كتاب كان اسمه سوريا

كتاب كان اسمه سوريا

لطالما سَرَقَتنا الكتب، وسلب حضورها عقولنا وقلوبنا، تقودنا أقدامنا بخفةٍ ونشوةٍ إليها أينما كانت. نترقب معارضها، نمُشّط الشوارع والأرصفةَ بحثاً عن عرباتٍ وبسطاتٍ فُرِدَت لأجلها، لنفتّش فيها عن عناوين فريدة بنهمِ ظمآنٍ يبحثُ عن نبعِ ماء، أو طامحٍ يبحث عن كنز ثمين، فنصطاد الكنوز النفيسة لنغني مكتباتنا العطشى للاتساع.

الكتبُ زاد حياتنا، ذخيرتنا المعرفية والهدية الأجمل التي نزهو بها، ونُدهش كأطفالٍ صغار بمجرد لمسها. ننفق على شرائها جُلَ ما في جيوبنا المهترئة، حتّى لو لم يبقَ لدينا ما يسد رمق الجوع، وكثيراً ما نقترضُ المال لشراءِ كتبٍ تفرح بها مكتباتنا، التي كلّما اتّسعت اتّسعنا، وكلّما ازدحمت بالعناوينِ والأغلفةِ شَعرنا بالثراء والاكتمال، كيف لا وهي قوتنا، وبيوتنا الحميمة؟، نبنيها كمن يبني برجاً فريداً من المعاني، نغازلها وننادمها، نصونها كأمٍ حنون، ندللها كعاشقةٍ توزِّع علينا الحب والسعادة والجمال.  

ولأنَّ الحربَ لا تعبأ بعاشقةٍ أو أمّ، ببيتٍ أو حضنٍ دافئ، ولأنها لا تعبأ بعشقنا لكتبنا وشغفنا بها، لم ترأف بأيّ معنىً من معاني حياتنا، ولم تكتفِ بمجازرها بحقّنا نحن البشر، بل عاثت دماراً وهتكاً بكتبنا، بتاريخها وحكاياتها، بتفاصيلنا معها وعلاقتنا المتأصلة بها. كُتبنا التي أضاءت قلوبنا وأرواحنا والتي وهبتنا أجنحةً لنحلِّق إلى عوالم شاسعة وملونة، لم نتمكن من إنقاذها أو رد الجميل لها، إذ تحوّلت، ككلِّ شيءٍ جميل، إلى فريسةٍ سهلة لوحش الحرب، ولاقت مصير أصحابها وقُرائها.

كتبٌ سرقها الحصار والموت

لم يلق الحصار بلعناته على البشر فحسب، بل أطبق خناق سجنه على روح المكان وكل نبضٍ يقبع فيه، فكانت الكتب إحدى معتقليه المعذبين والمغيّبين قسراً. حوصرَت مع أصحابها، خافت ونزفت مثلهم، وفي مفارقاتٍ كثيرة كانت أقل حظاً منهم، فبينما تمكن بعضهم من النجاة بقيت هي قيد حصارها تنتظر فرجاً للحاق بأهلها الّذين ما زالوا حتى اليوم يبكونها بلوعة وحسرة من يبكي ابناً قتلته الحرب.

منذ سنوات نزح (حسام) من إحدى مناطق الصراع الساخنة، تاركاً خلفه مكتبةً ضخمة، حفرت في قلبه جرحاً عميقاً يتحدث عنه بمرارة: ” كنت أجمع كتبي كمن يجمع قطع آثارٍ نادرة، وكانت مكتبتي تكبر يوماً بعد يوم، كانت ملاذي الآمن، ورفيقتي التي تعينني على أهوال الحرب، تبثّ الحياةَ فيَّ كلما اشتدّ الموت، وتفتح لي آفاقاً للأمل والأحلام. عند خروجي حملتُ معي خمسةً من كتبي التي لا أستغني عنها، لكن عناصر الحاجز صادروها… أذكر فيما مضى أنّني وأصدقائي كنا نرفض إعارة أي كتابٍ من كتبنا لأننا سنشتاقه إذا ما ابتعد، ونخشى فقده، وكأن أيّ فراغٍ في رفوف المكتبة سيحدث فراغاً في الرّوح، فتخيل أن تفقد جميع كتبك دفعةً واحدة لتتركها تحت رحمةِ الحرب وأذرعها؟!. صدِّقني إن هذا لمأساةٌ حقيقية، لن يشعر بها إلا من كان مغرماً ومتيماً بالكتب.”

مكتباتٌ عريقةٌ كانت تحتفي بمئات العناوين الفريدة والنفيسة، تناقلتها الأجيال عبر عشرات السنين، هي ليست مكتباتٌ بقدر ماهي نسغٌ وذاكرةٌ وتاريخ حافل بملامح الآباء والأجداد. تلك المكتبات لم يشفع السلاح لها ولم يكترث لأصالتها، وبكل وحشية ودمٍ بارد أحالها رماداً وأثراً بعد عين.

كتبٌ عاملها أسيادُ الحرب كعدوٍّ، ثأروا منها كما يفعلونُ مع كلِّ من يشكّل تحدياً لهم، لسلطاتِهم واستبدادهم، لسياطِهم وكراسيهم، فعاقبوها وأُعدموها، حرقاً وتمزيقاً، نيابةً عن أصحابها، فهي التي علَّمتهم الوقوف في وجه الظلم والاستبداد وهي من جعلتهم يبصرون نور الحق والعدالة. وفي حالاتٍ أخرى أحرقت بعض الفصائل المسلحة المتطرفة فيضاً من الكتبِ الثّمينة، بحجة أنها بِدعٌ وخرافات تلهي من يقرأها عن ذكر الله، فالثقافة بنظر أولئك شركٌ وخطيئة، كما أجبرت البعض على حرق كتبه بنفسه ليتجنب الحساب والعقاب.

(محمد) نازحٌ آخرٌ، نجى من الموت بأعجوبة، يروي بعضاً من حكايته: ” كنت شاهداً على مئات الكتب التي ماتت تحت أنقاض البيوت. نعم، الكتب تموت كما البشر والشجر والحيوانات. حاولنا إنقاذ الكثير منها من بين الركام علَّها تحيا من جديد، لكن معظم من نجى منها لم يُكتب له البقاء، فماتت بطرقٍ أخرى… في ظروف الحصار القاهرة قد تضطر أحيانا أن تضحي بأغلى ما لديك لتنجو من شبح الموت. لقد أجبَرَنا الجوع على استخدام مئات الكتب كوقودٍ لطهو طعامنا البائس الذي كنا نحصل عليه بشق الأنفس، أما وحش البرد فأجبرنا على استخدامها كبديلٍ لحطب التدفئة بعد أن صارت أغلب الأشجار حولنا في خبرِ كان. في البداية كنا نضحي بالكتب الأقل قيمة وأهمية، ولكن مع الوقت صرنا نقدم أضحية أكبر، فَنُطعِم النار كتباً ثمينةً من الأدب والعلوم والتاريخ، لتعود علينا بشيء من الفائدة، فالحرب التي لم تشبع من لحم البشر توحّشت لتلتهم ذاكرتهم وثقافتهم ومنابع فكرهم.”

كتب رهن الإقامة الجبرية

أسيرة الصناديق، حبيسة المستودعات، تجثم في حضرة الغبار وشِباك العنكبوت في انتظار مصيرٍ ما، هجرها أصحابها مرغمين وتقطَّعت سُبل اللقاء بها أو التواصل معها. ترى هل ستلتقي بهم يوماً ما؟

كثيرٌ من السوريّين أودعوا كتبهم كأماناتٍ عند أصدقائهم أو معارفهم ليحافظوا عليها من التلف وليبقوها تحت الرعاية والعناية المشددة، بعد أن غادروا بلادهم هرباً من بطش الحرب والموت، وهي اليوم لاتزال قابعةً في بيوتٍ لا تعرفها، مصلوبة على الرفوف، تكابد عناء الفقد، في مكتباتٍ غريبةٍ عنها.

في مدينة جرمانا قبوٌ تحول إلى ذاكرةٍ مصغَّرة للسوريين، وربما يتحول مع الزمن إلى متحف. في جولتي داخل هذا القبو، كنت كمن يسير في تلافيف ذاكرةٍ ما، ذاكرة البلاد.

كتبٌ مخزَّنة في كراتين مغلقة بعناية، تحمل أسماءً ما، مكتباتٌ تحتفي رفوفها بعشرات العناوين، غُطَيت بستائر القماش والنايلون لحمايتها من الغبار وعواصف الزمن، بضع لوحاتٍ متراصفة هنا وهناك لرسامين رحلوا عنها، أشياء مبعثرة في كل ركنٍ، تفوح منها أسماء وروائح أشخاصٍ ما.

يروي لي صاحب القبو شيئاً من حكايته مع هذه الكتب “هذه الكتب هي رائحة الأصدقاء الذين غادروا البلاد، هي صوتهم ونبضهم وحضورهم، أراهم من خلالها. بعضها تُرك كأماناتٍ، وأخرى قمنا بنقلها من بعض البيوت المستأجرة التي هجرها ساكنوها قبل أن يسعفهم وقت سفرهم المفاجئ لجمع أشيائهم وذكرياتهم… كتبٌ كثيرة جمعناها من أماكن متفرقة، بطلبٍ من ذويها، ليتم حفظها في مكانٍ آمن، هم مخلصون لكتبهم حتى وإن ابتعدوا عنها. لقد أصبح هذا المستودع حارساً أميناً لتاريخ الأصدقاء، إذ يحمي مئات الكتب ويدافع عن بقائها، حتى أصبحنا نسميه “مستودع الذكريات.”

في السنوات الماضية أصبح منزلي يعجُّ بمثل تلك الودائع، كتب موزّعة هنا وهناك، بعضها خصصت له ركناً في مكتبتي، والآخر يغفو في الأدراج أو تحت السرير. أتذكر ماضي تلك الكتب، لقد كانت إكسير الحياة لدى أصحابها، كانت سنداً وحضناً لهم وروحاً تلوِّن منازلهم، كانت لسانهم وعيونهم، ولكن عند الرحيل ضاقت أحمالهم عن حمل أخفّها وزّناً… إنَّ عيشي جنباً إلى جنب مع هذه الكتب بات يؤرقني ويجعلني في كلِ لحظةٍ أعيشُ الحاضرَ والماضي معاً، فهي حوَّلت منزلي إلى مسرحٍ مزدحمٍ بالأحبّة وذكرياتهم. ومنزلي هذا ليس استثناء، فكلّ منازل أصدقائي في دمشق أصبحت مأوى لمئات الكتب التي نجت من بطش الحرب لتعيش على أمل البقاء.”

بين الضياع والنهب

كتب أضاعها أصحابها، أعاروها فيما مضى، وأنساهم ضجيج الحرب أن يسترجعوها، وأخرى  كانت تعيش في منازل مشتركة يسكنها مجموعة من الأصدقاء، لكل صديق كتبه الخاصة، وفي غيابهم أضاعت هوية أصحابها بعد اختلاطها ببعضها أثناء جمعها ومن ثم اختلاطها بأخرى خلال تنقلها من منزلٍ إلى آخر في رحلة بحثها عن مكان آمن، أما من مات أصحابها فقد بقيت في أماكن شتاتها كذكرى مؤلمة أو ككتبٍ مجهولة النسب والانتماء.

لقد أصبح اقتفاء أثر الكتب الضائعة حدثاً بارزاً في سنوات الحرب، فلا عجب أن تجد أصدقاء غادروا البلاد منذ سنوات، يسألون أصدقاءهم في سوريا عن مصير كتبهم ويوصونهم بالبحث عنها، طلباً لحياةٍ كانت لهم يوماً ما.

كتب خُطِفت، اعتقلت واغتصبت، نُهبت وضاعت كتاريخ كثيرٍ من السوريين. نهبٌ أشبه بسرقة الأوكسجين، بسرقةِ خيالك وأحلامك وأعضاءِ جسدك. مكتباتٌ حوَّلها تجار ومجرمو الحرب إلى أطلال، لتباع محتوياتها في أسواقهم التي باعت البشر قبل ممتلكاتهم، أو لتحنَّط في بيوتهم التي أصبحت تزدان بمئات الكتب النفيسة المنتقاة بعناية لصٍ محترف. كتبٌ بأغلفةٍ ملفتة وطباعةٍ فاخرة لم يُنظر إلى مضمونها ومحتواها الفكري، يفاخر الناهبون بعظمتها ويمتدحون هيبة حضورها في مكتباتهم التي تشبه الزنازين، دون أن يتذكروا أنها سُرقت بقوة السلاح من بيوتٍ ثكلى سطي عليها للانتقام من أصحابها والاستيلاء على ذاكرة حياتهم. والأكثر إيلاماً أن أولئك اللصوص مجرمي الثقافة لا يقرأون ولا يغنون الثقافة، بل يتعاملون مع الكتاب كمجرد أثاثٍ فاخر.

قد نجد الجرح الأكثر نزفاً في أسواق (التعفيش)، حيث تتكدّس أكوامٌ من الكتب بين البرادات والغسالات وأثاث المنازل. مشهدٌ دراميٌ لو رصدته كاميرات السينما لحصدت عشرات الأفلام. هنا ” تُعَفَّش” الذاكرة والأفكار والأحلام، هل فكر اللصوص بتاريخ وحكايات تلك الكتب؟ بالطبع لا، وبالطبع لا يعرفون قيمتها الفكرية والمعنوية والإنسانية، هي فقط غنيمةٌ أخرى بين (غنائم) الحرب، ومصدرٌ إضافيٌّ للحصول على الأموال.

ثمة رواياتٌ كثيرة عن أشخاصٍ وجدوا كتبهم، مسبيّة في أسواق التعفيش، لتقع المفاجأة في قلوبهم كوقع الطعنة السّامّة، طعنةٌ لن يزولَ أثرها مهما طال الزمن.

كتب مسجاة على الأرصفة

التّشرّد الذي طال حياة نسبةً كبيرةً من السوريين، طال حياةَ كتبهم أيضاً، فأينما التفتّ ستراها مسجَّاة على الأرصفة والبسطات. لو تفحصت صفحاتها ستقرأ تاريخاً كاملاً عن حياةٍ مضت. عباراتٌ لوِّنت بحبرٍ فارق، خُط بجانبها بضع كلماتٍ تشرح معنىً ما، سطورٌ وضع تحتها خطوط  للدلالة على فقرةٍ مميزة. صفحاتٌ تطل منها وجوه قرائها، تتعرف إليهم من العلامات الفارقة التي خلفوها على الأوراق… لمسات حبرهم، رائحة عطرهم… أثر ريقهم وعرقهم ، بقع شايهم وقهوتهم. حكاياتُ شخوصٍ عبروا تاركينَ أدقَّ تفاصيلهم الشخصية بين السطور.

على أحد أرصفة  دمشق التقيت ببائع كتب مستعملة، رفض ذكر اسمه، حدَّثني عن مصادر تلك الكتب: “في السنوات الماضية اشترينا مكتبات بأكملها من أشخاصٍ كثيرين، بأسعارٍ بسيطة. نشتري المكتبة بأكملها دون النظر إلى عناوين كتبها، لذا تحسب كسعر جملة. كثيرون باعوا مكتباتهم الشخصية بداعي السفر، أو الفقر والعوز، أو نتيجة نزوحهم لمناطق أخرى. كتب كثيرة اشتريناها من مكتباتٍ عامة أو دور نشر أُغلقت بعد إفلاسها أو هجرة أصحابها.”  

يضيف البائع: “بشكلٍ شبه يومي، يحضر الكثيرون إلينا ليبيعوا ما يملكونه أو ما يمكنهم الاستغناء عنه من الكتب. البعض يحضرون بصحبة كتبٍ لا يعلمون شيئاً عن مصدرها ولا يعرفون فحواها أو قيمتها، أعرف ذلك من ملامحهم ومن طريقة تعاملهم معها وكأنها خردة. قد تكون كتباً منهوبة أو مباعة من ضمن أثاث المنازل المشتراة، أو كانت منسية في أماكن هجرها سكانها.”

في زيارة أخرى للبائع رأيته يجادل شاباً يحمل حقيبة تحوي كتباً بأحجامٍ مختلفة، وبعد مفاوضات طويلة، اشتراها من الشاب بثلاثة آلاف ليرة. استوقفني المشهد، شعرت وكأن الشاب يبيع قطعةً منه، فسألته عن سبب البيع. أجاب بألم وحرقة: ” توقفت عن العمل منذ فترة، ومنذ أسبوع دفعت إيجار المنزل فخسرت كل ما أملك، ومن حينها وأنا أستدين من أصدقائي ما تيسر من نقود. اليوم أفقت وجيوبي خاوية، فأجبرت مكرهاً على بيع تلك الكتب لأشتري طعاماً وسجائر. هذه ثالث مناسبة أبيع فيها شيئاً من كتبي، الحاجة كافرةٌ يا صديقي وحين تجوع بحقّ تكتشف أن الثقافة لا تبقيك على قيد الحياة.”

بين النزوح ودروب السفر

حين نزح (أبو عدي) من الغوطة، أنقذ مع عائلته عشرة كتب، اصطحبها معه كفردٍ من أفراد العائلة.  تلك الكتب، كعائلته، مكثت معه لأيامٍ في الحدائق، تشردت واستُخدمت كوسائد للنوم، ثم رافقته إلى مركز الايواء في منطقة الزاهرة، ومن ثم إلى مراكز ايواءٍ أخرى، وهي اليوم تعيش معه في شقة (على العظم) لتشاطره البرد والرطوبة وغيرهما.  

منذ عامٍ وكتب (ديمة) مهملةٌ في سجنها المؤقت، في انتظار محطةٍ ما، فهي لا تعرف حتى الآن إن كانت ستسافر أو ستبقى، حالها حال الكثير من سوريي الداخل، لذا لم تتحرر لتستقر في مكتبة، بل بقيت على أهبة الرحيل إلى أن تعرف وجهتها الأخيرة.  

تلك الكتب عاشت سلسلة لا منتهية من النزوح، فمنذ ستة أعوام نزحت مع (ديمة) من مدينة قدسيا إلى مدينة جرمانا، وبعد مسلسل التفجيرات والقذائف في المدينة انتقلت ديمة الى قريتها بصحبة عائلتها الورقية تلك. وفي العام 2015 عادت الى دمشق بنفس الحمولة، التي عبرت الحواجز وتم تفتيشها والتعامل معها بريبة والنظر إلى حاملتها بسخرية: “لماذا تكلف نفسها مشقة نقل هذه السخافات؟” استقرت في دمشق لعامين متنقلة بين بيوت عدة كانت تستأجرها، ثم جاء موعد سفرها إلى لبنان، فنقلت كتبها الى منزل أهلها، لتبقى حتى اليوم على حالها منتظرة استقراراً ما، هل ستنقل الى منزل أخيها ليحفظها في مكتبته، هل ستبقى في مكانها؟ هل سترسل إلى لبنان؟

ثمة كتب سافرت مع أصحابها الذين تحملوا تكاليف نقلها لكي تبقى معهم، أو لحقت بهم بعد أشهر أو سنوات، لم يتحملوا فكرة الابتعاد عنها، فطارت إليهم عبر مكاتب الشحن وحقائب بعض المسافرين. هناك كتب تعيش على أمل لم شملها بأحبائها، ليس في الأمر أحجية، فبعض البشر يتوقون لعناق كتبهم كتوقهم لعناق أحبتهم وذويهم. تلك كتبٌ حالفها الحظ، لكن الأخير لم يحالف كتباً أخرى تاهت وماتت في المنافي، غرقت في البحر مع حامليها أو قدموها كقرابين له ليرأف بحالهم ويمنحهم النجاة. كتبٌ تغرَّبت في لبنان وتركيا وبلدان أخرى، بعد هجرة أصحابها، من دونها، نحو مجهولٍ جديد، فكُتِبَ لها أن تبقى أسيرة منفاها أو أن تعود وحيدةً إلى وطنها الأم.

أتذكر صديقتي “عاشقة الكتب”، حين غادرت لبنان نحو أوروبا منذ عامين، أرسلت لي خمسة عشر كتاباً لأحتفظ بهم “كأمانة غالية”، وأوصتني بالعناية بهم وحمايتهم كما لو أنها توصيني بأبنائها.

لطالما كانت تلك الصديقة صلة وصلٍ بين بعض الكتب وأصحابها وجسراً لعبورها نحوهم، إذ قامت بنقل العشرات منها من دمشق إلى بيروت، خلال سفرها بين العاصمتين، وكانت الكتب المنقولة تشغل الحيّز الأكبر من حِمل حقائبها. حِملٌ جميلٌ تنقله بفرحٍ وحب، ليلتم شمل الكتب مع أصحابها المبعدين عنها.

كانت تقول دائماً “الكتب ليست مجرد أوراق خرساء أو مصدر للثقافة والاكتشاف والمتعة فقط، بل هي كائنات حية لها قلبٌ وروحٌ ومشاعر، فهي تحزن وتنزف إذا ما فارقت أصحابها.” اليوم أنظر إلى كتبها الحاضرة أمامي وأتذكر ما قالت، وأشردُ بعيداً…

ترى ما مستقبل هذه الكتب؟ هل ستحتضنُ أحبتها يوماً ما؟ وهل ستحيا إلى ذلك الحين؟ أم ستلقى مصير كتابٍ نعيش الآن خارج سطوره؟ كتابٌ كان اسمهُ سوريا.

سوريا في أسبوع، ٢١ أيار

سوريا في أسبوع، ٢١ أيار

روسيا باقية
١٦ أيار/مايو

قال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في ١٦ مايو/أيار، إن سفنا عسكرية روسية مزودة بصواريخ كاليبر الموجهة ستكون في حالة تأهب دائم في البحر المتوسط للتصدي لما وصفه بـ “التهديد الإرهابي” في سوريا.

ويظهر نشر الصواريخ كيف تعزز روسيا وجودها العسكري في الشرق الأوسط منذ تدخلها في سوريا في ٢٠١٥ لتقلب موازين الحرب لصالح حليفها الرئيس بشار الأسد.

وقال بوتين إن السفن الحربية المسلحة بصواريخ كاليبر ستكون وحدها في حالة تأهب دائم، وليس الغواصات. وأعلن بوتين عن نشر السفن المزودة بالصواريخ في كلمة أمام القيادة العسكرية العليا خلال اجتماع في مدينة سوتشي المطلة على البحر الأسود. وقال إن نشر السفن جاء نتيجة “التهديد الإرهابي الذي لا يزال قائما في سوريا”. وتملك روسيا بالفعل قاعدة بحرية دائمة في طرطوس على الساحل السوري، وقاعدة جوية في حميميم.

شظايا “الانفجار” السوري
١٦ أيار/مايو

حذر ستيفان دي ميستورا، مبعوث الأمم  المتحدة إلى سوريا من أن التوترات في البلد لا تزال مرتفعة بسبب “المواجهات الدولية” على الأرض. وحذر دي ميستورا، خلال اطلاع مجلس الأمن الدولي على الوضع في  سوريا ، من أن التوتر في العلاقات بين إسرائيل وإيران يمثل “مسارا مضطربا للمواجهات الدولية المتكررة والمكثفة أكثر من أي وقت مضى.”

وتبادلت إسرائيل وإيران ضربات صاروخية في مرتفعات الجولان في الأسبوع  الماضي، مما أثار المخاوف من اندلاع صراع أوسع في سوريا.

وقال دي مستورا إنه يشعر بالتشجيع جراء الجولة التاسعة من المحادثات في أستانة  التي انعقدت الاثنين مع مفاوضين من إيران وروسيا وتركيا وهي الدول الثلاث التي ترعى ما يسمى عملية أستانة.

وأضاف أنه يتم الآن اتباع “دبلوماسية حذرة ولكن استباقية” وهذا أمر مطلوب لإحياء العملية السياسية وخفض التصعيد في القتال. وانتهت تركيا من نشر نقاط المراقبة الـ ١٢ في ادلب بين حلب واللاذقية وحماة في شمال غربي سوريا بموجب عملية آستانة.

“حزب الله” ينسحب
١٧ أيار/مايو

انسحبت قوات تابعة لموالين للجيش السوري الخميس من نقاط لها في منطقة الحاضر جنوب حلب.

وقال مصدر في المعارضة السورية لوكالة الأنباء الألمانية إن “رتلا عسكريا يقدر بحوالي ٢٥ آلية ترفع أغلبها أعلام حزب الله اللبناني بينها ناقلات تحمل دبابات انسحبت صباح الخميس من بلدة الحاضر/ ٢٢ كلم جنوب مدينة حلب/ واتجهت إلى مواقع جبل عزان الذي يسيطر عليها الحرس الثوري الإيراني.”

وأكد المصدر أن “انسحاب مقاتلي حزب الله اللبناني وعناصر من القوات الحكومية جاء بضغط من القوات الروسية التي تريد إنشاء نقاط مراقبة في المنطقة، بعد نشر الجيش التركي نقاط مراقبة في منطقة تلة العيس بريف حلب الجنوبي.”

وتعرضت القوات الإيرانية في جبل عزان لقصف صاروخي يعتقد أنه من طائرات التحالف أو إسرائيلية نهاية الشهر الماضي.

بوتين والأسد
١٧ أيار/مايو

اعتبر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وحليفه السوري بشار الأسد، خلال لقاء نادر الخميس في روسيا، أن الوقت حان لتسريع العملية السياسية للانتقال الى اعادة الاعمار وسحب القوات الاجنبية المنخرطة في سوريا.

وهذا اللقاء هو الأول بين الرئيس الروسي ونظيره السوري منذ اللقاء المقتضب في كانون الاول/ديسمبر في القاعدة الروسية في حميميم بسوريا والذي اعلن بوتين على أثره سحب جزء من الوحدات العسكرية الروسية الموجودة في البلاد.

وكان الزعيمان التقيا أيضا في تشرين الثاني/نوفمبر في سوتشي البلدة الساحلية على البحر الأسود في جنوب غرب روسيا حيث يمتلك الرئيس الروسي منزلا. وكما حصل في تشرين الثاني/نوفمبر، عقد اجتماع الخميس بشكل سري. وبث التلفزيون الروسي مساء الخميس مقتطفات قصيرة من اللقاء بين الرجلين اللذين شددا على النجاحات العسكرية للنظام السوري المدعوم من الجيش الروسي.

ويبدو ان هذا الاجتماع يعزز موقف الاسد، قبل لقاء بوتين المستشارة الالمانية انغيلا ميركل والرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون الأسبوع المقبل.

وهنأ بوتين الرئيس السوري على “نجاحات جيش الحكومة السورية في مكافحة الجماعات الإرهابية” ما أتاح “تهيئة ظروف جديدة لاستئناف العملية السياسية على نطاق واسع” بحسب بيان صادر عن الكرملين.

والتدخل العسكري الروسي في سوريا الذي بدأ في ايلول/سبتمبر ٢٠١٥ سمح للجيش السوري باستعادة غالبية الأراضي.

وتابع الرئيس الروسي أنه “مع بدء المرحلة النشطة من العملية السياسية، ستنسحب القوات المسلحة الأجنبية من الأراضي السورية”، من دون أن يحدد هوية تلك القوات. واضاف بوتين ان “المهمة التالية تكمن بالتأكيد في إنعاش الاقتصاد وتقديم المساعدات الانسانية.”

وأوضح وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف ان القوات الروسية موجودة في سوريا بناء على طلب الحكومة الشرعية وستبقى طالما تطلبت الحاجة.

انفجارات غامضة في حماة
١٨ أيار/مايو

هزّت انفجارات ضخمة الجمعة مطار حماة العسكري في وسط سوريا لم تُعرف أسبابها بعد، وفق ما أفاد المرصد السوري لحقوق الإنسان.

وقال مدير المرصد رامي عبد الرحمن إن الانفجارات وقعت “في مستودعات أسلحة ووقود لقوات النظام في المطار” قرب مدينة حماة. وأورد المرصد أنه “لم ترد معلومات إلى الآن عن أسباب الانفجارات”، مشيراً إلى أنها “تسببت بتصاعد أعمدة الدخان في محيط وأطراف مدينة حماة.”

وأفادت وكالة الأنباء السورية الرسمية (سانا) عن “سماع دوي انفجارات في محيط مطار حماة” من دون إضافة أي تفاصيل.

خلال الأسابيع الماضية، استهدفت إسرائيل مرات عدة مواقع عسكرية في سورية كان آخرها ليلة التاسع والعاشر من أيار/مايو، حيث أعلنت إسرائيل قصف عشرات الأهداف “الإيرانية” رداً على هجوم صاروخي قالت أيضاً أنه “إيراني” على الجولان المحتل.

ومنذ ٢٠١١، قصفت اسرائيل مرارا أهدافاً عسكرية للجيش السوري أو أخرى لحزب الله في سوريا، لكن الاستهداف طال مؤخراً مواقع يتواجد فيها إيرانيون.

ابتزاز روسي!
١٨ أيار/مايو

ذكرت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل أن حكومتها ترى أنه يتعين على روسيا استخدام نفوذها لمنع مصادرة حقوق اللاجئين في سورية.

بحثت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الجمعة في لقاء استمر ساعة واحدة بمدينة سوتشي على البحر الأسود ما يسمى المرسوم رقم عشرة الذي أصدرته الحكومة السورية.

وينص المرسوم على أن السوريين الذين لا يسجلون أنفسهم خلال عدة أسابيع في مواطنهم بالداخل سيفقدون عقاراتهم داخل الأراضي السورية، ووصفت ميركل هذا المرسوم بأنه “سيكون عائقا كبيرا للعودة” في إشارة إلى اللاجئين السوريين في ألمانيا.

ناشد الحزب الديمقراطي الحر حكومة ميركل عدم الخضوع لابتزازات بوتين بخصوص قضية اللاجئين السوريين وإعادة إعمار البلاد.

وقال بيجان جيرساراي مسؤول الشؤون الخارجية بجناح الحزب لصحيفة “بيلد” الألمانية إن على ألمانيا أن لا تشارك إلا في إعادة إعمار سورية، حين ينتهي العنف فيها، ويتم التوصل إلى خطة سلام دائمة لمستقبلها.

وحذر جيرساراي الحكومة الألمانية قائلا: “لا ينبغي أن تخضع ألمانيا لإملاءات وابتزازات بوتين في كيفية تشكيل إعادة إعمار سورية بعد الحرب”، مؤكدا أن ألمانيا “لا يصح أن تعيد بناء المدن السورية التي دمرتها روسيا بلا قيد أو شرط.”

سوريا الأسوأ في التاريخ
١٨ مايو/أيار

قال مسؤول بالأمم المتحدة االجمعة إن الأزمة الإنسانية في سوريا هذا العام أسوأ منها في أي وقت سابق منذ بدء الحرب قبل نحو سبع سنوات.

قال بانوس مومتزيس منسق الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية في أزمة سوريا في بيروت “نلاحظ في ٢٠١٨ أن الوضع الإنساني داخل سوريا هو الأسوأ منذ بدء الحرب: تدهور مأساوي للغاية، ونزوح واسع النطاق، وعدم اكتراث بحماية المدنيين وما زالت حياة الناس تقلب رأسا على عقب.”

وذكر أن سوريا هي أسوأ مكان في التاريخ الحديث فيما يتعلق بالهجمات على موظفي ومنشآت الرعاية الصحية، حيث تمثل نحو ٧٠ بالمئة من إجمالي تلك الهجمات في أرجاء العالم.

وذكر المنسق أن بيانات الأمم المتحدة تظهر مقتل ٨٩ موظفا بالرعاية الصحية في ٩٢ هجوما عسكريا مؤكدا على منشآت صحية في الفترة بين الأول من يناير كانون الثاني والرابع من مايو/أيار، وذلك مقارنة مع مقتل ٧٣ في ١١٢ هجوما في عام ٢٠١٧ بأكمله.

بين “النظام والتنظيم”
٢٠ أيار/مايو

أفاد المرصد السوري لحقوق الإنسان بإجلاء مجموعة من مقاتلي “داعش” من آخر جيب للمعارضة قرب العاصمة دمشق اليوم الأحد في انسحاب سيعيد للدولة سيطرتها على المنطقة.

ولم تذكر وسائل الإعلام الرسمية السورية شيئا عن اتفاق للسماح للمتشددين بمغادرة الجيب الذي يقع في محيط مخيم اليرموك للاجئين الفلسطينيين. ونقل الإعلام الرسمي عن مصدر عسكري سوري نفيه أمس السبت التوصل لأي اتفاق.

و باستعادة جيب اليرموك تكون الحكومة السورية قد سحقت آخر جيب محاصر للمعارضة في غرب سوريا وإن ظلت بعض قطاعات الأراضي على الحدود مع تركيا والعراق والأردن خارج نطاق سيطرتها.

وقال المرصد إن حافلات دخلت الجيب بعد منتصف الليل لنقل المقاتلين وأسرهم. وغادرت الحافلات باتجاه منطقة البادية ذات الكثافة السكانية المنخفضة والتي تقع إلى الشرق من العاصمة.

خلاف موسكو ودمشق على “مناطق النفوذ” في سوريا

خلاف موسكو ودمشق على “مناطق النفوذ” في سوريا

ما أن انتهت قوات الحكومة السورية بدعم من الجيش الروسي من معارك وتسويات الغوطة الشرقية وريف حمص، حتى بدأ السؤال يتصاعد في موسكو من جهة وطهران ودمشق من جهة أخرى، عن المرحلة المقبلة ومستقبل مناطق النفوذ الخارجي الثلاث الباقية: جنوب غربي سوريا، شمال غربي سوريا، شمال شرقي سوريا.

أما في برلين وباريس وعواصم أخرى، فكان السؤال، يتناول كيفية تحريك العملية السياسية ومستقبل مساري جنيف وآستانة وإمكانية الإفادة من تجربة مينسك للحل الأوكراني باجتراح «مينسك سوري».

الاعتقاد في برلين وباريس ودول أخرى، أن الأمر لم يعد يتعلق بالسوريين، نظاماً ومعارضة. بل بات يتعلق باللعبة الكبرى. لذلك؛ فإن إحدى القضايا التي حملتها المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل إلى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في سوتشي أمس، هو الإفادة من خصوصية العلاقة الألمانية – الروسية، وإطلاق مجموعة عمل جديدة خاصة بسوريا، مشابهة لمجموعة مينسك، بحيث تضم روسيا، وأميركا، وألمانيا، وفرنسا. ولا شك أن الرئيس الفرنسي مانويل كامرون سيحمل الفكرة ذاتها إلى بوتين في 25 الشهر الحالي، خصوصاً بعدما فشل اقتراح فرنسي سابق بتأسيس «مجموعة اتصال».

الاقتراح الألماني الجديد هو بين اقتراحات أخرى، كان بينها الجمع بين مجموعة آستانة التي تضم روسيا وإيران وتركيا من جهة ومجموعة الدول الخمس ذاتها التفكير المماثل، أميركا، وفرنسا، وبريطانيا، والسعودية، والأردن التي انضمت إليها لاحقاً ألمانيا.

العقبة أمام هذا الاقتراح، هو رفض واشنطن الجلوس على طاولة مع الجانب الإيراني خصوصاً بعد قرار الرئيس دونالد ترمب الانسحاب من الاتفاق النووي. أما ألمانيا، فإنها تحمل بعض المقترحات لتجاوز هذه العقدة. لكن جهوداً كبيراً مطلوبة لذلك، خصوصاً إذا أضيفت العقبات القائمة بين روسيا وأميركا حالياً.

هذه العقبات زادت في الأيام الأخيرة؛ إذ إن واشنطن رفضت حضور اجتماع آستانة الأخير. كما أن الجانب الأميركي لا يزال يفضل مفاوضات جنيف وإن كان لا يبذل الرأسمال السياسي الكافي لتحريكه.

موسكو من جهتها تسير في مسار آستانة، وباتت أنقرة تدعمها في ذلك وتفضله على مفاوضات جنيف وتنفيذ القرار 2254. لذلك، فإن إحدى نتائج اجتماع آستانة الأخير كان الاتفاق على عقد الاجتماع المقبل في سوتشي في يوليو(تموز) المقبل لبحث الملف السياسي، مع أن عملية استانة كانت مخصصة للبعد العسكري وإجراءات بناء الثقة فقط.

لكن العقدة أمام موسكو، كانت في إقناع دمشق على السير في المسار السياسي لسوتشي، أي تشكيل لجنة دستورية من قبل المبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا. وكان لافتاً، أن الأمر تطلب لقاءً بين الرئيس فلاديمير بوتين والرئيس بشار الأسد الذي وافق على إرسال قائمة من مرشحين إلى اللجنة الدستورية لـ«تعديل» الدستور الحالي، مع تجنب ذكر مفاوضات جنيف.

ولم يكن هذا الخلاف الوحيد بين موسكو من جهة وطهران ودمشق من جهة أخرى؛ ذلك أن الخلاف الآخر الذي استدعى لقاء بوتين والأسد، يتعلق بمرحلة ما بعد الغوطة. بحسب المعلومات، فإن موسكو تفضل التزام «هدنة الجنوب» مع أميركا والأردن. وكان وزير الخارجية الأردني أيمن الصفدي بحث مع نظيره الروسي سيرغي لافروف «ترتيبات» معينة لجنوب سوريا، تتعلق بفتح معبر نصيب الحدودي وتجنب العمل العسكري وتحييد السلاح الثقيل وانسحاب ميلشيات إيران إلى مسافات متفق عليها تصل إلى 25 كيلومتراً من الحدود ومحاربة فصائل «الجيش الحر» تنظيمي «جبهة النصرة» و«جيش خالد» التابع لـ«داعش». ويعتقد الجانب الروسي بإمكانية الوصول إلى «ترتيبات» مقبولة من الأردن وإسرائيل وأميركا تسمح بانتشار الجيش السوري من دون معارك.

لكن طهران تدفع دمشق للذهاب عسكرياً إلى جنوب غربي سوريا والسيطرة عليها، وهما تعتقدان بأن لديهما «إمكانية الردع العسكري» لإسرائيل في حال تصاعدت المواجهات في الجنوب؛ ما يعتبره الجانب الروسي «مغامرة فيها الكثير من المخاطر»، قد يستغلها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بتصعيد عسكري لـ«تصفية الحساب ومنع أي موطئ قدم إيراني في سوريا».

حماسة طهران ودمشق إزاء العمل العسكري في إدلب التي تضم 2.3 مليون شخص، نصفهم من النازحين، بات أقل بعد اجتماع آستانة الأخير الذي بارك نشر الجيش التركي 12 نقطة مراقبة كان بعضها بين إدلب، وحماة، واللاذقية، وحلب؛ ما يعني قبول تولي تركيا «عزل» إدلب وحل مشكلة الأجانب في «هيئة تحرير الشام» وغيرها، الذين يقدرون بعشرة آلاف من أصل 60 ألف عنصر.

أما المنطقة الثالثة في شمال شرقي سوريا، فإنها خاضعة أكثر للمزاج الروسي – الأميركي وتطور العلاقات بينهما، خصوصاً أنها المنطقة الوحيدة التي يقوم نوع من التعاون بين البلدين وسط توترات في مناطق أخرى. لكن، طهران ودمشق تدفعان رويداً رويداً في جعل الإقامة الأميركية والفرنسية شرق نهر الفرات وفي معسكر التنف مرهقة ومكلفة، إضافة إلى توفيرها ذخيرة للخطاب السياسي السوري الذي يتضمن «مقاومة الاحتلال» ورفض قبول أي قوات أجنبية غير شرعية. وهذا العنصر وافق عليه الرئيس بوتين عندما طالب خلال لقائه الأسد أول من أمس بانسحاب جميع القوات الأجنبية من سوريا، الموجودة من دون موافقة دمشق.

A Syrian Game of Thrones: Infotainment and New York Times’ Spectacular Coverage

A Syrian Game of Thrones: Infotainment and New York Times’ Spectacular Coverage

If infotainment, a portmanteau of information and entertainment, is indeed a twenty-first century phenomenon, then one must wonder whether the Syrian war’s world coverage, best championed by the New York Times, follows the rules of good reporting or good storytelling. If the ascendency of Game of Thrones and other high-concept shows has informed us on anything about our televisual consumption habits, it is that the Netflix Generation loves the spectacle. Expensive. Fast-paced. Full of action. How could old people watch excruciatingly-slow silent movies? With our decreasing attention spans, it is no wonder that our entertainment needs leak over our news consumption. This need for sensationalism that is worth one’s time is problematic, especially with regards to Syria, whose conflict must be solved, contrary to television shows, in as few episodes as possible. My findings, based on a reflective look into the ‘catchiest’ New York Times’ articles about Syria since 2011, reveal an obsession with the spectacle, with the incredible and the extraordinary, all traits true to the infotainment theory. I have ended up with four kinds of spectacles that the New York Times has, wittingly or not, tapped into in their coverage of Syria’s own theatre of war, whether it is the spectacle of plot-twisting alliances in the conflict, the thrilling debates it inspires, its elements of suspense and need for cliffhangers, and finally, its cathartic apocalyptic depictions. Is not the latest episode of Syria perfect before watching The Walking Dead or Westworld, our favorite post-apocalyptic shows?

Spectacle of Politics and Alliances

“Whom Is Fighting Whom in Syria” asked the New York Times in September 2015 in the headline of their piece. Besides applauding them for the wonderful chiasmus of the title, which, if Syria was indeed a coded novel, would be enthusiastically seen to equate whom with whom, and fighting with Syria, it is the presentation of the article’s content that catches the eye the most. Similar to the way that the first minute of a television show is often dedicated to reminding viewers of previous highlights, the New York Times reserves one block for each country involved in the conflict (United States, Russia, Iran, Turkey, etc.), with three identical labels underneath each country’s name; Backs: x, Opposes: y, How It Is Fighting: z. Thus, the article becomes an attempt to sketch out the various superpowers involved in the conflict, and it is interesting to see the omission of a final label, Why It Is Fighting. An extra note about the diverging interests around Syria, which can logically be deemed as driving forces of the conflict, is cut out. Perhaps not intentionally, but at least conveniently to also add paragraphs about other countries less involved in the conflict, such as Saudi Arabia, Qatar, France, and the United Kingdom. The emphasis in the article becomes precisely this obsession with producing an exciting trailer of some kind, which, because there is only so much it can portray of the full picture, restricts itself to introducing the audience to as many colorful characters as possible, rather than explaining why these characters are at odds. Number becomes important here, with the age-old rule of ‘the more, the merrier’ perfectly applying. Also, what is up with calling the Syrian President “Mr. Assad” nine times in the article? Perhaps a title next to his name adds something to his characterization in the story. Too bad he is not a Count or a Lord.

Spectacle of Debate

Besides depicting Syria as a battleground for all the lords of our ring, the New York Times has successfully caught their readers’ attention by focusing a significant amount of their coverage on the moral crisis and need for intervention that the conflict must inspire in them. These articles, judging from my collection, can be piled into two categories: indirect incitement based on what external parties are saying, with articles titled “Syria Is Using Chemical Weapons Again, Rescue Workers Say,”U.N. Finds ‘Deliberate’ Destruction of Hospitals in Syria,” “51 U.S. Diplomats Urge Strikes Against Assad in Syria” or direct incitement based on what the media itself seems to be saying, with articles titled “Is an Attack on Syria Justified? – Room for Debate,” “5 Reasons to Intervene in Syria Now” or straight-to-the-point one “Bomb Syria, Even If It’s Illegal.” Though the former category’s conservative headline could be regarded as more dangerous than the latter’s zeal precisely because of its suspicious conservatism (since the most dangerous propaganda is the one that does not seem like propaganda), my emphasis in this article about spectacle guides my reflection toward the titles directly inciting us to act. Indeed, “Is an Attack on Syria Justified? – Room for Debate” is interesting because it appears to be a forum for debate, which assesses both the pros and cons of intervening. Yet the wording of the question, which is not a neutral “Is an Attack on Syria Justified or Unjustified?” somehow answers the question itself, with the standalone word “Justified” standing out the most in the title. It is no surprise that the one-sided debate morphed in the next article with the title “5 Reasons to Intervene in Syria,” which could be perfectly read along with other articles like “Five Reasons to Love Personal Progress,” “Five Reasons to Avoid Going Gluten-Free” or “Five Reasons To Wash Hands” – these are suggestions Google has given me to complete a “Five Reason To” phrase. Exaggerations aside, one cannot dismiss the use of a “Five Reason To” format that the New York Times has chosen to use to discuss an intervention in Syria that would cause wreckage and collateral damage. It is not used to echo the similarly-worded titles mentioned previously but it does not either distance itself from them. For readership numbers’ sake, the New York Times would rather blend into your timeline and slide smoothly down regardless of your knowledge or impression of Syria. The last thing the media wants you to do is to mark its would-be disturbing “Why Don’t You Care About Syria?” titles as spam, forever lost in the merciless mechanisms of Facebook’s algorithms.

Spectacle of Suspense

The sensational titles and articles I have explored all feed from our desire with memorable catchphrases (bomb Syria!) and interesting plotlines (Saudi Arabia and Israel versus Iran? The enemy of my enemy is your friend?) but it is truly the suspense linking all their articles that create a much bigger impact to their readers. Evidently, the multiple alliances in the conflict and their diverging interests leave room for perhaps television fans’ favorite hobby after an episode’s cliffhanger – speculation. Indeed, from titles such as “CIA Said to Aid in Steering Arms to Syrian Rebels” to “In Shift, Saudis Are Said to Arm Rebels in Syria” one can notice the use of the word said, used usually for hearsay and gossip tabloids. Its use in a context of conflict becomes evidently more dangerous, especially since a giant media outlet like the New York Times has the means to either find confirmation for their claims or reject them altogether. But their choice to cover them nevertheless could be less about their brave attempt to blow the whistle on the subject matter and perhaps more embedded in the exciting nature of the uncertain. CIA agents with silencers in their suits deployed to Syria? Of course this is exciting. What the New York Times here does successfully is not understanding the conflict itself but understanding the spectators of the conflict, tapping into our own fetishes and fantasies, our own history of our imagination of covert missions so often used in the Cold War, and the Hollywood movies about the Cold War. Cold war references are not the only tools used to strike our imagination as readers that remember history. Articles such as “Syrian Rebels Tied to Al Qaeda Play Key Role in War” or “U.N. Links North Korea to Syria’s Chemical Weapons Program” tap even quicker into our collective imaginary, now zealously revisiting a post-9/11 climate and hearing once again another reckless US president drawing for us the axis of evil, sailing from North Korea to Iran and now Syria. It is these past sensational imagery and speeches that the New York Times, willingly or unwittingly, taps into when it restricts its coverage of Syria to its broader, more spectacular context and the connotations that such a context leaves upon us, consciously or not. One would argue that it is important for the New York Times to cover such ‘coincidentally’ sensational aspects of the conflict. Are the CIA really in Syria? Is Al Qaeda Still Present? Of course, but there is something to say about the choices that the New York Times makes in its limited possible coverage time of Syria. When it merely dwells upon the spectacular side of such covert activities, rather than condemning them all together, one begins to wonder whether the New York Times becomes excited in the discovery of who is inflicting harm rather than becoming appalled by the harm itself. We are once again dictated by the laws of television shows and their suspenseful cliffhangers. Suppose the episode ends with a crime. If the victim is a secondary character or an extra, will you even think twice about them? No, because finding out the murderer’s identity is more exciting – so exciting that you will engage your friends on Twitter about it, and get more and more people excited to watch the show… or read the news.

Spectacle of Apocalypse

Plot-twisting rivalries, tough dilemmas, suspenseful plotline… all necessary ingredients for an exciting show. The one missing ingredient, though, is perhaps a classic ingredient – classic in the sense of the true classics, the Ancient Greeks. The true delight of Oedipus Rex, for example, is the sight of Oedipus rushing to his own demise in his search for King Laos’ murderer – the audience knows in advance that he is himself the murderer. It is this unfolding of an impending tragedy, looming apocalypse, that we have been obsessed to find in every story we read or watch. The stakes must be high or else why bother? A whole kingdom or passionate love affair must be at risk. We need to be at once taught to love our characters and hate to lose them, love how bad events are unfolding and hate if no happy ending magically rises in the end, preferably at the last rolling minute.

We definitely see this key ingredient of successful storytelling in the coverage of Syria by the New York Times. Article titles such as “Syria’s Crumbling Pluralism” in 2012 or “Fractured Lands: How the Arab World Came Apart” in 2016 both link this idea of apocalypse with a reader’s existing idea of tragedy with regards to the Middle East as a whole: New York Times’ articles contribute to an association between our imaginary of the Middle East from other conflicts with the special case of Syria. This idea of a region doomed to an apocalyptic fate is best exemplified in one of the most dramatic New York Times’ titles: “Syria Is Iraq.” We are back to the famous chiasmus, but what this does here is not only equate Syria’s condition in the second decade of the twenty-first century with Iraq’s state in its first decade, but the headline also draws its power from all the connotations associated with Iraq: destruction, mayhem, apocalypse. Interestingly, this article is dated from 2012, before the explosion of the conflict. How to deem current affairs? By this point, you know who can word things best. I leave you with a final one from 2018. “For 8 Days, Syria Felt More Like World War III.”

Syria. This word, which a decade ago, at most connoted delicious food, now has a different meaning. Complicated. Devastating. Apocalyptic. The change of what Syria means to us is driven by the exciting plotline we have been spoon-fed since 2011, a plot about festive and beloved emperors eyeing that coveted province, a plot about the use of a hidden arsenal to change the turn of events, a plot about secrets and mysterious agents crossing borders, a plot about apocalypse. But what the plot is not, and cannot be about, is dead people. Because dead people cannot act. Because dead people cannot speak. Who else will be moving on our screens? Who else has to take action? Definitely not us. We are spectators after all.

الشِّعراء السوريون في الحرب: أصوات تنمو في غابة الدم

الشِّعراء السوريون في الحرب: أصوات تنمو في غابة الدم

لا تزال الحرب تُنبئ بتداعياتٍ كثيرة على مستوى الكتابة الجديدة في سورية، فمن (هجمة الستينيات) التسمية التي أطلقها الشاعر شوقي بغدادي على جيله في تصديره لأنطولوجيا الشعر السوري المعاصر، مروراً بـ(منعطف السبعينيات) المرحلة الأكثر تمرداً على القوالب الشعرية الجاهزة كما أطلق عليها الشاعر منذر مصري والذي أصدر في الحرب كتابه اللافت (لمن العالم- دار نينوى-2016)، وصولاً إلى شعراء الحرب في عامها الثامن، والانقسام الذي أصاب النخب الأدبية بين داخل وخارج، نلاحظ ثيمات جديدة لنصوص مفخخة حملت لعنة الاقتتال الدائر، مثلما حملت وزر أحلامها المنكوبة؛ فالشعر السوري المعاصر وجد انحساراً في السنوات الأخيرة، برأي الناقد جمال شحيّد الذي يرى أن “الرواية أخذت حيزاً كبيراً ومهماً في الثقافة العربية، حيث إن الانحسار الذي تم للشعر عوضت عنه الرواية ولو كان جزئياً؛ لكن موت الشعر في بعض البلدان الأوروبية والمجتمع الاستهلاكي لا يعني موته في بلداننا، فالشعر في سورية مازال إلى حد ما بخير رغم النكسة التي حصلت لهذا الفن الأدبي العظيم، علما بأن شعوب العالم الثالث بشكل عام تهتم بالشعر فكل شاب في مرحلة حياته وخاصة مرحلة المراهقة يكتب شعراً كون القصيدة في النهاية هي تعبير عن الحياة والإنسان، وبحاجة لأن يعبّر عن مشاعره وأحاسيسه فيبدأ بالشعر ويتركه عندما ينضج إذا أراد.”

الناقد (شحيّد) يقول: “شخصياً بتُ متأكداً من أن الحرب التي تمر بها سورية أنتجت شعراً جميلاً، فالشعر يصبح نشيطاً في الأزمات.” إلا أن الشاعر شوقي بغدادي له رأي مختلف في شعراء اليوم إذ يقول: “الشاعر الحقيقي هو الذي يموت إن لم يكتب، فالشِّعر نابع أولاً وأخيراً من المعاناة الشخصية للكاتب، وهذا ما لا أراه عموماً عند شعراء اليوم الذين يتشابهون في كتاباتهم وكأنهم يحبون امرأة واحدة أو كأنهم يكتبون دون أن يعيشوا ويعايشوا ما يؤلفونه من قصائد.”

الشعر العربي قديماً كان له مكان الصدارة لكنه اليوم للأسف يجلس في الصفوف الخلفية من المشهد الثقافي السوري -يُضيف بغدادي- فكون الشعر نابعاً من إصغاء الشاعر لصوته الداخلي هذا لا يعني أن تخلص قصيدة اليوم إلى نوع من الهوامات، بل يجب تكوين المناخ النفسي والعاطفي على أساس الصدق في القول الشعري، لا من باب التزيين والاحتفاء بالأفكار الكبيرة؛ بل بالتعويل على أهمية الشكل الفني وضرورته في إبداع النص الشعري المتوازن والمؤسس لإشراقات جديدة في القصيدة العربية المعاصرة.”

لم ينج الشعر والشعراء السوريون بطبيعة الحال مما ألم بالوطن برمته من كوارث. وكما انقسم الوطن إلى شظايا انقسم الشعر وشعراؤه إلى شظايا- يقول الشاعر تمام تلاوي المقيم حالياً في السعودية ويضيف: “ثمة شعراء وقفوا إلى جانب النظام، وآخرون وقفوا إلى جانب الحراك، وآخرون اختاروا الحياد، وثمة من آثر الصمت. وتبعاً لهذه المواقف جاءت أشعارهم، على أن هنالك من صمت عن قول الشعر ليس لأنه لا موقف له مما يحدث، وإنما لأن الكارثة لجمت لسانه. ولا ملام عليه، فمن يستطيع النطق أمام كارثة كهذه، سوى أشخاص لديهم قدرات استثنائية على الكلام، فكلما اتسعت الكارثة ضاقت العبارة.”

إننا نحتاج زمناً طويلاً حتى نستوعب هول الصدمة، نحتاج زمناً حتى نستطيع أن ننظر بعين شاعرية إلى هذا الخراب العميم وهذا الموت المجاني وهذا التشرد المليوني عبر الحدود والبحار، يستطرد الشاعر تلاوي الحائز على جائزة الشعراء الشباب في (دمشق عاصمة للثقافة العربية 2008): “على المستوى الشخصي كان موقفي واضحاً منذ البداية مع التغيير السلمي ولاحقاً ضد السلاح وضد الأسلمة، لأنني أعتقد أن الموقف الأخلاقي والثقافي والوطني يجب ألا يكون منحازاً إلا لما يخدم مصلحة الوطن والتغيير نحو الأفضل بالوسائل الوطنية والسلمية، والتي لا تؤدي إلى مزيد من القتل والخراب، فكتبتُ قصائد عدة تتناول في الأساس البعد الإنساني لما آل إليه حال الإنسان السوري منذ آذار 2011، كما كتبتُ عن الموت وعن الهدم وعن التشرد وعن الشرخ الإنساني الذي جاء نتيجة للشرخ على المستوى الوطني.”

ثمة شعراء كثر تهجّروا في المنافي وكانوا في معظمهم مؤيدين للحراك، فكتبوا له وغنوا… ومنهم من التحق بالعمل الإعلامي أو الميداني، وهم شعراء مبدعون ومعروفون على نطاق واسع، بينما ظل معظم الشعراء المحايدين أو المؤيدين داخل سوريا- يضيف صاحب ديوان (تفسير جسمكِ في المعاجم): “ثمة شعراء استشهدوا بالقصف كالشاعر محمد وليد المصري، أو استشهدوا بسكين داعش كالشاعر بشير العاني، وشعراء آخرون اعتقلوا كالشاعر وائل سعد الدين الذي أفرج عنه بعد فترة طويلة من اعتقاله، وثمة شعراء هُجّروا من بيوتهم ومدنهم أو هربوا، وهؤلاء أسماؤهم لا حصر لها. الشعر السوري برأيي الشخصي حالياً يشبه مصائر هؤلاء الشعراء، فهو إما شاعرٌ مقتول أو أسير أو مهجّر أوهارب.”

الشِّعر يقود المرحلة

الشاعر زيد قطريب الذي أدار وأشرف في سنوات الحرب على ملتقى (ثلاثاء شّعر) في العاصمة السورية منتجاً عنها أنطولوجيا بعنوان: (شعراء تحت القصف) باللغتين العربية والألمانية له رأيٌ أقل تشاؤماً في هذا السياق إذ يقول: “نحن أمام انعطافة كبيرة على صعيد النص الشعري، سوف تتبلور لاحقاً لكن متى لا أحد يعرف بالضبط! هذا الأمر تؤكده الكثير من النصوص المكتوبة من قبل أجيال شعرية مختلفة، فالمسألة لا تتعلق بالشعراء الشباب كما يتخيل البعض. هذه الانعطافة لا يُقصد بها حضور ألفاظ الحرب وأسماء السلاح ومفردات الانفجارات وأصوات الرصاص، لأن حضور هذا المعجم أمر طبيعي ولا يمكن أن يعتبر انعطافة أو تجديداً. إنما هناك انعطافة كبيرة على صعيد المعنى والشكل في آن معاً، فهذه الحرب كانت مناسبة لاستيقاظ كل الأسئلة الفكرية والفلسفية المؤجلة منذ أمد بعيد، وهو ما أدى عملياً إلى استيقاظ أسئلة الشكل المتعلقة بأسلوب الكتابة الشعرية، ولنقل إن هناك علاقة جدلية بين الطرفين؛ بحيث لا خلاف على أسبقية المضمون على الشكل أو بالعكس، فكل واحد منهما يتسبب في إيقاظ الآخر. قريباً، ستودّع الكثير من الكتابات الشعرية معجمها المعروف والمستخدم حالياً وأقصد به اللغة العربية بشكلها الحالي في إشارة إلى تشكّل معجم جديد يفكُّ عقد التحالف الذي نشأ تاريخياً بين النص الغيبي الديني والنص السياسي الاستبدادي، وكل ذلك بفضل الحرب التي أعادت أسئلة الانتماء والهوية والثقافة والذائقة الجمالية إلى الواجهة.”

اليوم- كما يخبرنا الشاعر قطريب: “سيتولى الشِّعر قيادة المرحلة الجمالية والثقافية القادمة ليعيد صياغة الذهنية والمخيلة السورية التي رزحت طويلاً تحت الاحتلال العربي الإسلامي، والآن نحن أمام حركة تحرر كبيرة يقودها النص الشعري وهي تأتي تتمة لما فعله شعراء سوريون عظماء في التاريخ بدءاً من المتنبي والمعري وصولاً إلى السيّاب والملائكة والماغوط وأدونيس. تلك الحركات التي أسست بعامل التراكم الكثير من انتفاضة النص الشعري السوري وعودته إلى رشده إن صح التعبير، سوف تستكمل اليوم بما يكتبه الشعراء السوريون عبر نسف الشكل والمضمون المألوف والمستكين، إنها انتفاضة لا يمكن أن تحدث بنص واحد أو عبر شاعر واحد، بل قد نستطيع تسميتها بالحركة الشعرية التي تشبه ما فعلته مجلة شِّعر في ستينيات القرن الماضي، لكن الأسئلة اليوم أخطر والمعركة أشد مصيرية من ذي قبل، لكن ما هو مؤكد أن الشعر هو من سيقود مجد المرحلة المقبلة.”

صدرت مجموعات شعرية كثيرة في سنوات الحرب لكن أكثر الآراء النقدية التي تم تداولها بعد فورة الشعر السوري في الحرب الدائرة الآن بأنه لا أبوّة له أو أنه قتل آباءه وكأننا أمام رأي طه حسين بالشعر الجاهلي معتمداً على مقولة أبي عمرو بن العلاء “ما لسان حمير بلساننا ولا لغتهم بلغتنا” وبناء على هذه الجملة تم التشكيك بشعر امرئ القيس زعماً بأنه موضوع ومنحول؛ أما لدينا فقد حصل الأمر بشكل معاكس. يقول الشاعر باسم سليمان الذي أصدر خلال الحرب أكثر من كتاب شعري وروائي كان أهمها (تماماً قبلة): “الشعر ليس الهدف منه فنياً البتة بل سياسي، فالربيع العربي الذي أراد القطع مع الخطاب الثقافي السائد والمتماهي مع السلطة المثار عليها، ذهب مغترباً في وصف الجيل الشعري الذي نضج وأثمر خلال سنوات الصراع المستمرة، فوصفه بأنه جزيرة تنمو في وسط المحيط لها جملها واستعاراتها ومجازاتها الخاصة وكأن اللغة ولدت الآن لكن المدقق والمتابع بشكل فني بلا تأثر بتجاذبات الجهويات السياسية المتبناة، يستطيع أن يرى التأثير الواضح للأسماء الكبيرة في الشعر السوري على هذا الجيل واستنساخ تجربته وتطويرها، وهذا ليس عيباً، فأمير الشعراء وقف وبكى، وبالتمعّن أكثر يكتشف كيف تشتغل الآلة الثقافية السياسية في تعويم الأسماء وتوجيه الخطاب الشعري نحو سوق العرض للاستهلاك التطهيري وفق رؤية أرسطو، فالمنابر الثقافية ودور النشر والجوائز استقطبت خطاباً شعرياً جهوياً من الناحية السياسية دون غيره حتى لو كان أرفع فنياً وشعرياً، وخاصة بعدما حسمت الجهات الثقافية في المنطقة العربية خياراتها السياسية والتمويلية، هذا الأمر جعل الشِّعر السوري أعور مصاباً بالحول والضلالة الإبداعية.”

ليس ما سبق بهدف التقليل من المنجز الشعري السوري في سنوات الموت بل دفاعاً عن الجمال وإنقاذ ما يمكن إنقاذه من التلوث الذي أصاب جوانب الحياة السورية كافة- يُعقب الشاعر باسم سليمان مضيفاً: “إن كان من ثورة نقدية مضادة تعيد الشعر السوري إلى ريادته لابد لها من أن تعترف بأن الشعرية السورية قبل الحرب وخلالها، سواء لناحية الإيجابيات أو السلبيات، كررت إنتاج ذات المناحي السيئة والترويج لها على أنها الخير الوفير في الشعر السوري الآن، فالقطيعة التي أُمل منها أن تحرِّر الشعر من تجاذبات الجهويات السياسية كي ينتصر لقيم الحق والجمال والخير، أكملت بنفس النسق الذي ثارت عليه، فالابن الشعري ارتدى جلباب الأب الشعري بل أصبح بطريركياً أكثر من الأب نفسه.”

أين الشعر؟ تتساءل الشاعرة السورية سوزان علي مردفةً: “عناوين  كثيرة طُبِعت وتطبع منذ بداية المأساة السورية في الداخل والخارج، ومع إيماني العميق بأن الحرب بفوضاها وموتاها تجعلنا لا نرى، إلا أن النتاجات الشعرية فاقت أي إنتاج أدبي آخر، مع كل الغرق، مع كل الضبابية التي تحيط بالمشهد، هذا بلا شك ما تدل عليه أغلب النصوص الشعرية التي خلصت إليها السنوات السبع الأخيرة في سورية.”

الانطباعية تتجلى تعقب (علي)، وتضيف: “للحظة تشعر فيها أن الشاعر يرقب ما يجري في الشارع، ثم يبدأ بتدوين أحداثه داخل ورقة في جيبه. تأخذ رحى الحرب مفردات الشعر وتطحنها، لتجرّدها من كل ما ألفناه من الشِّعر السوري.

أين الكتاب؟ تتساءل الشاعرة سوزان علي مرةً أخرى وتقول: “وسائل التواصل الاجتماعي، التي تحتفي باليومي، بـ(صباح الخير، بمقطع أعجبك، بأغنية اشتقتَ إليها)، هناك سؤال صغير فقط عليك أن تجيب عليه كل يوم: (بماذا تفكر الآن)؟

أو (ما هي حالتك الآن)؟ هل يستوعب هذا السؤال قصيدة جاءت بأكثر من عشرين سطراً؟ وهل يستوعب كتاب ذو صفحات بيضاء، نسخ حالتك الآنية تلك، وما الاستمرارية في نص صُممّ بنيانه بعيداً عن طبيعته؟ وإلى متى سيعيش هكذا نص؟

مجموعات كثيرة اطلعتُ عليها، وأعرف صفحات أصحابها مسبّقاً في العالم الافتراضي، كانت قد اقتطعت نصوصاً كثيرة لها من الفيس بوك لترميها بدون أدنى مسؤولية، ولتتنازع فوق روح البياض الورقي.”

أين الجمهور؟ سؤال ثالث توجهه الشاعرة سوزان علي وتجيب: “سبق أن استمعت إلى أحدهم في إحدى الأمسيات، لم تخن قصائده فقط جوهرها في كتاب، بل أيضاً في نطق وصوت الحروف من حنجرة الشاعر. مرة أخرى صفحات (الفيس بوك) تعرّي الشاعر فوق المنابر، فزرّ (أعجبني) غير موجود هنا للجمهور، وزر التعديل أيضاً لم يعد بالممكن استخدامه بالنسبة لشاعر الافتراضيات!”

الكارثة حدثت لنا في الموت، ولم يكن هناك من عمل يوازي هذا القتل- تشرح (علي) التي صدر لها كتاب شعري عن دار المتوسط بعنوان (المرأة التي فوق فمي) وتضيف: “لأننا في إثرهِ نمشي، نحن لم ننشف بعد، وإن نظرنا خلفنا لن نرى سوى ظلالاً تتكسر، وكما نضع كفاً فوق جبهتنا أثناء ظهيرة حادة لنرى بصعوبة، الشعر اليوم يكاد لا يُرى؛ بالمقابل هناك عناوين تمسك خيط الألم من بدايته قبل حتى أن تفتح الكتاب لتقرأ فهاهي (رصاصة فارغة-قبر مزدحم) مجموعة الشاعر السوري (وفائي ليلى- صادرة عن دار المتوسط عام 2015)، وهناك كتاب (بانوراما الموت والوحشة) للشاعرة رشا عمران الصادر عن دار نون في عام 2014 وهو نص مفتوح على عزلة ووحدة الشاعرة، تركت صفحاتها بلا عناوين، كأنها جرح لا يتوقف عن السؤال والضياع، جرح تفاصيلها اليومية، التي باتت تتكلم أيضاً مع الشاعرة عن تلك الفوضى.”

مجموعات أخرى صدرت في الحرب كان انشغالها بالذاتية وسجنها أيضا عنواناً لها،  موت تدور حلقاته بسرعة مع الأنا وللأنا، وكأننا لا نقرأ سوى تجربة يومية تشاهد الآني وتبعد الخيال عن ساحة شعورها، فتفضّل أن تسقي زهور الشرفة وتراقب السماء و تذهب في نزهة إلى البحر، إننا أمام حدث عائلي أو شخصي، في (رفات فراشة) المجموعة الشعرية الصادرة عن (دار التكوين) للشاعرة خلود شرف، والتي لم ينقذها الرمز أحياناً والتجريد أحياناً أخرى من الوقوع في مطبات التكرار وصياغة مفردات تتوهج كحلي فوق السطور (كلا إن الشعر لا يلفظ أنفاسه الأخيرة- تضيف سوزان علي: “إنه يعطي الانطباع بأنه متعب حقاً كما وصّف الشاعر المكسيكي (أوكتافيو باث) يوماً حال الشعر، فالبلاد متعبة أيضاً، حيث القبور مفتوحة سلفاً، والغبار غداً  سيكون سميكاً فوق الكتب، الوقت يترنح في ظلِّه، والشِّعر ينتظر طارقاً جديداً يقوده إلى العماء الأول، صافياً عذباً كما كان.”

يوميات سورية: نواطير الأبنية-العمل المجهول

يوميات سورية: نواطير الأبنية-العمل المجهول

لا تتطلب البنية العمرانية التقليدية لدمشق وجوداً لمهنة النواطير، لأنّ ارتفاع الأبنية لا يتجاوز الطوابق الأربعة في الأحياء التقليدية القديمة الحديثة مثل الميدان والمزة وباب مصلى والقصور والتجارة وركن الدين ومساكن برزة وبالتالي تغيب المصاعد عن هذه الأبنية ويكون التخديم عملاً خاصاً بأهل البناء كل حسب حاجته ومقدرته. لكنّ التنظيم العمراني الجديد وبداية تنفيذ الأبنية البرجية في المزة الجديدة وفي مشروع دمر والأبنية “التسعاوية” في حي التجارة نسبة إلى عدد الطوابق، فرضت نمطاً جديداً من الخدمات يتطلب وجود ناطورٍ بشكل دائم، وتبدو الخدمة الأهم هي المصاعد من تنظيف وتشغيل وفتح عند الطوارئ.

لكن حتى في تلك الأحياء تخلّى قاطنو بعض الأبنية عن خدمات النواطير توفيراً للنقود ولعدم وجود مكان يتسع للناطور وعائلته، ويتولى أحد الجيران أو أحد أعضاء لجنة البناء مهمة متابعة المصاعد من كافة النواحي بعد التعاقد مع شركة خاصة لصيانة المصعد يتم الاتصال بها عند أي طارئ، وبالطبع يتم تقاسم كلفة الصيانة بين كافة المستفيدين، ويمكن الإشارة هنا إلى أن أبنيةً كثيرة وعدد طوابقها لا يتجاوز الأربعة قد اتفق شاغلوها على تركيب مصعدٍ خارجيٍ لم يكن موجوداً في التصميم الأساسي للبناء، وإن تمنّع أحد الساكنين عن المشاركة بتكاليف التركيب أو الصيانة يتم حرمانه من الاستخدام والاستفادة من المصعد، إما بوضع قفلٍ ومفتاحٍ للعائلات المساهمة أو بوضع رقمٍ سريٍ يتم تغييره بصورة دورية تسمح فقط للمساهمين  وضيوفهم وأهلهم بالاستفادة من خدمة المصعد، وقد يلجأ سكان البناء للتعاقد مع أحد نواطير الأبنية المجاورة لتأمين خدمتي جمع القمامة وشطف الدرج مقابل مبلغٍ ماليٍ محدد شهرياً أو أسبوعياً للراغبين في الاستفادة من هذه الخدمات.

اللافت في مهنة النواطير التغير الكبير الذي طرأ على بنية العمل ذاته، فقد سافر نواطير عتاة، أي متمرسون في مهنتهم ممن جاءوا إلى البناء شبانًاً ثم تزوجوا وأنجبوا، حتى أنّ بعضهم قد أورث عمله لأحد أبنائه. في زمن الحرب السورية،  قرر عدد كبير من النواطير اللجوء إلى أوروبا، نواطير أميون ولا يعرفون جغرافيا خارج حدود أبنيتهم، صاروا الآن جمهوراً من اللاجئين في أوروبا، فجأةً اكتشفوا بأنّ مهنتهم لا مستقبل لها، مهنة بنيت على أرضية هشة وبلا مستقبل أو تسجيل بالتأمينات الاجتماعية أو بالخدمات الطبية والسلامة المهنية، فجأة باتت الهجرة حلماً وفرصة للمستقبل!

الأهم أنّ غياب وسفر هؤلاء النواطير المتمرسين  والمتآلفين مع السكان ومع الطبيعة الخاصة لعملهم قد خلق حاجة ماسة لتوفير بدلاء عنهم، بدلاء في ظلّ حرب ٍاستهلكت رجال البلد، وخاصة الشباب، وباتت قوة العمل خارج الاكتفاء وبرزت حاجة ماسة وجديدة لسد الفراغات الكبيرة التي باتت فجوة لا وجود لمن يسدها ويفي باحتياجاتها.

كما أنّ تزايد أعداد المهجرين والنازحين من بيوتهم في الأحياء القريبة أو من الريف  الخارج عن دورة الحياة أو من المدن والأرياف البعيدة مثل ريف حلب قد أفرز أيدياً عاملة جديدة، تراجعت أعمالها بسبب الحرب أو ضاعت مقدراتها كاملة أو باتت الأراضي قفاراً وحيث لا يوجد بشر لا توجد أية حاجة للعمل الذي كان وتكوّن وارتقى بارتقاء البشرية ووجودها في الأساس. ويمكن الإشارة هنا إلى أن غالبية نواطير الأبنية  قيد الإنشاء في جرمانا مثلاً هم من ريف حلب، يحددون مساحة خاصة بهم، ستائر رثة وبطانيات رقيقة لا ترد شيئاً إلا الضوء، شبابيك عتيقة وأبواب لاتشبه الأبواب ويصير الحيز المكاني بيتاً ومدينةً وبلداً.

هل يسدّ القادمون الجدد الفجوة المتحصلة من غياب النواطير المهاجرين أو المنخرطين بالجيش؟ وكيف لهم إن تم قبولهم الانخراط بعملٍ غريب وجديد؟

عمل الناطور يتطلب سمات خاصة، طراوة  في التعامل وقدرة فائقة على تحمل الأمزجة قبل المهام، وتقبل لكافة الأعمال المطلوبة وحسن الأداء والتنفيذ، استيقاظ مبكر وتواجد مزمن في البناء أو في  منطقة البناء على أقل تقدير، استنفار كامل لعائلة الناطور ذاتها، الزوجة لشطف الدرج، الأبناء لجمع القمامة، وهذه المهام كلها من صلب العمل اليومي المتفق على أدائه مقابل الأجر الزهيد المحدد.

بالمقابل يجهد النواطير وعائلاتهم لإيجاد دخل موازٍ يعوّض ضحالة المرتب الشهري، أو مايمكن اعتباره “اقتصاد ظل!” الزوجة تفرم البقدونس والحشائش وتحفر الكوسا وتلف ورق العنب لعائلات البناء، والأطفال يحملون المتاع والحاجيات ويجلبون مواد البقالة والخبز والأدوية للسكان أيضاً، حتى أنّ إحدى الساكنات كانت تمنح أجراً أسبوعياً لابن الناطور مقابل تنزيه كلبتها وقضائها لحاجتها كل يوم مرتين في الصباح والمساء، ولابد من ذكر أن زوجات النواطير ومنذ اليوم الأول تتحولن لعاملات منزليات، تقسمن أيام الأسبوع بين الساكنات القادرات على الدفع ومن الطبيعي أن تميزن الساكنات السخيات بالمال وغير المتطلبات بالأعمال والمهام، أي مقايضة المال على حساب الجودة.

أم زياد، زوجة أحد النواطير باعت خاتم زواجها وقرطيها واقترضت من إحدى  السيدات الساكنات التي تعمل لديها ما نقصها من قيمة الغسالة الآلية الأوتوماتيكية  واشترتها لتكسب الوقت الذي تقضيه في الغسيل في العمل المنزلي وتقديم خدمات الطبخ وتحضير مكوناته، في بادرة اقتصادية ذكية ،حيث قارنت بين قيمة الوقت المشغول في الغسيل وبين ما تجنيه من عملها المتزايد لمهارتها وسرعتها في أدائه، وطبعا كانت النتيجة لصالح عملها الخاص على حساب الغسيل المضني والمضيع للوقت وللدخل.

اللافت أن نسقاً مختلفاً من النواطير قد حلّ مكان الغائبين مهما كان سبب هذا الغياب، نسق متعلم، صاحب عمل سابق، صاحب ملكية كبيت يسكنه أو قطعة أرض  تدر عليه دخلاً من زراعتها أو استثمارها بالمشاركة مع غيره أو تعهيدها مقابل حصة من الموسم، أو بيت يؤجره أو سيارة يستثمرها شهرياً أو سنوياً. نسق جديد رغب بهذه المهنة وقبل كل شيء بسبب وجود مأوى. أجل مأوى ولو كان عبارة عن غرفتين في قبو رطب أو مجرد قاعة كانت معدة كملجأ أو كمخزن لفائض الحاجات لأهل البناء.

يرتبط النواطير في منطقة محددة بعلاقات معقدة بينهم، تتراوح مابين الغيرة من أجرٍ أعلى أو تساهل أوسع من قبل السكان ولجنة البناء وما بين توافق وتكافل مميزين. يملك  الناطور أبو أحمد سيارة ينقل فيها طلاب المدارس وبعض السكان، وأثناء غيابه يتعهد ناطور البناء المقابل بأخذ مكانه لأمر قد يطرأ، وهو سلوك تبادلي بينهما، يلجآن إليه مرات عديدة في اليوم الواحد. أما ياسر الناطور الذي لا أولاد لديه فقد اتفق مع الناطور أبي مازن على أن يقوم أبناء أبو مازن بجمع قمامة البناء الذي يعمل به مقابل تعويض مالي شهري يدفعه نقداً للأب.

يقول إبراهيم الناطور أنه لا يأخذ مقابلاً من زميله الناطور في البناء المجاور حين يقله إلى السوق أو إلى الطبيب ويعتبر أن ما يفعله واجب غير قابل للتسعير، لأن النواطير تجمعهم وحدة حال ووحدة شقاء وتعب.

نواطير البناء مهنة بلا حماية، لا سجل في التأمينات ولا طبابة ولا تحسين لشروط السكن مثل الدهان أو عزل الرطوبة، والناطور معرض للطرد تحت أية ذريعة. اللافت أنه في بعض الأماكن مثل مشروع دمر يتم دفع فروغ وصل للمائة وخمسين ألف ليرة للناطور الراغب بالرحيل أو لأحد أعضاء لجنة البناء لطرده، وهذه الظاهرة نادرة لكنها تكاثرت فقط بسبب وجود المأوى، المأوى المجاني الذي بات حلماً صعب التحقيق  في بلد هضمت الحرب بيوت بشرها كما هضمت حيواتهم بخفة بالغة لا راد لها.