بواسطة سوزان المحمود | مارس 28, 2024 | Culture, Reviews, العربية, غير مصنف, مقالات
تتحدث رواية “الوريث” عن “أيوب” الوريث المنتظر للعائلة الجليلة من دمٍ نقي، وعن رحلة ولادته ثم نضاله العبثي وهروبه ومنفاه الإجباري، وعن الصراع داخل العائلة، والصراع بين السلطة والمعارضة في بلاده، تحت ظل حكم دكتاتوري يحكم قبضته على كل من يتنفس في البلاد. لكن أيوب هذا بنظارته الغامقة ليس شخصاً عادياً. إنه شخصية مركبة بدقة مع شخصية عمته البتول، لتؤدي المطلوب منها في سرد قصة “العائلة الجليلة” الأب وزوجاته وأبناءه وبناته وتحول مصائرهم ودمار قلعتهم المقدسة بكل هيبتها من قبل الدكتاتور الذي كان يحكم بلاد ما بين الرافدين وأعوانه.
ربما تُختزَل الرواية كلها في العنوان “الوريث”، فالعنوان هو العتبة الأولى للنص الروائي، يُضمِر أكثر مما يُظهِر، وربما يتبادر للقارئ في البداية أن القصة ستتحدث عن شخص سيرث إرثاً مادياً من عائلة ارستقراطية ما وأن هناك صراعاً عليه، لكن ما سيفاجئ القارئ أن هذا الإرث ليس له ورثة أو أن ورثته أبناء البلاد جميعهم! لكن لن يحمل هذا الإرث الرمزي الرهيب هنا سوى سليل العائلة الجليلة المُنتظر من دم نقي “أيوب” بكل جلال اسمه المنحوت من الصبر، فهذا الإرث هو مجموعة كبيرة من التناقضات. إنه إرث عائلي، وديني، وتاريخي، ونضالي، وسياسي، وثقافي، وفكري، وهذا الوريث سيحمل عبء قرون من الصراع الديني والايديولوجي، لذلك لن يكون أيوب إنساناً عادياً بل كائناً أسطورياً، سيولد ولادةً أسطورية وينتهي نهاية أسطورية.
بالنسبة للتقنيات المستخدمة في هذه الرواية نجد أن حازم كمال الدين يأتي إلى عالم الرواية من عالم المسرح، وقليلاً من عالم السينما، وله تاريخ طويل في الكتابة والتمثيل والإخراج المسرحي في بلجيكا، البلاد التي اختارها لتكون منفاه بعد هروبه من حُكمٍ بالإعدام أصدره بحقه نظام (صدام حسين) على أثر عرضٍ مسرحي في بلده الأم العراق، لذلك سنرى تأثيرات الخلفية المسرحية في معظم أعماله الروائية، حيث ستبدو التقنيات التي يتبعها في الكتابة الروائية غريبة قليلاً على القارئ العربي، فهو من الكتاب الذين يستخدمون تقنيات ما بعد حداثية عديدة في النص الواحد، وربما روايته “الوريث” أكثر الأمثلة وضوحاً للكتابة السردية التي تستخدم هذه التقنيات.
من المسرح تبدو تأثيرات مسرح “البوتو”[1] الياباني السوداوية والنقدية بسخريتها اللاذعة لكل شيء، خاصة للواقع المحلي بطبقاته وعلاقاتها الاجتماعية والسياسية، عُرِفَ حازم كمال الدين كمعارض للسلطة وهو أمر يظهر في معظم كتاباته السابقة، إحدى همومه الفكرية الدائمة تعرية السلطة وأدواتها وما أنتجته من فساد عميق تسبب في شروخ هائلة مزقت المجتمع العراقي. وأيضاً نجد تأثيرات المسرح في بداية النص من خلال التعريف بالشخصيات الرئيسية للرواية وهو أمر متعارف عليه بكتابة المسرحية وليس الرواية، ومن خلال المونولوغات التي تخاطب القارئ وكأن النص خشبة أو عتبة بين الشخصية الروائية والقارئ.
من الفنون الأخرى سنجد السينما كمونتاج وكلقطة سينمائية فهو يُقطّع الفصل، ويستخدم تعابير سينمائية مثلا كـ (كلوس آب) لتقريب الصورة مفتتحاً الفصل الأول واصفاً المشهد عن بعد ثم يبدأ بتقريبه من القارئ، حيث يمكننا أن نميز به الخلفية السينمائية للكاتب والتي نلاحظ بها تمازج عدة فنون منها التصوير والنحت والصوت الذي يصفه بدقة ليلتقط انتباه القارئ، ويهيئ دخوله إلى بيئة القلعة المقدسة مكان الحدث في الجزء الأول من الرواية، كما يستخدم “الكولاج” والآرت كونسبت” في روايته، نجده لديه في وضع صور إيضاحية مع معلومات تاريخية حول بعض الأمور خاصة عندما يصل البطل إلى أوروبا مثل الصور والحديث عن المرحاض أو التواليت، حيث يتحدث عن تاريخ المرحاض في أوروبا وكيف تطور ليصل إلى الكرسي المتعارف عليه اليوم، أو حول مكان نزول اللاجئين في قلعة “لو بتي شاتو” حيث يتحدث عن تاريخ المكان والتبدلات التي طرأت عليه، أو عندما يتحدث عن المطار والمحطة في بروكسل، أيضا نجد ذلك في وضعه لصور توحي بما يريد أن يوهم القارئ به كصورة مقبرة الأجداد، والقلعة المقدسة، وصورة الثور والكبش ثم الرضيع ثم صورة شاب ضخم الجسم، يهتم حازم كمال الدين كثيرا بالجانب التصويري للرواية لأنه يعلم أن الصور أسهل بالوصول للمتلقي من الكلمة التي تسبر عمق الشخصية، لذلك نجد أنه لم يبنِ حوارات حقيقية عميقة بين الشخصيات إلا نادراً، بل اعتمد على المونولوغات والرسائل أكثر في إشارة إلى بيئة لا تحترم الحوار أو الحوار فيها في حده الأدنى، حتى في الحديث عن التنظيرات السياسية وغيرها كل شيء كان في الحد الأدنى كقشرة رقيقة هشة، يبدو ككليشه لكونه غير أصيل في بيئته، إذ أن الحوارات الفكرية الحرة ليست ذات تاريخ في المنطقة مما سيؤدي إلى فشل معظم الجهود النضالية للمناضلين اليساريين، وبالتالي بقيت الشخصيات معزولة منفصلة عن بعضها رغم الروابط الخفية بينها. إذ لا أحد يمكنه إنقاذ أحد من المصير الذي ينتظره.
كما يستخدم المعارضة الأدبية وهي إحدى تقنيات الكتابة “الما بعد حداثية” في “سياق التناص ما بعد الحداثي للإشارة إلى دمج أو «لصق» العناصر المتعددة إلى جانب بعضها البعض”[2]. نرى ذلك مثلا في اختياره لأسماء الشخصيات المأخوذة من الأعمال المسرحية كـ”الملك لير” لشكسبير وابنتيه غرونويل وكورديليا العذراء، ومن القصص الشعبية والدينية لمنطقة الشرق الأوسط كأيوب وسارة وإبراهيم أو من تاريخ اليسار العالمي كإنجلز وروزا لوكسمبورغ، “قد تكون المعارضة الأدبية في أدب ما بعد الحداثة تكريمًا أو محاكاةً ساخرةً للأساليب القديمة. وتُعتبر تجسيدًا للجوانب الفوضوية أو التعددية أو أسلوب الحياة الغارق في المعلومات في مجتمع ما بعد الحداثة. وقد تكون مزيجًا بين أنواع متعددة بغية خلق سرد فريد أو التعليق على المواقف ما بعد الحداثية“[3] أو في ذكر الأسماء التاريخية القديمة للبلدان مثل “بلاد ما بين الرافدين” و”بلاد العماليق” و”بلاد الطاووق” في القسم الأول من الرواية كناية عن العراق وسوريا وإيران.
كما سنجد من بين التقنيات الما بعد حداثية التي استخدمها “الانعكاسية الذاتية”، إذ سنلمح ظلال التجربة الشخصية ومرارتها خلف الفنتازيا، وسنرى السخرية واللهو والكوميديا السوداء والأحلام، التي تبدو واضحة في معظم أجزاء العمل، فرحلة أيوب تشبه إلى حد ما رحلة حازم كمال الدين من العراق مروراً بسوريا ثم مروراً بأثينا إلى أوروبا وبلجيكا.
كل شيء يبدأ من الأحلام، من اللاوعي البدئي، أحلام أيوب، منذ زرع والده الملك لير نطفته في رحم سارة ابنة عمه، وبدأ ينتظر وريث العائلة الجليلة، زرعٌ طالَ حصاده، ليولد أيوب ولادة أسطورية كائن بحجم ثور هائل، يعزز الأساطير التي تحيط عائلته بقدسية قديمة. الطفل المعجزة الذي سيأخذ كل أنواع المعرفة مرة واحدة الدينية والتراثية والسياسية من أبيه ومن عمته البتول. ثم سينطلق لمقارعة النظام الاستبدادي الذي يحكم بلاده متبعاً في ذلك تقليداً عائلياً قديماً، يجعل الروائي بطله يختزل الزمن متجاوزاً المراحل الدراسية جميعها بوصفه نابغة عصره، متلاعباً بالزمن فتارة يعود إلى أزمنة سحيقة موغلة في القدم عندما يتحدث عن نشأة القلعة المنحوتة من صخرة نيزك وأسطورة الجد وتارة ينتقل إلى زمن العائلة الأحدث وتارة يتغير الزمن مع انتقال أيوب وعمته الى أوروبا، حيث يجعل الزمن يتوقف لدى أيوب الذي يكبح نمو جسده ليجمده طفلاً عند التاسعة من عمره، محارباً الزمن وتطوره مستسلماً لمصيره الغرائبي، ومتحولاً إلى جذع شجرةٍ. حين يقرر “اللا قرار” “اللا اختيار” عند سقوط النظام الدكتاتوري في بلاده على يد الكاوبوي. بعد أن يقوم بجولة في حلمه “تحت نيران القصف والتدمير مستخدماً ظاهرة “الديجافو”[4]، ويقع في صراع نفسي كبير حول واجبه ومكان وقوفه وموقفه الأخلاقي.
يعيد حازم كمال الدين في هذا العمل تقويض وتفكيك صورة كل شيء يتعلق بواقع بلاده ويعيد تركيبه بطريقة سريالية، وبسخرية سوداوية مستفيداً من جميع التقنيات التي يجيدها (ككاتب روائي ومسرحي وسينوغراف ودراماتوج وسينمائي)، مقدماً نوعاً من الكتابة الهجينة متعددة الطبقات، ساخراً من كل شيء ومحطماً له، النظام الديكتاتوري ومعارضته واليسار الذي ينتمي له، (كنوع من جلد الذات)، يضع كوابيسه كلها على الورق محملاً أيوب كائنه الأسطوري الرهيب والبريء أقصى مما يحتمل، وهو يستخدم في معظم أعماله استعارات من الذاكرة الجمعية الشعبية والنخبوية. ليس فقط من الوسط المحلي لكنه هنا يستعين بأسماء أبطال أعمال لشكسبير مثلا “الملك لير” والد بطل العمل “أيوب” الملك الذي يخسر مملكته ويصبح شريداً مصاباً بقلبه بسبب جحود بناته لكن “لير” كمال الدين مختلف تماماً. تُدمّر قلعته ومملكته العائلية بسبب معارضته للدكتاتور يخسر أبناءه وبناته وتقع عائلته تحت التعذيب، وحتى “أيوب” وما يمثله بالذاكرة الجمعية العربية كشخصية صبرت على المصائب والاختبارات الإلهية العظيمة وكورديليا العذراء وسارة، ويعد هذا التناص أحد تقنيات أدب ما بعد الحداثة، فهو يجمع عدداً من أسماء الأعلام من بيئات حقيقية وأدبية مختلفة ليبني معها وعليها نسيجَ عملٍ روائي يرصد رحلة البطل أيوب من رحم أمه حتى هروبه الى أوروبا وفي الخلف رحلة عائلته الجليلة وأخوته وبلاده تحت حكم الدكتاتور الذي اختار له اسم “إسماعيل يس” [5]ليسخر منه. وبذلك يصيب “عدة عصافير بحجر واحد” انتقاد السلطة وهرمها وفسادها، وانتقاد العائلة المقدسة وخطاياها وعاداتها البائدة، ونجد هذا مثلاً في كشف العذرية الذي تتعرض له نساء العائلة، وانتقاد الأحزاب اليمينية واليسارية، السلطة ومعارضيها، لا يتوانى عن انتقاد ما يراه نضالا مضللاً، بطريقة جارحة غير مهادنة، وينتج نصاً روائياً ما بعد حداثياً، حيث “يتسم المؤمنون بما بعد الحداثة بتحديهم للسلطات، الأمر الذي يُعتبر دليلًا على الحقيقة المتمثلة بظهور هذا النمط الأدبي للمرة الأولى في سياق الاتجاهات السياسية في الستينيات. يُمكن ملاحظة هذا الاستلهام – من بين أمور أخرى – في الطبيعة الانعكاسية الذاتية لأدب ما بعد الحداثة فيما يتعلق بالقضايا السياسية التي يتناولها. غالبًا ما يُستخدم القص الما ورائي والمعارضة الأدبية في آن واحد بغرض السخرية”.[6]
بالنسبة لحازم كمال الدين كان عليه أن ينتج نصاً يوازي الواقع في غرائبيته، فالواقع العراقي وواقع المنطقة يتجاوز السريالي من جهة والعبثي من جهة أخرى بأشواط، لذلك يعتبر النص الروائي الذي يستخدم تقنيات ما بعد حداثية أصدق ما يعبر عن واقع يتجاوز المنطق الإنساني. (نلاحظ ذلك في وصف أساليب التعذيب والقمع والعنف الممارس على الأشخاص من نساء وأطفال ورجال، وتشوهات علاقة السلطة بالمواطنين).
فمنذ الفصل الأول من الرواية يصف القلعة ومحيطها، كل تفصيل في هذا الوصف متجهم ينذر بالخطر يُوظف ليدخل فيما بعد بكوابيس الجنين الذي بدأ يعي نفسه داخل رحم أمه سارة ويعي حجم المآسي التي ستنتظره خارج هذا الرحم والمصير الذي ينتظر أفراد عائلته، ويستخدم هنا “السرد المتقدم”[7] و”التوقع”[8] ويتضح هنا البعد التصويري في كتابة حازم كمال الدين، وهو أحد التقنيات التي يستخدمها ليُحَضِّر القارئ للدخول في سيرورة الحدث وتقلّب مصير الشخصيات، يحشد عددا كبيرا من التقنيات المابعد حداثية ليجعل الحكاية مرئية ومُصدّقة ليس بوصفها خيالاً غرائبياً يرتقي على ما وراء القص (الميتاسرد) وهي هنا حكايات الاستبداد التي يعرفها أبناء المنطقة جيداً وحكايات مرتبطة بأسماء شخصيات الرواية، بل مضيفاً إليها خبرته في الكتابة السوداوية التي تعمل على كشف وسبر حقائق المجتمع المحلي الموغلة في القدم وتعريتها بعنف، يتضافر الغرائبي مخلفاً الواقعي المعروف خلفه لينسج حكاية يتبدى فيها الهم السياسي الاجتماعي والثقافي والعائلي، ملمحاً لخيبة أملٍ عظيمة ألمت بالمناضلين اليساريين ولا يتوانى عن جلدهم والسخرية من طرق نضالهم القديمة وانفصالهم عن الواقع وتسرب الفساد إلى عددٍ منهم، كما يسخر من الدكتاتور الذي كاد يودي بحياته في لحظة ما، تنتهي حكايته ليلة سقوط نظام الدكتاتور في بغداد والتي يراها في أحلامه مسبقاً معلناً موقفه الأخلاقي الخاص مبتعداً عن الدكتاتور وعن من أسقطه (الكاوبوي)، رحلة شاقة تتجمد في لحظة ما.
تبدو اللغة مرنة لدى حازم كمال الدين إذ ينتقل في سرده بين طبقات متنوعة وملونة من اللغة، من اللغة البلاغية الجذلة، حيث تقوم المفردات بتصوير مشهد بصري معقد كالفصل الافتتاحي الذي يصف القلعة المقدسة لحظة استقبالها للوريث، ولحظة ولادته الأسطورية، ولحظة استعدادها لتلقي التغيير الذي طال انتظاره مهتماً بتفاصيل كثيرة تظهر التحول وتتنبأ بالقادم من الأيام، إلى مستوى بسيط من اللغة والمفردات التي تصل إلى العامية أحياناً كسيل شتائم تطلقه العمة البتول في لحظة ما، وعندما ينادي أيوب والدته مستنجداً بها، أو حادة وجارحة عند وصف مشاهد تعذيب، ومحرجة وقاتمة وساخرة عندما يصف محاولات انتزاع غشاء بكارة. تتدرج اللغة حسب الموقف والوظيفة المطلوبة منها في كل فصل. فهي تأتي من المخزون البصري العميق للكاتب ومن أهمية الصورة في عمله وحياته حتى أنه يمكننا القول إن المفردات تبدو في بعض الفصول “ثلاثية الأبعاد” مجسمة ومتحركة تصور مفردات الفضاء الذي تتحرك فيه الرواية لتواكب تقدم الأحداث والشخصيات ومصائرها، لكن هذا الأمر يظهر جلياً في الفصلين الافتتاحي والختامي من الرواية. كما كانت إحدى تقنيات الروي لدى المؤلف هي تقطيع الروي (الرواية) على شكل نصوص أو مشاهد يمكن أن تُقرأ بشكل متوالٍ أو بشكل منفصل مراعاة لصبر القارئ وللحفاظ على حيوية المتن.
صوت النساء في الرواية
للوهلة الأولى يكاد صوت النساء في الرواية أن لا يصل للقارئ، لكن بقليل من الانتباه سنجد أن نساء عائلة أيوب لهن مقاومتهن الخاصة من أمه ساره ابنة عم والده الملك لير المكلفة بإنجاب الوريث، ومعاناتها في حمله وولادته العسيرة، إلى أخواته (غرونويل وكورديليا) اللواتي حكم عليهن بالزواج من أشخاص متنفذين في النظام كان دخولهم عليهن يشبه الى حد كبير الاغتصاب الذي شارك فيه الأب والأم رغم عنهما، طقس فض البكارة الأول، البكارة التي ترفض أن تُفضَ بمثل هؤلاء الرجال العنينين والذين يرمزون للخصاء ولسلطة الأمر الواقع هنا، كان التعامل مع البكارة هنا ذا اتجاهين مختلفين الأول سلبي لِما فيه من امتهان للمرأة حيث تبدو الأنثى كائنا مجرداً من الإنسانية والمشاعر يُضحّى به من قبل الأهل بالقوة ويُرمى كأضحية أمام رجال النظام الذين يرغبون بمصاهرة العائلة الجليلة (المقدسة دينياً بسبب نسبها) لتختلط أنسابهم بأنسابها وكان جرحاً هائلاً للطرفين. والثاني إيجابي إذ أن النساء يظهرن مقاومتهن بطريقة مبطنة وهي بأن غشاء بكارتهن المطاطي يرفض الاغتصاب بما يحمله من تلوث دمهن بدم رجال السلطة المُتسيدين بالقوة والعنف وبقربهن من الدكتاتور وحاشيته الفاسدة، أيضاً نجد ذلك يظهر في حوار كورديليا العذراء وجلادها الذي أصبح زوجها رغم عنها وعن أهلها، بعد أن أنقذها من تعذيبه وتعذيب زملائه الجلادين، لكنها ترفض تسليمه نفسها وتظهر رفضها له ولمعاشرته، بينما الشخصية النسائية الرئيسية في الرواية هي العمة البتول صاحبة (طقوس النرجس) التي لا يعرف أحد عمرها الحقيقي، والتي تعترف به في نهاية الرواية وهو 750عاماً، وتبدو كشخص حارس للعائلة الجليلة منذ أجيال بعيدة، لكنها بكل ما تختزنه من معارف وحكمة ومعرفة دينية وسياسية ونضالية لا شيء يحميها من انحرافات تقودها لأفعال عكس اسمها ورمزيته وما يمثله، وتعود لتنكص في النهاية وترمي بكل معرفتها ونضالها الفكري والحركي في سلّة القمامة وتمتهن السحر وقراءة الطالع، ويجعلها من ذوي “الاحتياجات الخاصة” لا يمنحها جمالاً بل قبحاً جسدياً يعطي بعداً تهكمياً من حارسة العائلة الجليلة، إذ أنها تصبح شخصية غير معصومة عن الخطأ والتلوث بالمحيط الفاسد. مصيرٌ مرير تُرمى فيه، وربما يبالغ في قسوته في تلويث هذه الشخصية وحرف مساراتها النضالية والأخلاقية، وربما لم يكن مبرراً بما فيه الكفاية، بينما حافظ على طهرانية أيوب حتى النهاية.
بالنسبة لشخصيات الرواية الأخرى، الأخوة والأخوات الرجال والنساء والأطفال (مصير أيوب الثاني)، نعرف مصائرهم المأساوية من خلال الاسترجاع[9] وهو هنا الرسائل (وهي إحدى تقنيات الكتابة السردية القديمة أعاد استخدامها هنا ليُدخِل الماضي في الزمن الحاضر للروي) التي تصل أخيراً إليه نعرف كم التعذيب والتنكيل الذي تعرضوا له مع أبناء منطقتهم على يد أعوان الدكتاتور. تاريخٌ طويل من الألم يظهر في هذه الرواية المتخيلة التي تعكس مرحلة تاريخية سوداء غير إنسانية في تاريخ العراق.
بالنسبة لأيوب الشخصية المحورية في الرواية، يبقى أيوب ذو العينين كخرزتين كريمتين وأهداب طويلة لا تريد أن ترى العالم الحقيقي كما هو، ترمقان كل شيء من خلف عوينات غامقة، يستسلم لمصيره الذي رآه وعرفه مسبقاً عن طريق الأحلام والكوابيس وهو جنين وحاول تغييره قبل أن يولد وذلك برفض خروجه من رحم أمه لكن القدر سيُطلقه رغماً عنه ليصارع عالماً لا يرحم، فهو مجرد معجزة صغيرة، ستسحقها قسوة البلاد. الشخصية الوحيدة النقية التي تحاول مواجهة كل شيء لدرجة تجميد نفسه ليبقى بمظهر طفل في التاسعة إذ يتجمد الزمن بالنسبة له في أوروبا بينما عمره الحقيقي سيصل في نهاية الرواية الى الأربعين عاماً مختزلاً الخيبة واللا جدوى من أي فعل مقاومة أو نضال بتحوله إلى جذع شجرة في بيته ليرسم الروائي فصل النهاية مشهداً بصرياً غرائبياً يذكر بمنحوتات الغرونيك الأوروبية القديمة، منحوتة يتوقف فيها الزمن والرعب، يمرّ بها العابرون مذهولين غير مدركين لحياتها الماضية. لكن هذه المنحوتة المرعبة في لحظة تحجرها تنذر بأن لحظة حياة أخرى قادمة، لا تقتل الأمل!
القارئ والروائي
لا يزال الواقع العراقي بنظر المؤلف يبدو كجرح تخثر دمه في الأعلى وتيبس حتى بدا كأنه التئم، لكن عصفة ريحٍ صغيرة تنكأه وتفتحه من جديد ليظهر مدى عمقه، حيث الدم لا يزال طرياً يسيل عميقاً. لذلك كان على حازم كمال الدين ابتكار وتوليف عدة تقنيات كتابية ما بعد حداثية ليقارب الواقع العراقي المأساوي والفوضى التي وقع بها، إذ أن من الصعب على السرد التقليدي أن يلامس حجم المأساة والفجوات العميقة التي وقع بها تاريخ العراق المعاصر، ما بين الديني والسياسي والاجتماعي. تقول باتريشيا واو بأن القص المعاصر هو (استجابة ومساهمة في الوقت نفسه لمعنى أكثر تطرفاً يقول بأن التاريخ أو الحقيقة هما افتراضيان لم يعد هناك عالم من الحقائق الخارجية. بل سلسلة من التراكيب وفنون الخداع والهياكل غير الدائمة، كما يفكك الخطاب الميتاسردي قوانين الهيكلية الناظمة له من أجل تحقيق أهداف ما بعد حداثية مثل “كشف فوضى الوجود المعاصر وفضح زيف الوهم المهيمن على الوعي البشري، وبذلك يهدد هذا الخطاب نظام العالم الخارجي للنص، ويفضح عبثيته ووحشيته من خلال مساءلته الذاتية لسرديته وطبيعته التلفيقية بخروجه عن واقعية السرد المتخيل)[10].
لذلك لا يشتغل حازم كمال الدين على القصة بحد ذاتها إذ أن قصته غالباً ما تبنى على قصص معروفة من سكان المنطقة، فهو يخاطب عقل القارئ بما يعرفه مسبقاً كمسلمات، لكنه يُبدع باجتراح طرق جديدة لإيصال القصة، فهو يهتم كثيرا بالنواحي الإجرائية والفنية ليخلخل الأرضية القديمة للقصة تحت قدمي القارئ الذي يجد نفسه عندما يقرأ أعماله لأول مرة في أرض وعرة، لكنه سرعان ما يفكر كيف يأخذ مكانه داخل الحكاية التي غالباً ما تمسه بطريقة أو بأخرى، ومعروف عن حازم كمال الدين عمله الطويل على الرواية فهو يقوم بأبحاثه وبوضع مخطط إجرائي للتقنيات التي سيستخدمها في عمله الروائي إذ ليس هناك مصادفة في أي تفصيل يذكره في عمله. وفي النهاية لا يمكن الإحاطة هنا بكل تفاصيل الرواية فهي محملة بإمكانيات كبيرة للقراءة والتحليل والدرس. الرواية تقع في 375 صفحة من القطع المتوسط مقسمة إلى خمسة أقسام: الأول بعنوان بلاد الرافدين، الثاني بعنوان الولادة، الثالث بعنوان الطريق إلى المنفى، الرابع بعنوان أوروبا، الخامس بعنوان مونولوغات المنفى.
صدرت رواية “الوريث” حديثاً عن “دار الكتاب” في تونس في بداية عام 2024 وهي الرواية رقم 7 في منجز حازم كمال الدين الروائي، فقد صدر له سابقاً في مجال الكتابة الروائية: رواية “أورال” باللغة الهولندية عن Beefkacke publishing في بلجيكا عام 2010، ورواية “كاباريهت” عن دار فضاءات في الأردن 2014، ورواية “مياه متصحرة” عن فضاءات 2015 والتي وصلت للقائمة الطويلة لجائزة البوكر العربية، و”يضج بي الجمال حتى يوم مماتي” عن دارPOLIS في بلجيكا وهي ترجمة (لمياه متصحرة)، ورواية “مروج جهنم” عن فضاءات 2019، ورواية “الوقائع المربكة لسيدة النيكروفيليا” عن فضاءات 2020، ورواية “من أحوال داليا رشدي” عن مؤسسة أبجد في العراق. والمؤلف مخرج وممثل وكاتب مسرحي وسينوغراف معروف في أوروبا بتجربته المسرحية الثرية، له عدد كبير من المسرحيات والترجمات في مجال المسرح والشعر والدراسات النقدية.
[1] – رغم أن “البوتو” أسلوب رقص ياباني احتجاجي عنيف في الأصل كان قد استخدمه حازم كمال الدين في عروضه المسرحية في بلجيكا إلا أنه هنا في روايته يحول الأداء إلى كلمات تصويرية سوداوية تسعى لسبر واقع الإنسان العراقي السوداوي ثم تغييره، تقول إيريني سمير حكيم “ولد الـ”بوتو” من الاضطرابات والفوضى السياسية والاجتماعية، التي أدت إلى فقدان الهوية اليابانية، في أعقاب الحرب العالمية الثانية، التي دفعتهم إلى إعادة فحص ثقافتهم، وإنشاء نوع أصلي حديث من الرقص الياباني للتعبير عنهم. بهدف تخليق التغيير في الرقص الياباني”مجلة الفيصل 2022،1.
[2] — ويكيبيديا.
[3] — ويكيبيديا.
[4] – ويكيبيديا. الرؤية المسبقة للأحداث، وقد جعلها المؤلف ترافق البطل منذ كان جنيناً في بطن أمه سارة.
[5] – إسماعيل ياسين ممثل مصري كوميدي حاز على شعبية كبيرة لدى الجمهور العربي لفترة طويلة بسبب نوع الكوميديا البسيطة التي كان يقدمها.
[6] — ويكيبيديا.
[7] – السرد المتقدم: سرد يسبق المواقف والأحداث المروية زمنياً هو أحد خصائص “السرد التنبؤي” قاموس السرديات لجيرالد برنس ص(17)
[8] – التوقع: “مفارقة زمنية تتجه نحو المستقبل انطلاقاً من لحظة الحاضر أو النقطة التي ينقطع فيها السرد التتابعي الزمني (الكرنولوجي) لكي يخلي مكاناً للتوقع” قاموس السرديات لجيرالد برنس
[9] – الاسترجاع: “مفارقة زمنية باتجاه الماضي انطلاقاً من لحظة الحاضر” وهو هنا نوع من “الاسترجاعات التكميلية ” ووظيفتها ملء فراغات سابقة تنشأ عن الثغرات” قاموس السرديات لجيرالد برنس.
[10] – من مقال “جماليات الميتاسرد في فنون ما بعد الحداثة” للباحث أحمد عادل غازي محمود مجلة بحوث في التربية الفنية والفنون العدد رقم (1) جامعة حلوان.
بواسطة د. علي محمد صافي | مارس 16, 2024 | Culture, Roundtables, العربية, بالعربية, غير مصنف, مقالات
طيب تيزيني اسم أكبر وأهم من أن نُعرِّفه عبر سطور أو صفحات قليلة؛ لأنه جسَّد أفكاره تجسيداً عملياً، فكانت مؤلفاته تفيض من تفاصيل حياته ومواقفه الإنسانية والسياسية، وكانت حياته ومواقفه وبحق تعبيراً صادقاً عن أفكاره وفلسته، فكان فيلسوفاً بل حكيماً بكل ما تعنيه هذه الكلمة. ولعله كان شبيهاً بحكماء الهند أو الصين الذين عاشوا أفكارهم والتزموها في حياتهم.
ولد تيزيني في حمص السورية في (10/ 8/ 1934) وتلقى تعليمه الثانوي فيها ثم انتقل إلى ألمانيا، ليتابع دراسته الجامعية، فحصل على اللسانس ثم الدكتوراه في الفلسفة سنة 1973. ليعود بعدها إلى سورية، ويعمل في جامعة دمشق كأستاذ في قسم الفلسفة.
كانت أطروحته في الدكتوراه حول الفلسفة العربية في العصر الوسيط، وقد عمل على هذا المحور بعد ذلك، فقدَّم رؤية جديدة لهذا الفكر، عبر مشروع فكري يتألف من قسمين اثنين الأول خاص بقراءة التراث العربي منذ ما قبل الإسلام وحتى وقتنا هذا. وقد اتسمت هذه القراءة بالطابع المادي الماركسي، معتمداً في تفسيره للحياة الاجتماعية والسياسية على عوامل مادية اقتصادية بالدرجة الأولى. وبرغم ذلك فقد تجاوز تيزيني فكرة الصراع الطبقي التي تمثِّل – في الفلسفة الماركسية – عماد أي تغيير اجتماعي، تجاوزها ليقر بإمكانية توافق الطبقات ضمن ما يسمى بالطيف المجتمعي الواسع.
أما القسم الثاني من تلك القراءة، فقد انصب على تركيزه على عوامل النهضة وشروطها وأركانها، فشرع في كتابة مؤلفه “من الاستشراق الغربي إلى الاستغراب المغربي” وكتابه “من ثلاثية الفساد إلى قضايا المجتمع المدني”، وانخرط بشكل فعلي في التنظير لقضايا الإصلاح النهضوي العربي ابتداءً من سورية. وهنا لا بد من الإشارة إلى أن ثمة انعطافاً آخرَ أو نقلة نوعية في فكر تيزيني خاصة بمسألة النهضة العربية، وهي مرتبطة بانفتاحه على العامل الديني، وتمثل ذلك في إشراكه بعملية الاصلاح والنهضة، وهذا التجاوز تم في المراحل الأخيرة من تجربة تيزيني الفكرية والسياسية.
ويعبِّر كتاب تيزيني “من التراث إلى الثورة” عن قناعات تيزيني الأولى حول مسألة الانتقال الحضاري للمجتمعات، وكان العنوان ترجماناً لتلك القناعات، وبتعبير تيزيني نفسه فقد كان يؤمن بأن مسألة الانتقال من التراث إلى المعاصرة أو الحداثة ما كان له أن يتم إلا عبر فعل ثوري، يكشف عنه الصراع الطبقي، تماشياً كما قلنا مع الوعي الماركسي في حتمية الصراع القائم على تناقض الطبقات وصراعها.
لكن ونتيجة لتطورات عظمى حدثت في العالم، كسقوط الاتحاد السوفياتي، وبروز الولايات المتحدة الأمريكية كقطب أحادي مسيطر على العالم، ونتيجة لموجات ما يسمى بالربيع العربي، وأخيراً نتيجة لفشل المشاريع القومية، كان لا بد من مراجعة جوهرية في المنظومة الفكرية لدى تيزيني، والتي كانت تقيم نوعاً من التعارض بين العوامل المادية التاريخية، وبين العوامل الذاتية، وتقوم على نوع من الإقصاء للعامل الديني ولحوامله الاجتماعية، لذلك كان لا بد من إعادة النظر في هذين العاملين.
ومن هنا كان تيزيني ينتقد كل القراءات الثقافية للتراث العربي والإسلامي لأنها جميعها لم تكن إلا قراءات أحادية، تركز على عامل واحد غالباً ما يكون ذاتياً لا تاريخياً. من هنا جاءت قراءة تيزيني كرؤية تاريخية وذاتية للفكر والتراث العربي الإسلامي. وخلال ذلك انصب نقده للمركزية الأوربية، لأن الفكر العربي ـ من منظور تلك المركزية الأوربية – عاجز عن إتيان الفلسفة بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة، فحسب تلك المركزية وعلى لسان رينان (1823- 1892م) وهو أحد أهم ممثليها “لم تكن الفلسفة لدى الساميين غير استعارة خارجية صرفة خالية من كبير خصب، غير اقتداء بالفلسفة اليونانية” ( تيزيني، 2002، من اللاهوت إلى الفلسفة العربية الوسيطة، ص 11). وقد انصبت جهود التيزيني في نقض هذه المركزية من منظار تاريخي، مثبتاً أن الفكر الإنساني جهد متصل بحلقات متصلة من أوله إلى آخره، بما في ذلك الفكر العربي منذ ما قبل الإسلام وما بعده. بما ينسجم تماماً مع الفكر التاريخي الجدلي.
وأذكر أنني كنت على موعد مع مناظرة أو مناظرات، جرت أو كانت ستجري بين تيزيني وبين محمد سعيد رمضان البوطي (1920- 2013)، وكان تيزيني وقتها يناقش قضايا التراث وبالذات النص القرآني من خارج النص، لكنه سرعان من اتخذ تكتيكاً جديداً وهو إجراء مناقشاته اللاحقة من داخل النص الديني، ولذا عمد إلى تأليف كتابه الهام جداً النص القرآني أمام إشكالية البنية و القراءة “كتعبير عن هذا التحول في الوعي التاريخي لدى تيزيني، فهو قد قرأ النص قراءة جدلية مركبة، وإن شئت فقل قراءة تاريخية. ومن شأن هذه القراءة “الإمعان في الروائز (العلاقات) التالية… بين الواقع والفكر، وبين الدال والمدلول، وبين الخفي والمعلن، وبين البنية والسياق…” (تيزيني، 1997، النص القرآني، ص 43).
فمن جهة تم الانعطاف من الثورة إلى النهضة، لأن الوعي الثوري القائم على أساس الصراع الطبقي، لم يعد منتجاً؛ بسبب أن العلاقة بين الطبقات في مجتمعاتنا العربية، ليست علاقة تصارع على نحو يقتضي الثورة والانقلاب، ومن جهة أخرى وبالنظر إلى الطبقة الوسطى وهي الطبقة الأوسع والأكثر انتشاراً، نجد أنها هي طبقة المؤمنين، فيكف يمكن تجاوز فعل وتأثير هذه الطبقة في أي فعل نهضوي ؟ يقول تيزيني: لا يمكن تجاوز هذا التأثير، وبالتالي فلا بد من الأخذ بعين الاعتبار العامل الديني بأي مشروع نهضوي، وبنفس الوقت دون إغفال أهمية العامل المادي والتاريخي. ومن هنا فلا بد من تجاوز مسألة الثورة إلى مسألة النهضة، الأمر الذي يقتضي هذا التغيير الجوهري في المشروع النهضوي لدى تيزيني.
إذاً لم تعد الثورة القائمة على أساس الصراع الطبقي هي المبتغى، بل حلت النهضة محلها، وهذا لا يعني أن تيزيني لم يعد مفكراً ثورياً، لا أبداً، بل أصبحت الثورة لا تعني لديه فعلاً انقلابياً يحدث في ليلة وضحاها، بل هي لديه لقاء بين الجميع، وحوار بين الجميع من دون استثناء، من أقصى اليمين القومي والديني المتشدد، إلى أقصى اليسار الاشتراكي والليبرالي المتشدد هو الآخر. لقاء يجمع الكل من أجل إحداث تغيير نهضوي شامل.
لم يكن تيزيني مفكراً تنظيرياً وحسب، بل كانت حياته تمثيلاً لأفكاره، فكان ينتمي للطبقة المتوسطة، وحسبي أنه عاش فقيراً، لم يكن يجد دوماً ما يلبي احتياجاته اليومية، كم كان شبيهاً بسقراط (469- 399 ق.م) وديوجين (412- 323 ق.م)، اللذين عاشا على هامش الحياة الفارهة. ومن جانب آخر نجده قد انخرط بالعمل السياسي تنظيراً وتنظيماً، وقد برز دوره السياسي في أوجه بعد بدء الاحتجاجات في سورية منذ 2011. فلم يتمترس خلف هذا الفريق أو ذاك، لكنه لم يكن محايداً حياداً سلبياً، ولا معارضاً معارضة تقليدية، ولا موالياً لنظام سياسي أو لحزب سياسي، بل كان ولاؤه وطنياً بامتياز، فاشتغل على مسألة معارضة استخدام العنف والعنف المضاد، ومارس تحريماً إنسانياً مقدساً، وهو تحريم الدم السوري، ورفض مغادرة البلاد، ورفض كل الإغراءات التي قُدمت له في الداخل والخارج؛ ليقدِّم تنازلاً في مواقفه لصالح هذا الفريق أو ذاك، واشترك في المؤتمر الوطني للحوار، كان بمقدوره بكلمة منه أن يركب السيارات الفارهة وينزل بأفخم الفنادق، ويملك القصور والوكالات كما فعل كثيرون غيره، لكنه لم يفعل، وكان همه ينصب على إيقاف سيل الدماء، ووحدة الصف الوطني، وإعلاء شأن الإنسان وكرامته دونما أي تمييز أو عنصرية، لكن مرضه منعه من متابعة نشاطه الفلسفي والسياسي المنوط به، فانتهى به الأمر إلى أن فارقت روحه جسده في مسقط رأسه بحمص في (18/5/ 2019).
لقد مثَّل تيزيني فعلاً انعطافاً في المشهد السوري، من حيث الفكر ومن حيث الواقع، ففلسفياً استطاع أن يكشف عن الآليات التي تحكم الفكر والمجتمعات منطلقاً في تشخيصه من الوضعيات الاجتماعية المشخصة، ضمن ضوابط جدلية، تجمع بين المادي والمثالي، وبين الإيماني والإلحادي، بين التاريخي والذاتي، وبين الداخلي والخارجي… أما من حيث الواقع فقد كان فيلسوفاً واقعياً وعملياً بدأ بتشخيص الواقع تشخيصاً علمياً، وعمل على معالجة مشاكله أو الإسهام في ذلك، دون أن يتمترس خلف نظريات دوغمائية، أو أحزاب سياسية تليدة، تعوق الفكر وتقف حجر عثرة في طريق الثورة والنهضة.
*تنشر هذه المادة ضمن ملف صالون سوريا حول “المنعطف السوريّ“
بواسطة عامر فياض | فبراير 26, 2024 | Culture, Roundtables, العربية, بالعربية, غير مصنف, مقالات
خلال مسيرته الفنية الحافلة بالعطاء، والتي استمرت لأكثر من نصف قرن، أبدَعَ مدرسة لحنية وغنائية متفردة وغنية ومتكاملة، تركت بصمتها المؤثرة في تاريخ الموسيقى العربية، وقد ساعدته موهبته في الغناء في فهم طبيعة الأصوات التي لَحَّن لها، فكان يُفصِّل اللحن على مساحة الصوت بشكلٍ يبرز جماليته وبريقه وقدراته التعبيرية، فهو الذي لحن مختلف الأنواع والقوالب الغنائية كالموشح والقصيدة الكلاسيكية والطقطوقة، إلى جانب الأغنية الشعبية المعاصرة أو المستوحاة من الفلكلور، مساهماً، بموهبته واسعة الأفق، في تطوير وعصرنة القوالب الغنائية التقليدية، دون أن يتأثر بحالة التغريب التي تأثر بها كثير من الملحينين العرب، الذين أدخلوا الأنماط والإيقاعات الغربية إلى الموسيقى العربية، فطوال مسيرته الفنية حافظت ألحانه على طابعها الأصيل الذي يحمل صبغة طربية وروحانية متفردة، تنهل من كنوز المقامات والإيقاعات العربية، كما تميزت ألحانه برشاقتها وبلغتها التعبيرية الرصينة، وجُملها اللحنية المكثفة والمبتكرة، والتي منحتها قدرة فريدة على التأثير في نفوس المستمعين مهما تعاقبت عليها السنين.
ولد المُلحن محمد محسن (اسمه الحقيقي: محمد الناشف) في حي قصر حجاج في دمشق عام 1922. درس الابتدائية في مدرسة صلاح الدين الأيوبي، والإعدادية في مدرسة التجهيز الثانية. بدأ عشقه وشغفه بالموسيقى منذ طفولته، فكان يحفظ الكثير من الأغاني التي ساهمت في تطوير موهبته في الغناء. وخلال دراسته الإعدادية بدأ تعلم الموسيقى وعزف العود على يد الفنان صبحي سعيد الذي كان يمتلك مكتباً لتعليم الموسيقى في سوق الخجا القديم. ولأن عائلته كانت ترفض أن يمتهن أبناؤها العمل الفني، اضطر لترك بيته عدة مراتٍ والإقامة في الفنادق والعمل في أعمالٍ مختلفة ليتمكن من تأمين مصروفه الشخصي ودفع أجور دروس الموسيقى، وللسبب ذاته غيّر اسمه من محمد الناشف إلى محمد محسن عندما بدأ الغناء في الإذاعة كي لا تتعرف عائلته عليه.
بدأ مسيرته الفنية كمغني، حيث لحن له أستاذه صبحي سعيد أولى أغنياته وهي : “أحلى يوم” ، ومع افتتاح إذاعة دمشق بداية الأربعينيات إنضم إليها ليعمل فيها، بدايةً، كمغني ضمن كورس الإذاعة، ثم كمطرب يقدم الغناء الإفرادي في حفلاتٍ إذاعية تُبثُّ على الهواء مباشرة، حيث غنى حينها الكثير من الأغاني الطربية القديمة، وعدداً من الأغاني التي لحَّنها له الملحن مصطفى هلال ومن بينها: أغنية “لقاء” و “أين كأسي” . وقد لحَّن محسن لنفسه في تلك المرحلة عدداً من الأغاني ومنها : “يم العيون كحيلة”، ” الليلة سهرتنا حلوة الليلة”، والتي غناها من بعده بعض المطربين مثل نجاح سلام.
في عام 1945 سافر محسن إلى القدس وعمل في إذاعتها مطرباً وملحناً، وقد خصصت له الإذاعة أربع حفلاتٍ غنائية شهرياً. وخلال إقامته في القدس، التي استمرت لثلاث سنوات، تعرف على الموسيقي الفلسطيني الكبير حنا الخل وتعلم منه بعض دروس العلوم الموسيقية والتدوين الموسيقي، التي أَغنت قدراته وثقافته في مجال التلحين، وقد لحَّن في تلك الفترة للمطرب الأردني سعيد العاص ولعدد من المطربين الفلسطينيين مثل: ماري عكاوي، محمد غازي وفهد نجار. وفي عام 1948، ومع وقوع نكبة فلسطين وتوقف إذاعة القدس عن البث، عاد محسن إلى دمشق ليعمل في إذاعتها مجدداً ويبدأ مرحلة جديدة في مسيرته الفنية، حيث لحَّن حينها لعدد كبير من المطربين، مثل: ماري جبران، سعاد محمد، وناديا وغيرهم. انتقل بعد ذلك في بداية الخمسينيات إلى إذاعة الشرق الأدنى في قبرص وعمل فيها لمدة عامين، مراقباً للموسيقى والأغاني، إلى جانب تلحين الكثير من الأعمال لعدد من المغنيين والمطربين العرب، ثم تنقل بعدها بين لبنان ومصر وسوريا وعدد من بلدان الوطن العربي، ليتعامل مع كبار المغنين وعمالقة الطرب.
غنى محمد محسن من ألحانه أكثر من عشرين أغنية، قبل أن يترك الغناء في بداية الخمسينيات ليتفرغ للتلحين بشكل كامل، حيث لحَّن لأهم وأشهر المطربين السوريين خلال مراحل مختلفة ليساهم في صناعة شهرتهم، من جهة، وفي تطوير الأغنية السورية، من جهة أخرى، ومن أبرز ما لحَّنه: قصيدة بالله يا دار، عيون المها بين الرصافة والجسر و ألا أيها البيت الذي لا أزوره للمطربة الحلبية الكبيرة مها الجابري، وموشح قد بارك الكون أسباب الهوى، وقصيدة في خاطري في القلب في خلدي للفنان صباح فخري. و اسكتش الوفاء / هيا يا ربعي هيا (بالتعاون مع إذاعة الرياض) وأغنية سرى الليل يا ساري و إنتي وبس للمطرب فهد بلان، وأغنية هيفا يا هيفا و هن.. هن للمطرب موفق بهجت، هذا إلى جانب ما لحَّنه للمطربة الكبيرة فايزة أحمد وماري جبران والمطرب رفيق شكري وياسين محمود وفتى دمشق.
بصمة فنية عربية
يُعد المُلحنان محمد محسن ومحمد عبد الوهاب، الوحيدان اللذان لحنا للسيدة فيروز من خارج لبنان. ففي مطلع السبعينيات التقى محسن بالأخوين رحباني فعرضا عليه تلحين قصيدة سيد الهوى قمري من كلمات الشاعر الأخطل الصغير، وقد لحَّنها محسن وفق قالب الموشح وبطريقة طربية ساحرة وشاعرية، جعلتها من روائع أغاني فيروز الخالدة. وفي نهاية التسعينيات أرادت فيروز أن تجدد تعاونها مع محسن فاتصلت به ليسافر إليها من دمشق إلى بيروت، وقد أثمر اللقاء عن تلحين أربع قصائد من روائع الشعر العربي، صدرت ضمن ألبوم “مش كاين هيك تكون” ، وهي: جاءت معذبتي للشاعر لسان الدين بن الخطيب، لو تعلمين بما أجن من الهوى للشاعر جميل بثينة، أُحب من الأسماء للشاعر قيس بن الملوَّح، وقصيدة ولي فؤادٌ إذا طال العذاب به للشاعر البحتري. وقد شكلت تلك الألحان نمطاً غنائياً طربياً ذو طابعٍ حداثوي، يختلف عن الأُطر التقليدية في تلحين القصيدة الكلاسيكية، مع حفاظه على روح المقامات والإيقاعات الشرقية.
وإلى جانب السيدة فيروز لَحَّن محسن للمطربة اللبنانية الكبيرة نور الهدى عدداً من الأعمال الغنائية المميزة ومنها : موشح أطرَب على نغمة المثاني وقصيدة يا من لديك الجمال ، أنحلتني بالهجر ما أظلمك ، حبيبي في الهوى ، وأغنية حليوة حليوة . كما لَحَّن للفنان وديع الصافي: أغنية النجمات صاروا يسألوا ، أنت القلب ، ما أطولك يا ليل ، إنت الحبيب ، عندي جارة يا لطيف ، قطيعة يا رفيقنا، عيونها الكحلى وغيرها. ومن أبرز ما لحَّنه للفنان نصري شمس الدين: أغنية ما أصعبك عالقلب يا يوم السفر ، وللفنانة صباح : أغنية سلم سلم ع الحبايب، رجَّال أحلى من المال، ما حبيتك لا لا ، طق ودوب ، يما في شب بهالحي ، وأغنية لله يا عاشقين من فيلم شارع الضباب.
ومن بين ما لَحَّنه لبعض المطربين اللبنانيين أيضاً: أغنية الليلة سهرتنا حلوة الليلة و قصيدة هذه دنانير للفنانة نجاح سلام. أغنية يا حلو تحت التوتة و ولو يا أسمر ولو للمطربة نازك. أغنية حل عنا حل للمطربة شيراز، وأغنية شوي شوي للمطربة نورهان، هذا إلى جانب الألحان التي قدمها للمطربة سميرة توفيق وطروب و فدوى عبيد والمطرب عبدو ياغي وغيرهم.
وخلال زياراته المتكررة لمصر في مرحلة الستينيات والسبعينيات، تعاون محسن مع إذاعة القاهرة ، وقدم عشرات الألحان لكثير من المطربين المصريين، مثل: نجاة الصغيرة، شادية، عفاف راضي، محمد عبد المطلب، محمد قنديل، محرم فؤاد، محمد رشدي، شريفة فاضل، عبد الغني السيد، إسماعيل شبانه وغيرهم. ومن أشهر تلك الألحان: أغنية أبحث عن سمراء للمطرب محرم فؤاد، التي حققت له شهرة واسعة في الوطن العربي، وأغنية يا ماشي على درب الحلوين للثلاثي المرح.
ويعتبر محسن من الملحنين العرب القلائل الذين لحنوا اللون الخليجي من خارج منطقة الخليج، حيث لحَّن الكثير من الأعمال الغنائية لصالح إذاعة الرياض خلال زياراته المتكررة للملكة العربية السعودية نهاية الستينيات وبداية السبعينيات، وتعاون مع أهم وأشهر مطربي المملكة. ومن أبرز ما لحَّنه للفنان محمد عبدو في بداياته الفنية : الأغنية الشهيرة والمميزة خاصمت عيني من سنين التي حققت له شهرة واسعة وشكلت منعطفاً فنياً هاماً في مسيرته الفنية، وأغنية حبيبي مرني بجدة التي تعتبر أيضاً واحدة من أجمل وأشهر أغانيه. وما زال عبدو يشدو بتلك الأغنيتين في حفلاته حتى يومنا هذا. كما لحَّن له أيضاً قصيدة أعطني قلبي وأغنية وضحى الحزينة . وإلى جانب محمد عبدو لحَّن محسن للفنان طلال مداح أغنيتين من ألبوم “يا مسافر”، وأغنية بيني وبينكم إيه من فيلم شارع الضباب.
مكتشف المواهب وصانع النجوم
لم ينحصر دور محمد محسن في التلحين لكبار الفنانين العرب، بل ساهم في اكتشاف موهبة بعضهم وتقديمهم للجمهور وصناعة شهرتهم التي جعلتهم نجوماً فيما بعد، ومن بينهم المطربة فايزة أحمد ووردة الجزائرية وسعاد محمد.
في نهاية الأربعينيات التقى محسن بالمطربة سعاد محمد في بداياتها الفنية، فكانت أولى ألحانه لها: أغنية دمعة على خد الزمن ، ثم تبعها عدد من الأغاني، ومنها: وين يا زمان الوفا ، غريبة والزمن قاسي ، يلي كلامك زي السكر ، يسعد صباحك يا روحي ، والقصيدة الوطنية الشهيرة جلونا الفاتحين التي قدمتها خلال احتفال رسمي بمناسبة عيد الجلاء، وهي من شعر بدوي الجبل. وتُعد بداية الشهرة الحقيقية للفنانة سعاد محمد بعد غنائها للأغنية الخالدة مظلومة يا ناس مظلومة التي لحَّنها محسن بعبقرية فنية فريدة وبتنوع مقامي غني وساحر، عَبَّرَ بشكلٍ تصويريٍ بليغ عن كلمات الأغنية الوجدانية، التي كانت لسان حال الكثير من النساء العربيات، وأظهر جماليات وسحر صوت الفنانة محمد، لتحقق لها تلك الأغنية نقلة فنية نوعية ونقطة تحول بارزة في مسيرتها الفنية، حيث بيعت الملايين من أسطواناتها وكَتب عنها الكثير من الباحثين الموسيقيين والنقاد والمهتميين بالشأن الموسيقي، وأصبحت حينها تذاع في معظم الإذاعات العربية.
وفي بداية الخمسينيات وعندما قدمت المطربة فايزة أحمد من حلب للغناء في دمشق كان محسن من أوائل الملحنين الذين التقوا بها، وعندما استمع إليها وهي تغني لأم كلثوم وأسمهان وليلى مراد، أُعجب بجمال وعذوبة صوتها، ولحَّن لها عدداً من الأغاني، التي أظهرت قدراتها الصوتية وأبرزت شخصيتها الغنائية الخاصة وقدمتها للجمهور بطريقة فنية مميزة، ومنها: أغنية درب الهوى، ليش دخلك ما إجا منك خبر ، ما في حدا يا ليل ، يا بيت الأحباب والأغنية الدينية يا رب صلي على النبي ، وقد ساهمت تلك الأغاني في صناعة شهرة الفنانة أحمد وكانت بمثابة بوابة عبورها إلى القاهرة التي أصبحت مقر إقامتها شبه الدائمة، لتصبح من عمالقة الفن والغناء العربي فيما بعد. وبعد انتقالها إلى مصر لَحَّن لها محسن الأغنية الشهيرة شفتك حبيتك يا سمارة .
وقبل أن يُلحن لها الموسيقار بليغ حمدي ومحمد عبد الوهاب وغيرهم من عمالقة الفن، التقت المطربة وردة الجزائرية عند قدومها من باريس إلى بيروت منتصف الخمسينيات بالملحن محمد محسن الذي اكتشف موهبتها الغنائية الفريدة وكان أول من لحَّن لها أولى أغنياتها الخاصة، وهي أغنية دق الحبيب دقة ، ثم لحَّن لها عدداً من الأغاني التي وضعتها في بداية طريق الشهرة، ومنها: أغنية يا أغلى الحبايب ، على بعدك فاتت ليلة ، وفر مراسيلك ، على باب الهوى ، قالولي ظالم، تلتها الأغنية الوطنية الشهيرة أنا من الجزائر أنا عربية التي غنتها خلال ثورة الجزائر عام 1960، والتي شكلت الإنطلاقة الأبرز والأهم في مشوارها الفني في تلك المرحلة وأكسبتها مزيداً من الشهرة والنجاح، بعد أن بثتها معظم الإذاعات العربية ليصل صوتها إلى شريحة واسعة من الجمهور العربي. وكان آخر ما لحنه محسن لوردة في السبعينيات : أغنية ولو .. لا طلة ولا زيارة ، مش قادرة على قلبي ، والأغنية الأكثر شهرة روَّح يا هوى.
في الدراما والسينما
يُعد محمد محسن من أوائل الموسيقيين السوريين الذين عملوا في مجال الدراما والسينما من خلال تأليف الموسيقى التصويرية وتلحين الأغاني لكثير من المسلسلات والأفلام، ومن أشهر ما قدمه :
– تلحين عدد من أغاني مسلسل الحلاق والكنز ، عام 1973 ، والتي غنتها المطربة اللبنانية طروب، بطلة المسلسل، ومن بينها : أغنية يا فرحة لاقينا ، طبيب الهوى نصحني ، على شط الهوى يا حبيبي ، هدية حلوة كتير .
– تأليف الموسيقى التصويرية لمسلسسل فارس ونجود عام 1974 وتلحين أغنياته، التي كتبها الشاعر موفق شيخ الأرض وغنتها المطربة سميرة توفيق، بطلة الفيلم، ونذكر منها : أغنية يما أنا ما أدري ، ما أحلا صباح البادية ، ولد العم يا ولد العم ، شاردة أنا وقلبي ، لولا الأمل و يا عين خبي الدمع .
– في العام 1974 لحَّن محسن (إلى جانب الموسيقار بليغ حمدي وعدنان أبو الشامات وعزيز غنام وغيرهم) عدداً من قصائد وموشحات مسلسل الوادي الكبير، ومن بين ما لحَّنه : خيالكِ في الفؤاد وفي العيون ، كم مُغرمٍ ، أليس من البلية أن أراني ، جلَّ الرحمن وما صَوَّر ، أٌقلِّبُ طَرّفي في السماء ، في خاطري في القلب في خلدي ، تُساؤل ، طاف الهوى بعباد الله . وقد غناها المطرب صباح فخري. هذا إلى جانب موشح هلموا خلف شادينا ، وقصيدة حيي الوجوه الملاح وهما من غناء المطرب اللبناني عبدو ياغي.
– تأليف الموسيقى التصويرية لمسلسل سمرا عام 1977وتلحين معظم أغاني المسلسل ( بعض الأغاني كانت من تلحين الملحن إلياس الرحباني ورفيق حبيقة) التي كتب كلماتها الشاعر حسين حمزة وغنتها المطربة سميرة توفيق التي لعبت دور البطولة في المسلسل، ومن بين الأغاني التي لحَّنها محسن : أغنية ديرة هلي ، أداري والزمن داري ، توبة يا ليل ، يا هوى العشاق ، سهرانة و غربة وغربوني .
– تأليف الموسيقى التصويرية لمسلسل عليا وعصام وتلحين أغاني المسلسل التي غنتها الممثلة فدوى عبيد.
– تلحين الكثير من أغاني الأفلام مثل: أغنية عيد الميلاد من فيلم فندق السعادة، وقد غنتها الفنانة شمس البارودي، وعدد من أغاني فيلم حبيبة الكل ، شارع الضباب ، أين حبي ، وفيلم عتاب، وغيرها من الأفلام.
توفي محمد محسن في عام 2007 عن عمر ناهز الخامسة والثمانين عاماً، تاركاً لنا مئات الألحان الخالدة التي أَثرَت وأغنت مكتبة الموسيقى العربية، ونقشت اسمه بحروفٍ من ذهب إلى جانب عمالقة الفن في سجل الخالدين. تلك الألحان كانت، طوال فترة إعداد هذه المادة، تشاركني معظم تفاصيلي اليومية، أسمعها طوال الوقت، وأبحث عنها بلهفة وشغف، ومع كل اكتشافٍ للحنٍ جديد كنت أشعر وكأنني عثرت على كنز فأتوقف عن البحث والكتابة لأسمعه مرة ومرتين أو أكثر، وأنا في حالة من المتعة والسعادة البالغة، المصحوبة بالكثير من الشكر والامتنان للملحن العظيم محمد محسن الذي كان وسيبقى يُذكرنا بالوجه الجميل والمبدع لسوريا.
*تنشر هذه المادة ضمن ملف صالون سوريا حول “المنعطف السوريّ“
بواسطة دعد ديب | فبراير 21, 2024 | Culture, Reviews, العربية, بالعربية, غير مصنف, مقالات
“إن حياة الإنسان يا سلمى لا تبتدئ في الرحم، كما أنها لا تنتهي أمام القبر، وهذا الفضاء الواسع المملوء بأشعّة القمر والكواكب لا يخلو من الأرواح المتعانقة بالمحبّة والنفوس المُتضامنة بالتفاهم”. نعم الأرواح أثيرية لا تنتهي بالقبر ولا تبدأ بالرحم، تستلهم ريما بالي هذا المعنى من جبران خليل جبران في روايتها “خاتم سليمى” الصادرة عن تنمية لعام 2022، والتي دخلت بالقائمة الطويلة لجائزة البوكر العربية لعام 2024 لتوحي لنا منذ البداية أنها تأخذنا إلى عالم الروحانيات الصوفي، أجواء وظفتها لوصف عبق المدينة وإرثها الحي وكل ما تذخر به ذاكرتها عن مدينة حلب ورائحة التوابل والغار وحبة البركة والزنجبيل، إلى آثارها؛ قلعة حلب؛ الخانات وأزقتها وحاراتها، إلى صناعاتها التقليدية كالسجاد اليدوي والصابون، كما تعرج على عاداتها وتقاليدها وموسيقاها، عادات الأكل والملبس وما تتميز به من تنوع ثقافي وعرقي واجتماعي، فحلب تجمع فسيفساء بشرياً متناغماً مع أصولها العريقة كأقدم مدينة مأهولة في التاريخ ، دون أن تغفل عن الواقع الذي انقلب، كيف خربت الحرب المجنونة كل هذا الجمال، الحرب التي دارت رحاها في السنوات الأخيرة وتسببت بكل ذلك الخراب والموت والتهجير لناسها وأبنائها وما خلفته من شرخ عميق في البنيان المجتمعي الذي كان تعدده أحد أهم ميزاته وخصاله البارزة.
تعلن بالي في منجزها حضور المكان بكل تفاصيله وجماليته إذ يبرز بطلًا أساسيًا في لعبتها السردية، وهو يختزن عبق التاريخ وبخوره وروائحه التي تشي بملامح حلب الثقافية وطقوسها حيث الموسيقا؛ السياحة التراثية؛ تقاليد حلب في الإفطار والسحور أيام رمضان، وأصناف الطعام الشهيرة ذات النكهة المميزة لحلب من الكبة للفتوش للمحمرة إضافة لإضاءتها على واقع الصناعات الشعبية التراثية مثل السجاد والتحف والأنتيكات لتعرج بعدها على الحرب والدمار الذي لحق بمناطقها الأثيرة ذات التاريخ والحضارة، فكل حرب خاسرة مهما كبرت أوهام النصر لدى أي طرف كان، كانت حلب المدينة التي تنزف وتحترق وكل ما عداها تفاصيل قد نتفق حولها وقد نختلف.
هذا الإسهاب في الوصف كان عميقًا وحميميًا لتبيان ذلك التناقض الحاد بين الثنائيات المتعارضة بين ما كان وما صار، بين الجمال وبين القبح، بين أيام الحرب وأيام الدعة والسلام.
من عنوان العمل يتضح أنها توظف حكاية خاتم سليمان بالقص التوراتي “خاتم سليمان منحه الرب لنبيه سليمان، خاتم ذو قدرات خارقة أهمها التحكم في الجن والتحدث مع الحيوانات إلى أن حدثت واقعة سرقة كبير الشياطين للخاتم وتشكله بصورة الملك سليمان وجلوسه مكانه على العرش”. تسقط الكاتبة الحكاية على قصة الحب التي تعيشها البطلة سلمى بين المستشرق شمس الدين الذي استوطن حلب وعشقها ولوكاس الإسباني من جذور يهودية والخاتم الذي يتحرك بينهما، مع تخوم ضائعة الدلالة لرمزية كل منها لتنهي العمل بذلك الالتباس الذي يصيب القارئ بالحيرة والتساؤل وبذلك تكون أدخلته في شرك لوثة الخاتم أهو مع شمس الدين أم مع لوكاس، من فيهما القديس ومن هو الشيطان، من هو الحي ومن هو الميت، من منهما الأثير إلى النفس ومن منهما الخيار الأفضل.
تتركنا الكاتبة في فضاء التخمين والتخيل في تقصي لعبتها التي تفضي أخيرًا لضياع الخاتم، الخاتم الذي ينتظر القرين المناسب في رمزية الحبيب والمنقذ للحبيبة والمدينة.
ريما بالي الذي حفل رصيدها السردي بأربع روايات هي “غدي الأزرق” و”ميلاجرو” (المعجزة بالإسبانية) و “ناي في التخت الغربي”كانت “خاتم سليمى” قبل الأخيرة منها لم تلتزم فيها بالترتيب المتسلسل للأحداث فكل حكاية ترصدها في زمن سابق أو لاحق ليكون على القارئ عبء لملمة الحكاية وترتيب أحداثها وفق تصوره وخياله مشركة إياه في تساؤلات عدة نلحظها من خلال حوارات أبطالها كشمس الدين العارف الذي يعرف كل شيء ولوكاس الذي لا يعرف، وكيف يعرف المرء نفسه، وماذا يريد وهل تعرف سلمى نفسها وهل المعرفة نهائية يا ترى، إذ نعرف أن الذات نفسها متغيرة نتيجة تفاعلها مع الظروف المحيطة وحسب تبدلات الزمان والمكان، وقد تتطور وتتقدم إلى الأمام وقد يحصل العكس، وتساؤل آخر عن ماهية الحب وهل هو وهم أم حقيقة، ليأتي الجواب الصادم من قبل شمس الدين بأنه كيميا، يأتي نتيجة تفاعلات بين عناصر معينة، هذه الإجابة التي جاءت بعيدة عن منطقه الصوفي فعلى الرغم من أن الصوفية توهان في ماورائيات وتجليات لاستنارة روحانية جاء تفسيره أقرب للعلم والمنطق وربما لنفسر عدم تجاوبه مع مشاعرها وجعلها قيد انتظار الزمن بالنزعة النرجسية له فلأننا نحب أنفسنا نحب استمرار عشق الآخرين لنا ومن ناحية أخرى قد نفسر الأمر بخوفه من تكرار تجربة أمه بهروبها مع شخص آخر بعد انتهاء أحاسيسها تجاه أبيه، ما جعله يبعد الصبية عنه بشكل جزئي.
من اللافت للنظر إصرار بالي على طرح نماذج لشخصيات لأمهات لا تحكمها العاطفة مثل (لولا –أم لولا –أم شمس الدين-جدتها القاسية التي لم تلتقها إلا عندما فقدت ذاكرتها) في فكرة التخلي عن الأبناء لصالح عشق أو قناعة ما، وهذا يقودنا إلى طرح التساؤل التالي: ماذا عن الآخر الأب وماذا عن مسؤوليته كذلك وما دوره وهل نفهم أنها نزعة ذكورية لدى الكاتبة؟
قضايا اجتماعية متعددة تثيرها ابنة حلب أهمها الزواج المختلط لتعطي فكرة عن الأنساق الثقافية السائدة وجانب آخر للتنوع المجتمعي غير المتصالح مع بعضه والذي يرفض اقتران طائفة من طائفة أخرى بقضية النسب والمصاهرة، وهو شرخ تم استخدامه للتفريق بين أطياف المجتمع لاختراقه بالحرب الكارثية التي اشتعلت بالبلد حيث الروايات خزان التاريخ الذي لم يدون بعد ولكننا نلتقطه في ثنايا الحكاية.
تجري الكاتبة تناصاً مع موروث الحكايا الشعبية وتوظفها لصالح العمل في نوع من المحاكاة لقصة السندباد وبساطه الطائر في متخيلها عن سجاجيدها اليدوية وفضاءات العالم الذي نسجته المتأرجح بين الواقع والخيال، فما أن يستلقي الشخص على سجادة منها يرافقه اشتعال شمعة إلى نهايتها، حتى يبحر في عالم لازوردي تهويمي من الأحلام والآمال، ما يكاد أشبه بنبوءة أو نوع من الإشارة لما سيحدث؛ أو نوع من الاستخارة لمشكلة أو موضوع أو رأي، هذه السجادة التي يطير فيها المستلقي على أعنة الحلم والخيال كنوع من المشابهة بين بساط سندباد الطائر الذي يطير به وينقذه من خطر محدق أو يسارع به بالوصول لإنقاذ أحد ما، ليكون بوابة التحليق في الخيال لصالح نبوءة أو رأي ويأتي حلًا لأمر مؤرق.
تحمل خيوط السرد بالتناوب على لساني لوكاس وسلمى، وتأتي قفلة العمل إبداعاً آخر مبلبلاً لانتباه القارئ ومشتتًا لقناعته في لملمة أطراف الحكاية المسرودة، عندما تخاتله في الفهم الملتبس بين الحياة والموت، بين لوكاس وشمس الدين، من الذي بقي ومن الذي مات لتبقى النهاية مجهولة وليبقى الاحتمال معلقًا ومفتوحًا وفق رؤى تبقي الحوار قائمًا حول الفكرة والقضية ولا تنتهي بانتهاء العمل.
*ملاحظة: تم حديثاً اختيار رواية “خاتم سُليم” ضمن القائمة القصيرة لـ “الجائزة العالمية للرواية العربية” (بوكر العربية) في دورتها الـ17، وسيُعلن عن الرواية الفائزة في أبو ظبي، بتاريخ الـ28 من نيسان|إبريل 2024.
بواسطة علي محمد إسبر | فبراير 13, 2024 | Culture, Roundtables, العربية, بالعربية, غير مصنف, مقالات
كانت حياة أنطون سعادة القصيرة (1904-1949 م) أشبه بدورة الإله بعل في الميثولوجيا الكنعانيّة القديمة، فبعل الذي يموت ويولد على نحوٍ أبديٍّ، وفقاً لـ”ألواح أوغاريت”، يرمز إلى “بلاد كنعان” أو “فينيقيا” تبعاً لتسميتها اليونانيّة القديمة، هذه البلاد التي مهما حاقَ بها من خراب لا بدّ من أن تُعيد خلق نفسها من جديد، وكأنَّ صيرورتها لن تكتمل إلا إذا انبثقت من ظلام العدم لتتجلّى في ضوء الوجود، إذ ليس مُستبعداً أن تظهر حضارة وتتدهور، ولا أن يظهر إنسان للوجود ثُمَّ يَفنى؛ لكن المُستبَعدَ أو على الأقلّ غيرَ المرجَّح أن ترجعَ حضارةٌ عظيمةٌ بائدةٌ أو أن يعود إنسانٌ إلى الحياة بعد زواله؛ لكنَّ هذا الرجوعَ أو العَوْدَ قارٌّ في أعماق الذّهنيّة الكنعانيّةِ أو الفينيقيّة القديمة. ولقد عبّرَ زينون الرواقيّ (335-264 ق.م)-المعروف عند اليونانيين في عصره بالفينيقيّ نسبةً إلى بلاده الأصليّة فينيقيا-عن دورة البَعْل تعبيراً فلسفيّاً صادماً حينما تكلّم على ما أسماه “السَّنة الكُبرى للصيرورة” حين تقوم النَّار المركزيّة التي هي علّة العالم بالحكم على موجوداته وتدميرها بعد أن تكون هذه الموجودات قد استغرقت أزمنتها؛ لكنّ هذه النّار سَرْعان ما تُعيد تكوين العالم من جديد، وتستمرُّ هذه الجدليّةُ الوجوديّةُ العظمى من التدميرِ والتَّكوين إلى ما لا نهاية له!
وها هو أنطون سعادة حينما واجه بصدره العاري أول رصاصةٍ من رشقات بنادق قاتليه كانَ دَمُهُ يكتبُ “تحيا سوريا” مثلما كانَ دمُ الحلّاج النَّازف–وهو معلّقٌ على صليبه يرتسِمُ ليكتُبَ كلمة: “الله”. ولئن كان الفرق بين دم الحلّاج ودم سعادة أنَّ دمَ الأوَّلِ يصَّاعدُ نحو السَّماء ودمَ الثاني يغورُ في الأرض، فإنَّ الدّمَ من أجل السَّماء ينزعُ من الإنسانِ الجسدَ-الأرضَ، أمّا الدّم من أجل الأرض فهو بذرة لإعادة بعثِ مجدها الضَّائع-التَّلِيد.
لقد كانَ دمُ سعادة هذه البذرة نفسَها، وتكاد تكون من عجائب اللغات أنَّ كلمة “دَمٍ” العربيّة موجودة في اللغة الكنعانيّة-الفينيقيّة، وتُنطق وفق رسمها بالإنكليزيّة DM؛ لكنها لا تعني-كما هو الحال في العربيّة- السَّائل الأحمر الذي يجري في العُروق والشرايين، بل تعني في الفينيقيّة الموجود الإنسانيّ HUMAN BEING؛ وليس هذا فحسب بل تعني كلمة “دمت DMT ” الفينيقية المشتقة من كلمة دم DM نفسِها الأرض LAND [1].
لقد نزف سعادة دمه ليستحيل إلى إنسانٍ وأرض، أو بالأحرى ليُصبح إنساناً يحيا في أرضه التي تحيا به؛ لكنَّ هذا الإنسان الذي هو بالكنعانيّة-الفينيقيّة “دم DM” سرقه العبرانيون وحوّلوه إلى آدَم אדם =Adam، وسلبوا هذه الأرض “دمت DMT” وحوّلوها إلى “أَدَمَا אדמה =Adamah. هذا، ونجد في اللغة العربيّة كلمة آدم بمعنى الإنسان والأدَمة بمعنى الأرض، لكنَّ الفرق بين العبريّة والعربيّة هنا أنَّ الأولى قامت على انتحال اللغة الكنعانيّة –الفينيقيّة وسرقتها، أما الثانية فهي التطور الطبيعيّ-التاريخيّ لها.
جاء موقف سعادة حاسماً ونهائيّاً، فهو حينما نادى بإحياء سوريا الطبيعيّة أراد إحياء حضارة عظيمة مغمورة أو بالأحرى مطموسة تآمر عليها أعداؤها، وهذه الحضارة وفقاً لرأيه لا بدّ أن تكونُ نواتها بلاد كنعان، وهو يُعنى بمن يُسمِّيهم “السوريين الكنعانيين” الذين هم–في رأيه-أول أُناس في العالم اعتنقوا “ديناً اجتماعيّاً خصوصيّاً” أفضى إلى تحقيق “الوجدان القوميّ” الذي يقف تاريخيّاً وراء “الرابطة القوميّة المؤسَّسة على فكرة الوطن”.
قال: “إنَّ الكنعانيين من بين جميع شعوب التّاريخ القديم، كانوا أول شعب تمشّى على قاعدة محبة الوطن والارتباط الاجتماعيّ وفاقاً للوجدان القوميّ، للشُّعور بوحدة الحياة ووحدة المصير(…)[2]“
والحقيقة أنه يجب الانتباه في هذا المقام إلى قضيّة جوهريّة لا بدّ من إيضاحها على نحو دقيق وهي أنَّ سعادة لم يكن مفكِّراً محدود الآفاق ليُحيي الكنعانيين من أجل أن ينكص بالتعويلِ عليهم إلى نزعة عرقيّة مغلقة تتسبب في عزل سوريا الطبيعيّة عن امتداها في العالم العربيّ؛ بل على العكس من ذلك تماماً.
قال: “إنَّ المحافظة على الرباط الوطنيّ القوميّ عند الفينيقيين ظلَّ ملازماً لهم في انتشارهم في طول البحر السوريّ وعرضه وفي المستعمرات والإمبراطوريّات التي أنشأوها (…) ومع أنَّ الفينيقيين (الكنعانيين) أنشأوا الإمبراطوريّة البحريّة، فإنَّ انتشارهم كان انتشاراً قوميّاً بإنشاء جاليات استعمارية تظلّ مرتبطة بالأرض الأم وتتضامن معها في السَّراء والضَّراء. كان انتشارهم انتشار قوم أكثر منه اتّساع دولة. وإنَّ هذا الانتشار مع بقاء الاشتراك في الحياة بالروابط الوطنيّة والدّمويّة والاجتماعيّة كان الظَّاهرة القوميّة الأولى في العالم التي إليها يعودُ الفضل في نشر المدنيّة في البحر السوريّ والتي خبَتْ نارُها من قبل أن تكتمل بما هَبَّ عليها من حملات البرابرة الإغريق والرومان.[3]“
يحتاج كلام سعادة هنا إلى استقصاء معمّق لإزالة أيّ التباس في الفهم، ويمكن لنا هنا أن نؤكّد من دون مواربة أنَّ الكنعانيين عرب أقحاح وهذا أمر غير قابل للمساومة ولا المزاودة؛ لأنَّ محكّ أصل الشعوب تكشفه اللغة، والعلاقة بين أبجديّة أوغاريت واللغة العربيّة أظهر وأشهر من إقامة الدليل عليها، دعْ أنَّ تحدّر العربيّة من الأوغاريتيّة معروف ومشهور لعلماء اللغة ولا يحتاج إلى زيادة بيان. أضفْ إلى ذلك أنَّ انتشار الكنعانيين كان ابتِدَاؤه من المملكة-الأم أوغاريت التي توجد أطلالها الآن في كلّ من رأس شمرا ورأس ابن هاني في منطقٍة على ساحل البحر شمال مدينة اللاذقية تبعد عنها 12 كم. وتؤكد الدراسات الأركيولوجيّة أنَّ الإنسان السوريّ استوطن منطقة أوغاريت منذ الألف السابع قبل الميلاد واستمرت هذه المدينة بصفتها حاضرة زاهرة إلى أن دمرتها شعوب البحر نحو عام 1177 ق.م. لكن لم ينته الوجود الكنعانيّ-الفينيقيّ بل بقي موجوداً وممتداً جغرافيّاً من منطقة لواء إسكندرون في الشمال إلى غزَّة في الجنوب. زدْ على ذلك انتشار الكنعانيين في قبرص والخليج العربيّ وسواحل المغرب العربي وصولاً إلى قرطاج وقادش في إسبانيا وغير ذلك كثير. وهذا الكلام تؤيده الأدلة الآثاريّة على نحو لا يترك مجالاً للشك، فإذا كانت لغة الكنعانيين وجغرافيتهم تتساوقان مع لغة العرب وجغرافيتهم، فألا يُعدُّ هذا الأمر دليلاً قاطعاً على أنَّ إحياء سعادة لسوريا الطبيعيّة يقصد به عُمقيّاً إحياء حضارة عربيّة قديمة مطموسة. ولا يقصد به أيّ نزعة عرقيّة فينيقيّة مغلقة تقتطع أجزاءً من ساحل سوريا الطبيعيّة بدعوى أنّه فينيقيّ وتفصله عن امتداده الطبيعيّ. لم يكن سعادة من دعاة نزعة فينيقيّة مغلقة ولم يكن يفكِّر بها على الإطلاق، وهذا كلام يجب أن يُقال للإنصاف التأريخيّ. غير أنَّ الإنصاف أيضاً يقتضي القول: إنَّ سعادة كان في أعماقه عاشقاً لسوريا بالدرجة الأولى لأنه يجد فيها المخرج من أزمة سياسيّة كبرى كانت تعصف بالأمة العربيّة فهو يعطي الأولويّة للقوميّة السوريّة دون أن ينكر أبعادها الحضاريّة؛ لكن الشعور القوميّ–في رأيه-يتصل بحنين عميق إلى الأرض التي نشأ فيها الإنسان، فمهما كان المرء ذا رغبة عارمة في تكوين قوميّة مترامية الأطراف، فإنه بوصفه كائناً عاطفيّاً مكوّناً من لحم وعظم لن يشعر بالحنين إلى أي مكان أكثر من المكان الذي ولد وعاش به ودُفِن فيه أسلافه وسيظهر عليه أبناؤه.
قال: “إنَّ الوطنَ وبرّيته، حيثُ فتحَ المرءُ عينيه للنّور وورث مِزَاجَ الطبيعةِ وتعلّقت حياته بأسبابها، هما أقوى عناصر هذه الظَّاهرة النفسيّة الاجتماعيّة التي هي القوميّة.[4]”
لكنَّ هذه البريّة الكنعانيّة التي سُلبت من أهلها الأصليين خرجَ منها “صوتُ صارخٍ في البريّة”؛ لكنَّ هذا الصوت لم يصدح لهداية “الخراف الضَّالة من بني إسرائيل”؛ بل لطردهم من برّيّة بلاد كنعان.
قال: “اليهود قبائل متعدِّدة هاجمت سورية الجنوبية، واحتلت بعضها بعد حروب طويلة مع سكانها الكنعانيين، وقد بقي اليهود لانكماشهم على ذاتهم، خارج التفاعل الاجتماعي المولِّد للأمة السورية، شأنهم في كل مجتمع نزلوه، وقد قهرهم السوريون وطردوهم من البلاد فلذلك لا يمكن اعتبارهم أحد أصول الأمة السورية.[5]“
غير أنّه لا بدّ من الذهاب إلى أبعد في تحليل حقيقة الوجود اليهودي في بلاد كنعان، فهذا الوجود هو في حقيقته وجود روائيّ، أي وجود قائم على روايات تاريخيّة اختلقها اليهود أنفسهم، فهم شعب من دون جذور وحتى أسفار التوراة التي يُعوِّلون عليها في إثبات وجودهم التاريخي أدّى اكتشاف ألواح أوغاريت إلى إلغائها بصفتها وثيقة تاريخيّة، ولم يعد الباحثون الغربيون الموضوعيون في الدراسات الكتابيّة يُعوِّلون عليها، فكأنَّ أرض كنعان أخرجت من أعماقها ما يَكْلِمُ الكينونة اليهوديّة لينجلي زيفُها.
لقد بدأ الباحثون الغربيون يتّجهون الآن اتّجاهاً عظيماً قد يؤدي إلى تقويض أساطير اليهود على نحوٍ نهائيّ، فها هو–المأسوف على شبابه-مايكل س. هيرز Michael S. Heiser (1963-2023 م) وكان في بداياته باحثاً أمريكيّاً في العهد القديم ومؤلِّفاً مسيحيّاً خبيراً في التاريخ القديم واللغات السامية والكتاب المقدس العبري من جامعة بنسلفانيا وجامعة ويسكونسن ماديسون، قبل أن يتّجه نحو الدراسات الأوغاريتيّة التي غيّرت مسار حياته، يؤكد أنَّ اكتشاف ألواح أوغاريت كشف خفايا ديانة اليهود، ويُنبِّه إلى أنَّ اللغة العبريّة مأخوذة من اللغة الأوغاريتيّة، ويشير إلى أنَّ عبادة البعل عند بني إسرائيل-في مرحلة من مراحل تاريخهم-تعني الكثير من الدلالات، ويرفض هيزر أن يكون مصدر عقائد اليهود هو بلاد ما بين النهرين؛ بل مصدرها هو أوغاريت نفسها، ويذهب في التحليل إلى حدّ توكيده أنَّ معاهدة يهوه مع شعبه المختار–كما هي واردة في التوراة-مأخوذة من أدبيات المعاهدات الأوغاريتيّة الجارية في الحياة العاديّة! ويورد على نحو مثير للدهشة مقارنة بين نصوص معيّنة من ألواح أوغاريت ونصوص محدّدة من أسفار التوراة على النحو الآتي:
“سِفْر دانيال 7: قديم الأيام، إله إسرائيل جالس على العرش الناري ذي العجلات [مثل إيل الأوغاريتي، فهو ذو شعر أبيض وكبير في السِنّ (“قديم”)]
ألواح أوغاريت/دورة البعل: إيل، الإله العَليِّ المُسِنّ، هو صاحب السيادة المطلق في المجلس.
سِفْر دانيال 7: يهوه (=في ألواح أوغاريت: إيل)، القديم الأيام، يمنح المُلك لابن الإنسان الذي يركب السحاب بعد تدمير الوحش من البحر (في ألواح أوغاريت الوحش هو: يمّ).
ألواح أوغاريت/دورة البعل: يمنح إيل الملكية للإله بعل، راكب السحاب، بعد أن هزم بعل الإله يمّ في المعركة.
سِفْر دانيال 7: يعطي ابنَ الإنسان السُّلطانَ الأبديَّ على الأمم. وهو يحكم عن يمين يهوه.
ألواح أوغاريت/دورة البعل: بعل هو ملك الآلهة ووزير إيل، وحُكْمُهُ أبديّ.[6]“
تكشف هذه المقارنة المدهشة التي أجراها هيرز بين التوراة وألواح أوغاريت أنَّ البعل الأوغاريتيّ قام من موته وهو حامل بيده زوبعته ليضرب بها يهوه؛ ولقد استشرف سعادة لقيام البعل وعرفَ أنَّ البعل لن يقوم إلا من سوريا؛ لذلك تلقّف سعادة هذه الزوبعة، فلم يقدر على حملها وحيداً، وواجهته وحوش واقعه التاريخيّ فكتب للسوريين من أبناء جلدته بدمه النَّازف: “إنّكم ملاقون أعظم انتصار لأعظم صبرٍ في التَّاريخ.[7]“
*تنشر هذه المادة ضمن ملف صالون سوريا حول “المنعطف السوريّ“
الحواشي
[1] -PHOENICIAN-PUNIC DICTIONARY BY CHARLES R. KRAHMALKOV, UITGEVERIJ
PEETERS en DEPARTEMENT OOSTERSE STUDIES LEU VEN 2000, P.P, 33-34.
[2] أنطون سعادة، نشوء الأمم، دمشق، ط2، 1951، ص:179.
[3] -المصدر نفسه، ص: 180.
[4] -المصدر نفسه، ص: 181.
[5] -أنطون سعادة، الأعمال الكاملة، الجزء الثاني، دار سعادة للنشر، ص: 177.
[6] – Michael S. Heiser, What’s Ugaritic Got to Do with Anything? https://www-logos-com.translate.goog/ugaritic?ssi=0&_x_tr_sl=en&_x_tr_tl=ar&_x_tr_hl=ar&_x_tr_pto=sc
[7] -صدى النهضة، بيروت، العدد 132، 2/9/1946.
بواسطة وداد سلوم | ديسمبر 27, 2023 | Culture, العربية, بالعربية, غير مصنف, مقالات
حسب تعبير موباسان (إن هناك لحظات منفصلة في الحياة، لا يصلح لها إلا القصة القصيرة)، والقصة القصيرة تبدو النوع الأدبي الأقرب إلى روح العصر الذي اتسم بالسرعة والاختزال فتناسلت أنواع جديدة منها كالأقصوصة والقصة القصيرة جداً (ق.ق.ج) إمعاناً في الاختصار. والحقيقة أنها حافظت على جمهورها دوماً وذلك بقدرتها على اقتناص اللحظة والإبحار بالقارئ في تلك المسافة القصيرة من السرد بتركيز وانتقاء مهمين.
وفي هذا السياق صدر مؤخراً عن دار موزاييك للطباعة والنشر مجموعة قصصية بعنوان (هو؟) للكاتب والقاص السوري فراس الحركة وهو الحائز على جائزة زكريا تامر للقصة القصيرة عام 2008 وجائزة اتحاد الكتاب العرب للنصوص المسرحية عام 2009 عن مسرحيته (صاحب النساء السبع).
تحمل المجموعة عنوان (هو؟)، وإذ ينتهي العنوان بعلامة استفهام يفتح باب السؤال لدى القارئ للبحث عن دلالة ضمير الغائب فهو ليس إخبارياً، لكنه عنوان القصة الأخيرة في المجموعة والتي سيتوقف القارئ عندها كما العديد من القصص التي تفتح باب التفكر والتأويل لإماطة اللثام عن مآل النص وتفكيكه في محاولة البحث عن المرامي البعيدة والقريبة التي يأخذنا إليها الكاتب. إذ يصور الذات الإنسانية في تشظيها سابراً عوالمها الداخلية وصراعاتها المشحونة عاطفياً في مشهدية تصويرية تميل للغرابة حيناً وبلغة تقترب من الشعر حيناً.
وعلى مدار ثماني وعشرين قصة حوتها المجموعة ينوع الكاتب أسلوبه فيتجاوز الترتيب الزمني للحدث منطلقاً من المشهد الأخير في بعضها مستعيداً خيوط السرد عبر تصاعد الحالة النفسية للشخصيات أو من المشهد الذروة ليفكك الحدث الذي يستنتجه القارئ ويقوم بتركيب خيوطه، فالقارئ هنا وغالباً يشارك الكاتب في إعادة بناء القصة في خياله عبر الإيحاء الذي يعتمد عليه الكاتب، ومفككاً الغموض الذي لجأ إليه ليستدرج القارئ نحو المشاركة في تخيل الحدث واتباع خيوطه المتعددة والمتشعبة.
يتخذ القاص فراس موقع السارد الذي يقوم بوصف وسبر العالم الداخلي للشخصيات جاعلاً الحدث في هوامش السرد منتقياً مواضيعه من المحيط بحيث يملك عوالم أبطاله النفسية والذاتية غالباً مقدماً المقولة على القص تارة كما في قصة الطريق أو الصندوق الأسود وممسرحاً القص تارة أخرى كما في قصة العازف أو الأبواب ومحاولاً فتح العوالم النفسية لشخصياته وهواجسها وانفعالاتها وهمومها وهذا ما جعل الإبهام والغموض حاضراً في السرد وترك الباب مفتوحاً أمام القارئ كما في قصة انتقام مسلطاً الضوء على معاناة الفرد أمام المجتمع القاسي والمستكين لقوالبه الجامدة والمتخلفة وظلمه للإنسان سواء بقوة العادات والمفاهيم المتخلفة أو بقوة السلطة الراسخة والتي تسعى لإدامة قيودها وذلك الصراع بينهما والذي ينتهي غالباً لصالح الأقوى.
يفضح المجتمع المتخلف وما يرتكبه بحق الأفراد إذ يكيل دوماً بمكيالين في سبيل الحفاظ على مقدساته ومقولاته التي كرسها عبر الزمن فيطلق أحكامه المستمدة من المفاهيم المتخلفة والخرافات والتي درج عليها كما في قصة ابن الجنية ليبرر أفعالاً وأحداثاً يخاف أن تتداولها الألسن حيث تصبح البنية النفسية لهذا المجتمع مهددة حين ترى الحقيقة. إنه المجتمع القائم على أوهام وكذبات صنعها بنفسه عبر الزمن . ففي قصة ابن الجنية نرى البطل فاضل والملقب بالنمر رغم كل أفعاله الحميدة وصفاته النبيلة التصق به لقب ابن الجنية ما جعله غير مرغوب به رغم أن هذه الجنية أمه لم تكن سوى مناضلة ساعدت الثوار في الجبال وماتت بتسمم جراحها، وكما تموت الحقيقة بالنكران يبقى اللقب العار ابن الجنية متوازياً مع ابن الحرام ومرفوضاً مثله.
وكما في قصة أطلال حيث يقوض الواقع أحلام الإنسان وقصص الحب التي تموت بيد الواقع ولا يبقى منها إلا الذكريات التي يطمسها الزمن مع تقدم الحياة التي لا ترحم فالحبيبة تتزوج ممن لا تحب ومكان اللقاء (البيادر) تقوم عليه البيوت الإسمنتية هكذا يحل الجماد محل العواطف.
وفي قصة الدم نرى انتقال المعركة من الرصاص الحي إلى الكلمة التي في النهاية تغتالها السلطات حين تعتقل الكاتب. السلطات التي تعيد إنتاج الحزن وتجعله مستمراً ورفيق جيل الشباب في قصته (ذلك الحزن) حين تعتقل رفيقهم الذي عاد إلى البلد بعد غياب طويل.
مثلما تغتال المفاهيم الجامدة قصص الحب وتقسر الشاب في قصة أنا قدرك للتخلي عن الحبيبة نتيجة إعاقتها والزواج بأخرى .
يبرع الكاتب في وصف لحظة الذروة في الانفعال العاطفي والصراع النفسي للشخصيات التي تنتقل بين ضمير المتكلم وضمير الغائب وذلك في مشهدية تصويرية تأتي على لسان القاص محاولاً تصوير تلك الانفعالات والصراع الذاتي المكتمل مع المحافظة على إشارات مفتوحة توحي بالنهايات.
لا تأتي القصص في سوية واحدة فهناك موضوعات مطروقة سابقاً كواقع المرأة المستلبة الراضخة لمشيئة المجتمع الأبوي ومعاناتها في انكسار قصص الحب وقتل الذات وتحويلها إلى أداة إنجاب وعمل لا أكثر بينما تموت المحاولات الصغيرة ويبقى صوتها ضعيفاً، مؤكداً أن تحرر المرأة لا يكون إلا بيديها. يحاول الكاتب التجديد في أسلوب الطرح وليس الموضوع وهذا ينطبق على أكثر من موضوع كما في قصة الأبواب أو الطريق حيث يجسد الجماد ويؤنسنه على طريقة أنسنة الحيوان وإنطاقه في كليلة ودمنة لتقديم العبرة والمقولة، ليصبح الطريق شخصية تتمنى وتريد أن تكون ذاتاً تملك وجهة وهدف وصول.
يقول غيورغي غوسبودينوف: “إن المتاهة قد تكون من وفرة المخارج وليس فقدانها.”
وفي قصة الأبواب نرى أنها مخارج لطرق تتنوع وتنفتح بين الداخل والخارج ، بين الذات والمحيط تتعدد وتتداخل وكل باب يُفتح أمامه طريق على هدف ويستعرض البطل المتمثل بضمير الغائب هذا الأمر باحثاً عن اكتمال رؤاه. أبواب سبعة بما يحمل الرقم سبعة من قدسية في الذاكرة الجمعية وحين يصل إلى الباب السابع إذ يجتمع الأمل مع الفرح والنور و معاناة البلاد وبحث الإنسان عن شرط الحياة يأتي صوت المذياع في بيان رسمي يرمز للسلطة التي تصادر كل اكتمال وكل كيان باحث فينتهي البطل إلى البكاء.
يقابل الأبواب النوافذ وهو عنوان قصة أخرى (نوافذ صامتة) إذ نرى خلف النوافذ قصصاً مختلفة يجمعها الفقد والغياب والموت والإحساس بالاغتراب حيث يجتر الإنسان آلامه الخاصة . هذه الحيوات المتعددة كمثل مشاهد سينمائية أو عروض مسرحية يقوم كل منها بدوره دون تأخير.
لا تختلف معاناة الكاتب عن أبطاله فيصور تشتت المثقف واحتدام الصراع في داخله للبحث عن ذاته وعن تحقيقها إذ يرتقي من النواح إلى مرحلة القرار في قصة ارتقاء.
أما في قصة ارتكاب وحيث يصور أعماق الكاتب المشتتة والدؤوبة نحو التجلي وذلك عبر مونولوج داخلي يتنوع خطه البياني بين الذروة والقاع بين الانتشاء والبكاء وحالات متلاحقة تجعله يكشف غربته الداخلية وتناقضه مع المحيط وظروف الواقع والآلام التي تلتهم الإرادة وتحاول قتل اللحظة المبشرة بولادة الإبداع.
يبحر الكاتب في تلافيف العقل باحثاً عن رؤاه كصوفي يحتدم العالم في داخله فيقطر الواقع المر ويتطهر منه باكتمال الفكرة والإبداع الموازي للنور.
تبدو ذروة هذا الاغتراب والتشظي في قصته (هو؟) وضمير الغائب هنا إشارة إلى الظل رفيق الجسد في الضوء لكن ظل الأنا المتكلمة هنا وهو الكاتب يتجسد في العتمة يقول: (أفغر عيني في العتمة أجد الظل).
والظل ليس انعكاساً لجسم مادي بل هو ذات أخرى تنفصل عنه وتتجسد لعلها الحلم ولعلها المكبوت ولعلها الذات المتمردة المشاكسة حيث يفعل ما لا يجرؤ عليه الكاتب ساخراً منه ومن جبنه وعجزه إنه الكائن الحر المدفون في داخلنا.
وهذا الفصام يبدو جلياً في قصص فراس الحركة إذ يغوص في العوالم النفسية والداخلية للشخصيات واصفاً انفعالاتها وهواجسها ويوجهنا إلى البحث عن الشبيه. اللغة عند فراس لاعب ماهر إذ تعبر بدقة عن تلك الإرهاصات وتميل إلى الشعر أحياناً مختزلة ومكثفة لكن يؤخذ عليه الإسهاب في الوصف في بعض الأحيان ما لا يخدم البنية القصصية ويشتت القارئ.
(هو؟) مجموعة مختلفة في البناء والأسلوب تبشر القصة القصيرة بفتوحات جديدة سجل فيها فراس الحركة اسمه بمهارة.