الناي الأميرة

الناي الأميرة

جدي يضحك كثيراً.

قلت لجدي: “البلبل هو الطائر الذي تراه في المساء عندما تكون مع أمّك على الدربضحك، وضمني

كان جدي يضحك ويضمني، عندما أقول أشياء كهذه.

***

لم أعد قادراً على أن أعرف البلبل بالطريقة القديمة نفسها، صرت كبيراً وأتيت مع الكثيرين ـ الذين كبروا أيضاً ـ إلى دمشق.

ذات مساء دمشقي، عدتُ إلى غرفتي، فعلت ما يفعلُه الآخرون تماماً: وضعتُ المفتاحَ في القفل، وأدرتُه، لم تكن غرفتي كعادتها؛ كانت تضم ستة رجال لم أر ملامحهم من قبل، خمسةٌ يحملون بنادق، وسادسهم يحمل مسدساً. ستُّ فوّهات، لو خرجت من أي فوهة رصاصة واحدة لسال دمولـ

طلبوا مني أن أديرَ وجهي إلى الحائط، وأن أرفعَ يديَّ. كانت كتبي وثيابي مبعثرةً على الأرض. انتبهتُ إلى أن القميص السماوي الذي أهدتني إياه ليلى مرمي، وأني أدوسه بقدمي، حاولت أن أبعدَ قدمي عن القميص، ركلني أحدهم، أثناء استجابتي لركلته أزحت قدمي عن القميص. قلت إنّ ليلى لن تؤاخذني، فهي تعلم أني وضعتُ حِذائي على القميص مرغماً، وها قد أزحتُها. لكني لم أعرف: ما الذي يحدثُ في غرفتي. خطر لي أنني أرتدي القميص السماوي، وأن فوهة قد أطلقتِ النار، رأيت كيف يسيل الدّمُ، ويلوّن زرقة القميص. طلبوا مني أن أدلَّهم على المكان الذي أضع فيه السكر والشاي، قلت لهم إنني مستعد لأن أصنع لهم الشاي بنفسي، وأقدمه لهم، رفضوا، سألتهم: “من أنتم؟قال حامل المسدس: “اخرس!” صمتُّ. وتابعتُ تصور مشهد موتي: أيُّ لغزٍ مربك سيكون موتي بطلق ناريليتني أعرف شيئاً قبل أنأين سأقع؟ صارت عيناي تبحثان في المساحة التي يمكن أن ترياها من أرض الغرفة، وفجأة أيقظني موتُ الأميرة من موتي. رأيتُ الأميرة مرميةً على الأرض وقد تحوّلت إلى أشلاء، أحزنني ذلك كثيراً، رأيت كيف أن حذاءً قد هشّم فمها، لا أدري لماذا شعرت أنه يدوس على فمي! لأقل أنني أحسست بوقع الحذاء في المكان الذي أضع فيه فمي أما ثقوبها فقد صارت أقواساً بعد أن تحطم جسدها! أجبرني الرجال الستة على الذهاب معهم، لم أعد أذكر إلا مشهد الأميرة المرمية. وحيدة بقيت بين أشياء مبعثرة على أرض غرفتي، التي لم أزرها بعد ذلك اليوم أبداً.

***

في مساء خريفي ـ يبدو أنه موغل في القدم أحياناً، ويبدو وكأنه مساءُ البارحة في أحيان أخرى ـ كنت أمشي وراء أمي على درب ريفي ضيق، صرخت فجأة: “أمّيانظري، إنه عصفورٌ حلوحلوٌ كثيراً!” قالت أمي ببرود لا يليق بجمال ريشه ولا باشتعال دمي: “إنه بلبل“.

كان الطائر يحط على غصن شجرة زعرور. ركضت باتجاهه حاملاً إعجابي ودهشتي، لكنه طار قبل أن أصل إليه ـ منذ ذلك اليوم وأنا أشعر أن ما يثير دهشتي وإعجابي يطير قبل أن أصل.

ـ أمي، أنا أحببتُه. لماذا هرب مني؟ أين سيذهب؟

طلبت أمي أن لا أثرثر! لم أكن أثرثر، كنت أسألها من أعماق روحي. طارت عيناي وراء الطائر، ورأيتهُ وهو يحطُّ في غابة القصب القريبة، انحنى رأس قصبة وهو يحط فوقها. كانت باقي القصبات تلوّح بأيديها مرحبة بالطائر الحلو.

قلت لجدي: لقد حطّ البلبل على رأس أميرة غابة القصب، انتقى الأميرة أليس كذلك؟

ضحك جدي، كان جدي يضحك كثيراً. قال لي: إنها الأميرة طبعاً.

***

أمي تضرب، تضربني إذا خالفت أمراً لها

قالت لي: لا تدخل غابة القصب، وقالت لي: فيها ثعابين، ولدغة الثعبان تميت، وقالت: القصب يجرح مثل السكين، هنالك عقارب أيضاً. صار دخول الغابة يلغ في دمي، ففي الغابة عصفور حلووأميرة، ثم أن الغابة محرمة وهذا يكفي لملئها بالأسرار! دخلت غابة القصب المحرمة في ظهيرة من ذلك الخريف البعيد، متحدياً تحذيرات أمي، راغباً في التعرف على أميرة الغابة، كنت أريد أن أقول للبلبل: أنا أحبك. والله العظيم أحبك، فلماذا فررت؟

عبثاً بحثت عيناي في السماء القريبة! بدت عصافير الدوري تافهة لا قيمة لها، ولم يدهشني طيرانُها. كنت أبحث عن ذلك الملوّن الحلو

تبدو الغابة من بعيد أكثر جمالاً مما هي عليه وأنت في داخلها. لا أسرار تراها عيناك، سوق متشابهة متكررةليس هناك بساط أخضر، كالذي تحمله القصبات على رؤوسها وتنشره في الهواء. لا شيء غامضاً يستحق الاكتشاف.

بعد أن يئست من رؤية الطائر ومللت، بدأت أبحث عن الأميرة، لا أدري بأية لغة أقنعتني إحدى القصبات بأنها الأميرة، لكنني صدقتها وفرحت، وصار لدخولي إلى الغابة معنى. لعلّي كنت أبحث عن هذا المعنى!

أيقنت أنها الأميرة، قطعتها بالسكين التي سرقتها من المطبخ، وجررتها معي إلى البيت، محولاً إياها إلى حصان له ذيل أخضر، يكنس الطريق، ويثير الغبار.

ضربتني أمي لأنها بحثت طويلاً عن سكين المطبخ، ولأني جرحت يدي ـ كان جرحاً صغيراً، ولم ينزف إلا القليل من الدم الذي تيبس فوق جسد الأميرة، وضربتني لأني خالفت أوامرها ودخلت غابة محرمة علي؛ لكنها لم تؤذ الأميرة. قال جدي بصوت غاضب: لماذا تضربينه؟ بدأت أمي تشرح له بصوت عالٍ، ولكنها كفت عن الضرب. عرفت أن جدي يغضب أحياناً ولكن جدي يضحك، يضحك كثيراً. ضحك عندما قلت له إنني أحضرت أميرة غابة القصب معي، وضحك عندما أكدت له أنها الأميرة لأن البلبل حط على رأسها، وضحك عندما سألته: “أين ذهب البلبل؟وقال لي إنه سيعود.

ـ متى؟

ـ بعد قليل!

وقال لي: “سأصنع لك شبّابة عندما تتيبس القصبةوأردف ضاحكاً: “أقصد الأميرة.”

***

أمسك جدي بالقصبة، خلصها من أوراقها التي تيبست، أمرني بإحضار الحطب، أشعل ناراً، أحضر سيخاً من الحديد، وضعه في قلب النار، بسهولة صنع لي شبابة. بعدئذ تغيرت ملامحه، بدا وكأنه يصلي صلاة غريبة، كان يحدق في جسد الأميرة، يحركه بين أصابعه بحنان، بدت أصابعه مختلفة، كانت ترتجف رجفاناً لا يرى، رجفاناً من داخلها، وكان وجهه متأملاً غائباً، والأميرة بين يديه مطواعة هادئة.

اقتطع قطعة ونظر إليها ملياً، وبدأ يقيس بأصابعه. بعدها أخذ سيخ الحديد المحمر من النار وبدأ يضع ثقوباً على جسد الأميرة، كانت النار ترقص وتلوّن وجه جدي تبعاً لرقصتها، ويد جدي تهتز قليلاً.

بدا لي ذلك طقساً غريباً، وسيطر عليّ خشوع لا أعرف كنهه.

بعد أن انتهى جدي من تشكيل جسدها كما يرغب، نهض بهدوء، وبدا قلقاً بعض الشيء! وفي المساء، رفع جدي كأس الخمر الذي اعتاد أن يشرب نِصفَه كل يوم، ودلقه في فم الأميرة، ثم صبّ لنفسه نصف كأس جديد. بهدوء رفع الأميرة بين يديه، وبدأ ينفخ في فمهاكان الصوت ساحراً.

اعتقدت أن جدي خدعني! أخذ جسد الأميرة الفعلي، وترك لي شبّابة تافهة. قلت لجدي: “الأميرة هي التي تركتها لنفسك! ضحك جدي! قلت له: أريد هذه. وأشرت بإصبعي إلى الناي التي صنعها. ضحك ومدها صوبي. استغربت أن يتخلى عنها بكل تلك البساطة!

***

لم تكن أصابعي قادرة على أن تتباعد وتغطي ثقوب الناي، تعبت حتى تعلمت كيف أُصدر صوتاً. سألت جدي: لماذا باعدت الثقوب هكذا. ضحك جدي وقال: ستعرف عندما تكبر.

ـ ومتى سأكبر؟

ـ بعد قليللا تستعجل!

مضى القليلالذي تحدث عنه جدي، وكبرت! ـ ليتني لم أفعل ـ صارت أصابعي تغطي ثقوب الناي. كانت أمي تحتج على الصفير الذي أحدثه، لم أكن وقتها أعرف كيف أتحدث مع الأميرات، كنت أنفخ بغلظة، وكانت الأميرة تحتج وتتوجع، لم أكن أعرف كيف أهمس روحي في فم الأميرة لتقول شيئاً حلواً! مراراً كانت أمي تهددني بتحطيم الأميرة فوق رأسي إذا لم أكف عن الصفير.

***

بعد أن دربتني الأميرة على الحديث معها، رفعت فم الأميرة إلى فمي ذات مساء صيفي، وبدأنا نحدّث أمي عن مساء مشيناه معاً، عن بلبل حلو وشجرة زعرور قرب درب ريفي، عن الولد الذي كنته. عن أشياء تعرفها أميوعندما أنزلت فم الناي عن فمي، قالت أمي: “اعزف أيضاً. هذا العزف يدخل إلى القلب!” فرحت لأن أمي لم تعد تقل لي: “كف عن الصفير!”

أنا والأميرة أخبرنا أمي حكاية عنها، حكاية تعرفها كثيراً، أشياء تستوطنها بطريقة ما. أحبتها أمي دون أن تعرف ما هي بالضبط، شيء كسر مفضوح، يبقى سراً ويبقى مباحاً! هذا ما تعلمنا قوله أنا والأميرة.

***

قالت لي ليلى، وعيناها تتجنبان النظر في عيني: “أظنأنناأقصد أن أقول... أعتقدربما كان من الأفضلأن نفترق!.”

غضبت، سألت مرتجفاً: “لماذا؟كان قلبي صدىً لسؤالي، وسؤالي لم يكن يعني إلا شيئاً واحداً: أنا أشتعل حباً فكيف يمكن أن يخطر لك أن نفترق. لم أقدر وقتها على أن أفهم أن ليلى كائن آخر له جسده وروحه، وله الحق في التصرف بهما!

تركتني ليلى، وصار قلبي يرتجف كعصفور مذبوح ومجنون! بدا العالم غير قابل لأن يُفهم. أخذت الأميرة معي، وذهبنا معاً وراء خطواتي، قادتني خطواتي إلى غابة سنديان، تطل على نهر صغير. كانت روحي تحمحم بوجع: “ليلى ليلى لمَ شبقتني*.

جلست على صخرة، صرت أقول للناي أسئلتي ووجعي، وصارت تنشر في الفضاء القريب أوجاع مراهق بريء عذب. من ثقوب الناي خرج آلهة طيبون، تجمّعوا تحت أشجار السنديان، أتوا يحملون نبيذاً معتقاً هناك في السموات البعيدة حيث يقطنون، ربما كانوا يقصدون النهر القريب للاستحمام، تحلقوا حول الصخرة، واقترب كبيرهم مني، ودموعه النورانية تنساب فوق لحيته القدسية، قال لي: يا لقلبك! إنه يستحق فرحاً وسع السماوات والأرض! وقال لي وهو يصغي إلى الناي: صدقت. صدقت يا بني، أصعب من الألم بكثير أن تتألم وحيداً! ركعوا عند أقدام الصخرة، وقفوا، ثم ربت كبيرهم على شعري، فأزلت الناي بخشوع عن فمي، لم يعد هناك سنديان أو صخرة أو مساء! يد إله حنون تربت برقة الآلهة على كتفي! بدأت أبكيوبعد قليل بحثت عنهموأدركت أن العين لا تستطيع رؤيتهم لأنهم خرجوا من ثقوب الناي وانتشروا هناك في فضاء غابة السنديان. وكثيراً ما أحس بهم عندما أذهب إلى هناكحيث زرعتهم.

***

لم أصبح موسيقياً شهيراً.

لم يجر معي أيّ صحفي مقابلة لأقول له إنني لا أحب العزف على النوطة، فسطورها مثل قضبان السجن، لا تستطيع الروح أن تتخطاها، ولم أقل لأحد أن الناي هي أفضل بكثير من الآلات الوترية كلها، لأن الناي تقبل أن تسكب فيها روحك مباشرة والآلات الوترية تحتاج إلى وسيط كالأنامل والريشة، حيث يضيع شيء من الروح

كل ما كان يقال لي: “اعزف لنافأوافق عندما يأتي اللحن، واللحن يأتي هكذا فجأة، يأتي دون أن يستأذن أو أن يطلب منه القدوم. ولم أكن أرغب في أن أدونه على نوطةكنت أوزعه في المساحة الواسعة، يخرج مثلاً من نافذة الغرفة التي استأجرتها ويتمشى في سماء المدينة.

في الغرفة التي استأجرتها، وضعت رفاً صغيراً، ووضعت فوقه قطعة من الحرير الفيروزي، وأمسكت الناي وقلت لها: “هذا سريرك“. فوق ذلك السرير كانت تنام الأميرة إلى أن يوقظنا اللحن معاً! كانت تستيقظ وتقول شيئاً حلواً ثم تعود إلى سريرها!

***

منذ زمن بعيد غادرت تلك الغرفة، وتركت الأميرة مهشمة في أرضها وقد أُنزلت من سريرها عنوةً! تساءلت كثيراً عن مصيرها، لم أستطع أن أقول لنفسي أن أصحاب البيت كنسوها ورموها في سلة المهملات، وبعدها انتقلت إلى إحدى سيارات القمامة. يحزنني أن أصدّق ذلك وكعزاء كنت أقول: كم من الورود الجميلة تنتهي إلى بطون تلك السيارات.

حاولت وفشلت في أن أعود إلى غابة القصب وأنتقي أميرتها الجديدة. لم أعد قادراً على أن أمشي مع أمي مساءً وأرى طائراً مدهشاً ولم يعد جدي حياً. لو كان حياً لسألته: كيف يمكنني أن أصادف أميرة مرة أخرى؟ هل سيضحك جدي الذي كان يضحك. يضحك كثيراً

*ورد في إنجيل متى / الإصحاح 27، الآية 46 على لسان السيد المسيح وهو على صليبه إيلي، إيلي لمَ شبقتني، أي إلهي إلهي لماذا تخليت عني.   

سوريا في أسبوع، ١٤ أيار

سوريا في أسبوع، ١٤ أيار

النووي الإيراني … سورياً
٨/٩ أيار

أعلن الرئيس دونالد ترامب يوم الثلاثاء الماضي انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي مع إيران للعام 2015. وجاء القرار بعد تهديدات متكررة من الإدارة الأميركية بإلغاء الاتفاق الذي وصفته بالاتفاق “الكارثي”. ووقع ترامب الأربعاء الماضي مذكرة رئاسية لبدء فرض عقوبات اقتصادية متشددة على إيران، حيث أشار إلى خطورة الاتفاق الذي سمح لطهران بالاستمرار في تخصيب اليورانيوم، وبالتالي زاد من إمكانية سباق تسلح نووي في الشرق الأوسط. (الجزيرة)

وفشل الضغط الأميركي في دفع الشركاء الأوروبيين في الاتفاق بالانسحاب منه، حيث أعلن كل من الاتحاد الأوروبي وألمانيا وفرنسا وبريطانيا تمسكهم بالاتفاق، لكن طبيعة العقوبات الأميركية على الشركات التي تتعامل مع إيران ستؤدي إلى ضغط كبير على استمرار التعاون الاقتصادي الإيراني الأوروبي.

ورحبت إسرائيل، المستفيد الأول من العقوبات على إيران، بالانسحاب الأميركي، كما رحبت كل من السعودية والإمارات بالقرار، فيما أعلنت إيران استمرارها بالاتفاق بالرغم من الانسحاب الأميركي كما ساندت كل من روسيا والصين الاستمرار بالاتفاق، في انعكاس واضح لحجم التوتر الدولي والإقليمي الذي يحمل مخاطر عالية بالتدهور. (رويترز)

وانعكس التوتر بشأن الاتفاق النووي تصاعداً في الميدان السوري حيث أخذت المعركة بين أيران وإسرائيل تتحول إلى اشتباك مباشر. وبعد أن أعلنت أو سربت إسرائيل عدة مرات بأنها تهاجم مواقع أو قوات إيرانية في سوريا، بما في ذلك الهجوم على قاعدة “تي فور” وسط سوريا، هددت إيران بأن اعتداءات إسرائيل لن تمر دون عقاب.

نتانياهو في موسكو، غارات في سوريا
١٧ أيار

أعلن تلفزيون الميادين ليل الأربعاء أن “محور المقاومة” قام بقصف صاروخي أربعة مواقع عسكرية إسرائيلية في الجولان السوري المحتل، الأمر الذي يعد أول هجوم عسكري على جبهة الجولان المحتل منذ عام 1974، وجاء الهجوم بعد يوم من إعلان ترمب الانسحاب من الاتفاق النووي. ولم تتبن أي جهة رسمياً الهجوم الصاروخي على الجولان. وقالت إسرائيل إن إيران أطلقت ٢٠ صاروخا من طراز جراد وفجر أسقطها نظام القبة الحديدية للدفاع الصاروخي أو لم يصل مداها إلى الأهداف بالجولان. وأضافت أن فيلق القدس الذراع المسؤولة عن العمليات الخارجية للحرس الثوري الإيراني هو الذي أطلق الصواريخ. كما قالت إسرائيل إنها قامت بهجمات صاروخية على قواعد إيرانية في سوريا رداً على “الهجمات الإيرانية” على الجولان، مما زاد الخشية من تدهور الأوضاع إلى نزاع إقليمي واسع النطاق.

وأشار الإعلام الرسمي السوري أن إسرائيل قامت فجر الخميس باعتداءات صاروخية أصابت مواقع دفاع جوي ومستودعاً للذخيرة، كما أفادت وكالة الأنباء الروسية بتصدي الدفاع الجوي لأكثر من نصف الصواريخ الإسرائيلية.

وكانت وسائل إعلام سورية رسمية قد أشارت إلى أن إسرائيل قامت بإطلاق صواريخ على هدف قرب دمشق يوم الثلاثاء بعد وقت قصير من إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترامب انسحابه من الاتفاق النووي الإيراني. وقال الجيش الإسرائيلي إنه بعد رصد “نشاط غير معتاد” للقوات الإيرانية في سوريا أصدر تعليمات للسلطات المدنية في مرتفعات الجولان بتجهيز المخابئ ونشر دفاعات جديدة وتعبئة بعض قوات الاحتياط. (رويترز)

وطالبت كل من روسيا وألمانيا وفرنسا بضبط النفس والتحلي بالحكمة، بينما أدانت الإدارة الأمريكية الهجوم الإيراني وقد صورت إدارة ترامب موقفها المعارض للاتفاق النووي بأنه في جانب منه يرد على تدخلات طهران العسكرية في المنطقة.

والمفارقة في المشهد الإقليمي أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو كان في زيارة إلى الرئيس الروسي بوتين يوم الأربعاء أي عشية الهجوم الإسرائيلي الواسع على سوريا. كما قالت إسرائيل أنها أخطرت روسيا قبل الهجوم على سوريا. مما يشير إلى تعقيدات التحالفات والمصالح حول وفي الحرب السورية.

وفي يوم الخميس انخفضت حدة الخطاب التصعيدي حيث اعتبر نتنياهو أن الرد كان مناسباً، كما قال وزير الدفاع الإسرائيلي ليبرمان إنه يأمل أن يكون العنف مع إيران على الحدود السورية قد انتهى. ويذكر أن كل من وزير الدفاع والطاقة الإسرائيليين كانا قد هددا النظام في سوريا في حال استمرار السماح التواجد الإيراني على الأراضي السورية.

لا يبدو أن الأطراف الإقليمية جاهزة لتخفيف التصعيد بعد، وتزداد احتمالات أشكال جديدة للحرب السورية مع الاستثمار في التسلح والاعتداءات والانتهاكات والتحريض خاصة عندما يكون الصراع مرتبطاً بقضايا مثل الاحتلال أو الهوية أو الهيمنة والاستبداد.

الحجر الأسود يتآكل
١٣ أيار

استمرت المعارك العنيفة بين قوات النظام وداعش في الحجر الأسود ومخيم اليرموك جنوب العاصمة دمشق، وبالرغم من تقدم الجيش السوري إلا أنه تقدم بطيء وترافق مع خسائر بشرية كبيرة بحسب المرصد السوري لحقوق الإنسان نتيجة لطبيعة حرب الشوارع في مناطق سكنية واستخدام عناصر داعش للأنفاق في القتال. وسيطر النظام على ٨٠ بالمئة من الحي حتى يوم الأحد مع بقاء أجزاء من مخيم اليرموك تحت سيطرة داعش.

وأشارت وكالة سانا الرسمية إلى انفجار إرهابي في ساحة الميسات وآخر في برج دمشق وأدت الانفجارات إلى مقتل شخصين وجرح 14 آخرين. وتناقضت المعطيات حول سبب الانفجار إن كان سيارة مفخخة أو صواريخ من قبل عناصر داعش في مخيم اليرموك. (رويترز، عنب بلدي)

يذكر بأن النظام استكمل السيطرة على يلدا وببيلا وبيت سحم المجاورة للحجر الأسود ومخيم اليرموك بعد الاتفاق بين روسيا والنظام السوري من جهة، وفصائل المعارضة من جهة أخرى، والذي خرج بموجبه 8632 شخصًا بين مدني ومسلح إلى الشمال، وتوزعوا بين ريف حلب الشمالي وإدلب. (عنب بلدي)

آخر الجيوب
١٣ أيار

الجيب المحاصر الأخير للمعارضة يسلك طريق الغوطة حيث أعلن الجيش النظامي السوري وفصائل من المعارضة أن آلاف من مقاتلي المعارضة والمدنيين غادروا آخر الجيوب الرئيسية المحاصرة للمعارضة في سوريا، بعد أن قامت الفصائل بتسليم الأسلحة الثقيلة وبدأ مقاتلو المعارضة غير المستعدين للبقاء بالمغادرة إلى مناطق تسيطر عليها قوات المعارضة في شمال سوريا. وبذلك تتركز الجبهات المستقبلية بين قوات النظام والفصائل المعارضة في الجبهة الجنوبية وفي ريف حلب الشمالي الغربي وإدلب وفي شمال شرق سوريا مع قوات سوريا الديمقراطية. (رويترز)

2 عندما كنت في جوف الوحش في مدينة الرقة

1 عندما كنتُ في جوف الوحش في مدينة الرقة

يقدم صالون سوريا هذه القصة على جزئين. حوار مع شمة، امرأة عاشت الأجواء الداخلية لداعش ونقلت شهادة عينية عن حياة نساء داعش. أجري الكاتب الحوار مع شمة في عدة أمكنة متفرقة واستكمل قسماً منه عن طريق السكايب.


الجزء الأول

بصعوبة تشق السيارة طريقها في طريق زراعي ضيق جداً امتلأت حفره بماء المطر، محملة دواليب السيارة بوحله. هنا قاطع السائق تأملاتي: وصلنا!

ثلاث خيم يغطيها بلاستيك أزرق تحت شحوب سماء تشرين الثاني، تحيط بها وعلى مد النظر حقولٌ واسعةٌ من القطن والذرة الصفراء في سهل حرَّان، جنوبي ولاية شانلي أورفة التركية، التي لا تبعد أكثر من 30 كماً عن الحدود السورية.

التف جمهرة من الصبية والفتيات الصغيرات حول عجوز تجلس على كرسي على باب الخيمة الأولى تسند يدها إلى ذقنها، تقبض بها على عصاة تساعدها على المشي على ما يبدو. حفر الدهر على وجهها أخاديد عميقة توحي ملامحها بقصص الساحرات، فيما تغطي عينيها نظارة طبية سميكة. بادرتني بالحديث عندما رأت دفتري “أنتم جماعة المعينة*! يابا والله ما جعد نشوف منهم شي”*. لا خالتي أنا أتيت إلى هنا عندي موعد مع “أبو شمة”. لوت شفتيها الغائرتين داخل فمها لعدم وجود الأسنان متبرمة غير راضية، وأشارت بظهر يدها: آخر خيمة “أبو دحام… صار أبو شمة.. زماااان”؛ بربرت بكلمات أخرى لم أفهم جلها.

زفني الأطفال وأنا أكاد أتعثر بالصغار منهم وهم يتدحرجون بجزمات بلاستيكية ذات ساق، على شورتات لا تتناسب والطقس البارد، بحيث سبقوني جميعاً واصطفوا أمام باب الخيمة تاركين لي مجالاً للدخول. أنوفهم محمرة يتقاطر منها المخاط على أكمامهم وهم يحاولون مسحه، وينقلون أنظارهم بين داخل عمق الخيمة وبيني.

ناديت بصوت عال كعادة أهل الرقة: “أهل البيت.. يا أهل البيت!” فجاءني صوت واهن ضعيف من عمق الخيمة “فوت.. تفضل ما بي حدا.. فوت.. فوت.”

الوحل متراكم من آثار الدخول والخروج على مدخل الخيمة. انحنيت داخلاً خيمة طولها ربما ستة أمتار بعرض ثلاثة، تفوح منها رائحة “العصفير”*، ورائحة أعقاب سكائر نتنة نتجت عن إحكام إغلاق الخيمة. جاءني من عمقها بعد قليل صوت واهن: “تعال هين بجنبي”*. مد يده من تحت دثار مكون من أغطية “هي عبارة عن ملابس بالية خيطت مع بعضها وألبست قماشة واسعة كوجه لها”، وبطانيات عليها أسماء المنظمات الداعمة. مد يده مسلماً، فأخذت يده بكلتا يديَّ، يده التي لم تكن إلا عبارة عن عظام يغطيها جلد وعروق. كانت عروق اليد نافرة وواضحة بحيث يمكن أن تتبعها إلى القلب. جرني وأجلسني إلى جانبه.

يقول أبو شمة أنه في بداية الستين، وكان يعمل حارساً في معمل تجفيف الذرة الصفراء التابع للمؤسسة العامة للأعلاف في الرقة. انقطع راتبه عام 2012 إثر تقرير اتهم فيه بالمشاركة في اعتصام للأهالي بتاريخ 25 حزيران 2012 أمام المحكمة في الرقة، للمطالبة بالإفراج عن المعتقلين لدى فروع الأمن في الرقة. يشرح: مروري كان بالمصادفة، عندما رأيت امرأة من أقاربي، فوقفت أستفهم منها ما الموضوع، ويبدو “أن أحدهم عباني”*. بعد يومين اعتقلت لمدة 17 يوماً، لأخرج وقد تم فصلي من الوظيفة. عندي أربعة أبناء، وثلاث بنات، ونسكن حي شمال السكة، أكبر عشوائيات الرقة، والمحاذية تماماً لمقر الفرقة العسكرية 17 شمال المدينة.

ابني الأكبر متزوج ويعيش في لبنان منذ عشر سنوات، ولحقه في بداية الثورة أحد أخويه، وإحدى أختيه المتزوجتين، بينما رفض أخوه وأخته الآخران المتزوجان، وكذلك البنت والابن غير المتزوجين الخروج من الرقة. شمّة هي الوحيدة التي بقيت عندي في البيت، وكانت تعمل ممرضة. أمّا حسان، العازب الأخير من الأبناء، فيعمل في محل تصليح دواليب خاص به.

آخر نزوح لنا كان منذ أربعة أشهر إلى تركيا. وها نحن نعيش هنا، 19 شخصاً ما بين صغير وكبير، بمن فيهم ابني وابنتي المتزوجين وعائلاتهم.

“شوف! آني مو شبيح”*، بس لازم نسمي كل شي باسمو، السيطرة الفعلية للفصائل على الرقة بعد 4 آذار 2013 كانت لجبهة النصرة وأحرار الشام. بس، والباقي فراطه*، وهذول… تنهد وصمت طويلاً.. دفع لي بعلبة دخان معدنية دخانها يلف باليد: تعرف تلف، فهززت رأسي أن لا. ساعدته لكي ينهض قليلاً. الملعون تمكن من كل مكان بجسمي. والملعون هذا “زاد”* ما أقدر أتركه. الملعون الأول هو السرطان الذي غزا معظم جسمه، والملعون الثاني الدخان.

بيتي بجانب معمل تجفيف الذرة الصفراء، وهو أكبر معمل تجفيف في في سوريا. جاء أحرار الشام وهجرونا من بيوتنا بحجة أنهم سيضربون الفرقة 17، وأنهم قلقون علينا. هجروا أغلب العالم من  بيوتها، لكنني رفضت. بدي أموت هنا. عند المساء، تم البدء بنهب 35 ألف طن ذرة مجففة، ولم يحاربوا الفرقة.

أنا لم آتِ من أجل أحرار الشام والنصرة، أو حتى الجيش الحر. قلت له: فهذه الصفحة ستفتح بعد انتصار الثورة.

أدري.. أدري.. أنتم زاد* ضحك عليكم بشار… مو بس عليكم، عالدنيا كلها، تركها تتلهى بداعش، وهو قام يسرح ويمرح بكيفو*. جاب إيران وحزب الله والعراقيين، يا رجال حتى الأفغان والروس، وضحك عليكم. داعش.. داعش.. داعش سوت.. داعش عملت.. داعش ذبحت… لو أن العالم داعم الجيش الحر كان سواهم صندويشات.. منو جابهم، جابهم النظام.. منو سواهم، سواهم النظام.. والعالم مطرقعين* وراه.. ما شافم* الكيماوي.. ما شافم السجون واللي يصير بيها.. ما شافم البراميل.. ما شافم الجوع والحصار.

أنهكه الكلام والسعال.. التفت إلي قائلاً: إذا تشرب شاي قوم وحط الإبريق على الغاز.. أووووووه! نسيت، قصدي عالنار. ما رح حدا يجي قبل 5 المسا، كلهم بالشغل يحوشون قطن*، إش* بدنا نسوي، بدنا نعيش. شكرت كرم ضيافته، ولكنه أحرجني: يابا لا تشوف حالنا هين، الله وكيلك هناك عندنا بيت ونظيف، واحنا والله نظاف من الداخل والخارج، لا تشوف حالنا هيك يلعن أبو الظروف اللي (…).

لا، لا، ياعم، والله بس مو مشتهي الشاي حالياً. لا تكذب “قالها مموناً نفسه عليَّ “ما بي مدخن ما يشتهي الشاي، أو القهوة.” دلني الأولاد على مكان إشعال النار، ومكان الشاي.

وفي الخامسة مساء من الشهر الثاني من فصل “الصفري* 2015″، حسب التوقيت المحلي للمخيم.

جمهرة نساء وأطفال شباب ورجال هدهم التعب بعد يوم عمل يمتد من الخامسة صباحاً حتى الخامسة مساء في قطاف القطن. يعتمد النظام الزراعي التركي على المكننة في قطاف القطن، ولكن مع توفر العمالة الزراعية السورية الماهرة والخبيرة، ورخص أجورها، اعتمدت بدل المكننة لنظافة قطاف القطن، وعدم خلطه مع الأوراق الجافة، والعيدان، مما يعطي منتجاً من الخيوط، وبالتالي يكون النسيج ذا مواصفات عالية.

أشعلت نيران المخيم وتحلق حولها كل الموجودين، المهمة الأول العجن والخبز ثم الطبخ، ومن ثم تسخين الماء للغسيل والحمام لمن يرغب.

يحمل الأطفال العيدان غير مكتملة الاحتراق وفي رأسها جمرة يرسمون بها أشكالاً عبر تحريك أيديهم بسرعة على شكل دوائر: هذا صاروخ.. لا شوف طيارتي.. هذا دوشكا.. شوووووفو عندي الآربجي.. أنا داعش بدي أذبحكم.. مام حرقني.. الله لا يوفقك هيج حرقت بيجمتك.. بعد عن الدخان… ليش حرقت جزمتك.. أنتم شياطين ما تنامون.. نوم الظالم عبادة.. ولكنهم لا ينامون. إنهم في انتظار العرانيس “أكواز الذرة” التي دمسوها في النار.

يتلفن لي السائق فيصمت الجميع على رنة الموبايل.. بلهجة عرب أورفة “أصوبك ياو… أجيك خلصت شغلك؟ لا ما خلصت بس تعال خذني، بكرا نرجع مرة ثانية، ولكن الجميع أصر أن أنام عندهم. والله! عندنا بطانيات نظيفة. حتى الأطفال قالوا: خليك عندنا أمانة.. أمانة .. يا جماعة والله ما بدي أضيق عليكم، وشرف لي أن أنام عندكم. نادى أبو شمة من داخل الخيمة بصوت قوي تعالى به على مرضه، ما تروح يعني ما تروح. رح تنام جنبي خليني أخلص من شخير أم شمة. تحول الجو إلى مرح ومونولوج تعليقات بين أم شمة وزوجها، وانقسم الجمع فريقين بين مؤيد لها، أو له.

انتقلت وأغلب الحاضرين إلى خيمة أبو شمة، حيث الحديث في الشأن العام والبلد والحرب والسياسة اللجوء بتركيا وأوروبا. الفساد في المعارضة  والنظام.. تشتت الفصائل.. المنظمات الإغاثية ونهبها على اسم اللاجئين، سعر كيلو قطاف القطن، وهكذا.

بطارية السيارة التي تنير الخيمة تبدأ بالنفاد. هنا تتفاجأ بمستوى الوعي الذي يتمتع به هؤلاء البسطاء. كل هذا ونحن نتحلق حول النار الموضوعة بصاج الخبز*، وأغلبنا يحمل أعواداً نحرك بها الرماد لنستخرج بقايا الجمرات نلتمس دفئها الذي بدأ يخبو أيضاً.

انفض الجمع كل إلى خيمته. نباح كلب بعيد، وصفير الهواء خارج الخيمة. نام الجميع مباشرة، وكأنهم تخدروا، وبدأت سيمفونية الشخير، وما يصدر من النيام، حيث لا خصوصية هنا لأحد، حتى في العلاقات الحميمة للمتزوجين التي أعتقد أنهم يمارسونها خلسة في الحقول.

يبدأ الصباح كالمساء.. بالنار. وبداية قصتنا تبدأ من هنا.

شمة

شمة، سمراء فراتية في السابعة والعشرين، خريجة معهد التمريض في الرقة، ومارست عملها في المشفى الوطني صباحاً، وفي عيادات أطباء خاصة مساء، حتى قرر تنظيم داعش الاستغناء عن خدمات الممرضات والطبيبات الإناث، حارماً المئات منهن من دخل كان يساعدهن وعائلاتهن على مواجهة أعباء الحياة، دون أن يقدم التنظيم أي جهد للتعويض عليهن.

تعتذر شمة وأخوها خلدون من “شاويش الورشة”، رئيس الورشة، لأن عندهم ضيف الذي هو أنا.

تقول شمة: كانوا يستنجدون بنا فقط عندما يكون عدد الجرحى والقتلى كبيراً نتيجة قصف أو معركة، وكانت الأولوية دائماً لعناصر التنظيم في عمليات الإسعاف. وهناك رأيته.

كان واضحاً أنه مهم، من خلال اهتمام الجميع به. كانت إصابته سطحية، وأغلبها رضوض نتيجة طيرانه وسقوطه على الأرض إثر سقوط صاروخ بجانب سيارته في تدمر.

الكيمياء في هذه الحالات لا يمكن التحكم به، لم أنتبه لكيميائه بداية، فقد كنت مشغولة بعملي وخائفة منهم. ولكنني بحس الأنثى أحسست بنظراته تخترق تفاصيل جسدي. أصر أن أهتم بجراحه وحده.

أحببته، نعم أحببته! فلم يبقَ من شباب الرقة أحد، بعد أن هاجر قسم منهم، وشرد قسماً منهم النظام، ومن بقي شردتهم داعش. عمري كان ستة وعشرين سنة. وفي عرف أهل مدينتنا، أصبحت من العوانس. وفي ظل هذه الظروف، لابد للأنثى من رجل يحميها. أنا لا أدافع عن قراري بحبي له “يقولون لك الحرة لا ترضع من ثدييها”، ويقولون الحرة لا تزني”. نعم، ولكن ما الذي دعم ذلك؟

اكتشفت لاحقاً أنه ليس خطأ وحسب، بل كفر، وعلى رأي الدواعش هو كفر بواح، ولكن قل لي بالله عليك عندما وضعنا نحن والضباع في قفص واحد، وقالوا لنا احذرن الضباع لكي لا تأكلكن، ماذا قدم العالم لصمودنا في وجه الضباع، وأغلب من بقي في الرقة هم نساء وأطفال ومن كبار السن.

بعض الأوروبيات من مقطع فيديو لا يتجاوز الدقيقة والدقيقتين يفتن بالتنظيم  ويقطعن آلاف الكيلومترات للالتحاق بهذا الطويل الفارع الذي يحكي لثامه قصة غموض ومغامرة، فما المطلوب منا ونحن نعيش معهم ليس لدقائق وساعات، بل لأيام طوال “كل يوم بطول سنة الجوع”*، وربما لسنين. أعرف أن هذ الكلام لا يعجب الكثيرين، لكن هذا منطق الأمر.

تزوجته “…”، بداية كان عاشقاً، ويعرف كيف يدلل الأنثى، يعرف كيف يقول كلام الحب، أي والله، ويحفظ نزار قباني، وشاعراً فرنسياً. تعرف؟ حتى على الموصل أخذني.

لم يدم هذا طويلاً، ربما لشهر، ثم منعني بداية من زيارة أهلي، وحول البيت إلى سجن. التلفزيون ممنوع، النت ممنوع، رغم أنه متوفر في بيتنا. الواتساب، وكل وسائل الاتصال، ممنوعة. فقط كميات كبيرة من الحبوب، وبحكم خبرتي وعملي عرفتها مباشرة “كابتكون”. عندما سألته عنها قال هي أدوية للمجاهدين. كان عنده عشرات آلاف منها، عثرت عليها مصادفة وأنا أنظف سقيفة البيت. وهناك في تلك السقيفة عثرت على تسليتي التي أبقيتها سراً عليه. ذكريات أهل البيت الأساسيين، حيث كان لأحد نشطاء الثورة قبل أن يستولي عليه “محمود عقارات”، أمير ديوان العقارات لصالح التنظيم.

في السقيفة، عثرت على صور عرس، صور أطفال، سجلات مدرسية، شهادات جامعية، منشورات من بداية الثورة تحض على التظاهر، وسندات ملكية لأراض وبيوت لأسماء تتشابه الكنية فيها، وألعاب أطفال، وبنطال جينز عليه بقع دم، دفاتر مدرسية لبداية تعلم الكتابة، مرحات، شهادات تفوق. في هذه السقيفة، عشت حياة العائلة بكل تفاصيلها، وفي هذه السقيفة تعرفت على الثورة في خطواتها الأولى، وفيها عرفت كذب الدواعش عندما كفروا هؤلاء الشباب واستولوا على بيوتهم، وفيها عرفت أي منزلق أدخلت نفسي فيه. بدأت أرتب ذكريات تلك العائلة، وأرتب نفسي، عندما بات يأكلني الإحساس بالخجل، خجلة أنا منهم، من ذكرياتهم، من ألعاب أطفالهم، من صور أعراسهم. خجلة أنا منهم ومن نفسي.

تغيرت معاملته معي عندما اكتشفت أنه متزوج ثلاث نساء أخريات، آخرهن “سبية” يزيدية اشتراها من الموصل، وزوجته التونسية الأم لأطفال ثلاثة، وأخرى لم أرها، ولكن زوجتيه الأخريين اللتين جاء بهما إلى بيتي مرة واحدة قالتا إنها تونسية فرنسية.

عندما تغوص في مجتمعهم تكتشف حجم الكذب، تكتشف أن لا دين ولا مبدأ لهم. وبالنسبة لنساء التنظيم، هنالك مافيا تديرها “أم سياف”. تصدق بالله العظيم تشبه إدارة عمليات الدعارة، فما أن يموت الزوج حتى تسارع أم سياف إلى ما يشبه البيع إلى شخص آخر من التنظيم، غير مراعية حتى للعدة الشرعية، أو رأي الأرملة، فجميع من تزوجن عناصر من التنظيم ربطن حياتهن ومصيرهن بهذا التنظيم. سبعة أشهر قضيتها معه قبل أن تقضي عليه طائرات التحالف في مدينة الطبقة غربي الرقة المدينة 50 كم، عرفت ذلك عندما اقتحم عليّ البيت عناصر ملثمون من المكتب الأمني، ترافقهم ثلاث مقاتلات من كتيبة الخنساء، فجمعوا بهدوء وبدقة كل متعلقات زوجي، ثيابه وكل النقود إضافة إلى مجوهراتي وحليي، فقط لباسي تركوه، وعندما انتهوا قالوا لي إن زوجي قد “استشهد”.

اعتقدت أني تحررت عندما مات، ولكن ككل نساء التنظيم جاءت أم “منتصر الجزراويه” التي استلمت المهمة بعد أن خطف الأمريكان “أم سياف” من حقل العمر إثر مقتل زوجها، جاءت تعرض علي الزواج من “أبو عمر الحمصي”، المسؤول عن تجهيز كل السيارات المفخخة، قالتها بفخر، وكأنها ميزة تميزه. قالت ذلك في محاولة لإقناعي، وكنت أعرفه لأنه كان يزور زوجي، ولكنه أخرس أبكم. قالت: ولك أحسنلك.. ترتاحي من كلامه وأوامره.. وهذيك الشغلة ما بدها حكي.

طلبتُ مهلة للتفكير، وأبديت حزني على زوجي الأول، فاقتنعت وأمهلتني أسبوعين، رتبت خلالها ذكريات العائلة التي كان زوجي الأول يحتل بيتهم باسم التنظيم، وقمت بوضعها في مغلفات وكأنها لعائلتي، واتفقت مع أخي على هجر البلد إلى تركيا.

وهنا، تواصلت مع من بقي من تلك العائلة التي تشرد أفرادها في ثلاث دول. طلبت منهم أن يسامحوني من قلوبهم، كما طلبت السماح من آخرين، ولو أنني لم أسامح نفسي.

كان البنطال لأحد شباب العائلة ممن استشهدوا في مجزرة الساعة التي ارتكبها النظام قبل تحرير الرقة.

كحل عربي”: هذيان بطعم الوِحدة”

كحل عربي”: هذيان بطعم الوِحدة”

إن ما يفصلنا عن صراخكِ الجوفيّ هو هذا: اللاشيء. عندما تكونين وحيدةً وسماؤكِ بلون الخيبة، عندما يعيدُ صوتكِ الجوابَ كاملاً عن أسئلةٍ بلاصوت، عندما تكذبُ عيناكِ الكحليتان على الطريق الذي يؤدي إلى اللا مكان. عندها، فقط، يغدو اللاشيء خيطٌاً يربطكِ بالعالم، وريحاً لا تُرى، لكنها تعبقُ بالكلمات، تهزُّ الخيطَ فتولدُ موسيقا تهجم موجةً في إثر موجة. ونغدو نحنُ، مشاهديكِ، مشاركيكِ الفعل، لا يفصلنا شيءٌ عن تدفقكِ الذي ترميه في وجوهنا، ونصبح جزءاً من همسكِ، ضحككِ، بكائكِ، رقصكِ وغروبكِ الذي يموت الآن ويولد حجراً فوق مياهنا الساكنة. وتصبح أجوبتكِ هي الأسئلة التي تطرحها الورقة على المهب، سقوط المهبّ ذاته في التجربة التي تعني: كم أنتِ كثيرةٌ في وحدتكِ التي تشخصينها كتمثالٍ حي يصرخ ويحاور أشياءه: مرآته، سريره، ثيابه، أدوات زينته وتفاصيل وحدته ذاتها، فتبدو الأشياء وقد تأنسنت واحتفظت بروحها إلى الأبد، في وقتٍ يكاد يكون الإنسان نفسه شيئاً.

ذلك ما يقوله “كحل عربي”، مونودراما الحجرة للشاعرة سوزان علي، الذي شخصته بتوتر خلّاق الممثلة روجينا رحمون، في محاولة لنقل المسرح إلى فضاء آخر، فضاء مغلق من حيث الحيز لكنه مفتوح على احتمالات عالية من الشعور والتأثير والتلقي.

هنا لن نشاهد خشبة، لن نشاهد التدرج المنظوري للمقاعد التي تعلوها الرؤوس ولا يحجبنا عن الفعل أية ستارة. سنكون ضمن الفضاء ذاته نتلقى الكلمات والانفعالات وكأنها فينا. ذلك ما يفرضه البقاء لصقاً مع نفَس الممثلة وأدق سكناتها. وكل ما يمثله الديكور هو غرفة مستطيلة، مقعدان بلا مساند ظهر، طربيزة، برواظ خشبي فارغ يمثل التلفزيون، برواظ آخر يمثل مرآة بلا مرآة، خزانة تبدو كحقيبة كبيرة، سرير وحده أخذ شكله الكامل لكنه مملوء بالفراغ، وحنفية ماء لا تتوقف عن التنقيط. هل بقي شيء من العناصر؟ نعم. بقي هناك خمسون مشاهداً وجهاً لوجه مع الممثلة وكل هذا الهذيان.

“لما بتصير حيطان البيت من لحم ودم، وبيصير للذاكرة إبرة وخيطان”

بهذه الجملة يوسم بروشور العرض، وكأنه باقتضابه يلخص ما فعلته تلك المرأة الوحيدة المصابة بالخيبة، خيبتها من الزمن الذي غيب والديها، خيبتها من حبيبها الذي هجرها، ويبرز الفقد وكأنه الموضوع الأساسي للعرض، عاكسةً بذلك صورة لكل السوريين الذين عانوا بمجملهم فقداً من نوع ما، وتغدو وحيدة بشكل لا يطاق فتقرر السفر، وهنا يبدأ ذلك الحوار مع ذاتها وأشيائها، الحوار الذي نكتشف من خلاله مأساتها الحية.
ويبدأ العرض برسم لوحات وتعليقها في براويظ فارغة معدة لاستقبال فقد ما. برسمها للوحات سريعة وآنية ومنقولة عن جسدها ، تحاول الممثلة نقل أجزاء من جسدها على الورق بالنظر إليه ورسمه، إلا أننا نكتشف أن ما قامت برسمه هو شيء مختلف: بيت، شجر، طفل وكأنها ذاتها الأشياء المفقودة، مؤكدةً على أنها جزءٌ  من ذاتها أيضاً. وتبدأ بعد ذلك بإسقاط حزنها على الأشياء، فتحاور التلفزيون محملةً إياه سبب نقل خبر وفاة والديها بانفجار، وتصرعلى عدم أخذه معها عندما تسافر، تحاور المرآة متذكرة لحظات عشقها لـ”رامي”، الذي نفهم بأنه كان رساماً في بداياته وأنها كانت ملهمته “لهديك الفترة بس” وهجرها ليحب فتاة أخرى. في هذا الجزء المحوري من العرض تعيش المرأة أقسى تناقضاتها بين الرقص ووضع المكياج ويأخذ الكحل العربي دلالته من خلال تلطيخه عيني المرأة “لأنه يخفي الدموع” إلا أن الدموع رغم الكحل تخرج مصرةً على الهطول. تحاور حنفية الماء، ربما لأنها تثرثر باستمرار ولم تصلحها عن عمد لحاجتها للصوت. تهاجم السرير الذي تحلم أن يضمها بكثير من الحنان مع حبيبها المفقود أيضاً، تحاور ثيابها وخزانتها ودائماً تسأل “بدكن تروحو معي؟” لوين؟” هذا السؤال برز بشكله الحاد عندما سألت ثيابها السوداء، وكل ثيابها سوداء بدءاً من الفستان الذي ترتديه إلى الثياب الأخرى، عاكسةً تلك الحالة من انسداد الأفق، الأفق الأسود بطبيعة الحال.

هذا التناقض الذي تعيشه المرأة في لحظات يومها، يتكثف أيضاً في قرارها بالسفر. فنحن نفهم أننا أمام امرأة على وشك السفر. لكن ماذا عن التعلق بالأسماء وبالصور وبالأشياء حتى لو كرهتها، وبالذاكرة. ماذا تفعل بذاكرتها، بذاكرة الأشياء نفسها؟ هل تسافر؟ إن اللحظة التي انتهى عندها العرض تبدو غائمة إذ يوحي بقاؤها تحت قطرات الماء أنها باقية. ومن جهة أخرى يظهر مزيج الأصوات المختلطة بأنها سافرت. ويبقى التناقض في اتخاذ القرار وتضادات الرغبة هو الواضح أمامنا وعلى بساط الغرفة.

إن ما شاهدناه من نقل المسرح بكل عناصره إلى الغرفة، ومناقشة حالة الفقد التي نعيشها، هو محاولة لتأكيد الحضور وإيجاد فضاء بديل وفتح مسارات أخرى للمسرح لمواكبة حالات فنية وإبداعية جديدة .

كحل عربي
تأليف وإخراج: سوزان علي
تمثيل: روجينا رحمون
تصميم الإضاءة: أدهم سفر
سينوغرافيا: سها علي
موسيقا: جمال تركماني
مدير الإنتاج: رامي سمان
مكان العرض: غاليري مصطفى علي، دمشق.