بواسطة Jamal Saeed | مايو 15, 2018 | Culture, Roundtables, غير مصنف
جدي يضحك كثيراً.
قلت لجدي: “البلبل هو الطائر الذي تراه في المساء عندما تكون مع أمّك على الدرب” ضحك، وضمني…
كان جدي يضحك ويضمني، عندما أقول أشياء كهذه.
***
لم أعد قادراً على أن أعرف البلبل بالطريقة القديمة نفسها، صرت كبيراً وأتيت مع الكثيرين ـ الذين كبروا أيضاً ـ إلى دمشق.
ذات مساء دمشقي، عدتُ إلى غرفتي، فعلت ما يفعلُه الآخرون تماماً: وضعتُ المفتاحَ في القفل، وأدرتُه، لم تكن غرفتي كعادتها؛ كانت تضم ستة رجال لم أر ملامحهم من قبل، خمسةٌ يحملون بنادق، وسادسهم يحمل مسدساً. ستُّ فوّهات، لو خرجت من أي فوهة رصاصة واحدة لسال دم… ولـ…
طلبوا مني أن أديرَ وجهي إلى الحائط، وأن أرفعَ يديَّ. كانت كتبي وثيابي مبعثرةً على الأرض. انتبهتُ إلى أن القميص السماوي الذي أهدتني إياه ليلى مرمي، وأني أدوسه بقدمي، حاولت أن أبعدَ قدمي عن القميص، ركلني أحدهم، أثناء استجابتي لركلته أزحت قدمي عن القميص. قلت إنّ ليلى لن تؤاخذني، فهي تعلم أني وضعتُ حِذائي على القميص مرغماً، وها قد أزحتُها. لكني لم أعرف: ما الذي يحدثُ في غرفتي. خطر لي أنني أرتدي القميص السماوي، وأن فوهة قد أطلقتِ النار، رأيت كيف يسيل الدّمُ، ويلوّن زرقة القميص. طلبوا مني أن أدلَّهم على المكان الذي أضع فيه السكر والشاي، قلت لهم إنني مستعد لأن أصنع لهم الشاي بنفسي، وأقدمه لهم، رفضوا، سألتهم: “من أنتم؟” قال حامل المسدس: “اخرس!” صمتُّ. وتابعتُ تصور مشهد موتي: أيُّ لغزٍ مربك سيكون موتي بطلق ناري… ليتني أعرف شيئاً قبل أن… أين سأقع؟ صارت عيناي تبحثان في المساحة التي يمكن أن ترياها من أرض الغرفة، وفجأة أيقظني موتُ الأميرة من موتي. رأيتُ الأميرة مرميةً على الأرض وقد تحوّلت إلى أشلاء، أحزنني ذلك كثيراً، رأيت كيف أن حذاءً قد هشّم فمها، لا أدري لماذا شعرت أنه يدوس على فمي! لأقل أنني أحسست بوقع الحذاء في المكان الذي أضع فيه فمي أما ثقوبها فقد صارت أقواساً بعد أن تحطم جسدها! أجبرني الرجال الستة على الذهاب معهم، لم أعد أذكر إلا مشهد الأميرة المرمية. وحيدة بقيت بين أشياء مبعثرة على أرض غرفتي، التي لم أزرها بعد ذلك اليوم أبداً.
***
في مساء خريفي ـ يبدو أنه موغل في القدم أحياناً، ويبدو وكأنه مساءُ البارحة في أحيان أخرى ـ كنت أمشي وراء أمي على درب ريفي ضيق، صرخت فجأة: “أمّي… انظري، إنه عصفورٌ حلو… حلوٌ كثيراً!” قالت أمي ببرود لا يليق بجمال ريشه ولا باشتعال دمي: “إنه بلبل“.
كان الطائر يحط على غصن شجرة زعرور. ركضت باتجاهه حاملاً إعجابي ودهشتي، لكنه طار قبل أن أصل إليه ـ منذ ذلك اليوم وأنا أشعر أن ما يثير دهشتي وإعجابي يطير قبل أن أصل.
ـ أمي، أنا أحببتُه. لماذا هرب مني؟ أين سيذهب؟
طلبت أمي أن لا أثرثر! لم أكن أثرثر، كنت أسألها من أعماق روحي. طارت عيناي وراء الطائر، ورأيتهُ وهو يحطُّ في غابة القصب القريبة، انحنى رأس قصبة وهو يحط فوقها. كانت باقي القصبات تلوّح بأيديها مرحبة بالطائر الحلو.
قلت لجدي: لقد حطّ البلبل على رأس أميرة غابة القصب، انتقى الأميرة أليس كذلك؟
ضحك جدي، كان جدي يضحك كثيراً. قال لي: إنها الأميرة طبعاً.
***
أمي تضرب، تضربني إذا خالفت أمراً لها…
قالت لي: لا تدخل غابة القصب، وقالت لي: فيها ثعابين، ولدغة الثعبان تميت، وقالت: القصب يجرح مثل السكين، هنالك عقارب أيضاً. صار دخول الغابة يلغ في دمي، ففي الغابة عصفور حلو… وأميرة، ثم أن الغابة محرمة وهذا يكفي لملئها بالأسرار! دخلت غابة القصب المحرمة في ظهيرة من ذلك الخريف البعيد، متحدياً تحذيرات أمي، راغباً في التعرف على أميرة الغابة، كنت أريد أن أقول للبلبل: أنا أحبك. والله العظيم أحبك، فلماذا فررت؟
عبثاً بحثت عيناي في السماء القريبة! بدت عصافير الدوري تافهة لا قيمة لها، ولم يدهشني طيرانُها. كنت أبحث عن ذلك الملوّن الحلو…
تبدو الغابة من بعيد أكثر جمالاً مما هي عليه وأنت في داخلها. لا أسرار تراها عيناك، سوق متشابهة متكررة… ليس هناك بساط أخضر، كالذي تحمله القصبات على رؤوسها وتنشره في الهواء. لا شيء غامضاً يستحق الاكتشاف.
بعد أن يئست من رؤية الطائر ومللت، بدأت أبحث عن الأميرة، لا أدري بأية لغة أقنعتني إحدى القصبات بأنها الأميرة، لكنني صدقتها وفرحت، وصار لدخولي إلى الغابة معنى. لعلّي كنت أبحث عن هذا المعنى!
أيقنت أنها الأميرة، قطعتها بالسكين التي سرقتها من المطبخ، وجررتها معي إلى البيت، محولاً إياها إلى حصان له ذيل أخضر، يكنس الطريق، ويثير الغبار.
ضربتني أمي لأنها بحثت طويلاً عن سكين المطبخ، ولأني جرحت يدي ـ كان جرحاً صغيراً، ولم ينزف إلا القليل من الدم الذي تيبس فوق جسد الأميرة، وضربتني لأني خالفت أوامرها ودخلت غابة محرمة علي؛ لكنها لم تؤذ الأميرة. قال جدي بصوت غاضب: لماذا تضربينه؟ بدأت أمي تشرح له بصوت عالٍ، ولكنها كفت عن الضرب. عرفت أن جدي يغضب أحياناً ولكن جدي يضحك، يضحك كثيراً. ضحك عندما قلت له إنني أحضرت أميرة غابة القصب معي، وضحك عندما أكدت له أنها الأميرة لأن البلبل حط على رأسها، وضحك عندما سألته: “أين ذهب البلبل؟” وقال لي إنه سيعود.
ـ متى؟
ـ بعد قليل!
وقال لي: “سأصنع لك شبّابة عندما تتيبس القصبة” وأردف ضاحكاً: “أقصد الأميرة.”
***
أمسك جدي بالقصبة، خلصها من أوراقها التي تيبست، أمرني بإحضار الحطب، أشعل ناراً، أحضر سيخاً من الحديد، وضعه في قلب النار، بسهولة صنع لي شبابة. بعدئذ تغيرت ملامحه، بدا وكأنه يصلي صلاة غريبة، كان يحدق في جسد الأميرة، يحركه بين أصابعه بحنان، بدت أصابعه مختلفة، كانت ترتجف رجفاناً لا يرى، رجفاناً من داخلها، وكان وجهه متأملاً غائباً، والأميرة بين يديه مطواعة هادئة.
اقتطع قطعة ونظر إليها ملياً، وبدأ يقيس بأصابعه. بعدها أخذ سيخ الحديد المحمر من النار وبدأ يضع ثقوباً على جسد الأميرة، كانت النار ترقص وتلوّن وجه جدي تبعاً لرقصتها، ويد جدي تهتز قليلاً.
بدا لي ذلك طقساً غريباً، وسيطر عليّ خشوع لا أعرف كنهه.
بعد أن انتهى جدي من تشكيل جسدها كما يرغب، نهض بهدوء، وبدا قلقاً بعض الشيء! وفي المساء، رفع جدي كأس الخمر الذي اعتاد أن يشرب نِصفَه كل يوم، ودلقه في فم الأميرة، ثم صبّ لنفسه نصف كأس جديد. بهدوء رفع الأميرة بين يديه، وبدأ ينفخ في فمها… كان الصوت ساحراً.
اعتقدت أن جدي خدعني! أخذ جسد الأميرة الفعلي، وترك لي شبّابة تافهة. قلت لجدي: “الأميرة هي التي تركتها لنفسك! ضحك جدي! قلت له: أريد هذه. وأشرت بإصبعي إلى الناي التي صنعها. ضحك ومدها صوبي. استغربت أن يتخلى عنها بكل تلك البساطة!
***
لم تكن أصابعي قادرة على أن تتباعد وتغطي ثقوب الناي، تعبت حتى تعلمت كيف أُصدر صوتاً. سألت جدي: لماذا باعدت الثقوب هكذا. ضحك جدي وقال: ستعرف عندما تكبر.
ـ ومتى سأكبر؟
ـ بعد قليل… لا تستعجل!
مضى “القليل” الذي تحدث عنه جدي، وكبرت! ـ ليتني لم أفعل ـ صارت أصابعي تغطي ثقوب الناي. كانت أمي تحتج على الصفير الذي أحدثه، لم أكن وقتها أعرف كيف أتحدث مع الأميرات، كنت أنفخ بغلظة، وكانت الأميرة تحتج وتتوجع، لم أكن أعرف كيف أهمس روحي في فم الأميرة لتقول شيئاً حلواً! مراراً كانت أمي تهددني بتحطيم الأميرة فوق رأسي إذا لم أكف عن الصفير.
***
بعد أن دربتني الأميرة على الحديث معها، رفعت فم الأميرة إلى فمي ذات مساء صيفي، وبدأنا نحدّث أمي عن مساء مشيناه معاً، عن بلبل حلو وشجرة زعرور قرب درب ريفي، عن الولد الذي كنته. عن أشياء تعرفها أمي… وعندما أنزلت فم الناي عن فمي، قالت أمي: “اعزف أيضاً. هذا العزف يدخل إلى القلب!” فرحت لأن أمي لم تعد تقل لي: “كف عن الصفير!”
أنا والأميرة أخبرنا أمي حكاية عنها، حكاية تعرفها كثيراً، أشياء تستوطنها بطريقة ما. أحبتها أمي دون أن تعرف ما هي بالضبط، شيء كسر مفضوح، يبقى سراً ويبقى مباحاً! هذا ما تعلمنا قوله أنا والأميرة.
***
قالت لي ليلى، وعيناها تتجنبان النظر في عيني: “أظن… أننا… أقصد أن أقول... أعتقد… ربما كان من الأفضل… أن نفترق!.”
غضبت، سألت مرتجفاً: “لماذا؟” كان قلبي صدىً لسؤالي، وسؤالي لم يكن يعني إلا شيئاً واحداً: أنا أشتعل حباً فكيف يمكن أن يخطر لك أن نفترق. لم أقدر وقتها على أن أفهم أن ليلى كائن آخر له جسده وروحه، وله الحق في التصرف بهما!
تركتني ليلى، وصار قلبي يرتجف كعصفور مذبوح ومجنون! بدا العالم غير قابل لأن يُفهم. أخذت الأميرة معي، وذهبنا معاً وراء خطواتي، قادتني خطواتي إلى غابة سنديان، تطل على نهر صغير. كانت روحي تحمحم بوجع: “ليلى ليلى لمَ شبقتني*.“
جلست على صخرة، صرت أقول للناي أسئلتي ووجعي، وصارت تنشر في الفضاء القريب أوجاع مراهق بريء عذب. من ثقوب الناي خرج آلهة طيبون، تجمّعوا تحت أشجار السنديان، أتوا يحملون نبيذاً معتقاً هناك في السموات البعيدة حيث يقطنون، ربما كانوا يقصدون النهر القريب للاستحمام، تحلقوا حول الصخرة، واقترب كبيرهم مني، ودموعه النورانية تنساب فوق لحيته القدسية، قال لي: يا لقلبك! إنه يستحق فرحاً وسع السماوات والأرض! وقال لي وهو يصغي إلى الناي: صدقت. صدقت يا بني، أصعب من الألم بكثير أن تتألم وحيداً! ركعوا عند أقدام الصخرة، وقفوا، ثم ربت كبيرهم على شعري، فأزلت الناي بخشوع عن فمي، لم يعد هناك سنديان أو صخرة أو مساء! يد إله حنون تربت برقة الآلهة على كتفي! بدأت أبكي… وبعد قليل بحثت عنهم… وأدركت أن العين لا تستطيع رؤيتهم لأنهم خرجوا من ثقوب الناي وانتشروا هناك في فضاء غابة السنديان. وكثيراً ما أحس بهم عندما أذهب إلى هناك… حيث زرعتهم.
***
لم أصبح موسيقياً شهيراً.
لم يجر معي أيّ صحفي مقابلة لأقول له إنني لا أحب العزف على النوطة، فسطورها مثل قضبان السجن، لا تستطيع الروح أن تتخطاها، ولم أقل لأحد أن الناي هي أفضل بكثير من الآلات الوترية كلها، لأن الناي تقبل أن تسكب فيها روحك مباشرة والآلات الوترية تحتاج إلى وسيط كالأنامل والريشة، حيث يضيع شيء من الروح…
كل ما كان يقال لي: “اعزف لنا” فأوافق عندما يأتي اللحن، واللحن يأتي هكذا فجأة، يأتي دون أن يستأذن أو أن يطلب منه القدوم. ولم أكن أرغب في أن أدونه على “نوطة” كنت أوزعه في المساحة الواسعة، يخرج مثلاً من نافذة الغرفة التي استأجرتها ويتمشى في سماء المدينة.
في الغرفة التي استأجرتها، وضعت رفاً صغيراً، ووضعت فوقه قطعة من الحرير الفيروزي، وأمسكت الناي وقلت لها: “هذا سريرك“. فوق ذلك السرير كانت تنام الأميرة إلى أن يوقظنا اللحن معاً! كانت تستيقظ وتقول شيئاً حلواً ثم تعود إلى سريرها!
***
منذ زمن بعيد غادرت تلك الغرفة، وتركت الأميرة مهشمة في أرضها وقد أُنزلت من سريرها عنوةً! تساءلت كثيراً عن مصيرها، لم أستطع أن أقول لنفسي أن أصحاب البيت كنسوها ورموها في سلة المهملات، وبعدها انتقلت إلى إحدى سيارات القمامة. يحزنني أن أصدّق ذلك وكعزاء كنت أقول: كم من الورود الجميلة تنتهي إلى بطون تلك السيارات.
حاولت وفشلت في أن أعود إلى غابة القصب وأنتقي أميرتها الجديدة. لم أعد قادراً على أن أمشي مع أمي مساءً وأرى طائراً مدهشاً ولم يعد جدي حياً. لو كان حياً لسألته: كيف يمكنني أن أصادف أميرة مرة أخرى؟ هل سيضحك جدي الذي كان يضحك. يضحك كثيراً…
*ورد في إنجيل متى / الإصحاح 27، الآية 46 على لسان السيد المسيح وهو على صليبه “إيلي، إيلي لمَ شبقتني“، أي إلهي إلهي لماذا تخليت عني.
بواسطة لامار اركندي | مايو 15, 2018 | Cost of War, غير مصنف
لم أستقل الطائرة يوماً لأسافر جواً إلى دمشق قبل أزمة البلاد، لعلني لم أحبذ المطارات رغم أن الطريق الفاصل بين مدينتي والعاصمة كان منهكاً وصحراوياً يبعث الكآبة طيلة فترة الرحلة.
هي تسع ساعات بالحافلة تفصل مدينتي القامشلي عن دمشق، ينهض الملل بجبروته ليحط رحاله على عشرات الكيلومترات من المسافات التي تبتلعها دواليب الحافلة وهي تمضي ثقيلة الظل على طريق الإسفلت الطويل؛ كنت أتوق لرؤية نهاية الطريق قبل انطلاقي صباحاً لأعبر تلك المساحات الطويلة والحارقة في الصيف، والضبابية الباردة شتاء لكن دون جدوى.
الحافلة لاتستغرق أكثر من ساعة لتصل مدينة الحسكة، وبعدها بساعتين تأتي استراحة دير الزور والمحطة الأخرى إلى تدمر.
نعم كنت أعشق بلور نافذتي وأنا أبعثر بناظري فوضى الرؤى، لأشم روائح عبق زنوبيا. كم كانت تسحرني إطلالات تدمر القديمة من بعيد كالظلال الخادعة تلوح لي وتختفي. كانت تستحق كل تلك التأملات داخل وهج الشمس الساطعة على طرقاتها، أو في ظلام الليل حين تكون الرحلة مساء؛ فحينها لن يتبقى إلا ثلاث ساعات ليطل وجه الشام كالحبق بياسمينها وصوت فيروزها ورائحة القهوة المغرية المنعشة كنسائم صباحاتها الجميلة، لكنها باتت ماضياً عابراً بين ثنايا الذاكرة بعد قصقصة مدن بلدي ورميها بعيداً عن جسد العاصمة دمشق.
لم تعد تلك المسافات مملة فقط بل مرعبة ورمادية. لم تعد تملك إلا خياراً واحداً يدق فزعاً في مخيلتك وهو نهايتك… خيار الموت المحتوم بعيداً عن ديارك وأرضك، وإن نجوت فقد تشتهر كنجم سينمائي لامع خاض مغامرةً بطوليةً.
وفي تاريخ 15 آذار 2013 كانت آخر عودة لي براً من “دمشق” إلى أحضان مدينتي في رحلة استغرقت 15 ساعة سارت بها الحافلة على طرقات الموت المنظمة بدقة.
مررنا على سبعة عشر حاجزاً للحكومة أنهكت قوارير الانتظار والترقب داخلنا حتى خروجنا من “الضمير” والوجهة بعدها إلى حواجز أكثر عدة وعتاداً مررنا بها حتى وصولنا إلى تدمر.
وفي كل مرة يلتفت سائق الحافلة إلينا نحن الفتيات غير المحجبات لينصحنا بتغطية رؤوسنا لكي نضمن تذكرة عبور آمنة على حواجز المجموعات المتطرفة التي تقاسمت السيطرة مع القوات النظامية على طريق الموت.
لم يفصل بين حاجز الحكومة وحواجز الفصائل المتطرفة سوى 100 متر أو أكثر بقليل، سمحت أن يحتفظ عناصركل منهم بملامح وتفاصيل من سبقه على الحاجز الثاني في ذاكرته، دون تدخل من كليهما في عمل الآخر ودونما اعتباره عدواً عليه إنهاؤه قبل أن يتكاثر كالطاعون ويفتك به. المسافرون على تلك الطرقات أدركوا معادلات العبور وخرائط السياسة وإدارة الاتفاقات ومشاريع المصالح والاقتسام.

لامار اركندي
ووصلنا هذه المرة إلى الحدود الإدارية لمدينة دير الزور. كانت ألسنة اللهب والدخان تخنق المدينة، كنا نراقبها بصمت، وعلى الجهة اليمنى مننا كانت أنابيب مياه مفتوحة ضخمة وممتدة على مساحات شاسعة توازي طريقنا. وقد أشار السائق إليها ليقطع عشرات الاستفسارات داخلنا عن ماهيتها قائلاً: “إنها لحراقات النفط التي باتت منتشرة بكثافة هائلة في عمق تلك المناطق.”
بدأت شعارات الفصائل المسلحة المتطرفة واضحة على جدران بعض محطات الاستراحة المهجورة على طول الطريق، تمثلت بجيش الإسلام، أحفاد الرسول، الخلفاء الراشدين، عمر بن الخطاب و…”
وقبل توجهنا هذه المرة إلى مدينة “الميادين” على الحدود العراقية التي لم نقصدها طيلة سفرنا إلى دمشق قبل الأزمة، تعرض لنا مسلحو فصيل آخر بأسلحتهم الخفيفة وذقونهم الطويلة المبعثرة المضحكة وبسراويلهم القصيرة وقمصانهم الطويلة. تُجبرك تفاصيلهم على الرجوع والعودة بالزمان 1400 سنة إلى الوراء. وقد وقف المسلحون يتمازحون فيما بينهم ومناديلهم السوداء في رقابهم إلا واحداً منهم أجهد في تغطية وجهه وعينيه بنظارات سوداء وقفازات بنية وحمل بين قبضتيه سلاحاً خفيفاً من نوع “الكلانشيكوف.” حاول هذا المسلح دفع أحد العناصر لدخول الحافلة بعد إجبارها على التوقف ومن ثم دخل مسلحٌ مراهق لم يبلغ من العمر 17 عاماً إلى الحافلة مقهقهاً فرحاً بسلاحه. فألقى التحية بالعامية البدوية قائلاً: “مرحبا يالربع”؛ حينها همس المسلح الملثم في أذنيه فأعاد تكرار التحية بالفصحى قائلا: “السلام عليكم، هل يوجد بينكم شبابٌ فار من النظام، أو من الخدمة العسكرية، ومن هم فوق 18 سنة، لو أراد فلينضم إلينا إما بإرادته أو بإرادتنا.” حينها تدخل السائق وطلب من معاون الحافلة أن يقدم لهم دفتراً بجدول اسماء الركاب وأعمارهم، ومن ثم بدأ المسلح الملثم بمراجعة الأسماء، وهمس للمسلح المراهق الذي استفسر عن اسم “نوروز” ومن هو من بين المسافرين. نهضت شابة شقراء فقالت: “أنا نوروز وأنا فتاة ولست شاباً وعمري عشرون عاماً.” عاد الملثم ليعطي تعليماته واستفساراته للمسلح المتطرف الذي رد على الشابة قائلاً :”نوروز اسم شاب وليس اسم فتاة بالكردية.”
ومضينا بعد محاولات حثيثة وعناء وجهد جهيد بإقناعهم بالهوية الشخصية للفتاة “نوروز”؛ فتحدثت مع نفسي كيف علم أن الكرد يستخدمون اسم نوروز للشباب ومن أين لهم العلم بذلك؛ هل الملثم رجل استخبارات، إذن فهم يعملون وفق توجهات خطيرة ستدفع بالبلاد نحو الهاوية.

لامار اركندي
الرحلة سارت بنا إلى الميادين، والغلبة فيها كانت آنذاك لجبهة النصرة، بأعلامهم وملابسهم المكتسحة بالسواد حيث يجوب مقاتلوهم الأقوياء بأجسادهم الضخمة وأسلحتهم الثقيلة، وسياراتهم المصفحة في المدينة كيفما شاؤوا، كانوا يشبهون المارينز الأمريكي باجسادهم العملاقة!
انتهينا إلى حاجزهم الأخير قبل مدخل مدينة الحسكة الذي يفصلهم عن حاجز النظام عشرات الأمتار لا أكثر، كانت البراميل المطلية بعلمهم الأسود موزعة على مسافات فاصلة بين كل منها قرابة الخمسة أمتار على عرض الطريق. مضت الحافلة بنا ورأينا هذه المرة علم النظام مطلياً على الجانب الخلفي لبراميل جبهة النصرة.
مررنا بهدوء على حاجز الحكومة ومنها إلى داخل المدينة وتوجهنا صوب مدينتي التي وصلنا إلى مشارفها. كانت غارقة في الظلام الدامس، ولكن لم ترهبنا عتماتها. أحسست أني في احضانها بأمان وسلام لن ينسلخا بسهولة عن وجهها الطفولي، تنفست الصعداء فبدا لي سواد ليل مدينة الحب الحالك جميلاً وبراقاً وخيم سحره على كل المحطات المضيئة الكئيبة والمخيفة التي مررنا فيها.
بواسطة Ahmed Ibrahim | مايو 14, 2018 | Cost of War, غير مصنف
الجزء الثاني
لم يتغير شيء في المخيم الذي كنت قد زرته في تشرين الأول الماضي سوى أن الموت قد غيب أبو شمة، وتلك العجوز التي تشبه الساحرات في الخيمة الأولى منه.
تعرف؟ لما قرأت قصتي تداعت تفاصيل كثيرة… حضرت اللحظات بكل تفاصيلها لدرجة أنني أحسست أن قصتي ناقصة، ولم أرو تفاصيل كثيرة مهمة.
هكذا بدأ لقائي مرة أخرى بشمة، التي أتيتها معزياً في والدها الذي تمكن منه الملعون الأول “السرطان”، كما كان يسميه، هنا في مخيمهم الذي يعيشون فيه في سهل حران جنوب شرق مدينة شانلي أورفة التركية. ولكن الأمر الذي قهرني، تقول شمة: “ليس موت والدي، بل منعهم من دفن الجثّة في المكان الذي أصر في وصيته أن يدفن فيه.”
“استخرجنا كل الأوراق الرسمية من مشفى الـ500 في ولاية أورفة، ونقلنا جثمانه إلى بوابة تل أبيض، حيث كان أقرباء لنا في تل أبيض السورية في انتظار الجنازة، لاستحالة ذهابي أنا، أو أخي، إلى هناك. وبالفعل، استلموا الجثة، وسافروا بها إلى الرقة. لكن داعش منعتهم من دفنه في مقبرة ‘تل البيعة’، حيث أراد وأوصى، هناك حيث قبر أمه وأبيه، وحجتهم أنني مرتدة وكافرة، وكذلك أبي، فلا مكان له في قبور المسلمين، بل ولم يسمحوا لهم بدفنه في كل أراضي الدولة الإسلامية ‘الطاهرة’، حيث تم دفنه في قرية ‘كورمازات’ جنوبي ‘تل أبيض’ في 1 تموز 2016. حتى الموت والدفن بالشكل الطبيعي استكثروه علينا.”
دارت بها دوائر الذكرى: “سبق أن وعدتك أن أحدثك عن بعض القصص، عن مجتمع نساء التنظيم، أو بعض ما عايشته هناك. قد تستغرب من بعض الوقائع، وتتهمني بالادّعاء عليهم، ولكن عزائي أن هناك من هن مثلي يعرفن ذلك جيداً، بل أكثر بكثير، لأن فترة إقامتهنّ مع التنظيم أطول.”
“في الحي الذي أسكنني زوجي فيه، كانت غالبية البيوت لعناصر من التنظيم. ممنوع علي كما ذكرت لك سابقاً مغادرة البيت إلا معه. وهناك في ذلك الحي، وذات عصر يوم، طلب مني أن أرتدي أحسن ما عندي، وألبس كل الحلي والذهب الذي كان أهداني إياها، أو اشتراها لي خلال فترة وجودي معه. استغربت، فهي ليست العادة. وعند المساء، أخذني إلى فيلا لا تبعد سوى أمتار عن البيت الذي نسكنه. رن الجرس، ومن خلال الأنترفون تكلم مع صوت أنثوي ناداه هو باسم ‘أم مهاجر’. قال: هذه زوجتي، وسأعود لاحقاً لأخذها. فُتح الباب، ودخلت.
“هو باب لعالم مختلف جداً. ينقلك هذا الباب من عالم المدينة البائسة المحجبة بالسواد، حيث هو اللون الأوحد، والمزنرة بجثث أبنائها ورؤوسهم، ليرتسم داخل هذا المكان عالم من الألوان، لا ليس عالماً من الألوان، بل بحور ومحيطات من الألوان، والكذب باسم الله.
“دخلت متعثرة بخطواتي، تشجعني كلمات ‘أم مهاجر'(1)، التي نهضت مرحبة، ومن خلفها سهام أكثر من عشرين عيناً تخترقني متفحصة ثيابي ومجوهراتي التي بدأت تبان، بينما كانت إحدى ‘السبايا’ تقشرني من الدرع والعباءة والخمار. أمسكت أم مهاجر بيدي، وأدارتني حول نفسي في حركة راقصة وهي تصلي على النبي، وتمر بيدها الثانية على صدري صعوداً لرقبتي، ثم إلى كتفيَّ نزولاً لتستقر يدها على ردفي في حركة وكلمات وابتسامة لا تخلو من إيحاءات جنسية، الأمر الذي زاد ارتباكي، من جهة لما كنت أتخيله من الورع والجو الديني الذي كنت أتوقعه هنا، ومن جهة أخرى للباس غير المحتشم لأكثرية الموجودات.
“إحدى عشرة سيدة من سبع جنسيات جميعهن لا يشبهن لا من حيث الشكل ولا القوام ولا اللباس ولا الكلام مما عرفت، سواء من نساء وبنات مدينتي، أو ماعرفته من نساء التنظيم قبلاً. متكلفات على غير ذوق، سواء في مكياجهن، أو لباسهن، أو مجوهراتهن. وبحس الأنثى، شعرت بغيرتهن، فلباسي على بساطته أنيق، وحليي تناسبه، وبالأخص الطوق الذهبي الأثري الذي أهداني إياه زوجي مما سلبوه من متحف الموصل، والذي أظهرني كإحدى ملكات التاريخ، وأشعل غيرة لمحتها جيداً، ولقوامي الممشوق واستدارة جسمي في عيون الحاضرات.
“عرَّفتهن أم مهاجر علي، وذكرت زوجي وعمله ‘وبطولاته’ ومنصبه في التنظيم، دون أن تسمع أغلبيتهن ذلك، فلقد كانت النميمة والنظرات التحتانية ما أشغلهن عن كلامها.
“أجلستني مضيفتي وانشغلت بضيفاتها. جالت عيناي في المكان مستكشفة وأنا أدور بإصبعي على حافة كأس الكريستال الفاخرة التي قدمت لي بها العصير إحدى السبايا الثلاث اللواتي يخدمن في الصالون الكبير. لم أكن أعرف أن كأسي من الكريستال أو الزجاج، سوى من ملاحظة أم مهاجر التي اعتبرتها إهانة لي ‘انتبهي للكأس التي في يديك، فهي من الكريستال الفاخر.’
“صالون كبير جداً يحتل صدره الأبعد موقد كبير على حجم الحائط من القرميد الأحمر، تتوضع على رفوفه دلال القهوة العربية بأحجامها المختلفة، وعلى الحائط الأيسر مشرب كبير بطاولة من الرخام الأسود تفصله عن الصالون. أما الحائط الأيمن، فعلى أغلب مساحته برواظ من الجبصين المزخرف يؤطر صورة كبيرة مرسومة على الحائط نفسه طمست بالدهان، ولكن للذي ينتبه جيداً، وخصوصاً إن كان من أبناء الرقة فلن تخفى عليه صورة حافظ الأسد يجلس على كرسي كبير يقابله في الطرف الآخر هارون الرشيد، وبينهما سد الفرات، في صورة هي في ذاكرة الرقيين ولو أنها مطموسة. ولكن جزءاً منها على صغره يوضح في ذاكرتهم كامل الصورة على يسار الصورة. كان هناك باب محدِث وليس من تصميم البيت. كان دائماً مغلقاً. وما لفت انتباهي أن قلة من النسوة هنا عندما يدخلنه فبمفتاح واحد بيد كل واحدة.
“تتوزع في الصالة عدة أطقم من الكنبات والكراسي الفخمة، وتغطي أرضه سجادات لم أرَ مثلها في حياتي. أعرف أن هذا البيت لأحد مديري المؤسسات في عهد النظام. ودارت بي الذاكرة إلى بيت أهلي في حي شمال السكة، أحاول أن استحضر منه ألوان حصيرتنا المصنوعة من خيوط النايلون التي اهترأت لكثرة الغسل، وأقارنها مع ألوان السجادات هنا. هل من المعقول أننا نسكن المدينة نفسها، نحن وهو، ومن ثم هنَّ؟ انتشلتني أم مهاجر من ذكرياتي وهي تسألني عن رأيي في العصير الذي تقول هي أنها طبقت وصفته من المطبخ الفرنسي. لم أكن قد ذقته. ‘أم أنك لا تفضلين شربه قبل العشاء.’ تابعت دون أن تسمع رأيي. لا، لا، عادي ‘قلت في نفسي: الله يرحم أيام الشراب تبع الظروف اللي بخمس ليرات.’
“كان العشاء عبارة عن خروفين مشويين، وكمية من المكسرات التي لا أعرف أسماء أكثرها، أو أسماء التوابل التي كانت تعددها أم مهاجر في تفاخر واضح، متلذذة بتأثير الاستغراب والجهل على وجوهنا، ومستغربة من ضحالة معلوماتنا وجهلنا بالمطابخ العالمية؛ سلطات مختلفة اجتهدت جداً أن أحفظ اسم واحدة فقط دون جدوى، رغم أن مكوناتها هي الخضار التي نعرفها، أو ربما هي تقصدت في تسميتها بأسماء أجنبية.
“بعدها، تم تقديم الفواكه والأراكيل! أي والله أراكيل، وأنا المدمنة على الأركيلة والمحرومة منها لأشهر بدعوى الحرمانية. هنا غير محرمة. الحرمانية التي تطبق على العامة لا تطبق هنا، والدين المفروض في الشارع غير الدين الموجود في الصالونات هنا. عدة أنواع من المعسل، مع حشيش أيضاً. يمكنك ألا تصدق، ويمكن لكثير أن لا يصدقوا، ولكن هو واقع الحال هناك. والأراكيل كلها “بابليون” موصلية، حيث يصنعون أفضل الأراكيل في العالم، كما قالت أم مهاجر. عند الواحدة تقريباً بدأ جرس الباب يدق كل حين، ويطلب أحدهم زوجته عبر الإنترفون. كان دوري عند الثانية صباحاً تقريباً.
“طلب مني زوجي أن أنقل له ما حصل، وأصف له كل تصرف في كل ثانية. اعتقدت بداية أنه، أو أنهم، لا يعرفون ما يحصل، ولكنها لم تكن صدمة كصدمتي أول الدخول إلى صالون أم مهاجر. كانوا يعرفون كل شيء، بل هم من يؤمن كل شيء.
“الخميس التالي ,حسب توقيت السهرة في صالون أم مهاجر، كان كالخميس الذي سبقه. طلب مني أن أجهز نفسي وأستعد. عند المساء، أحضر لي مشبكاً ذهبياً تتوسطه حجرة زمرد غريبة الشكل موصولة من طرفها الخلفي بأسلاك رفيعة موصولة بجهاز صغير يشبه بطارية الموبايل، ربما أكبر قليلاً. قال هذه لحمايتك، وهي كاميرا مع مسجل صوت. رفضت بداية أن أضعه خوفاً من أم مهاجر ومن معها، وهن صاحبات اليد الطولى في كل الرقة، عبر كتيبة الخنساء التي تمثل أم مهاجر إحدى قياداتها. ولكنه أقنعني أن جميع النساء هناك يتجسسن على البقية بالطريقة نفسها، وأنه هو من يجهز للجميع هذه الأدوات. لم أفهم لماذا يتجسسون على بعضهم إن كان كلامه صحيحاً.
“ألصق الأسلاك الناعمة على جسمي، ووضع الجهاز في ثيابي الداخلية، ما بين ساقي، وألبسني ثيابي وحليي بيديه قطعة قطعة. أجلسني وأوقفني عدة مرات، ثم طلب مني أن أمشي، ثم أجلس، ثم أنحني، ثم أستقم. كل ذلك وهو يحدق في شاشة الكمبيوتر، حتى بانت ملامح الرضا على وجهه، واطمأن أن عمله تام.
“في السهرة، كانت هنالك سيدتان جديدتان، وكانت ثقتي بنفسي أكبر، ولكن ما كنت أحمله على صدري، وما بين ساقي هو ما كان يربكني ويخيفني. إحدى المرأتين الجديدتين عرفت عنها أم مهاجر باسم ‘أختنا أم سيف الله’، أو كما تُشتهر بـ’أخت جليبيب'(2). والسيدة الأخرى كانت ‘أم ليث الإنكليزية’ (3) الوحيدة المحتشمة اللباس، والجدية في كلامها، والمتشددة جداً في آرائها.
“كالخميس الماضي، كانت أم مهاجر تتحفنا بتسميات غريبة عجيبة لأنواع الضيافات التي تقدمها، والأواني التي تقدم فيها هذه الضيافات في عنجهية وفوقية متعمدة.
“كان جمع النسوة كله يتساءل عن موعد ما على السكايب، ألم يحن موعده. لم أكن أعلم شيئاً عن الموعد، أو مع من، إلى أن تحلق أكثرهن حول شاشة كمبيوتر، ربما هي أكبر شاشة كمبيوتر سبق أن رأيتها، بل هي أكبر من شاشة التلفاز في بيت أهلي. كان الاتصال من اسطنبول مع سيدتين إحداهما تتكلم العربية، والأخرى تتكلم عربية مكسرة بطريقة مضحكة. قامت السيدتان بعرض بضاعة محل كامل من الألبسة الداخلية والخارجية والإكسسوارات، وأدوات التجميل، والعطورات، بواسطة ثلاث عارضات أزياء شكلهن وذوقهن لا يبعد كثيراً عن ذوق الموجودات، ثلاث ساعات من التسوق والاختيار والتعديلات على الأزياء والألبسة وألوانها، والتي كن يتصفحن موديلاتها على صور مرسلة سابقاً غير العرض المباشر. طلبت السيدتان على الطرف الآخر مهلة أسبوع حتى يتم إجراء التعديلات، ومطابقة القياسات التي كانت تقوم بأخذها من أجساد الموجودات سيدة خمسينية تضع نظارة طبية أعرفها جيداً. كانت تملك محل خياطة يتبع لأحد المتاجر الكبرى لبيع الأقمشة في شارع تل أبيض. وكما الخميس الماضي انفض الجمع بعد عشاء فاخر بتسميات غريبة من قبل أم مهاجر، وأراكيل، وحفلة رقص من ثقافات متنوعة، كانت ‘الجزراويات'(4) الأكثر استهلاكاً لكل شيء، من الأكل، إلى كمية الألبسة التي تم طلبها على أسمائهن، إلى استهلاك رؤوس الأراكيل، إلى الرقص الماجن ذي الإيحاءات الجنسية الفاضحة التي تخجل منه حتى النسوة هنا.
“أم ليث، وثلاث أخريات، قضين أغلب الوقت في الغرفة ذات الباب الأسود، وعندما يخرجن فليهمسن في أذن أم مهاجر، أو أم سيف الله، أو ليطلبن من إحداهن أن تدخل تلك الغرفة التي شدت انتباهي.
“لم ينتظر زوجي حتى أخلع نقابي ودرعي وعباءتي، بل مد يده إلى ما بين ساقي من على الباب، وأخرج ما وضعه هناك، ومباشرة ألحقه بجهاز الكمبيوتر خاصته، وبدأ يخلع ثيابه على عجل ويلقيها بعشوائية، كما أوامره التي يلقيها علي “بدي عشا… جيبيلي الدوا من البراد… شوفيلي مفاتيح الخزنة… هاتي شاحن الموبايل… اقفلي باب الشقة. أنهيت ما أمر به وجلست أتابع معه. غمرني بنظرة امتنان فرحاً بما يشاهده وهو يقوم بالتقطيع والتوصيل. كنز هذا يا حرمة، رح يكون بيوم من الأيام كنز. هذه كانت آخر كلمات سمعتها قبل أن يغلبني النعاس.
“الاثنين اللي قبل الخميس ‘حسب توقيت صالون أم مهاجر’، اعتباراً من الآن كل يوم إثنين وثلاثاء هنالك دورة شرعية في صالون أم مهاجر، وعليك أن تلتزمي بموعد الدورة. ربما هو قرار عما شاهده، أو شاهدوه في الفيديو الذي صورته، تساءلت في نفسي، وسألته، لكنه لم يجبني، وقال أنا لن أمر لأخذك، ولك الإذن بالذهاب لوحدك. قالها وهو يغلق الباب خارجاً.
“كنت ثالث الواصلات إلى منزل أم مهاجر. وأنا أمد يدي لأقرع الجرس سمعت حديثاً بين الدورية التي تقف غير بعيد عن منزل أم مهاجر واثنتين من النساء يبحثن في حاويات القمامة عن بقايا أكل، وهي ظاهرة انتشرت بعد سيطرة داعش على المدينة ‘انقلعي من هين إنتي وإياها.’ واضح من لهجته أنه من أهالي المدينة. ترد إحدى المرأتين وهي تغوص إلى نصفها بحاوية القمامة، ‘ولك ابني والله متنا من الجوع، واحنا أولى من الكلاب والقطط،’ فيرد عليها الملثم الآخر: ‘لا، والله! الكلاب والقطط أولى منكم. أنتم جايين تزتون شرايح مشان الطيران يضرب بيوت المجاهدين.’ ‘ولك يا ابني أي شرايح، وأي طيران، والكعبة عندي خمسة أولاد، وهين بالحاويات خير كثير. الله يوفقك خلينا ناخذ ونروح.’ ‘اتق الله يا كافرة، أتحلفين بغير الله، سأستدعي لك كتيبة الخنساء ليقيموا عليك الحد.’ كيف اختفت المرأتان في لمح البصر، لا أعرف! وسط قهقهات العناصر. أردت أن أقول للمرأتين: لو أنكما تريان الطعام هنا في الداخل، ولكنني لم أقل، وضغطت على الجرس ودخلت. كان هنالك سبع عشرة سيدة، هذه المرة كنا عندما اكتمل عقدنا سوريتين، وعراقيتين، وثلاث تونسيات، وسعودية واحدة، وبريطانيتين، وأربع فرنسيات، وألمانية واحدة، وبلجيكية واحدة، وصومالية واحدة.
“طلب منا بواسطة أم ليث الاسكتلندية، وهي أميرة الجمع في هذا اليوم، وإلى الاثنين المقبل، حيث سنُؤمَّر من امرأة أخرى، أن تتكلم كل واحدة عن تجربتها مع الدولة، ونظرتها إلى مستقبل الدولة، وما هو الخطاب الذي سنستقطب به من وجهة نظر كل منا مزيداً من النساء والرجال للانضمام والالتحاق بدولة الخلافة. ولم تحدد الاسكتلندية وقتاً للخطاب، فالمجال مفتوح.
“تكلمت هي بداية، وتفاخرت بأن دولة الخلافة عناصرها من 87 دولة، وهو أكبر من عدد الدول التي تحالفت لمحاربة دولة الخلافة على حداثة تكوينها. كانت تستخدم العربية والفرنسية والإنكليزية. بصراحة، ورغم ضحالة ثقافتي الدينية، إلا أنه كان واضحاً أنها تعرف كيف تختار الآيات والأحاديث وتقولبها في صلب حديثها، ولو أنني لم أقتنع بكلمة منه بسبب ما رأيت في جلستي وسهرتي الخميسين المنصرمين، ولكنني أعجبت بشدة باستخدامها للغات الثلاث، واختيارها للآيات والأحاديث. تكلمت عن وسائل التواصل الاجتماعي، وخصوصاً تويتر، في نشر فكر الخلافة، وخاصة في أوساط من يبحثون عن هويتهم في أوروبا، الهوية التي أضاعوها هناك، فلا هم أوروبيون ويعترف بهم، ولا هم مسلمون. وهنا دورنا أن ندلهم على جذورهم في دولة الخلافة الراشدة.
“تتالت الكلمات والآراء والاقتراحات. لم تجبرني أم ليث على الحديث، ولم أتحدث، بل كنت مستمعة فقط ‘وفي الخلاصة، واللي شفتو خلال أول يومين من الدورة الشرعية، هو الوعي والثقافة الدينية للمهاجرات القادمات من أوروبا أكثر بكثير من المهاجرات الأخريات، ومن الأنصاريات السوريات والعراقيات. ومن خلال أحاديثهن أيضاً هن يتفوقن في القسوة والعنف، سواء الفكري، أو الجسدي.’
“يوم الخميس الذي يلي اثنين وثلاثاء الدورة الشرعية ‘حسب توقيت صالون أم مهاجر.’
“كما الخميس الذي سبق، جهزني زوجي بالكاميرا من خلال المشبك الذهبي، وأهداني إسوارة ذهبية على شكل أفعى تمتد إلى مرفقي تقريباً. أوصلني وذهب إلى أشغاله. لفت انتباهي وانتباه الجميع صناديق من الكرتون تحت المشرب تماماً تحامي عنهن أم مهاجر، وفي الوقت نفسه تعطي الأمر درجة من التشويق والغموض، ولو أن أغلب الموجودات حزرن ما في الصناديق. كل هذا في انتظار اكتمال الجمع. وعند وصول الجميع، فتحت الصناديق التي كانت تحتوي أكياساً وصناديقاً أخرى عليها أرقام بدل الأسماء، وكل واحدة كانت تعرف رقمها، وبدأت حفلة اللبس والمباهاة.
“أجلس في الركن الأبعد من الصالون، وأنفث دخان أركيلتي على شكل حلقات، وأسوح في هذا العالم الذي أنا جزء منه منذ أشهر عدة، أراقب الفرح الطفولي بالثياب والعطورات والماكياجات والإكسسوارات القادمة من وراء الحدود. “تفترسني غيرة قاتلة، فأقضم أظافري أكثر من سحبي لدخان الأركيلة… ساذجات تبعن حماسهن وحب المغامرة، وأشياء أخرى لا أعرف ما هي. لكن الدافع ليس قوة المعتقد الديني بالتأكيد، فقد وقع جميعهن في أيديولوجية التنظيم. لكنني لست ممن وقعن في الأيديولوجية، بل في شيء آخر.
“أحاول أن أفهم ما الذي أتى بهن إلى هنا. أنا أفهم ربما، لكنني لا أبرر انضمام بعض السوريات، وأنا منهن إلى التنظيم، ولكن هؤلاء النسوة ما الذي كان ينقصهن، سواء الخليجيات، أو الأوربيات، أو حتى المغاربيات… رح أقلك رأيي، وهو من حقيقة ما عايشت وعشت طوال الشهور الماضية.
“الدعاية الإعلامية للتنظيم تستخدم بساطة الطرح وسلاسة الفكر لتقنع الكثيرين، وخصوصاً الأوروبيين. أتحدث عن النساء طبعاً وهون ربما إجابة حتى على بعض تساؤلاتي أنا نفسي. اللي ما عرفوا يكونوا أوروبيين، أو يحافظوا على جذورهم، ويكونوا أسوياء في مجتمعاتهم، وأيضاً الصور التي يبثها التنظيم، تدعو من دون أن تقول إلى المغامرة، ورغم إنو فكر داعش ضد حقوق النساء إلا أن الدعاية الإعلامية تبعهم كانت متفوقة في توجيه الدعاية والخطب المناسبة للمرأة المغامرة. التشبه بنساء التاريخ الإسلامي الأول… الأمان… فكرة دولة الخلافة التي ستنافس الدول التي جاؤوا منها، وتلغي الحدود والمسميات حتى للدول الإسلامية نفسها. وقدم هذا الخطاب مشفوعاً بأحاديث وآيات تناسبه وباللغات العربية والإنكليزية والفرنسية، ولكن المصيبة تكون عند وصول الواحدة منهن إلى هنا. يكن قد وقعن بالفخ، حيث تتكشف الحقيقة، زواج إجباري، ومنع الخروج، ولا وجود للمغامرة، إلا من رحم ربي، وكان لها دور، أو خدمتها ظروف معينة. وأعتقد أن صاحبات الغرفة ذات الباب الأسود ينطبق عليهن هذا الكلام. ويكون النكوص فتبدأ الرشى بداية بالحلي والمجوهرات، ثم ببيوت لا يمتلكها واهبوها أصلاً، ثم المخدرات والحبوب والجو الذي أعيشه معهن الآن أوضح مثال.
“انتشلتني أم ليث الاسكتلندية من أفكاري، وهي التي لم توص أيضاً على أي ثياب، أو مستحضرات تجميل، فسألتني لماذا لم أوص على شيء. فقلت: لم يأذن لي زوجي بذلك. وأنت؟ سألتها، وليتني لم أسألها، كنت قد أدمنت حالتي هذه وطريقة معيشتي. ولكنها فجرت وهدمت كل ذلك. كلمتني بداية عن زوجها الذي مات. كانت متشددة أكثر ربما من ‘مولانا الخليفة’ نفسه، قرصتني من يدي ضاحكة عندما أصاخ الجمع السمع لصوت الطائرة التي هدرت فجأة مترقبين صوت انفجار الصواريخ، ولكنها هي بالذات أكملت ضحكتها: ‘عندما كنت صغيرة كنت أخاف الطائرات وبقيت هكذا. عندما اتصلت بأهلي في اسكتلندا أول ما وصلت إلى تل أبيض قالت لي أمي مرعوبة، وهل ركبت الطائرة؟’ عندما أنهت ضحكتها سألتها عن الغرفة ذات الباب الأسود، فحدجتني بنظرة رافعة حاجبيها: ‘اعتبريها المطبخ، هل فهمت؟’ أجبت: نعم. ولم أفهم. كان واضحاً أنني سألت عما لا يسأل عنه.
“وكانت دعوة أم مهاجر للعشاء طوق نجاة لي، حيث انتهت السهرة باكراً بسبب الثياب التي يجب أن تلبس لمن يجب أن تلبس لهم، والعطور التي سترش، والأصبغة التي ستدهن لتغطية أمور كثيرة.
الاثنين الشرعي “ما زلنا نعتمد ذات التوقيت”
“أخت جليبيب أميرتنا هذا الأسبوع تحدثت عن نفسها، وعن رحلتها من السعودية إلى تركيا، فالرقة. تحدثت عن لقاءاتها الثلاثة بالخليفة أمير المؤمنين في تفاخر، وعن المهام التي كلفها بها. تحدثت عن بطولات أخيها وزوجها، ثم عما قامت به من خدمات للتنظيم، وأنها أقنعت الكثير من السعوديات للانضمام إلى التنظيم، وبأنها ثاني سيدة في الرقة تقود السيارة، فلا حاجة بها للتخفي عن عيون الهيئة في ‘البر’ كما في السعودية، بل إنها تجوب الشوارع بسيارة ‘الخنساء’ بدورياتها على النساء المخالفات للباس، وتدعوهن للالتحاق وتجربة ذلك، وأقنعت كثيرات بالآية الكريمة:
وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَٰذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَٰذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ ۖ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا ۖ وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ.
“والتي وجدتها هنا بهذا الفرات، فرات منَّ به الله على دولة الخلافة ليكون متنزهاً ورئة سياحة للمجاهدين والمجاهدات وعائلاتهم. قالت: ‘كنت أرسل لهن الصور، وكانت نتائج رائعة، والحمد لله، زاد عدد الأخوات أضعافاً.’ لم أفهم ما الربط بين الآية وما تقول، فالمقاربة غير واضحة، سوى في اعتقادها ربما أن كل كلمة فرات هي هذا النهر. ما علاقة فراتنا بما ذكرت ‘فراتنا كرقاوية’.
يوم الثلاثاء الذي يلي يوم الاثنين الشرعي وعلى التقويم ذاته
“لم يختلف حديث أخت جليبيب كثيراً عن اليوم الذي سبقه. كان واضحاً ضحالة ثقافتها الدينية، إذ حولت الدرس الشرعي إلى مناكفة أم مهاجر في تفوقها المطبخي، وتحدثت عن أنواع الكبسة وبهاراتها وسط تبرم وعدم اهتمام من أغلب الموجودات.
خميس آخر، وليس الخميس الأخير لصالون أم مهاجر
“لا أستطيع أن ألبس كل الأساور والقلائد والخواتم والأطواق، ولكنه يصر أن ألبس أكبر كمية منها، حتى تغطي على المشبك الذهبي وزمردته الغريبة. كنت أمشي بكل هذه الحلي كالمكبلة بأصفاد وسلاسل، وخشخشتها تزيد ارتباكي. أوصلني كالعادة وراح كالعادة. كان الجمع ملتئماً، ولكنه غير كامل. على يمين المشرب ذي الرخام الأسود، كان هنالك ما يشبه كرسي طبيب الأسنان تتمدد عليه ‘أم منتصر الجزراوية’ بقميص نوم شفاف ملأته عن آخره حد التفجر. تحت ضوء باهر تعمل فتاتان إحداهما على ساقي أم منتصر، حيث توشم لها بالحناء الجاهزة وشوماً إلى ما دون الركبة، والأخرى على وجهها، تنظف بشرتها وتحف حاجبيها وشاربيها، كل ذلك وسط حلقة من الموجودات اللاتي ينتظرن دورهن، ويسخرن من بعضهن منفجرات بالضحك تعقيباً على كلام أم منتصر الذي قالته بكلام فصيح ورنة صوت مقلدة الشرعيين ‘لعن الله الواشمات والمستوشمات والنامصات والمتنمصات’، فينطلقن بسيل من التعليقات.
“‘تخيلي أنك لا تنمصين ولا تحفين، لن تتميزي عن أبو المنتصر.’ تعلق أخرى: ‘لا،لا،لا، ستكونين مثل أبو الدرداء، وخصوصاً مع هالكرش. طيب أنت أتتك اللعنة، هههههههه، حرام حرام هاتان النامصاتان، فما ذنبهن’ تقصد فتاتي صالون التجميل. ‘لا، لا، هذن ما لهن علاقة باللعنة أنا كافلتهن.’
“وكان التعليق الصارخ من أم الفاروق العراقية ‘نسوان النبي معقولة ما تنمصن وحفن؟’ هنا تدخلت أم مهاجر حازمة وفرقت الجمع منهية النقاش زاجرة ومتوعدة بعقاب، فساد وجوم وجو ترقب وحذر ومحاضرة لأم ليث لم تنهها حتى تفجر الصخب والضحك من جديد. انزويت و”مجاهدة” ننم ونغتاب البقية أيضاً. تبادلنا الحديث عن حياتنا قبل التنظيم. وكأم ليث، التي كانت الأكثر تشدداً بفكرها، وانتقادها للتقاعس الحاصل هنا، وكانت أيضاً ممن يملكن مفتاح الغرفة ذات الباب الأسود، أرتني صوراً كثيرة لها، منها صور وهي تقوم بذبح شخص ‘مرتد’ بريف الطبقة الشرقي، وصور أخرى وهي تحمل رأسه. انتهت سهرتي باكراً عندما دق الباب وطلبني زوجي. وفور وصولنا إلى البيت، تناول الجهاز وسجل وقطع ووصل ونام.
“انتقلت أم مهاجر إلى ديرالزور، حيث عمل زوجها في حقل العمر النفطي، وغابت أم ليث والمرأة الصومالية. تابعنا تجمعنا في بيت أم منتصر الجزراوية، في بيت أم مهاجر سابقاً، ولكن غابت كاسات الكريستال والأسماء الغريبة لكل السَلطات وأنواع الأكل، وبقيت ‘لكبسة’ سيدة الموقف، وكذلك بقي فضول يفترسني أن أمد رأسي في الغرفة ذات الباب الأسود، التي بقيت تفتح لعدد محدود منا.
“ذات ظهر غادر زوجي البيت، كالعادة، فصعدت إلى السقيفة حيث تسليتي اليومية. وعند المغرب، سمعت صوت طرق عنيف على الباب. ولأنها المرة الأولى التي يطرق فيها الباب بهذه القوة، خفت وترددت كثيراً، حتى جاءني صوت ‘أم منتصر الجزراوية’، فاطمأن قلبي وفتحت الباب.
“اقتحم علي البيت عناصر ملثمون من المكتب الأمني ‘ن11’، ترافقهم ثلاث مقاتلات من كتيبة الخنساء، وأم منتصر الجزراوية، هن من دخل أولاً، فجمعوا وبهدوء وبدقة كل متعلقات زوجي، حتى ثيابه، وكل النقود ومجوهراتي وحليي، فقط لباسي تركوه، وعندما انتهوا قالو لي إن زوجي قد ‘استشهد.'”
وأدرك شمة الصباح، لكنها قبل أن تسكت عن الكلام المباح قالت، محاولة إبداء تعبير الندم، وأعتقد أنها كانت صادقة “ما قمت به يلاحقني كل لحظة ويقتلني طوال الوقت.”
هوامش١:
- ــ أم مهاجر..هي نفسها أم سياف، وهي مهاجرة تونسية بداية إلى العراق، وهناك زوجت بنتيها لعناصر بالتنظيم، وأثبتت خلال الفترة نفسها إخلاصاً جعل التنظيم يكلفها بتشكيل كتيبة الخنساء في الرقة. خطفها الأمريكان من حقل العمر النفطي شرقي ديرالزور بعد ان قتلوا زوجها في 16 ايار 2015.
- – أم سيف الله، أو أخت جليبيب: “ندى معيض القحطاني”، زوجة الشيخ محمد الأزدي من السعودية. دار جدل كبير حول سفرها من السعودية إلى تركيا، ومن ثم إلى سوريا، دون محرم. أخوها عبدالهادي معيض عبدالهادي القحطاني (22 سنة)، وهو من أشهر مقاتلي داعش.
- – أم ليث الاسكتلندية هي “أقصى محمود” (23 سنة) طالبة طب اختصاص تصوير أشعة من مدينة غلاسكو الاسكتلندية، ومن أصول باكستانية، والدها من أشهر لاعبي الكريكت.
- – يقصد به المهاجرات الجزراويات نسبة للجزيرة العربية، وخاصة السعوديات.
هوامش٢:
جماعة المعينة= جماعة الإغاثه
ماجعد نشوف منهم شي = لم نرَ منهم أي مساعدة
العصفير = رائحة الدخان المعشش بالمكان
يبدو أن أحدهم عباني = أحدهم كتب بي تقريراً للجهات الأمنية
والعالم مطركعين وراه = العالم يوافقونه ويمشون خلف روايته
يحوشون قطن= يقطفون قطن
أصوبك ياو = أين أنت يا
كُتب هذا الجزء بعد لقاء أجريته مع صاحبة القصة في مخيمها في تركيا واستكملت الباقي معها على السكايب من فرنسا.
عندما كنتُ في جوف الوحش في مدينة الرقة الجزء الأول
بواسطة Syria in a Week Editors | مايو 14, 2018 | Media Roundups, Syria in a Week, غير مصنف
النووي الإيراني … سورياً
٨/٩ أيار
أعلن الرئيس دونالد ترامب يوم الثلاثاء الماضي انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي مع إيران للعام 2015. وجاء القرار بعد تهديدات متكررة من الإدارة الأميركية بإلغاء الاتفاق الذي وصفته بالاتفاق “الكارثي”. ووقع ترامب الأربعاء الماضي مذكرة رئاسية لبدء فرض عقوبات اقتصادية متشددة على إيران، حيث أشار إلى خطورة الاتفاق الذي سمح لطهران بالاستمرار في تخصيب اليورانيوم، وبالتالي زاد من إمكانية سباق تسلح نووي في الشرق الأوسط. (الجزيرة)
وفشل الضغط الأميركي في دفع الشركاء الأوروبيين في الاتفاق بالانسحاب منه، حيث أعلن كل من الاتحاد الأوروبي وألمانيا وفرنسا وبريطانيا تمسكهم بالاتفاق، لكن طبيعة العقوبات الأميركية على الشركات التي تتعامل مع إيران ستؤدي إلى ضغط كبير على استمرار التعاون الاقتصادي الإيراني الأوروبي.
ورحبت إسرائيل، المستفيد الأول من العقوبات على إيران، بالانسحاب الأميركي، كما رحبت كل من السعودية والإمارات بالقرار، فيما أعلنت إيران استمرارها بالاتفاق بالرغم من الانسحاب الأميركي كما ساندت كل من روسيا والصين الاستمرار بالاتفاق، في انعكاس واضح لحجم التوتر الدولي والإقليمي الذي يحمل مخاطر عالية بالتدهور. (رويترز)
وانعكس التوتر بشأن الاتفاق النووي تصاعداً في الميدان السوري حيث أخذت المعركة بين أيران وإسرائيل تتحول إلى اشتباك مباشر. وبعد أن أعلنت أو سربت إسرائيل عدة مرات بأنها تهاجم مواقع أو قوات إيرانية في سوريا، بما في ذلك الهجوم على قاعدة “تي فور” وسط سوريا، هددت إيران بأن اعتداءات إسرائيل لن تمر دون عقاب.
نتانياهو في موسكو، غارات في سوريا
١٧ أيار
أعلن تلفزيون الميادين ليل الأربعاء أن “محور المقاومة” قام بقصف صاروخي أربعة مواقع عسكرية إسرائيلية في الجولان السوري المحتل، الأمر الذي يعد أول هجوم عسكري على جبهة الجولان المحتل منذ عام 1974، وجاء الهجوم بعد يوم من إعلان ترمب الانسحاب من الاتفاق النووي. ولم تتبن أي جهة رسمياً الهجوم الصاروخي على الجولان. وقالت إسرائيل إن إيران أطلقت ٢٠ صاروخا من طراز جراد وفجر أسقطها نظام القبة الحديدية للدفاع الصاروخي أو لم يصل مداها إلى الأهداف بالجولان. وأضافت أن فيلق القدس الذراع المسؤولة عن العمليات الخارجية للحرس الثوري الإيراني هو الذي أطلق الصواريخ. كما قالت إسرائيل إنها قامت بهجمات صاروخية على قواعد إيرانية في سوريا رداً على “الهجمات الإيرانية” على الجولان، مما زاد الخشية من تدهور الأوضاع إلى نزاع إقليمي واسع النطاق.
وأشار الإعلام الرسمي السوري أن إسرائيل قامت فجر الخميس باعتداءات صاروخية أصابت مواقع دفاع جوي ومستودعاً للذخيرة، كما أفادت وكالة الأنباء الروسية بتصدي الدفاع الجوي لأكثر من نصف الصواريخ الإسرائيلية.
وكانت وسائل إعلام سورية رسمية قد أشارت إلى أن إسرائيل قامت بإطلاق صواريخ على هدف قرب دمشق يوم الثلاثاء بعد وقت قصير من إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترامب انسحابه من الاتفاق النووي الإيراني. وقال الجيش الإسرائيلي إنه بعد رصد “نشاط غير معتاد” للقوات الإيرانية في سوريا أصدر تعليمات للسلطات المدنية في مرتفعات الجولان بتجهيز المخابئ ونشر دفاعات جديدة وتعبئة بعض قوات الاحتياط. (رويترز)
وطالبت كل من روسيا وألمانيا وفرنسا بضبط النفس والتحلي بالحكمة، بينما أدانت الإدارة الأمريكية الهجوم الإيراني وقد صورت إدارة ترامب موقفها المعارض للاتفاق النووي بأنه في جانب منه يرد على تدخلات طهران العسكرية في المنطقة.
والمفارقة في المشهد الإقليمي أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو كان في زيارة إلى الرئيس الروسي بوتين يوم الأربعاء أي عشية الهجوم الإسرائيلي الواسع على سوريا. كما قالت إسرائيل أنها أخطرت روسيا قبل الهجوم على سوريا. مما يشير إلى تعقيدات التحالفات والمصالح حول وفي الحرب السورية.
وفي يوم الخميس انخفضت حدة الخطاب التصعيدي حيث اعتبر نتنياهو أن الرد كان مناسباً، كما قال وزير الدفاع الإسرائيلي ليبرمان إنه يأمل أن يكون العنف مع إيران على الحدود السورية قد انتهى. ويذكر أن كل من وزير الدفاع والطاقة الإسرائيليين كانا قد هددا النظام في سوريا في حال استمرار السماح التواجد الإيراني على الأراضي السورية.
لا يبدو أن الأطراف الإقليمية جاهزة لتخفيف التصعيد بعد، وتزداد احتمالات أشكال جديدة للحرب السورية مع الاستثمار في التسلح والاعتداءات والانتهاكات والتحريض خاصة عندما يكون الصراع مرتبطاً بقضايا مثل الاحتلال أو الهوية أو الهيمنة والاستبداد.
الحجر الأسود يتآكل
١٣ أيار
استمرت المعارك العنيفة بين قوات النظام وداعش في الحجر الأسود ومخيم اليرموك جنوب العاصمة دمشق، وبالرغم من تقدم الجيش السوري إلا أنه تقدم بطيء وترافق مع خسائر بشرية كبيرة بحسب المرصد السوري لحقوق الإنسان نتيجة لطبيعة حرب الشوارع في مناطق سكنية واستخدام عناصر داعش للأنفاق في القتال. وسيطر النظام على ٨٠ بالمئة من الحي حتى يوم الأحد مع بقاء أجزاء من مخيم اليرموك تحت سيطرة داعش.
وأشارت وكالة سانا الرسمية إلى انفجار إرهابي في ساحة الميسات وآخر في برج دمشق وأدت الانفجارات إلى مقتل شخصين وجرح 14 آخرين. وتناقضت المعطيات حول سبب الانفجار إن كان سيارة مفخخة أو صواريخ من قبل عناصر داعش في مخيم اليرموك. (رويترز، عنب بلدي)
يذكر بأن النظام استكمل السيطرة على يلدا وببيلا وبيت سحم المجاورة للحجر الأسود ومخيم اليرموك بعد الاتفاق بين روسيا والنظام السوري من جهة، وفصائل المعارضة من جهة أخرى، والذي خرج بموجبه 8632 شخصًا بين مدني ومسلح إلى الشمال، وتوزعوا بين ريف حلب الشمالي وإدلب. (عنب بلدي)
آخر الجيوب
١٣ أيار
الجيب المحاصر الأخير للمعارضة يسلك طريق الغوطة حيث أعلن الجيش النظامي السوري وفصائل من المعارضة أن آلاف من مقاتلي المعارضة والمدنيين غادروا آخر الجيوب الرئيسية المحاصرة للمعارضة في سوريا، بعد أن قامت الفصائل بتسليم الأسلحة الثقيلة وبدأ مقاتلو المعارضة غير المستعدين للبقاء بالمغادرة إلى مناطق تسيطر عليها قوات المعارضة في شمال سوريا. وبذلك تتركز الجبهات المستقبلية بين قوات النظام والفصائل المعارضة في الجبهة الجنوبية وفي ريف حلب الشمالي الغربي وإدلب وفي شمال شرق سوريا مع قوات سوريا الديمقراطية. (رويترز)
بواسطة Ahmed Ibrahim | مايو 11, 2018 | Cost of War, Reports, غير مصنف
يقدم صالون سوريا هذه القصة على جزئين. حوار مع شمة، امرأة عاشت الأجواء الداخلية لداعش ونقلت شهادة عينية عن حياة نساء داعش. أجري الكاتب الحوار مع شمة في عدة أمكنة متفرقة واستكمل قسماً منه عن طريق السكايب.
الجزء الأول
بصعوبة تشق السيارة طريقها في طريق زراعي ضيق جداً امتلأت حفره بماء المطر، محملة دواليب السيارة بوحله. هنا قاطع السائق تأملاتي: وصلنا!
ثلاث خيم يغطيها بلاستيك أزرق تحت شحوب سماء تشرين الثاني، تحيط بها وعلى مد النظر حقولٌ واسعةٌ من القطن والذرة الصفراء في سهل حرَّان، جنوبي ولاية شانلي أورفة التركية، التي لا تبعد أكثر من 30 كماً عن الحدود السورية.
التف جمهرة من الصبية والفتيات الصغيرات حول عجوز تجلس على كرسي على باب الخيمة الأولى تسند يدها إلى ذقنها، تقبض بها على عصاة تساعدها على المشي على ما يبدو. حفر الدهر على وجهها أخاديد عميقة توحي ملامحها بقصص الساحرات، فيما تغطي عينيها نظارة طبية سميكة. بادرتني بالحديث عندما رأت دفتري “أنتم جماعة المعينة*! يابا والله ما جعد نشوف منهم شي”*. لا خالتي أنا أتيت إلى هنا عندي موعد مع “أبو شمة”. لوت شفتيها الغائرتين داخل فمها لعدم وجود الأسنان متبرمة غير راضية، وأشارت بظهر يدها: آخر خيمة “أبو دحام… صار أبو شمة.. زماااان”؛ بربرت بكلمات أخرى لم أفهم جلها.
زفني الأطفال وأنا أكاد أتعثر بالصغار منهم وهم يتدحرجون بجزمات بلاستيكية ذات ساق، على شورتات لا تتناسب والطقس البارد، بحيث سبقوني جميعاً واصطفوا أمام باب الخيمة تاركين لي مجالاً للدخول. أنوفهم محمرة يتقاطر منها المخاط على أكمامهم وهم يحاولون مسحه، وينقلون أنظارهم بين داخل عمق الخيمة وبيني.
ناديت بصوت عال كعادة أهل الرقة: “أهل البيت.. يا أهل البيت!” فجاءني صوت واهن ضعيف من عمق الخيمة “فوت.. تفضل ما بي حدا.. فوت.. فوت.”
الوحل متراكم من آثار الدخول والخروج على مدخل الخيمة. انحنيت داخلاً خيمة طولها ربما ستة أمتار بعرض ثلاثة، تفوح منها رائحة “العصفير”*، ورائحة أعقاب سكائر نتنة نتجت عن إحكام إغلاق الخيمة. جاءني من عمقها بعد قليل صوت واهن: “تعال هين بجنبي”*. مد يده من تحت دثار مكون من أغطية “هي عبارة عن ملابس بالية خيطت مع بعضها وألبست قماشة واسعة كوجه لها”، وبطانيات عليها أسماء المنظمات الداعمة. مد يده مسلماً، فأخذت يده بكلتا يديَّ، يده التي لم تكن إلا عبارة عن عظام يغطيها جلد وعروق. كانت عروق اليد نافرة وواضحة بحيث يمكن أن تتبعها إلى القلب. جرني وأجلسني إلى جانبه.
يقول أبو شمة أنه في بداية الستين، وكان يعمل حارساً في معمل تجفيف الذرة الصفراء التابع للمؤسسة العامة للأعلاف في الرقة. انقطع راتبه عام 2012 إثر تقرير اتهم فيه بالمشاركة في اعتصام للأهالي بتاريخ 25 حزيران 2012 أمام المحكمة في الرقة، للمطالبة بالإفراج عن المعتقلين لدى فروع الأمن في الرقة. يشرح: مروري كان بالمصادفة، عندما رأيت امرأة من أقاربي، فوقفت أستفهم منها ما الموضوع، ويبدو “أن أحدهم عباني”*. بعد يومين اعتقلت لمدة 17 يوماً، لأخرج وقد تم فصلي من الوظيفة. عندي أربعة أبناء، وثلاث بنات، ونسكن حي شمال السكة، أكبر عشوائيات الرقة، والمحاذية تماماً لمقر الفرقة العسكرية 17 شمال المدينة.
ابني الأكبر متزوج ويعيش في لبنان منذ عشر سنوات، ولحقه في بداية الثورة أحد أخويه، وإحدى أختيه المتزوجتين، بينما رفض أخوه وأخته الآخران المتزوجان، وكذلك البنت والابن غير المتزوجين الخروج من الرقة. شمّة هي الوحيدة التي بقيت عندي في البيت، وكانت تعمل ممرضة. أمّا حسان، العازب الأخير من الأبناء، فيعمل في محل تصليح دواليب خاص به.
آخر نزوح لنا كان منذ أربعة أشهر إلى تركيا. وها نحن نعيش هنا، 19 شخصاً ما بين صغير وكبير، بمن فيهم ابني وابنتي المتزوجين وعائلاتهم.
“شوف! آني مو شبيح”*، بس لازم نسمي كل شي باسمو، السيطرة الفعلية للفصائل على الرقة بعد 4 آذار 2013 كانت لجبهة النصرة وأحرار الشام. بس، والباقي فراطه*، وهذول… تنهد وصمت طويلاً.. دفع لي بعلبة دخان معدنية دخانها يلف باليد: تعرف تلف، فهززت رأسي أن لا. ساعدته لكي ينهض قليلاً. الملعون تمكن من كل مكان بجسمي. والملعون هذا “زاد”* ما أقدر أتركه. الملعون الأول هو السرطان الذي غزا معظم جسمه، والملعون الثاني الدخان.
بيتي بجانب معمل تجفيف الذرة الصفراء، وهو أكبر معمل تجفيف في في سوريا. جاء أحرار الشام وهجرونا من بيوتنا بحجة أنهم سيضربون الفرقة 17، وأنهم قلقون علينا. هجروا أغلب العالم من بيوتها، لكنني رفضت. بدي أموت هنا. عند المساء، تم البدء بنهب 35 ألف طن ذرة مجففة، ولم يحاربوا الفرقة.
أنا لم آتِ من أجل أحرار الشام والنصرة، أو حتى الجيش الحر. قلت له: فهذه الصفحة ستفتح بعد انتصار الثورة.
أدري.. أدري.. أنتم زاد* ضحك عليكم بشار… مو بس عليكم، عالدنيا كلها، تركها تتلهى بداعش، وهو قام يسرح ويمرح بكيفو*. جاب إيران وحزب الله والعراقيين، يا رجال حتى الأفغان والروس، وضحك عليكم. داعش.. داعش.. داعش سوت.. داعش عملت.. داعش ذبحت… لو أن العالم داعم الجيش الحر كان سواهم صندويشات.. منو جابهم، جابهم النظام.. منو سواهم، سواهم النظام.. والعالم مطرقعين* وراه.. ما شافم* الكيماوي.. ما شافم السجون واللي يصير بيها.. ما شافم البراميل.. ما شافم الجوع والحصار.
أنهكه الكلام والسعال.. التفت إلي قائلاً: إذا تشرب شاي قوم وحط الإبريق على الغاز.. أووووووه! نسيت، قصدي عالنار. ما رح حدا يجي قبل 5 المسا، كلهم بالشغل يحوشون قطن*، إش* بدنا نسوي، بدنا نعيش. شكرت كرم ضيافته، ولكنه أحرجني: يابا لا تشوف حالنا هين، الله وكيلك هناك عندنا بيت ونظيف، واحنا والله نظاف من الداخل والخارج، لا تشوف حالنا هيك يلعن أبو الظروف اللي (…).
لا، لا، ياعم، والله بس مو مشتهي الشاي حالياً. لا تكذب “قالها مموناً نفسه عليَّ “ما بي مدخن ما يشتهي الشاي، أو القهوة.” دلني الأولاد على مكان إشعال النار، ومكان الشاي.
وفي الخامسة مساء من الشهر الثاني من فصل “الصفري* 2015″، حسب التوقيت المحلي للمخيم.
جمهرة نساء وأطفال شباب ورجال هدهم التعب بعد يوم عمل يمتد من الخامسة صباحاً حتى الخامسة مساء في قطاف القطن. يعتمد النظام الزراعي التركي على المكننة في قطاف القطن، ولكن مع توفر العمالة الزراعية السورية الماهرة والخبيرة، ورخص أجورها، اعتمدت بدل المكننة لنظافة قطاف القطن، وعدم خلطه مع الأوراق الجافة، والعيدان، مما يعطي منتجاً من الخيوط، وبالتالي يكون النسيج ذا مواصفات عالية.
أشعلت نيران المخيم وتحلق حولها كل الموجودين، المهمة الأول العجن والخبز ثم الطبخ، ومن ثم تسخين الماء للغسيل والحمام لمن يرغب.
يحمل الأطفال العيدان غير مكتملة الاحتراق وفي رأسها جمرة يرسمون بها أشكالاً عبر تحريك أيديهم بسرعة على شكل دوائر: هذا صاروخ.. لا شوف طيارتي.. هذا دوشكا.. شوووووفو عندي الآربجي.. أنا داعش بدي أذبحكم.. مام حرقني.. الله لا يوفقك هيج حرقت بيجمتك.. بعد عن الدخان… ليش حرقت جزمتك.. أنتم شياطين ما تنامون.. نوم الظالم عبادة.. ولكنهم لا ينامون. إنهم في انتظار العرانيس “أكواز الذرة” التي دمسوها في النار.
يتلفن لي السائق فيصمت الجميع على رنة الموبايل.. بلهجة عرب أورفة “أصوبك ياو… أجيك خلصت شغلك؟ لا ما خلصت بس تعال خذني، بكرا نرجع مرة ثانية، ولكن الجميع أصر أن أنام عندهم. والله! عندنا بطانيات نظيفة. حتى الأطفال قالوا: خليك عندنا أمانة.. أمانة .. يا جماعة والله ما بدي أضيق عليكم، وشرف لي أن أنام عندكم. نادى أبو شمة من داخل الخيمة بصوت قوي تعالى به على مرضه، ما تروح يعني ما تروح. رح تنام جنبي خليني أخلص من شخير أم شمة. تحول الجو إلى مرح ومونولوج تعليقات بين أم شمة وزوجها، وانقسم الجمع فريقين بين مؤيد لها، أو له.
انتقلت وأغلب الحاضرين إلى خيمة أبو شمة، حيث الحديث في الشأن العام والبلد والحرب والسياسة اللجوء بتركيا وأوروبا. الفساد في المعارضة والنظام.. تشتت الفصائل.. المنظمات الإغاثية ونهبها على اسم اللاجئين، سعر كيلو قطاف القطن، وهكذا.
بطارية السيارة التي تنير الخيمة تبدأ بالنفاد. هنا تتفاجأ بمستوى الوعي الذي يتمتع به هؤلاء البسطاء. كل هذا ونحن نتحلق حول النار الموضوعة بصاج الخبز*، وأغلبنا يحمل أعواداً نحرك بها الرماد لنستخرج بقايا الجمرات نلتمس دفئها الذي بدأ يخبو أيضاً.
انفض الجمع كل إلى خيمته. نباح كلب بعيد، وصفير الهواء خارج الخيمة. نام الجميع مباشرة، وكأنهم تخدروا، وبدأت سيمفونية الشخير، وما يصدر من النيام، حيث لا خصوصية هنا لأحد، حتى في العلاقات الحميمة للمتزوجين التي أعتقد أنهم يمارسونها خلسة في الحقول.
يبدأ الصباح كالمساء.. بالنار. وبداية قصتنا تبدأ من هنا.
شمة
شمة، سمراء فراتية في السابعة والعشرين، خريجة معهد التمريض في الرقة، ومارست عملها في المشفى الوطني صباحاً، وفي عيادات أطباء خاصة مساء، حتى قرر تنظيم داعش الاستغناء عن خدمات الممرضات والطبيبات الإناث، حارماً المئات منهن من دخل كان يساعدهن وعائلاتهن على مواجهة أعباء الحياة، دون أن يقدم التنظيم أي جهد للتعويض عليهن.
تعتذر شمة وأخوها خلدون من “شاويش الورشة”، رئيس الورشة، لأن عندهم ضيف الذي هو أنا.
تقول شمة: كانوا يستنجدون بنا فقط عندما يكون عدد الجرحى والقتلى كبيراً نتيجة قصف أو معركة، وكانت الأولوية دائماً لعناصر التنظيم في عمليات الإسعاف. وهناك رأيته.
كان واضحاً أنه مهم، من خلال اهتمام الجميع به. كانت إصابته سطحية، وأغلبها رضوض نتيجة طيرانه وسقوطه على الأرض إثر سقوط صاروخ بجانب سيارته في تدمر.
الكيمياء في هذه الحالات لا يمكن التحكم به، لم أنتبه لكيميائه بداية، فقد كنت مشغولة بعملي وخائفة منهم. ولكنني بحس الأنثى أحسست بنظراته تخترق تفاصيل جسدي. أصر أن أهتم بجراحه وحده.
أحببته، نعم أحببته! فلم يبقَ من شباب الرقة أحد، بعد أن هاجر قسم منهم، وشرد قسماً منهم النظام، ومن بقي شردتهم داعش. عمري كان ستة وعشرين سنة. وفي عرف أهل مدينتنا، أصبحت من العوانس. وفي ظل هذه الظروف، لابد للأنثى من رجل يحميها. أنا لا أدافع عن قراري بحبي له “يقولون لك الحرة لا ترضع من ثدييها”، ويقولون الحرة لا تزني”. نعم، ولكن ما الذي دعم ذلك؟
اكتشفت لاحقاً أنه ليس خطأ وحسب، بل كفر، وعلى رأي الدواعش هو كفر بواح، ولكن قل لي بالله عليك عندما وضعنا نحن والضباع في قفص واحد، وقالوا لنا احذرن الضباع لكي لا تأكلكن، ماذا قدم العالم لصمودنا في وجه الضباع، وأغلب من بقي في الرقة هم نساء وأطفال ومن كبار السن.
بعض الأوروبيات من مقطع فيديو لا يتجاوز الدقيقة والدقيقتين يفتن بالتنظيم ويقطعن آلاف الكيلومترات للالتحاق بهذا الطويل الفارع الذي يحكي لثامه قصة غموض ومغامرة، فما المطلوب منا ونحن نعيش معهم ليس لدقائق وساعات، بل لأيام طوال “كل يوم بطول سنة الجوع”*، وربما لسنين. أعرف أن هذ الكلام لا يعجب الكثيرين، لكن هذا منطق الأمر.
تزوجته “…”، بداية كان عاشقاً، ويعرف كيف يدلل الأنثى، يعرف كيف يقول كلام الحب، أي والله، ويحفظ نزار قباني، وشاعراً فرنسياً. تعرف؟ حتى على الموصل أخذني.
لم يدم هذا طويلاً، ربما لشهر، ثم منعني بداية من زيارة أهلي، وحول البيت إلى سجن. التلفزيون ممنوع، النت ممنوع، رغم أنه متوفر في بيتنا. الواتساب، وكل وسائل الاتصال، ممنوعة. فقط كميات كبيرة من الحبوب، وبحكم خبرتي وعملي عرفتها مباشرة “كابتكون”. عندما سألته عنها قال هي أدوية للمجاهدين. كان عنده عشرات آلاف منها، عثرت عليها مصادفة وأنا أنظف سقيفة البيت. وهناك في تلك السقيفة عثرت على تسليتي التي أبقيتها سراً عليه. ذكريات أهل البيت الأساسيين، حيث كان لأحد نشطاء الثورة قبل أن يستولي عليه “محمود عقارات”، أمير ديوان العقارات لصالح التنظيم.
في السقيفة، عثرت على صور عرس، صور أطفال، سجلات مدرسية، شهادات جامعية، منشورات من بداية الثورة تحض على التظاهر، وسندات ملكية لأراض وبيوت لأسماء تتشابه الكنية فيها، وألعاب أطفال، وبنطال جينز عليه بقع دم، دفاتر مدرسية لبداية تعلم الكتابة، مرحات، شهادات تفوق. في هذه السقيفة، عشت حياة العائلة بكل تفاصيلها، وفي هذه السقيفة تعرفت على الثورة في خطواتها الأولى، وفيها عرفت كذب الدواعش عندما كفروا هؤلاء الشباب واستولوا على بيوتهم، وفيها عرفت أي منزلق أدخلت نفسي فيه. بدأت أرتب ذكريات تلك العائلة، وأرتب نفسي، عندما بات يأكلني الإحساس بالخجل، خجلة أنا منهم، من ذكرياتهم، من ألعاب أطفالهم، من صور أعراسهم. خجلة أنا منهم ومن نفسي.
تغيرت معاملته معي عندما اكتشفت أنه متزوج ثلاث نساء أخريات، آخرهن “سبية” يزيدية اشتراها من الموصل، وزوجته التونسية الأم لأطفال ثلاثة، وأخرى لم أرها، ولكن زوجتيه الأخريين اللتين جاء بهما إلى بيتي مرة واحدة قالتا إنها تونسية فرنسية.
عندما تغوص في مجتمعهم تكتشف حجم الكذب، تكتشف أن لا دين ولا مبدأ لهم. وبالنسبة لنساء التنظيم، هنالك مافيا تديرها “أم سياف”. تصدق بالله العظيم تشبه إدارة عمليات الدعارة، فما أن يموت الزوج حتى تسارع أم سياف إلى ما يشبه البيع إلى شخص آخر من التنظيم، غير مراعية حتى للعدة الشرعية، أو رأي الأرملة، فجميع من تزوجن عناصر من التنظيم ربطن حياتهن ومصيرهن بهذا التنظيم. سبعة أشهر قضيتها معه قبل أن تقضي عليه طائرات التحالف في مدينة الطبقة غربي الرقة المدينة 50 كم، عرفت ذلك عندما اقتحم عليّ البيت عناصر ملثمون من المكتب الأمني، ترافقهم ثلاث مقاتلات من كتيبة الخنساء، فجمعوا بهدوء وبدقة كل متعلقات زوجي، ثيابه وكل النقود إضافة إلى مجوهراتي وحليي، فقط لباسي تركوه، وعندما انتهوا قالوا لي إن زوجي قد “استشهد”.
اعتقدت أني تحررت عندما مات، ولكن ككل نساء التنظيم جاءت أم “منتصر الجزراويه” التي استلمت المهمة بعد أن خطف الأمريكان “أم سياف” من حقل العمر إثر مقتل زوجها، جاءت تعرض علي الزواج من “أبو عمر الحمصي”، المسؤول عن تجهيز كل السيارات المفخخة، قالتها بفخر، وكأنها ميزة تميزه. قالت ذلك في محاولة لإقناعي، وكنت أعرفه لأنه كان يزور زوجي، ولكنه أخرس أبكم. قالت: ولك أحسنلك.. ترتاحي من كلامه وأوامره.. وهذيك الشغلة ما بدها حكي.
طلبتُ مهلة للتفكير، وأبديت حزني على زوجي الأول، فاقتنعت وأمهلتني أسبوعين، رتبت خلالها ذكريات العائلة التي كان زوجي الأول يحتل بيتهم باسم التنظيم، وقمت بوضعها في مغلفات وكأنها لعائلتي، واتفقت مع أخي على هجر البلد إلى تركيا.
وهنا، تواصلت مع من بقي من تلك العائلة التي تشرد أفرادها في ثلاث دول. طلبت منهم أن يسامحوني من قلوبهم، كما طلبت السماح من آخرين، ولو أنني لم أسامح نفسي.
كان البنطال لأحد شباب العائلة ممن استشهدوا في مجزرة الساعة التي ارتكبها النظام قبل تحرير الرقة.
بواسطة Mouaz Laham | مايو 11, 2018 | Culture, غير مصنف
إن ما يفصلنا عن صراخكِ الجوفيّ هو هذا: اللاشيء. عندما تكونين وحيدةً وسماؤكِ بلون الخيبة، عندما يعيدُ صوتكِ الجوابَ كاملاً عن أسئلةٍ بلاصوت، عندما تكذبُ عيناكِ الكحليتان على الطريق الذي يؤدي إلى اللا مكان. عندها، فقط، يغدو اللاشيء خيطٌاً يربطكِ بالعالم، وريحاً لا تُرى، لكنها تعبقُ بالكلمات، تهزُّ الخيطَ فتولدُ موسيقا تهجم موجةً في إثر موجة. ونغدو نحنُ، مشاهديكِ، مشاركيكِ الفعل، لا يفصلنا شيءٌ عن تدفقكِ الذي ترميه في وجوهنا، ونصبح جزءاً من همسكِ، ضحككِ، بكائكِ، رقصكِ وغروبكِ الذي يموت الآن ويولد حجراً فوق مياهنا الساكنة. وتصبح أجوبتكِ هي الأسئلة التي تطرحها الورقة على المهب، سقوط المهبّ ذاته في التجربة التي تعني: كم أنتِ كثيرةٌ في وحدتكِ التي تشخصينها كتمثالٍ حي يصرخ ويحاور أشياءه: مرآته، سريره، ثيابه، أدوات زينته وتفاصيل وحدته ذاتها، فتبدو الأشياء وقد تأنسنت واحتفظت بروحها إلى الأبد، في وقتٍ يكاد يكون الإنسان نفسه شيئاً.
ذلك ما يقوله “كحل عربي”، مونودراما الحجرة للشاعرة سوزان علي، الذي شخصته بتوتر خلّاق الممثلة روجينا رحمون، في محاولة لنقل المسرح إلى فضاء آخر، فضاء مغلق من حيث الحيز لكنه مفتوح على احتمالات عالية من الشعور والتأثير والتلقي.
هنا لن نشاهد خشبة، لن نشاهد التدرج المنظوري للمقاعد التي تعلوها الرؤوس ولا يحجبنا عن الفعل أية ستارة. سنكون ضمن الفضاء ذاته نتلقى الكلمات والانفعالات وكأنها فينا. ذلك ما يفرضه البقاء لصقاً مع نفَس الممثلة وأدق سكناتها. وكل ما يمثله الديكور هو غرفة مستطيلة، مقعدان بلا مساند ظهر، طربيزة، برواظ خشبي فارغ يمثل التلفزيون، برواظ آخر يمثل مرآة بلا مرآة، خزانة تبدو كحقيبة كبيرة، سرير وحده أخذ شكله الكامل لكنه مملوء بالفراغ، وحنفية ماء لا تتوقف عن التنقيط. هل بقي شيء من العناصر؟ نعم. بقي هناك خمسون مشاهداً وجهاً لوجه مع الممثلة وكل هذا الهذيان.
“لما بتصير حيطان البيت من لحم ودم، وبيصير للذاكرة إبرة وخيطان”
بهذه الجملة يوسم بروشور العرض، وكأنه باقتضابه يلخص ما فعلته تلك المرأة الوحيدة المصابة بالخيبة، خيبتها من الزمن الذي غيب والديها، خيبتها من حبيبها الذي هجرها، ويبرز الفقد وكأنه الموضوع الأساسي للعرض، عاكسةً بذلك صورة لكل السوريين الذين عانوا بمجملهم فقداً من نوع ما، وتغدو وحيدة بشكل لا يطاق فتقرر السفر، وهنا يبدأ ذلك الحوار مع ذاتها وأشيائها، الحوار الذي نكتشف من خلاله مأساتها الحية.
ويبدأ العرض برسم لوحات وتعليقها في براويظ فارغة معدة لاستقبال فقد ما. برسمها للوحات سريعة وآنية ومنقولة عن جسدها ، تحاول الممثلة نقل أجزاء من جسدها على الورق بالنظر إليه ورسمه، إلا أننا نكتشف أن ما قامت برسمه هو شيء مختلف: بيت، شجر، طفل وكأنها ذاتها الأشياء المفقودة، مؤكدةً على أنها جزءٌ من ذاتها أيضاً. وتبدأ بعد ذلك بإسقاط حزنها على الأشياء، فتحاور التلفزيون محملةً إياه سبب نقل خبر وفاة والديها بانفجار، وتصرعلى عدم أخذه معها عندما تسافر، تحاور المرآة متذكرة لحظات عشقها لـ”رامي”، الذي نفهم بأنه كان رساماً في بداياته وأنها كانت ملهمته “لهديك الفترة بس” وهجرها ليحب فتاة أخرى. في هذا الجزء المحوري من العرض تعيش المرأة أقسى تناقضاتها بين الرقص ووضع المكياج ويأخذ الكحل العربي دلالته من خلال تلطيخه عيني المرأة “لأنه يخفي الدموع” إلا أن الدموع رغم الكحل تخرج مصرةً على الهطول. تحاور حنفية الماء، ربما لأنها تثرثر باستمرار ولم تصلحها عن عمد لحاجتها للصوت. تهاجم السرير الذي تحلم أن يضمها بكثير من الحنان مع حبيبها المفقود أيضاً، تحاور ثيابها وخزانتها ودائماً تسأل “بدكن تروحو معي؟” لوين؟” هذا السؤال برز بشكله الحاد عندما سألت ثيابها السوداء، وكل ثيابها سوداء بدءاً من الفستان الذي ترتديه إلى الثياب الأخرى، عاكسةً تلك الحالة من انسداد الأفق، الأفق الأسود بطبيعة الحال.
هذا التناقض الذي تعيشه المرأة في لحظات يومها، يتكثف أيضاً في قرارها بالسفر. فنحن نفهم أننا أمام امرأة على وشك السفر. لكن ماذا عن التعلق بالأسماء وبالصور وبالأشياء حتى لو كرهتها، وبالذاكرة. ماذا تفعل بذاكرتها، بذاكرة الأشياء نفسها؟ هل تسافر؟ إن اللحظة التي انتهى عندها العرض تبدو غائمة إذ يوحي بقاؤها تحت قطرات الماء أنها باقية. ومن جهة أخرى يظهر مزيج الأصوات المختلطة بأنها سافرت. ويبقى التناقض في اتخاذ القرار وتضادات الرغبة هو الواضح أمامنا وعلى بساط الغرفة.
إن ما شاهدناه من نقل المسرح بكل عناصره إلى الغرفة، ومناقشة حالة الفقد التي نعيشها، هو محاولة لتأكيد الحضور وإيجاد فضاء بديل وفتح مسارات أخرى للمسرح لمواكبة حالات فنية وإبداعية جديدة .

كحل عربي
تأليف وإخراج: سوزان علي
تمثيل: روجينا رحمون
تصميم الإضاءة: أدهم سفر
سينوغرافيا: سها علي
موسيقا: جمال تركماني
مدير الإنتاج: رامي سمان
مكان العرض: غاليري مصطفى علي، دمشق.