنونة العطوفة ويكشف الضوء الناصع للسوريين الذين يتقنون الحياة ويخلقون لها كرنفالات ساحرة.

لم تكن أحداث المونديال هي مصدر فرحنا الوحيد، الفرح الحقيقي كان يأتي من روح المكان العابق بالحياة ومن نبض الأصدقاء ومهرجان الحب الذي نصنعه معاً. لقد كنا عائلة واحدة، نتقاسم ما نملك من نقود وسجائر، نتنقل بين طاولاتنا ليتواصل الكل مع الكل. أطباق طعام شهية، حضرت من المنازل إلى المقهى ليتناولها الجميع، زجاجات خمرٍ فاخرة، كانت مخبئة لمناسباتٍ خاصةٍ، فحضرت إلى طاولاتنا لنشرب نخب تناغمنا الفريد.

تفاصيلٌ وذكرياتٌ لا يمكن حصرها من مونديالٍ بقي حتى اليوم المونديال الأجمل في حياتي، وربما كانت الحياة كريمة معنا في ذلك الحين، بل يبدو أنها أهدتنا حصصنا من الفرح سلفاً، لأنها كانت تعلم أن مونديال 2010 سيكون الأخير لنا معاً، لذا كان كرمها ذاك ومحبتها تلك نوعاً من الشفقة، إذ ستبخل علينا فيما بعد بكل شيء وستعاقبنا في قادم الأيام فتفرق شملنا وتلقي بكل منا إلى مصيرٍ تراجيدي مؤلمٍ، بين معتقل ومفقود، مهاجر ولاجئ، نازح ومحاصر. فقد أصبحت البلاد ملعباً تخاض فيه مباريات كثيرة في مونديالٍ سياسيٍ دموي، ويتحول الجمهور إلى كراتٍ تتقاذفها الأقدام المتصارعة كلٌ حسب مرمى مصالحه.

2014 مونديال الكهرباء

أصوات الحرب تدوي وخارطة المعارك تتسع لتلتهم مساحاتٍ جديدة من حياتنا، معظم أصدقاء المونديال السابق تفرقوا في أصقاع الأرض هرباً من الرعب والموت، أملأ فراغ غيابهم بحضور قِلّةٍ من الأصدقاء الجدد، نقاوم معاً قبح الحرب وسطوتها. حسناً، سأتابع هذا المونديال بصحبة ثلاثة منهم، جمعنا عشق الكرة وحب الحياة.

قبل أيامٍ من انطلاقة المونديال، بدأ الشغف والحماس يدخلان قلوبَنا لينسيانا مرارة الواقع وجحيم الحرب والقذائف. قرّرنا أن ندير ظهورنا للقذائف ونحتفل بالحدث الرياضي العالمي رغم أنف الموت. وكأنَّ قانون الجذب الذي يتحدّثون عنه في علوم الطّاقة أضحى حقيقة، فها هو القدر يقدّم لنا مفاجأةً مدهشة (قناة”هوا” الأرضية التي تنقل المونديال مجاناً)، بإمكاننا الآن متابعته باسترخاءٍ في بيوتنا ضمن أجوائنا الاحتفالية، ولا حاجة لارتياد المقاهي وتحمل أعباء تكاليفها التي تضاعفت عن السنوات الماضية.

خرجنا من نفق الحرب قليلاً وحلَّقنا مع أفراح شعوب العالم لنتذكر أننا بشر على قيد الحياة، دخلنا أجواء المونديال بكل ما أوتينا من لهفةٍ وإشراق، ولكن مزاج الحرب المتقلب أزعجه ذلك، فما إن بدأت أحداث المباريات الأولى حتى قتل أفراحنا وأجهض حماسنا، وهذه المرة عبر سلاح الكهرباء، التي عادت إلى الانقطاع شبه المستمر بحجة التقنين، لتحضر ساعتين وتغيب أربعاً.

ولأن سقف أحلامنا منخفضٌ جداً، واسينا أنفسنا بأننا محظوظون لأن خطة التقنين تختلف من حيٍ لآخر؛ فبدأنا نتتبَّع ساعتي حضور الكهرباء من مكان إلى آخر، لنحضر الشوط الأول في حيٍ والشوط الثاني في حيٍ آخر، وأحياناً نضطر إلى نقل التلفاز معنا إلى بعض البيوت. لكن سياسة التقنين صارت تتغير على نحوٍ مفاجئٍ لتعرقل خطتنا وتُضيِّع وجهتنا، فنركض كالعدائين لنبدل أماكننا لاهثين خلف الفرح المسروق. وفي حالاتٍ كثيرة كنا لا نوفق في متابعة مبارياتٍ كاملة حين لا يلتقي موعد نقلها مع موعد الكهرباء فنتمكن من حضور شوطٍ واحدٍ، وأحياناً يخذلنا مزاج الكهرباء في الربع الأخير من المباراة فنهرع الى أقرب مقهى أو نتطفل على الشاشات التي يمكن استراق النظر اليها من الشارع لمتابعة اللحظات الأخيرة من مباراةٍ حاسمة.

لقد خضنا مباراة طويلة وشاقة مع الكهرباء التي أتقنت فن المراوغة وتعمدت قهرنا واستفزازنا واللعب بأعصابنا، فحتى خلال ساعتي حضورها، كانت غالباً وبشكلٍ متكرر تنقطع لدقائق ثم تعود، لتضيع علينا مشاهدة هجمةٍ كرويةٍ حاسمة أو هدفٍ جميل، فتعلو صيحات الشتائم والتذمر بدل صيحات الفرح والتفاعل، ليبقى السؤال المؤلم والمعذِّب يلح كل يوم، لماذا لم يرتب موعد الكهرباء مع موعد المباريات؟

ربما لفتح الباب أمام تجار الحرب الذين وجدوا خلال المونديال سوقاً مربحة لتسويق مولدات الكهرباء، التي كان شراؤها حكراً على الأثرياء وميسوري الحال، بينما وقف الفقراء خارج المعادلة، إذ لا يحق لهم أن يفرحوا ويحتفلوا، وربما نسي بعضهم المونديال أصلاً بعد أن غرقوا في زحمة حياتهم اليومية المضنية، فلا وقت لديهم لتشغيل التلفازات التي توقفت عن العمل في تلك المرحلة لأن ساعات الكهرباء الشحيحة لا يمكن إضاعتها في أمورٍ صارت من الترف والكماليات، ثمة أمور كهربائية أساسية أهم وألح من تشغيل التلفاز، كتشغيل الغسالة والمكنسة والمكواة والفرن وغيرهم. كما أن بعض أرباب الأسر قد نسوا شكل التلفاز وهم يركضون خلف تأمين لقمة العيش، وخاصة أصحاب الحرف والمهن التي تحتاج إلى وجود الكهرباء، إذ باتوا يرتبون أعمالهم وفقاً لأهوائها التي تتحكم في مواعيد نومهم وزياراتهم وأفراحهم.

لقد خاض السوريون في ذلك العام مونديالاً خاصاً كان خصمهم فيه هو الحرب وأبناؤها: الموت والخوف، الكهرباء ومأساة الواقع اليومي وما شابه. ولو أن العالم كان عادلاً وإنسانياً لمنحهم لقب الفوز على الواقع وقدم لهم كأس الحياة.

2018 مونديال الفقد والوحدة

الكهرباء متوفرة إلى حدٍ ما والمونديال منقول على بعض القنوات الأرضية. لكن بريقه قد خفت في عيون الكثيرين، الحماس بردَ والفرح تعب في قلوب أغلب متابعيه، لقد أرهقتنا سنوات الحرب، وقتلت أشياء جميلة في أرواحنا، فلا يكاد بيت في سورية يخلو من جرح أوغصة أو مأساة. تابع معظم السوريين المونديال في بيوتهم، شلَّت الحرب والظروف الاقتصادية المتردية شغفهم ورغبتهم بالتنزه والاحتفال وانطفأ وهج الاحتفال الكروي في المقاهي والمنتزهات التي كانت فيما مضى وجها للتفاعل ومهرجاناً للفرح.

بالنّسبة للشباب المدمنين على متابعة الفعاليات الكروية في المقاهي، فقد انكفأ معظمهم عن إدمانهم هذا وصاروا يرونه بعين الخوف والريبة، فالمقاهي المكتظة، عادةً، بالشبان، تحوّلت في المرحلة الأخيرة إلى مصيدةٍ للإيقاع بالمطلوبين للخدمة العسكرية الإلزامية والاحتياطية، وتسليمهم كصيدٍ سهلٍ للدوريات الأمنية ليتم سحبهم الى المعارك من أماكن جلوسهم أو أثناء خروجهم من الأبواب. فضّل أغلب أولئك الشّباب ملازمةَ بيوتهم مرغمين ليشاهدوا المباريات دون شغفٍ أو حماس.

تابعتُ أغلب مباريات هذا المونديال وحيداً في منزلي. لم أزر أي مقهى، فجميع المقاهي ستغدو كئيبة وموحشة بدون أصدقاء المونديالات السابقة الذين لم يبق أحد منهم في دمشق. ومن تبقى من أصدقاء في الداخل يجمعني بهم عشق الكرة كانوا مبعثرين في البلاد، سجناء مدنهم وقراهم أو حتى حاراتهم وبيوتهم، تقطعت سبل اللقاء بيننا لأسبابٍ شتى من بينها الانشغال في هموم الحياة اليومية والخوف من القادم وصعوبة التنقل بسبب رهاب عبور الحواجز وأيضاً بسبب انعدام آفاق الفرح وتعطل طاقات الحياة.

لقد كانت متعة مشاهدة هذا المونديال منقوصة بل ومؤلمة، تكشف حجم الفراغ الذي خلَّفه الأصدقاء. كل مشاهدة تفتح لي جرحاً وتستنهض ذكرى أصدقاء غائبين. أصوات المعلقين، أداء اللاعبين، كل تفصيل يُذكرني بهم، وبطقوسٍ ومواقف كانت تجمعنا في سابق الأيام. فِرَقٌ تذكرني بمن غادروا البلاد مرغمين وبآخرين مفقودين أو معتقلين منذ سنوات، مبارياتٌ تذكرني بأصدقاء اقتيدوا من الحواجز إلى الخدمة العسكرية ليخوضوا مونديال المعارك على الجبهات وبآخرين ماتوا جراء القذائف وبطش الحرب. أسمع أصواتهم بقربي وهتافاتهم وضحكاتهم. أشاهد التلفاز وأتصفح الفيسبوك في ذات الوقت لأتمكن من التفاعل مع الأحياء منهم، اللعنة على القدر والمسافة، لقد أصبح التفاعل الكترونياً والفرح مصطنعاً ومعلَّباً، وتحولت مهرجاناتنا واحتفالاتنا الواقعية النابضة بالروح والحياة إلى مجرد كلماتٍ وتعابير متكلفة ومقتضبة، ننثرها عبر منصات التواصل الاجتماعي، تحمل عبارات الشوق والتمني وأدعية اللقاء والابتهال لمونديال 2022 علّه يكون مونديال اللقاء والاحتفال بالفرج.

سوريا في أسبوع، ١٦ تموز

سوريا في أسبوع، ١٦ تموز

سوريا بين ترامب وبوتين
١٦ تموز/يوليو

أعرب الرئيس الأميركي دونالد ترامب الاثنين عن أمله في تحسين التعاون بين بلاده وروسيا في سوريا.

وفي أعقاب القمة التي عقدها مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين، قال ترامب في المؤتمر الصحفي المشترك في هلسنكي إن الجانبين لديهما القدرة على إنقاذ حياة آلاف الناس في الحرب الأهلية الدائرة هناك. وأضاف ترامب أنه لا ينبغي السماح لإيران بأن تستفيد من الحملة الناجحة على تنظيم “داعش”.

ولم يشر ترامب وبوتين إلى “بيان جنيف” أو القرار 2254، بل جرى التركيز على “أمن إسرائيل” والمساعدات الإنسانية وتخفيف مستوى العنف.

غارة على إيران
١٥ تموز/يوليو

أعلنت وكالة الأنباء السورية الرسمية (سانا) أن إسرائيل قصفت مساء الأحد موقعا عسكريا للنظام السوري في ريف حلب الشرقي في شمال البلاد.

وقالت سانا نقلا عن مصدر عسكري لم تسمّه إن “العدو الصهيوني (…) يستهدف بصواريخه أحد مواقعنا العسكرية شمال مطار النيرب وقد اقتصرت الأضرار على الماديات.”

من جهته، قال المرصد السوري لحقوق الإنسان إنه رصد مساء الأحد سلسلة انفجارات في “منطقة مطار النيرب العسكري الخاضع لسيطرة قوات النظام والمسلحين الموالين لها في أطراف مدينة حلب.”

وأضاف المرصد أن الانفجارات “تبيّن أنها ناجمة عن استهداف صاروخي يرجّح أنه إسرائيلي استهدف مواقع لقوات النظام والمسلحين الموالين لها في مطار النيرب العسكري وأطرافه.”

ومنذ بدء النزاع في سوريا عام 2011، قصفت إسرائيل مراراً أهدافاً عسكرية للجيش السوري أو أخرى لحزب الله في سوريا. واستهدف القصف الإسرائيلي مؤخراً أهدافاً إيرانية.

درعا على خط التهجير
١٥ تموز/يوليو

بدأ مقاتلو الفصائل المعارضة وعائلاتهم الأحد الخروج من مدينة درعا في جنوب سوريا تنفيذا لاتفاق يؤدي لإعادة مهد الحركة الاحتجاجية التي اندلعت في البلاد منذ أكثر من سبع سنوات، إلى كنف الدولة.

وذكر أن “مئات المقاتلين وأفراد عائلاتهم استقلوا الأحد ١٥ حافلة، حاملين حقائبهم التي تحوي حاجياتهم الشخصية وغادروا” نقطة التجمع.

وأوضح مراسل لوكالة الصحافة الفرنسية أن “غالبية المغادرين هم من المقاتلين ومعهم بعض العائلات”، مشيرا إلى انه “حسب السجلات سيخرج ٧٥٠ شخصا” من درعا. وأضاف “كانت هناك ٢ أو ٣ حافلات فارغة” عند الانطلاق.

وفي نقطة تجمع الحافلات وقف عدد من النساء والأطفال حاملين أمتعتهم. وقال المراسل “تم تفتيش الرجال من قبل (الجنود) الروس فيما فتشت النساء” فتيات يؤيدن النظام.

وتمركزت الحافلات التي وصلت صباحا في طريق “سجنة” التي تربط بين مناطق الفصائل والنظام. وتم فتح خط التماس هذا قبل أيام بعد إزالة السواتر، بحسب المراسل.

روسيا في “مثلث الموت”
١٦ تموز/يوليو

أفادت مصادر سورية معارضة أمس، بأن طائرات روسية شنت غارات على مناطق بين درعا والقنيطرة جنوب البلاد بعد استخدامها أجواء إسرائيل والجولان السوري المحتل.

وتسعى قوات النظام السوري منذ أسابيع لاستعادة كامل محافظة درعا ثم القنيطرة المجاورة في جنوب البلاد، حيث لا تزال هناك فصائل معارضة فضلاً عن تنظيم تابع لـ “داعش”.

وقال “المرصد السوري لحقوق الإنسان” إن قوات النظام سيطرت “على بلدات عدة في ريف درعا الغربي بعد معارك مع مقاتلين رافضين للتسوية وأخرى بعد موافقة الفصائل المعارضة على الانضمام إلى الاتفاق”، مشيرا إلى معارك عنيفة للسيطرة على تل الحارة الاستراتيجي في ريف درعا، الذي يطل على الجولان.

وإذ قالت وكالة الأنباء السورية الرسمية (سانا) إن قوات النظام سيطرت على التل “أهم النقاط الحاكمة في الجبهة الجنوبية بريف درعا”، أوضح “المرصد” باستمرار “الاشتباكات بوتيرة مرتفعة في محور تل الحارة الاستراتيجي في منطقة مثلث الموت شمال غربي درعا”، لافتا الى قصف المنطقة بحوالى ١٣٥٠ غارة وقذيفة وبرميل متفجر بمشاركة الطيران الروسي.

انتقاد سوري لإيران
١٥ تموز/يوليو

لم يصدر تعليق رسمي في طهران حتى مساء أمس، إزاء انتقادات وجهتها صحيفة “الوطن” المقربة من النظام السوري لعلي أكبر ولايتي مستشار المرشد الإيراني للشؤون الدولية.

ونشرت الصحيفة مقالاً بعنوان “عذراً علي أكبر ولايتي، كان ليَسقط العالم وسوريا لن تسقط”، تعقيباً على تصريحات لولايتي قال فيها إن النظام كان ليسقط خلال أسابيع لولا تدخل إيران إلى جانبه.

واعتبر المقال أن مثل هذه التصريحات “مبالغة اعتدنا على سماعِها من بعض وسائل الإعلام أو المحللين السياسيين الإيرانيين أو الذين يدورونَ جملة وتفصيلاً في الفلك الإيراني.”

حكومة” جديدة شرقاً
١٦ تموز/ يوليو

أعلنت الذراع السياسية لقوات سوريا الديمقراطية التي يقودها الأكراد الاثنين أنها ستعمل على تشكيل إدارة موحدة للمناطق التي تسيطر عليها، في خطوة من شأنها تعزيز نفوذها في شمال سوريا وشرقها.

وتسيطر قوات سوريا الديمقراطية على ربع مساحة سوريا تقريبا، أغلبها انتزعت السيطرة عليه من تنظيم داعش بمساعدة تحالف تقوده الولايات المتحدة. وهذه هي أكبر مساحة من أراضي البلاد خارج سيطرة حكومة الرئيس بشار الأسد.

وتهدف الخطة التي أعلنت في مؤتمر لمجلس سوريا الديمقراطية في مدينة الطبقة إلى دمج عدد من الإدارات أو المجالس المحلية المدنية التي ظهرت في الأراضي التي تسيطر عليها قوات سوريا الديمقراطية في شمال سوريا وشرقها.

وقالت إلهام أحمد المشاركة في رئاسة المجلس، وهي أيضا سياسية سورية كردية بارزة، ل”رويترز”: “هي إدارة منسقة بين المناطق، خدمية… لتأمين الاحتياجات في كل المناطق.”

وأضافت أن المبادرة ما زالت في مرحلة مبكرة من المناقشات وهدفها هو دمج كل المناطق التي تسيطر عليها قوات سوريا الديمقراطية. وتابعت: “من ناحية تأمين الأمان والاستقرار راح يكون في إلها فائدة.”

وقوات سوريا الديمقراطية تقودها وحدات حماية الشعب الكردية لكنها توسعت خارج المناطق التي تقطنها أغلبية كردية في الشمال. وتشمل أراضيها الآن الرقة التي كانت قاعدة عمليات تنظيم داعش ومحافظة دير الزور الواقعة على الحدود مع العراق.

وتريد الجماعة وضع نهاية للصراع الدائر في سوريا بنظام لا مركزي يضمن حقوق الأقليات بمن فيهم الأكراد.

خريطة السيطرة
٩-١٦ تموز/يوليو

بعد تقدمها السريع في محافظة درعا، باتت قوات النظام السوري تسيطر على أكثر من ٦٠ في المائة من مساحة البلاد فيما تتعرض الفصائل المعارضة لضربات متلاحقة، ذلك بحسب تقرير لوكالة الصحافة الفرنسية من بيروت.

منذ بدء التدخل العسكري الروسي لصالحه في سبتمبر (أيلول) العام 2015. حققت قوات النظام السوري انتصارات متتالية على حساب الفصائل المعارضة وتنظيم داعش على حد سواء، أبرزها مدينة حلب (ديسمبر/ كانون الأول 2016)، وتدمر (مارس/ آذار 2016 ثم 2017 بعد خسارتها مجددا)، ثم الغوطة الشرقية قرب دمشق (أبريل/ نيسان 2018).

وبعد استعادة الغوطة الشرقية وكامل العاصمة ثم الجزء الأكبر من محافظة درعا مؤخراً، باتت قوات النظام السوري تسيطر وفق المرصد السوري لحقوق الإنسان، على ٦١ في المائة من مساحة البلاد مقابل ١٧ في المائة قبل بدء توسعها، علما بأن مساحة سوريا تبلغ ١٨٥ ألف كيلومتر مربع.

واستعادت قوات النظام تدريجياً أهم المدن مثل حلب وحمص ودرعا وكامل العاصمة دمشق. وهي التي حافظت أساساً على تواجدها في المناطق الساحلية في غرب البلاد.

ويعيش في مناطق سيطرة الحكومة السورية ٧٢ في المائة من السكان، وفق الخبير في الجغرافيا السورية فابريس بالانش، علما بأن ستة ملايين سوري باتوا لاجئين خارج البلاد ونحو سبعة ملايين هجروا من منازلهم من أصل 23 مليونا، بحسب تقديرات خبراء…

وتتواجد الفصائل المعارضة أيضاً في مناطق محدودة في ريف حماة (وسط) الشمالي. وتسيطر فصائل سورية موالية لأنقرة على أجزاء واسعة من ريف حلب (شمال) الشمالي.

وتسيطر هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقاً) على الجزء الأكبر من محافظة إدلب (شمال غرب) والتي بات يقتصر تواجد الفصائل المعارضة فيها على مناطق محدودة.

وتبلغ نسبة سيطرة الفصائل المعارضة وهيئة تحرير الشام حالياً تسعة في المائة من مساحة البلاد.

بدأ تنظيم داعش الذي أعلن سيطرته في مناطق واسعة من سوريا والعراق في 2014. يخسر مواقعه تدريجياً منذ 2015 وتحديداً أمام تقدم الأكراد الذين طردوه من مناطق في ريف حلب ثم من محافظة الرقة التي جرت فيها أيضا معارك بين التنظيم والجيش السوري.

ويسيطر التنظيم المتطرف حالياً على نحو ثلاثة في المائة من البلاد. ويتواجد في جيب صغير في محافظة دير الزور (شرق) قرب الحدود العراقية، وآخر في البادية السورية في وسط البلاد. كما يسيطر فصيل “جيش خالد بن الوليد” المبايع للتنظيم المتطرف على جيب صغير في جنوب غربي محافظة درعا. وتعمل خلايا نائمة تابعة له أيضاً في محافظة إدلب.

وبعد معاناتهم على مدى عقود من سياسة تهميش، تصاعد نفوذ الأكراد مع اتساع رقعة النزاع في سوريا في العام 2012 مقابل تقلص سلطة النظام في المناطق ذات الغالبية الكردية. وتلقت “وحدات حماية الشعب” الكردية، العمود الفقري لـ”قوات سوريا الديمقراطية”، دعماً من التحالف الدولي الذي اعتبرها الأكثر فعالية في قتال تنظيم داعش. ويسيطر الأكراد حالياً على أكثر من ٢٧ في المائة من البلاد.

مقاهي دمشق: بين رماة النرد والإنترنت وسجادات الصلاة

مقاهي دمشق: بين رماة النرد والإنترنت وسجادات الصلاة

لقطة عامة على مقاهي دمشق، تخبرنا ماذا فعلت الحرب بأبرز مظاهر الحياة الاجتماعية والثقافية في العاصمة السورية، فما إن انقضت السنة السابعة من الحرب؛ حتى تدفقت أموال أمرائها لتمارس سياسة القضم والهضم لقطاعات واسعة من مرافق المدينة، والتي يبدو أنها ذاهبة في تغييرات أساسية على طابعها العمراني العام.

ليست المقاهي هي المظهر الوحيد في قياس نبض المدينة التي تصعد اليوم الدرجة الثامنة من سلّم الحرب، بل هي المرافق العامة التي تنقرض شيئاً فشيئاً لتتحول بين ليلةٍ وضحاها إلى مطاعم يرتادها أثرياء الحرب وصبيتها. جولة قصيرة بين الأحياء الرئيسية لدمشق، سوف تُظهر حجم السطو على أرصفة بكاملها لحساب مطاعم الخمس نجوم التي باتت تعبيراً عن تبييض الأموال وهدرها على ملذات أبناء وبنات النفوذ وسواهم ممن موّلتهم الحرب بنفسها، معممةً ثقافة المطعم، ثقافة الآكل والمأكول كصياغة مباشرة لشكل الحياة العامة.

شيئاً فشيئاً تكتظ طاولات وكراسي وسيارات فارهة إلى جانبها على أرصفة حي (أبي رمانة) و(أتوستراد المزة) و(المالكي) حيث تنتشر هنا أكثر مقاهي ومطاعم لا نحتاج القول إلى أنها حكر على أصحاب الثروات الذين تصل فاتورة أقل حساب فيها إلى ما يقارب (50 ألف ليرة سورية- ما يعادل 100 دولار أمريكي).

لقد كشرت الحرب عن مطاعمها ومقاهيها مبدلةً من شكل المقهى القديم، ومطعم العائلة المنحدرة من الطبقة الوسطى، لتمسي هذه الأماكن ذات الواجهات البلورية الفاخرة عنواناً لفروق طبقية حادة داخل المجتمع السوري الذي يتراوح متوسط دخل الفرد فيه بين (70 إلى 85 دولاراً أمريكياً) راتب موظف من الفئة الأولى والذي لا يكفي لتناول وجبة غذاء لمرة واحدة في مقاهي ومطاعم الحرب.

معادلة زادت الأغنياء غنى والفقراء فقراً، ليتم نفي العديد من أصحاب الدخل المحدود إلى مقاهي ومطاعم الفقراء التي ما يزال البعض منها يقاوم للبقاء على خارطة الخدمات التي يقدمها لزواره، فمن مقهى الروضة في شارع العابد نحو مقهى الكمال الصيفي والهافانا، وصولاً إلى مقهى الحجاز في شارع النصر، يجلس ما تبقى من جمهور المثقفين الذين بالكاد يدفعون ثمن فنجان قهوة وعبوة ماء صغيرة لقاء ارتيادهم لهذه الأماكن التي على الأقل ما زال بعضها يحتفظ بشكل المقهى القديم، بعيداً عن شاشات البلازما الضخمة المنصوبة في جهات المقهى الأربع، إما لنقل مباريات الدوري الأوروبي أو كأس العالم، أو لمشاهدة مسلسلات البيئة الشامية ذات الطرح الرجعي والمتخلف، حيث تعلو أصوات سحب الخناجر هنا أو يرتفع صوت المعلق الرياضي التونسي عصام الشوالي هناك، ليعلن هزيمة الأرجنتين والبرازيل واللطم على حظوظ الفرق العربية في كأس العالم بروسيا 2018.

لا رأفة بزوار المقهى الذين وجدوا أنفسهم خارج أجواء المقهى الجديد، والذي طرد من جنته جميع من لا ينتمون إلى التشكيلة الكروية الجديدة، فالمقهى في دمشق لم يعد مكاناً للقاء أو تبادل الأحاديث، أو لعب الشطرنج، بل تحول إلى حلبة جديدة من حلبات التصفيق والزعيق الممزوج بأغانٍ هابطة مفتوحة شاشاتها المنصوبة في كل الأرجاء على قنوات الفيديو كليب العربي، ومسلسلات الهيبة والخيانة الزوجية.

في هذا الجحيم المطبق يبدو من الصعب العثور على مكان محايد، وبعيد عن لوثة الكرة ونجوم المسلسلات وراقصات الفيديو كليب، بعيد عن فسحة لفنجان قهوة هادئ وحديث نميمة بين أصدقاء الكتب والثقافة والمسرح، خلا عن وجود مساحات لا بأس بها في هذه المقاهي لعرض القنوات الدينية الراديكالية، أو بث نشرات الأخبار الدموية على مدار الساعة، لتصبح الموسيقى –إن وجدت- نوعاً من الضجيج العام، ولتصبح كراسي المقهى منصات للتعذيب وتصديع الرؤوس بكل ما هو سطحي وتافه ومبتذل.

الشكل المعمم اليوم للمقهى الحداثي هو وجود ( Wi- Fi) أو (WIRELESS) خدمة الشبكة التي يطلبها (الزبون) ما إن يدخل المقهى كي يشبك مع شبكة الإنترنت، وهكذا يقضى الأمر، وما عليكَ سوى الدخول إلى أي مقهى من هذا النوع في دمشق، وهي النوعية الطاغية في المدينة، حتى تتأكد من أن الجميع رؤوسهم منحنية فوق هواتفهم النقالة، ينشطون على مواقع التواصل الاجتماعي، دون حتى أن ينظروا ولو لمرة بمن يقابلونه على طاولة المقهى التي يجلسون إليها.

النرجيلة والهواتف المحمولة قطعتها (كلمة المرور)- (PASSWORD) لتحيل زوار هذه المقاهي إلى ما يشبه تماثيل صامتة لا تتكلم مع بعضها البعض إلا شذراً. نوعية جديدة من مرتادي المقاهي حيث (التواصل الاجتماعي) هنا هو اللا تواصل، فلا أحاديث يمكن إثارتها ولا نقاشات ثقافية أو اجتماعية أو سواها.

الجميع هنا مشغول بقطاف شجر (اللايكات) و(الكومنتات)- الإعجابات والتعليقات في سديم الموقع الأزرق- (فايس بوك) ليتحول المقهى إلى مجرد نقطة لقاء عابرة بين أشخاص بالكاد ينظرون إلى وجوه بعضهم البعض. وحتى ولو نظروا فهم منومون مغناطيسياً تحت سطوة هواتفهم التي أحالتهم وفق الدراسات الجديدة في عالم الميديا إلى (قبيلة منحنيي الرؤوس) أكبر قبيلة في العالم اليوم تنحني رؤوسها على شاشات هواتفها المحمولة.

مفارقات بالجملة يمكن رصدها اليوم في مقاهي ومطاعم دمشق التي أمست المكان الأكثر تميزاً لالتقاط الصور، كي يقوم أصحابها بنشرها مباشرةً على  الفيس بوك، حيث يستغرق وقت التقاط الصور ونشرها على موقع (زكربرغ) ثلاثة أرباع الوقت في مقهى من مقاهي حي (المالكي) المنتشرة بكثرة بالقرب من حديقة الجاحظ، أو ما يصطلح عليه بــ (دوار المطاعم). هكذا يمكن النظر إلى فريقين من مرتادي المطاعم والمقاهي في عاصمة البلاد: الفريق الأول ما يزال يعتصم بأماكن نادرة من طقوس التواصل الاجتماعي، وهم يتوزعون عادةً على مقاهي من مثل:(البرازيل)- تحول ثلثا المقهى إلى بنك بيمو السعودي الفرنسي- و(الروضة) و(الكمال) و(الهافانا) و(قهوة مزبوطة) و(الشرق الأوسط) و (قهوة المتحف الوطني) و(العجمي) بينما يتوزع الفريق الثاني على مقاهي (آب تاون) و(الجميني) و(الكوخ) و(البوليفار) إضافةً لمقاهي ومطاعم (أتوستراد المزة) على سبيل المثال لا الحصر.

انقراض القراءة

طبعاً لا نستطيع القول أن مقاهي الفريق الأول صافية من لوثة التصفح الإلكتروني لمواقع التواصل الاجتماعي، فهذه المقاهي أيضاً حاولت الجمع بين ميزات المقهى القديم بطاولات النرد وخلوات بعض المثقفين والفنانين، فيما اختفت الجرائد الورقية من أيدي زوار الفريقين، إلا ما ندر. يقول فاضل الكواكبي الناقد السينمائي معلقاً على ذلك: ” يكاد الناس يستغربون مظهري الخارجي وأنا أتأبط جرائد (تشرين) و(الثورة) و(الأيام) و(البناء) و(البعث) أو مجلات (الحياة السينمائية) و(الموسيقية) و(المسرحية)، مصطحباً إياها معي إلى طاولات المقاهي التي أرتادها، فلقد آثرتُ أن أبقى على عاداتي القديمة في قراءة الجريدة وقهوتي السادة على طاولة المقهى، عادات ورثتها عن مقاهي حلب الرائعة، والتي اليوم لا أجدها عند مرتادي المقاهي بدمشق، إلا ما ندر.”

كلام (الكواكبي) يحيل إلى انقراض عادات القراءة التقليدية، كما يشير إلى قطيعة شبه كاملة مع أشكال التلقي القديمة. ظاهرة عززها منع الحكومة السورية لدخول جرائد (السفير) -قبل أن تحتجب- و(الأخبار) و(الحياة) إلى البلاد. المنع الذي ترك الجرائد الرسمية الملاذ الأخير لقراء الصحافة الورقية؛ ساهم هو الآخر في عزوف العديد من هذا الجمهور عن اقتناء الجريدة، ليذكرنا ذلك بما كتبه يوماً المفكر السوري الراحل (بوعلي ياسين-1942- 2000) في كتابه (شمسات شباطية) عندما قال: “أجمل شيء في الجرائد السورية أن قراءتها لا تستغرق أكثر من خمس دقائق!”

عبارة صاحب (عين الزهور- سيرة ضاحكة) تكشف بعضاً من التغييرات الدراماتيكية على شكل المقهى في دمشق، والذي على بؤسه الحالي، وتغير زواره، إلا أنه يشي بالكثير من العلامات التي تجدر قراءتها وفق الواقع المتفاقم في طرد الزوار القدماء، أو القلة القليلة منهم الذين آثروا البقاء داخل البلاد، متمسكين بآخر كراسي الخيزران وطاولات الرخام في مقاهيهم المعتادة، فعلى مدى سنوات طويلة تمكن تجار حي الصالحية من إقفال العديد من حانات ومطاعم المثقفين والفنانين التي تحولت في معظمها إلى مستودعات أحذية ومطاعم شاورما وبنوك.

هكذا على التوالي اختفى مطعم (الريس) واختفت معه طاولة برهان بخاري كنديم مزمن على طاولات عامرة في حانات (فريدي) و (القنديل) و( العمال) عامرةً بأغنيات ومواويل كل من ناظم الغزالي وإياس خضر وحسين نعمة ورياض أحمد.

يسرد الشاعر خليل درويش قصته مع رفاق العمر في مقاهي وحانات دمشق التي اختفت اليوم: “هناك عند ساحة المحافظة وعلى طاولة في مطعم (الريس) كنا نجتمع طوال عشرين عاماً، أنا وبرهان بخاري، ولؤي عيادة، وطارق حريب، ومحمد جومر، وأبو عدنان داغستاني، ومحمد بخاري الموريتاني وعاشق الشام الأول، و طبعاً حبيب قلبي  الراحل عادل حديدي. ظرفاء كانت لا تستوي الجلسة بدونهم. هؤلاء اللماحون أنقياء القلوب، ماتوا جميعهم مكتئبين أو حزانى من حربٍ منعتهم من مغادرة منازلهم نحو طاولاتهم في حانات باب توما و(بارات) باب شرقي.”

كنا قد أرسينا تقليداً لتلك الطاولة- يوضح: ” كان كلما مات واحدٌ من ركاب قارب الأحزان هذا، نأتي في اليوم التالي لنشعل شمعةً ونصبُّ كأساً له قبالة كرسيه الفارغ، ثم نشرب بصحته حتى الصباح! اليوم لم يتبقَ سواي على متن مركب الأحزان هذا.”

حيّ الكفار

إقصاء المثقفين والفنانين والظرفاء عن وسط العاصمة ليس أمراً طارئاً على الحياة الاجتماعية في دمشق، فالحكاية تأخذ مديات واسعة من التهميش القسري، وتحت ضغط من بعض الغلاة الذين يعتبرون (شرب الكحول حرام في الشرع) مما أدى إلى نزوح العديد منهم إلى أماكن مهجورة وفرتها الحرب مرةً، وطاردتهم فيها مرات.

على الأقل هذا ما دفع العديد من هؤلاء للجوء إلى بارات باب شرقي وباب توما، ساخرين من هذه الطائفية في تحديد مواقع سهراتهم: “ثمة من يريد أن يقول لنا إذا أردتم أن تشربوا وتسكروا عليكم بالذهاب إلى (حي الكفار)”- يقول فنان تشكيلي رفض ذكر اسمه ويضيف: “المدينة لا يمكن أن تكون مقتصرة فقط على أسياخ الشاورما ومرقة الفول، لا يمكن أن تعيش بلا مكتبات وحانات ومسارح وصالات سينما، لا أراها اليوم إلا تذبل وتضمحل تحت وقع ما تريده وزارة الأوقاف ودار الإفتاء، ليتدخل أحد ويوقف هذا الخواء المرعب.”

آخر حكواتي في دمشق

الكرسي العالي الذي يتوسط مقهى النوفرة الدمشقي بات شاغراً اليوم بعد موت (أبو شادي) آخر حكواتي في دمشق؛ فمنذ رحيله قبل أربع سنوات، أصبح أعرق مقاهي العاصمة السورية يستقبل زواره دون سماعهم سيَر عنترة وعبلة وأبي زيد الهلالي، إلا أن ذلك لم يمنع المخرج المسرحي سامر عمران في عرضه (نبوءة) من اختيار (مقهى الشام القديمة) المواجه مباشرةً لمقهى (النوفرة) ليكون مكاناً بديلاً لعرضه المسرحي، في تحدٍ فني لافت لرجال احتكروا مهمة السرد لقرون طويلة؛ متناولاً سنوات الحرب في بلاده عبر توريةٍ ذكية، كان أسند فيها (عمران) دور الحكواتي الغائب للممثلة ربا الحلبي؛ لتسرد الفنانة الشابة هذه المرة حكاية من نوعٍ آخر؛ مبتعدةً عن قرقرة ماء النراجيل، وجمر أدخنتها، وصيحات أنصار الزير ودياب الغانم. الحكواتية الشابة تلت نبوءاتها المتعددة دامجةً بين التمثيل والترتيل والغناء، مفتتحةً بمقطعٍ مؤثر من نص (ملحمة السراب) لسعد الله ونوس، ليكون هذا العرض بمثابة تغيير لوظائف وطبيعة المقهى الشعبي، ومحاولة لخلق فضاء ثقافي منه، كما حدث عام 2008 مع فعالية (مقهى الذاكرة) الذي أطلقته احتفالية دمشق عاصمة للثقافة العربية عام 2008.

كان ذلك قبل اندلاع الأحداث الدامية في سورية، حيث استضاف هذا النادي في (مقهى الروضة) العديد من الشخصيات والرواة الشعبيين، في تواصل اجتماعي دأب إلى تغيير شكل المقهى القديم، من مجرد ملتقى يومي لتزجية الوقت، إلى ما يشبه منتدى ثقافي وسياسي.

ظاهرة لم تستمر طويلاً، فما لبثت أن اختفت مع انقضاء عام الاحتفالية، ليعود المكان إلى صيحات شلل (الشدّة) وتطاير أوراق اللعب، لاسيما من شريحة ممثلي التلفزيون الذين ما يزال من بقي منهم يحافظ على بطولات (التريكس) و(الطرنيب) و(الشتائم) قريباً من سجادات الصلاة المفروشة بين طاولات المقهى الذي يجاور مبنى البرلمان السوري!

طباعة عملة سورية جديدة: الجدل والتحديّات

طباعة عملة سورية جديدة: الجدل والتحديّات

خرجت تسريبات كثيرة حول نية الحكومة السورية طباعة عملة جديدة تلبيةً لمتطلبات السوق، رغم ما يعانيه هذا السوق من تضخم ركودي كبير غير مصرح عن حجمه بأرقام حقيقية.

فحسب صحيفة الوطن (9 أيار 2018)  فقد تم إعداد مشروع قانون أحيل إلى مجلس الشعب ويسمح بإصدار أوراق نقدية من فئة الليرة وحتى خمسة آلاف ليرة سورية، في حين صرّحت مصادر وزارية عن اقتراب طرح مسكوكات معدنية من فئة الـ 50 ليرة وكان د. دريد ضرغام، حاكم مصرف سورية المركزي، قد صرح سابقاً على صفحته الشخصية على الفيس بوك حول دراسة سيناريوهات سك وتصنيع قطعة معدنية من فئة خمسين ليرة.

ويقدم أنصار طرح فئة الخمسة آلاف والخمسين ليرة تحليلاته الخاصة حول أهمية وجهة نظره النقدية والاقتصادية، لذا كان من المهم تسليط الضوء على وجهة النظر الإقتصادية حول قدرة الحكومة على طباعة أو صك أيٍّ من هذه الفئات النقدية وماهي السيناريوهات المتوفرة للنظام السوري.

العملة من فئة 5000 هي عملة تم التخطيط لطباعتها منذ منتصف 2008 عندما كان د. أديب ميالة حاكما للمصرف المركزي مدفوعاً من سياسات التخطيط الاقتصادية-الاستراتيجية للدولة بهدف إيجاد دولارٍ محلي يجعل من أي مستثمرٍ يرغب بدخول السوق السورية الواعدة  قبل اندلاع الانتفاضة السورية والحرب التي تلتها، وذلك من خلال تحويل مبالغ الاستثمار من العملات الاجنبية إلى الفئة الجديدة والتي كانت قيمتها آنذاك تعادل فئة 100 دولار مستفيدين من قانون منع التعامل بالعملات الأجنبية.

لكن نتيجةً لاندلاع الثورة وإحجام المطابع الأوروبية (النمسا) عن طباعة الفئات النقدية الورقية السورية، لجأ مصرف سورية المركزي عام 2012 إلى المطابع الروسية التي قامت بطباعة الكمية التي تحتاجها الحكومة السورية لتلبية سوق الصرف والتي تمّ ضخها على مراحل حسب ما تقتضيه ضرورات تمويل آلة الحرب. فقد كان المصرف المركزي يتحكم بسوق الصرف بعيداً عن دوره المهني النقدي وذلك  لتوفير الأوراق النقدية اللازمة لدفع رواتب الموظفين في مؤسسات الدولة والذين سيق جزءٌ كبيرٌ منهم الى خدمة العلم، بالإضافة إلى دفع رواتب المنخرطين في ميليشيات جيش الدفاع الوطني، وتلبية احتياجات السوق بالسيولة المالية دون أن ننسى أنّ هذه الدور كان يمثل أحد الجوانب الاقتصادية للحرب على معارضي النظام السوري.

لكن بعد التدخل الروسي المباشر بالملف السوري بكل قضاياه منذ العام 2015، عزفت المطابع الروسية عن تلبية احتياجات البنك المركزي السوري وخاصةً مع انتهاء مناطق خفض التصعيد التي كانت قبلة التدفقات النقدية من العملات الأجنبية عن طريق الإغاثات الدولية، الأمر الذي أجبر المصرف المركزي بالتلويح للشارع التجاري عبر وسائل الإعلام عن نيته إصدار فئة الـ 5000  تلافياً لأزمة السيولة التي بدأت تتعمق في السوق معتمداً على المخزون القديم المطبوع.

فمع خروج الآلاف من المهجرين من مناطقهم مصطحبين معهم أموالهم التي أفقد السوق جزءاً كبيراً من السيولة النقدية، إضافة إلى صعوبة التبادلات التجارية بين المناطق الخاضعة لسيطرة النظام والمعارضة بسبب نقاط المراقبة الدولية، الأمر الذي جعل السيولة النقدية في موقفٍ حرج، ذلك لأن النظام يحتاج لأموالٍ تلبي النفقات الجارية من رواتب وأجور وسلع وبات مضطراً للعمل على خفض الأسعار كضريبةٍ لإعلان الإنتصار أمام المؤيدين المنهكين من الحرب والغلاء. وكل ذلك يتم بالتوازي مع منع التعامل بالدولار داخلياً ومترافقاً مع إصدار تشريعات إعادة الإعمار التي بدأت تصدر بشكل مراسيم وهو ما يعني الحاجة الى سيولة مضاعفة، مما دفع النظام الى محاولة تسريب مشروعه القديم للأفق.

لكن الوضع اليوم قد تغير فالـ 5000 ليرة لم تعد تساوي 100 $ محلياً، وهي غير مقنعة للمستثمرين كما أن حجم الإصدار من هذه الفئة محدود ويعتمد على الكمية المطبوعة عام 2012 مما يجعل أثرها على السوق إعلامياً لا أكثر وسيقود نتيجةً لمحدوديته الى العرقلة التجارية ثم  الضغط على السلع.

إضافة إلى ما سبق فإن ترويج هذه الفئة سيكون عبر رواتب الموظفين  التي سيشكل 6 أوراق من فئة الـ 5000 ليرة راتب موظفٍ بالمتوسط، وبالتالي فإنّ وجود هذه الفئة مع نقص السيولة المطبوعة بالسوق يجعل هذا المواطن يشتري سلعاً لا يحتاجها بسبب عدم وجود الفكة مما يعني طلباً على السلع الاساسية ذات قابلية التخزين، ومع زيادة الطلب وصعوبة الاستيراد نتيجة العقوبات الدولية من جهة وانخفاض الاحتياطي الأجنبي لدى البنك المركزي من جهةٍ أخرى فإنّ ذلك كله سيتسبب بتفاقم التضخم الركودي.

وعلى ضوء ما سبق، نجد أن نشر هذه الفئة لن يكون له أي تأثير على السيولة النقدية إنما ستعمل بشكل معاكس من خلال الضغط على السلع مدفوعاً بالجانب النفسي مما يقود الى ارتفاعها واحتكارها.

أما الداعين لطباعة الفئات النقدية الصغيرة فهم يرون أنّ استخدام فئة الـ 5000 ليرة هو تعميق للمشكلة ويساهم في تفاقمها. فكان خيارهم هو الصك النقدي من فئة 50 ليرة والسبب في ذلك كونها معدنية فإنها لا تحتاج الى إجراءات أمان عالية وتكلفة طباعتها أرخص بالمقارنة مع العملة الورقية، وهي ممكنة حسب جريدة الوحدة الصادرة 4 حزيران 2018، في كل من الصين والهند وكوريا الديمقراطية لكنها ستعتمد على خليط معدني من الحديد والألمنيوم.

ومن وجهة نظر اقتصادية لهذه الفئة من العملة السورية مساوئ عدة نذكر منها:

  1. الوزن الثقيل للفئة الواحدة بسبب استخدام الحديد والمنيوم، مما سيجعل الأفراد غير راغبين باستخدامها في تعاملاتهم اليومية.

  2. قابلة للتآكل والتشوه نتيجة الإحتكاك وتعرضها للمؤثرات الجوية كالماء والهواء والتعرق وذلك بسبب استخدام الألمنيوم في صناعتها.

  3. تتحدد قيمة العملة  من قوة النظام الاقتصادية، فإذا ما تم استخدام معدن الفضة او نيكل فإن تكلفتها الاقتصادية تكون أعلى، إلاّ أنّ المتداولين للعملة يثقون بالنظام الاقتصادي أكثر. أما في الحالة الراهنة فإن المعدن المستخدم هو معدن رخيص الثمن في سورية، وهنا تكمن المشكلة إذ أن النقود لم تعد قيمتها مرتبطة بالوضع الاقتصادي للبلد بل بالوضع العسكري الذي يفرض على المتداولين التعامل بها.

  4. قيمتها منخفضة لدرجة أنه لا يمكن استخدامها في أي عملية شرائية ذات ثمن كبير ولو على مستوى الحاجات اليومية الأساسية.

حتى لو قرر مصرف سورية المركزي طباعة هذه الفئة فلن يكون قادراً بسبب ارتفاع تكاليف الطباعة الاجمالية، لأن قانون طباعة العملات من حيث الجانب النفسي يشير الى أن العملة المطبوعة حديثاً سوف تنسق الطبعات القديمة من التداول، وهنا لابد من الاشارة إلى أن عدد القطع النقدية من فئة 50 ليرة حتى عام 2010 بلغت 2748 مليون قطعة حسب المجموعة الاحصائية السورية 2010، ونتيجة العقوبات الاقتصادية فإنّ تكلفة طباعة وحدة الواحدة تتراوح بين 25/ 35 سنت (كل دولار أمريكي يعادل مئة سنت) حسب أوراق بحثية مسربة من البنك المركزي، كما أن جريدة الثورة بعددها 29-6-2018 ذكرت أن كلفة الورقة الواحدة تتجاوزالمرة والنصف من قيمتها المطبوعة أي تتراوح قيمة الاستبدال الكلية بحدود 687 مليون دولار بالحد الأدنى وهي تكلفة مرتفعة لا يملكها النظام.

أخيراً القانون الاقتصادي يقول أن العملة القوية تطرد الضعيفة من التداول، ففي حين أنّ النظام مضطر للبحث عن حلول لطباعة المزيد من العملات الورقية من فئة 1000 و2000 فإن طباعة العملة النقدية من فئة 50 ليرة لن يكون له أي دور بسبب التضخم المتزايد.

إذاً لن يكون بوسع النظام الاستفادة من أثر طباعة 50 ليرة على حركة الاقتصاد وتلبية حاجة المواطنين للعملة بغرض عمليات التبادل اليومية.

لذا أعتقد أن النظام سيسلك الطريق الصعب في ضوء هذه الوقائع وسيعمد الى طباعة 100 و 200 معدنية وسيكون المواطنون مجبرين على التعامل بها مما سيدفعهم، ولا سيما التجار، إلى إيجاد وسائل أخرى للتبادل كالمقايضة أو استخدام العملات الذهبية. أما على صعيد الاستثمار فان الدلورة (تحويل العملة المحلية إلى دولار) ستكون هي الطريق والخيار الوحيد للنظام او أي حكومة مستقبلية تتولى إعادة الإعمار ريثما يتم ترتيب الوضع الاقتصادي من جديد إن كانت الحكومة مهتمة بذلك.

“وادي الفرات بعد سقوط “الدولة الإسلامية

“وادي الفرات بعد سقوط “الدولة الإسلامية

نهر الفرات هو الشريان الحيوي الأهم في سوريا، يدخل أراضيها من مدينة جرابلس في الشمال السوري عند الحدود التركية ويخرج من مدينة البوكمال عند الحدود العراقية. يبلغ طول القطاع السوري من هذا النهر 680 كم. يعتبر القطاع السوري من وادي الفرات مهد الزراعة في العالم، ووجدت أقدم آثار لها في تل أبي هريرة المغمور. ترجع تسمية النهر إلى كلمة “فرت” في الآرامية القديمة، وتعني الخصب والنمو.

أقيم على نهر الفرات ٣٤ سداً ٢٢ منها في تركيا و٧ في العراق و٥ في سوريا. أهم السدود السورية سد الثورة والمعروف بسد الفرات، يقع في محافظة الرقة ويحتجز خلفه بحيرة ضخمة تجمع حوالي ١١.٦ مليار متر مكعب من المياه العذبة. يعتبر قطاع وادي الفرات الواقع بين “بحيرة الأسد” ومدينة البوكمال منطقة قاحلة لا يمكن فيها الزراعة دون ري، بسبب معدل الهطول المطري المنخفض الذي لايتجاوز عادة ٢٥٠ ملم/سنة.

بلغ عدد سكان محافظتي دير الزور والرقة بحسب آخر إحصاء رسمي عام ٢٠١١ حوالي ٢ مليون نسمة، وانخفض لاحقاً بسبب الحرب. بحسب آخر إحصاء للحكومة السورية الصادر عام ٢٠٠٤ يعمل القسم الأكبر من سكان هاتين المحافظتين في الزراعة ويشكلون ٤٦% و٤٣% من عدد السكان على التوالي، طبعاً لايشمل هذا الإحصاء موظفي الحكومة الذين يعملون أيضاً بشكل جزئي في الزراعة.

قضايا المياه خلال حكم البعث

خلال حقبة الحكومات البعثية فرضت وزارة الري في سوريا ضبطاً واسعاً لموارد المياه، وتم توفيرها بشكل مجاني وفق جداول زمنية مرتبطة بمساحة الأرض ونوع المنتج، وبشكل غير مباشر بمصالحية العلاقة بين موظفي الحكومة وأبناء العشائر في تلك المنطقة.

وعلى النمط الاشتراكي، فرضت الحكومات المتعاقبة قيوداً صارمة على خطط الإنتاج الزراعية عبر برامج إلزامية لزراعة محاصيل بعينها هي غالباً القطن والحبوب والشمندر. وأشرفت بشكل لايخلو من البيروقراطية المركزية على الدورة الاقتصادية لهذه المحاصيل، بدءاً من توزيع البذور وحتى تسويق المنتج.

خلال السنوات العشر التي سبقت الحرب السورية تدهورت بشكل متسارع الأوضاع المعيشية والاقتصادية لأبناء وادي الفرات، تآكلت الأراضي الزراعية نتيجة النمو السكاني، فيما بقيت خطط الإنتاج وتوسيع الأراضي المروية في الوادي تعاني من ضعف التمويل، بسبب السياسات الاقتصادية للحكومة المركزية في دمشق، التي ركزت استثماراتها في المدن الكبيرة والسوق السياحي والريعي.

وكما في جميع قطاعات الدولة السورية دخل الفساد بنية الاقتصاد الزراعي، هكذا مثلاً عبر الرشوة تضاعفت عدد الآبار غير النظامية للري ما سبب لاحقاً بتضرر الحوامل المائية للوادي بشكل كبير.

عقب أحداث الحسكة عام ٢٠٠٤ استمر النهج السلبي للدولة وتمنهجت السياسات الزراعية عنصرياً ضد الكرد. ففي الوقت التي كانت تقدم التسهيلات غير القانونية لأبناء العشائر في وادي الفرات، مثل السماح بعمليات الضخ غير القانوني، تم تخفيض المساحات المروية في محافظة الحسكة والقامشلي للكرد السوريين.

بعد حرب تموز وخروج الجيش السوري من لبنان، ومع تحسن العلاقة بين النظام السوري والاتحاد الأوروبي، والتي توجت بزيارة للرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي لدمشق في أيلول من عام ٢٠٠٨ دخل الشرق السوري نقطة اللاعودة عندما تبنى النظام السوري مسار (إصلاح) اقتصادي جديد سُمي وقتها اقتصاد السوق الاجتماعي طرحه نائب رئيس مجلس الوزراء للشؤون الاقتصادية السابق عبدالله الدردري، وتبناه الرئيس السوري شخصياً، وهو لم يكن في الحقيقة سوى شكل آخر أكثر وحشية من أشكال السياسات الاقتصادية التحريرية.

خلال هذا (الإصلاح) الجديد تم تخفيض الدعم عن الديزل وزاد سعره ثلاثة أضعاف، ما جعل عمليات الري للأفراد في الوادي مكلفة للغاية، كما تم فرض إجراءات إدارية تم بموجبها تقييد استهلاك المياه في الزراعة، ونتيجة انتشار الفساد فشلت هذه الإجراءات فشلاً ذريعاً، وأصبحت إجراءات تقييد الاستهلاك مطبّقة فقط على أولئك المزارعين الذين ليست لهم قدرة على دفع الرشوة أو ليسوا من وجهاء العشائر.

في الإطار العام وككل المجالات الاقتصادية وقَعَت وزارة الري تحت وطأة الفساد الممنهج وسوء الإدارة، فبينما زادت الخدمات اللوجستية للمدراء ورؤساء الأفرع والأقسام من سيارات ورحلات خارجية وأجهزة حواسيب وغيرها، غاب البحث العلمي وتطوير الكوادر المتخصصة عن متطلبات النشاط الزراعي، وغابت معها خطط واقعية للتطوير. شبكة الري في وادي الفرات المنشأة بمعظمها منذ ستينات وسبعينات القرن الماضي تُسبِب هدراً كبيراً للمياه، ولا يسمح تصميمها الكلاسيكي باستخدام أساليب الري الحديثة. إن أنظمة الري الحديثة مُكلفة، وعزوف الدولة عن تأمينها للمزارعين دفعهم إلى الاستثمار في حفر الآبار أو الاستمرار في استخدام جر المياه التقليدي، وبدلاً من التمويل في تطوير شبكات الري ذهبت الاستثمارات الحكومية إلى قطاع الخدمات العقارية والسياحية.

بين عامي ٢٠٠٧ و٢٠١٠ تعرض الشرق الأوسط عموماً وسوريا خصوصاً لموجة جفاف وصفتها الأمم المتحدة بأنها الأسوأ خلال العقود الأربعة الماضية، بحلول عام ٢٠١٠، أدت هذه الموجة إلى تآكل مساحات واسعة من الأراضي البعلية والمروية على حد سواء، ولأول مرة منذ منتصف تسعينات القرن الماضي اضطرت سوريا لاستيراد القمح، وأُجبر مايقرب من مليون مزارع وعائلاتهم على ترك أراضيهم والهجرة إلى أطراف المدن (العشوائيات) التي تفتقر إلى الكثير من الخدمات.

شكّل السكان النازحون في هذه العشوائيات متضمنين ١،٢ إلى ١،٥ مليون عراقي حوالي ٢٠% من سكان المدن في سوريا، بتعداد يقارب ١٣،٨ مليون (إحصائية عام ٢٠١٠) مقابل ٨،٩ مليون عام ٢٠٠٢ أي بزيادة حوالى ٥٠%. هنا “لا يمكن للمرء أن يفهم الانتفاضات التي تشتعل في المنطقة العربية أو حتى الحلول التي يعرضونها للخروج من مشكلاتهم من دون أن يأخذ الضغوط البيئية والمناخية والسكانية في الاعتبار” كما يقول الباحث توماس فريدمان.

هكذا نتيجة للسياسات الحكومية الفاشلة والعوامل الطبيعية أضحى وادي الفرات جاهزاً لتقبل أي تغييرات سياسية أو أمنية كأحد السبل للخروج من الأوضاع الصعبة التي يعيشها، وشاءت الأقدار أن يكون البديل أسوأ مما كان، وهو حكم تنظيم الدولة الإسلامية.

وادي الفرات تحت حكم تنظيم “الدولة الإسلامية”

خلال عام ٢٠١٤ سيطر تنظيم “الدولة الإسلامية” على البادية السورية ووادي الفرات بسرعة كبيرة، وأسس عاصمة لدولته في مدينة الرقة، ومارس نظام حكم تقليدياً بيروقراطياً قاسياً. خلال فترة حكمه القصيرة أنشأ وزارة للزراعة، مهمة هذه الوزارة تحديد نوع المحصول الذي يجب زراعته، تحديد برامج الري وغيرها من المسائل الحقلية، في أداء لم يختلف كثيراً عن الأداء البيروقراطي لوزارتي الري والزراعة السابقتين في حكم البعث.

ونتيجة لقيام “الدولة الإسلامية” على مبدأ الحرب، بقيت هذه الوزارة مُهمَلة، وتدهورت الخدمات الزراعية ونُظم الري بشكل كبير. ونتيجة نقص الخبرة لدى موظفي “الدولة الإسلامية” فُتح الباب على مصراعيه لحفر الآبار الذي دمر بشكل كبير الحوامل المائية في الوادي. وبسبب تضرر شبكات الطرق وانعدام الأمن عليها لم يعد يتوفر الوقود اللازم لعمل المضخات وأصبح تأمين الأسمدة والبذور الجيدة صعباً للغاية، ما أدى الى تراجع كبير في الإنتاج.

وأدت المعارك العنيفة على امتداد وادي الفرات إلى استخدام أطراف الصراع للمياه مرات عدة كسلاح ضد الخصم. في العام الماضي عمدت حملة “غضب الفرات” التابعة لـ”قوات سوريا الديمقراطية” في حربها ضد “الدولة الإسلامية” إلى إغراق الأجزاء الشمالية الغربية من مدينة الرقة عبر فتح الماء بشكل عشوائي من قناة البليخ، وهي قناة رّي رئيسية تقع إلى الشمال من سد الفرات، وأدت الى تضرر مساحات واسعة من الأراضي الزراعية، ومواسم القمح والشعير فيها.

كما أدت الفوضى العامة في البلاد إلى إطلاق يد تركيا على مياه نهر الفرات، ولم تعد تأبه للقوانين الدولية، وبدأت بتخفيض حصص المياه لكل من العراق وسوريا، ففي فبراير شباط ٢٠١٨ خفضت أنقرة معدل الدفق المائي لنهر الفرات إلى ٣٢١ درجة (مايعادل ٤٥٠ متراً مكعباً/ثانية)، وهددت بشكل جدي إمدادات مياه الشرب لحوالي ٢ مليون نسمة من سكان محافظة حلب، وسط صمت من قبل الحكومة السورية وسكوت غير مبرر.

منذ عام ٢٠١٦ زاد نشاط التحركات العسكرية في شرق سوريا من قبل كل من “التحالف الدولي لضرب داعش” والقوات الكردية من جهة، والجيش السوري وحلفائه بمساعدة الطيران الروسي من جهة أخرى للقضاء على وجود تنظيم “الدولة الإسلامية” في المنطقة. وفعلاً  تقدم الجيش السوري نحو مدينتي البوكمال ودير الزور، في حين تقدمت “قوات سوريا الديمقراطية” المدعومة من الولايات المتحدة من الشمال باتجاه الرقة وحوض الخابور.

مستقبل وادي الفرات

تآكلت “الدولة الإسلامية” ولم يبق من المساحة التي شغلتها أكثر من ٣%. هذا العام أصبح وادي الفرات كاملاً تقريباً بيد الجيش السوري والقوات الكردية. لقد حان الوقت للتفكير بالقضايا البيئية والاقتصادية-الزراعية لمنطقة حوض الفرات التي من شأنها أن تؤسس لتنمية مستدامة، واستقرار اجتماعي. تعرضت المنطقة نتيجة الحروب لتدهور بيئي وزراعي واسع النطاق. وبغض النظر عن المسؤول، فإن النظام الذي سيحكم دمشق ستكون عليه مسؤوليات كبرى في هذا الشأن، أهمها على الإطلاق موضوع وفرة المياه المرتبطة بشكل أو بآخر بديناميات إقليمية سياسية وقانونية دولية، أيضاً اقتصادية واستثمارية وأخرى تقنية وبحثية.

لم تستطع الحكومات السورية في زمن الاستقرار التعامل مع موجة الجفاف السابقة ٢٠٠٧-٢٠١٠، فما هو الوضع إذا ضربت موجة جديدة من الجفاف الأراضي السورية في الوقت الحالي، حيث دمرت الحرب السورية معظم البنية التحتية في وادي الفرات؟

حقيقة لا تحتمل الشك، مياه الفرات آخذة بالتضاؤل بسبب تناقص الإيرادات المائية من تركيا، وتناقص المعدل العام المطري. هذه مشكلة هي ليست وليدة اليوم ولا الأمس، الحلول في الوضع الراهن تكاد تكون معدومة، بينما الواقع الزراعي نحو الأسوأ.

حوض الفرات هو مصدر معظم ثروات سوريا وكان سلة غذائها واستقرارها الاقتصادي. إن ماخلفه حكم “الدولة الإسلامية” كذلك السياسات الفاشلة للحكومات البعثية جعلت وادي الفرات في وضع اقتصادي واجتماعي مأساوي. الآن بعد سقوط “الدولة الإسلامية” وعودة الحياة تدريجياً، يترتب على الدولة السورية مهمات صعبة لأنها ستواجه سلسلة من المشاكل المعقدة: محدودية الموارد المائية، أنظمة الري المتهالكة، العدالة في توزيع الثروة المائية، أساليب الزراعة البدائية، إعادة توطين مهجري الحرب، متابعة تطبيق القوانين الدولية المتعلقة بالمياه النهرية بعدما أصبحت تمثل فتيلاً يهدد بظهور صراعات محلية وإقليمية مستقبلية.

الأهم من كل ذلك هي التعبيرات السياسية التي يمكن أن تقود مرحلة إعادة الاستقرار في الوادي، إذ لا يمكن مواجهة معضلات الوادي العميقة في ظل حكم نظام بيروقراطي وممنهج بالفساد كالذي كان ومازال موجوداً في دمشق.

فحوى هذا المقال موجه للنخب السياسية والحزبية للقوتين العسكريتين الأساسيتين في وادي الفرات: “قوات سوريا الديمقراطية” والجيش السوري، هو أن لا تتحاربا ابداً من أجل السيطرة على وادٍ قد يشهد في أي وقت كارثة بيئية وإنسانية جديدة. لابد وأن تتعاون هاتان القوتان على إعادة صياغة للعقد السياسي بين مكونات المجتمع المحلي، والمضي في تكريس الاستقرار في وادي الفرات بدلاً من تدميره.

أخيراً لايمكننا إلا أن نسأل نفس السؤال الذي سأله جو روم، مدير موقع (Climate Progress) سابقاً: “من الذي سيمد يد المساعدة في المستقبل لدولة مثل سوريا عندما تدمرها موجة الجفاف التالية، بينما نعيش في عالم يظهر فيه كل فرد كما لو كان يتعامل مع الإعصار ساندي؟” سؤال كنت أتمنى أن أسمع له جواباً عند أحدٍ من النخب السياسية في سوريا قبل أن أكتب هذه السطور.

رنين اليقظة

رنين اليقظة

( كونشيرتو الكمان ليوهان برامز/ الحركة الأولى)

بماذا تَعِدني الموسيقى؟

أهي هروبٌ، شفاءٌ، تَخَطٍّ؟ أمْ ألَمٌ واستبصارٌ وتِيْه؟

تلطمني، ترجُّ صدغيَّ، تفتل قامتي، تنشر ذراعيَّ في العراء، تمسِّد ما ضاع وتَنْفُضُ ما تبقّى. أسلاكٌ دافئة بين القلب والأنامل، حطّت عليها طيور وغادرتْ أخرى. تَبرد فروةُ رأسي، تَخِزني أنفاسي، أكاد- في الهنيهة الفاصلة بين السكون والرنين- أَخْمشُ كلَّ شيء، ألوِّحُ لأيِّ شيء، أتّكئُ على لا شيء.

تتراجف الأوتار مثلما تستقبل شفاهُ المحمومين الفجرَ،

مثلما تستجمع يدُ العائد لهفتَها لتَعبرَ الصقيعَ الفاصل بين جيب المعطف وقفلِ بابٍ ليس خلفه أحد.

تتردّد الخطوات قبل أن تزيح الأشواكَ النامية على العتبة،

ترفرف الأجفان عازمةً على تأثيث الفراغ بظلالِ مَن غابوا.

الانبعاثُ من العدم سيرٌ إلى الموت، الركضُ على المرج زحفٌ إلى الهاوية. الخَلْقُ نَفْخٌ، والنفخُ نقصان. لهذا يتولّى البوقُ مهمّةَ البدء. ألسنةُ لهبٍ تشقّ قميصَ الليل، كلّما صدَّت لفحةً جذبتها الأحطابُ إلى سرير الرماد. طفلٌ غادر القبوَ بلا ذاكرة. بَردانٌ، وتقوده الشمس إلى رأس التلّ. يتمرّغ، يتدحرج غيرَ مُبالٍ: أَواكَبَهُ إلى السفح هديرُ الشلّالِ، أم فحيحُ الأفعى.

تعترض النفخةَ همهماتٌ من عدّة جهات.

بعضُها محاوَلةُ الموجِ فتْحَ ثغرةٍ في سور المَحرقة،

بعضها تَشابُكُ الأكفِّ قبل أن تُطْبِق السقوفُ على الأضلاع،

بعضها تَلاطُمُ الأشباحِ فوق شظايا القارب.

عتابٌ على البحر، فرارٌ من السماء، وعدٌ للأرض.

لأنّ( الفلوت) سؤالٌ مرير مثل لماذا؟ مديدٌ مثل أين؟  مرتابٌ مثل متى؟

بحَّتُهُ غامضة لكنْ كاشفة، صفيرُه مقيَّدٌ لكنْ ممزِّق. من تموُّجِ الهواءِ بين العتمة والضوء، من دأْبِ الرئتين الورديّتين على تضميد جراح المعدن؛ يصير للشهيق رنينُ اليقظة وللزفير صدى انكسار القيد.

حين أُزيحت الستارة لَيَّلَ الضباب، لحظةَ انشقَّ الأصيص ارتطمت البراعم بالزجاج.

من عدّة جهات. لأنّ شَجاهُ كامنٌ في كلِّ متحرّك، وخوفه مطوِّقٌ كلَّ آمِل، وحيْرَتهُ رائدُ كلِّ بصير.

تُزَمُّ الشفتان: فكثيرٌ من الشرفات لم يحتمل أمسِ لوعةَ الناجين،

تجنُّ الأصابع: فقد اشتعلتْ غابتانِ اليومَ،

تنقبض الأحداق: فغداً سيَغشانا الدم.

هاهي الكمنجات، وقد استيقظتْ ذاهلةً، تكرِّر آخرَ صرخات الجريح. تُضخِّمُها، تَطوف بها على الأرصفة، تضيء الأقبيةَ، تمزجها بكلِّ نسمةٍ، وتبدِّدُ يقينَ كلِّ غيمة.

لكنّ دَورها أبعَدُ من نواح الجوقة المُظلِّلة حوافَّ المشهد. إذْ لا منصَّةَ هنا غير حطام الأعمدة، لا شهود إلّا أطفالُ المكان الذين بَرَدَ بهم الزمانُ مخالبَه.

دَخَلْنا في الليل، أُلْبِسْنا معطفَه المقلوب، والتفَّتْ علينا الأكمام. ولنا، إلى أن يحين موعد الصدمات الشافية، أن نهذيَ بما نشاء.

مَن ذا يبالي بما كان لنا من أسماء وبيوت؟

مَن ذا يُصدِّق أننا شهدنا، مِراراً، ينابيعَ تفور وأشجاراً تُزهر؟

هي لا تمهِّد للكمان المنفرد مثلما تحفُّ الحاشية حول موكب سيّدِها، بل هو يبزغ من مركز الدوّامة، يشقّ طريقَه ملتاعاً من دون أن يزيح أو يزاحم. وبين موجةٍ وأخرى، ينزوي في ركن، منكبّاً على جراحه.

صِرْ يا قوسُ شَفرةً، إلى أن يحرق الأنينُ قشورَ هذه الجدران الرطبة.

ضجّي يا أوتارُ بما واجهَتْ به الأعشاشُ صليلَ الفؤوس، حتى تصهر الشمسُ حديدَ هذه الكُوى.

إذا أسَّسَ الفجرُ قريةً آمنة بين رُكبتَي تمثال، فلأنّ الكَمانَ سهران.

إذا تعثَّرَ الرعدُ بسقفِ مَنارةٍ قبل أن يلقي علينا رسائلَه، فلأنّ الكمان يَغرق.

إذا ردَّدتْ صنوبراتُ الجبالِ هديرَ قطاراتِ المنفى، فلأنّ الغيمَ سميعٌ للكمانِ مُجيب.

عاهدتُ الأرضَ، منذ كستني الموسيقى أجنحةً، ألّا أزيد جراحَها بخُطاي.

ورثتُ من نهر الطفولة أبوَّتَه للسواقي: يطلِقها في الحقول، ويسبقها إلى المَصَب.