كتابٌ جديد يغامر بطرح حل للأزمة السورية

كتابٌ جديد يغامر بطرح حل للأزمة السورية

ظهرت في السنوات الأخيرة مجموعة من الأبحاث والدراسات التي عنيت بالأحداث التي يموج بها المشهد السياسي والعسكري في سوريا والشرق الأوسط، ويرصد المتابع لما نشر من هذه الأبحاث والدراسات في كتب إلى أيّ مدى أرقت الأزمة السورية المشتعلة منذ منتصف آذار (مارس) 2011 السياسيين والمفكرين والباحثين والكتّاب، بما آلت إليه من مأساة ومعاناة إنسانية لم يشهد العصر الحديث مثيلًا لها من حيث حجم الدمار الذي لحق بالجغرافية السورية وعدد الضحايا من قتلى ومعتقلين ونازحين ولاجئين منتشرين في أصقاع المعمورة.

كتاب «سوريا بين الحرب ومخاض السلام» للباحثين السوريين جمال قارصلي وطلال جاسم، الذي سنعرض في هذه المقالة أبرز ما جاء فيه، هو واحد من هذه البحوث والدراسات، التي تتميز بالرصانة والجدّية والموضوعية.

الكتاب الصادر مؤخرًا عن منشورات “مركز الآن” (Now Culture)، جاء بنسخته العربية في 304 صفحات من القطع المتوسط، كما صدر ملخصًا لأبرز ما جاء فيه باللغتين الإنكليزية والألمانية. وفيه يشير المؤلفان قارصلي وجاسم، إلى أنّ عملهما كناية عن مقترح للحل السلمي في سوريا، حيث نقرأ في المقدّمة التي حرّراها: “جاءت فكرة الكتاب من واجبنا تجاه بلادنا حيث تعقد سبل الحلّ للصراع في سوريا كمحاولة لإثارة النقاش بين السوريين للمبادرة في استعادة قرارهم الوطني ورسم خارطة طريق للخروج من هذه المأساة”. لافتين إلى تحوّلات المأساة السورية خلال السنوات الثماني الأخيرة، “لعل أهمها خروج القرار الوطني من أيدي السوريين وتدمير كل الأطر الوطنية بين مكوّناته وقوى الصراع الداخلية فيه، لصالح لاعبين إقليميين ودوليين”. في إشارة إلى الروس والإيرانيين والأتراك، واللاعب الأكبر الولايات المتحدة الأمريكية.

  • خارطة طريق لإقامة دولة المواطنة..

مما جاء في مقدّمة الكتاب، “أصدرنا هذا الكتاب بعد عمل دام أكثر من ست سنوات تخللته الكثير من المشاركات واللقاءات والمناقشات والمؤتمرات مع مفكرين وناشطين دوليين وسوريين منحدرين من قوميات وأديان وطوائف مختلفة”.

يضيف المؤلفان: “هذا الكتاب يضع وفق الممكن والمتاح خططًا مدروسة قابلة للتطبيق انطلاقًا من فهم وبحث عميق للوضع العام في سوريا من أجل إعادة بناء الدولة السورية، التي طالما حلم بها الكثير من السوريين، دولة الحرية والكرامة والديمقراطية، حيث أنّنا نعتبر بأنّ قوة الدولة ومؤسساتها هي الضامن الوحيد لكل الحقوق والتفاهمات والاتفاقات المبرمة بين كل فئات ومكوّنات المجتمع من أجل وضع أسس متينة لدولة المواطنة والعدالة والمساواة”.

من الأطروحات التي يقدّمها قارصلي وجاسم بين دفتي الكتاب، الذي يتضمن عددًا من الأبحاث والدراسات العلمية والعملية، رسم خارطة طريق للخروج من المأساة السورية، والحلّ -وفقًا لرؤيتهما- يأتي عبر تسويات بين مصالح السوريين الوطنية ومصالح اللاعبين الدوليين، تضمن إقامة دولة المواطنة والقانون، من خلال الوصول إلى توافقات شاملة وجامعة في مؤتمر وطني عام يشكّل الخطوة الأولى لمخرج مقبول من هذه الكارثة التي حلت بالسوريين عامة. آخذين بعين الاعتبار التوازنات الدولية والإقليمية، ومحدّدين أهم التطمينات التي يجب أن يقدّمها السوريون إلى الدول الفاعلة الساعية إلى تسوية عادلة شاملة، بعد تفاقم الوضع الإنساني في سوريا.

يقول المؤلفان: إنّ “ما دعانا لهذا الطرح هو تحوّل الساحة السورية إلى ملعب دولي تتصارع فيه وعليه الكثير من القوى الدولية والإقليمية لتصفية حساباتها، وأصبح السوريون مثل بيادق صغيرة ومرتزقة في وطنهم، تتحكم بهم هذه الدول بشكل مباشر أو عبر منظمات غريبة عن المجتمع السوري في منهجية الفكر والعمل”. وأشار المؤلفان إلى أنّ “هذه الحالة أنتجت طبقة واسعة من المقهورين السوريين، الذين لا يريدون الخوض في غمار صراع لا مصلحة لهم فيه، ووجدوا أنفسهم في خضم معارك لا تعنيهم وليسوا طرفًا فيها، وأنّ هذا الصراع يهدد أمنهم وأمن عائلاتهم وأموالهم وأملاكهم. وهذا كان السبب أو الدافع الأكبر والأهم الذي حرّض الكثير من السوريين على أخذ قرار ترك بلدهم، خوفًا على حياتهم أو قيمهم ومبادئهم”.

مقترحات الحلّ من منظور قارصلي وجاسم، تمر بمراحل ثلاث: تحضيرية، ثمّ انتقالية، وصولًا للمرحلة الدائمة.

المرحلة التحضيرية تبدأ عقب انتهاء المؤتمر الوطني العام، وتدوم لمدة عامين، مع وجوب “العمل فيها على إزالة التوتر بين أطياف وشرائح المجتمع السوري وعلى تنمية روح الثقة والتسامح والتصالح بين الأفراد والمكوّنات”.

فيما تدوم المرحلة الانتقالية أربع سنوات، يتم العمل فيها على تثبيت السلام ووضع الأسس المتينة لمرحلة دائمة تكون عبر حكم سياسي ناضج يشعر في ظلّه كلّ السوريين بالأمان والاطمئنان والعدالة والمساواة، “بعد إقرار وتثبيت استقلالية القضاء وفصل السلطات، ورسم الدوائر الانتخابية في كل المناطق السورية”.
أمّا المرحلة الدائمة فهي مرحلة تعزيز الثقة بين السوريين لتبدأ الهوية الوطنية السورية بالتشكّل، وهو الشرط الأساسي للانتقال إلى الانتخاب عن طريق القوائم والنسبية وفقًا للقواعد الانتخابية وقوانين الانتخابات العصرية التي تؤسّس لبناء الدولة على مفهوم الأغلبية السياسية، وفقًا للفاعلية والكفاءة، “وهذا سيكون أساسًا لتداول السلطة بشكل ديمقراطي، ووفقًا لمبدأ دستوري لا يقصي أحداً، مع ضمانات بعدم إنتاج نظام ديكتاتوري أو إقصائي حتى لو كان من خلال صناديق الاقتراع”.

قارصلي وجاسم، أشارا في متن كتابهما أنّهما اطّلعا خلال فترة اشتغالهما على هذه الدراسة على أشكال ونماذج الحكم في الدول التي لديها تجارب في معالجة مشاكل التنوّع القومي والديني، وهو ما أوصلهما إلى نتيجة مفادها أنّ “أكثر حلّ مناسب للحالة السورية هو أن يكون نظام الحكم برلمانيًا ديمقراطيًا مع الاعتماد على اللامركزية الإدارية الموسعة في إدارة شؤون المحافظات والمدن، مع منحها صلاحيات واسعة في أغلب المجالات والتي قد تفوق الصلاحيات الممنوحة في الأنظمة الفيدرالية، وهنا نذكر المثال الفرنسي في اللامركزية الإدارية. في كلا الحالتين نرى بأنّ تطبيق مبدأ البرلمان المركزي المعروف في كل التجارب الديمقراطية، برلمانًا مركزيًا آخر يشبه في تركيبته برلمان الولايات الألماني الذي يسمى بالـ(بوندسرات)، والذي يمكننا أن نطلق عليه اسم البرلمان المركزي”.

ليوضحا لنا بعد ذلك مهام البرلمان المركزي، والتي حدّداها بثلاث نقاط أوّلها: يتداول (أي البرلمان المركزي) كل القوانين التي تمس صلاحيات المحافظات.

ثانيًا: يهتم بتقنين علاقات المحافظات ببعضها البعض وبالحكومة المركزية.

أمّا النقطة الثالثة فهي: أن يكون أعضاء هذا البرلمان أعضاءٌ في حكومات المحافظات، ويتم انتداب هؤلاء الأعضاء من قبل حكوماتهم إلى هذا البرلمان لإعطاء المحافظات إمكانية المشاركة في سنِّ القوانين التي تمس شؤونها الداخلية والمشاركة في انتخاب أعضاء المحكمة الدستورية العليا إلى جانب البرلمان المركزي.

يطرح المؤلفان أنّ يقوم هذان البرلمانان بدور تشريعي، وفي المرحلة الدائمة ينتخب المجلسان مع أعضاء المحكمة الدستورية العليا، رئيس الدولة أيضًا، على أن يطلق على المجلسين معًا اسم “الكونغرس” كما هو في النظام الأمريكي، مبينين أنّ عدد ممثلي كلّ محافظة أو منطقة سيكون متناسبًا مع عدد سكانها.

  • إدانة المنظومة الأممية وقصور مجلس الأمن..

من النقاط البارزة في الكتاب، توجيه دعوة إلى القيادة الألمانية للدفع نحو إيجاد حلٍّ في سوريا، كونها تحوّلت إلى طرف بعد احتضانها لعدد كبير من اللاجئين، بالإضافة إلى دورها الفاعل في القارة الأوروبية، وقدرتها على الضغط على روسيا وإيران وعلى الدول الإقليمية التي فقدت الحيادية وغلبت مصالحها في التعاطي مع القضية السورية، ومناوراتها الواضحة على سلسلة مؤتمرات جنيف ومخرجاتها.

في طيات الكتاب، يكشف المؤلفان عن إدانتهما للمنظومة الأممية، خاصّة مجلس الأمن وقصوره في تحمل مسؤوليته مع تفاقم الوضع الإنساني في البلاد، ما أدى الى فشل محاولات السوريين وكياناتهم السياسية المختلفة عن بناء تصور وطني لإنهاء الصراع.

خصّص المؤلفان جمال قارصلي، النائب السابق بالبرلمان الألماني، وطلال جاسم، فصلًا كاملًا في الكتاب لدراسة وضع اللاجئين والمهجرين والنازحين السوريين، بعدما ازدادت حدّة الصراع ودخلت المنطقة بأكملها في نفق مظلم، ولم يعد يستطيع حتى الخبراء رؤية النور في آخره، حيث كان اتّخاذ قرار الهجرة إلى البلاد العربية المجاورة أو إلى البلدان الأوروبية والإسكندنافية البعيدة أمرًا لا مفر منه بالنسبة للكثير من السوريين.

وبحسب قارصلي وجاسم، فإنّ كلّ ما حدث في السنوات الثماني السابقة، “ساهم في تآكل الوطنية السورية وانعدام الثقة المتبادل وعدم فهم مخاوف الآخر وأخذها بعين الاعتبار مما جعل روح الوحدة، والبحث عن الخلاص الجماعي في مهب الريح، وهذا ما فتح الباب واسعاً أمام السعي للخلاص الفردي هروبًا من المأساة والذي هو من فطرة الإنسان. وما زاد الوضع حدّة وسوء هو ما قامت به بعض المجموعات في اللعب بعواطف الناس وتأجيج مشاعر القومية والمذهبية والطائفية وحتى المناطقية لديهم من أجل تحقيق أهداف وأجندات خارجية”.

يؤكّد المؤلفان في سياق تناولهما للقضية السورية واستشراف آفاق حلٍّ ينهي الصراع الداخلي، على أنّ تحميل أيّ دولة من دول العالم مسؤولية ما يحصل في سوريا لن يجدي نفعًا، وأنّه “على السوريين أن يكونوا بقدر مسؤوليتهم لأنّه بات واضحًا بأنّ العالم لم يعد ينظر إلى السوريين كضحايا بقدر ما ينظر إليهم كمصدر للقلق”.

وأنّه “يجب أن يعلم السوريون بأنّ الخطوة الأولى لبناء الوطن تكمن برؤيتهم وتقييمهم للسوري الآخر بأنّه سوري في الدرجة الأولى وبعد ذلك وبمسافة طويلة تأتي الاعتبارات الأخرى مثل الدين والمذهب والقومية”.

المؤلفان يبحثان في كتابهما واحدة من أهم قضايا ما بعد إنهاء الصراع في سوريا، ألا وهي قضية إعادة الإعمار التي تُعدُّ الأبرز بعدما دمرت الحرب في السنوات الماضية أكثر من ثلثي الجغرافية السورية.

قارصلي وجاسم بينا في هذا السياق، أنهما “في هذا الكتاب نلقي نظرة واسعة على إعادة الإعمار، فكما هو معلوم، عندما تنتهي الحروب المدمرة، تاركة خلفها الكثير من الخراب والجروح الغائرة في ضمائر ونفوس البشر، تبدو للوهلة الأولى أنّه لا توجد فرصة للبدء في إعادة بناء أيّ شيء كان، ولكن الأمم العريقة سرعان ما تنبعث من جديد من تحت الركام لتبدأ بحقبة جديدة، ساعية إلى مستقبل أفضل، متجاوزة كل مآسيها، ومتحاشية كل أسباب ما حلّ بها من خراب ودمار”. وأردفا: “الأمم الحية تسعى من خلال مفكريها وخبرائها وعلمائها إلى وضع خطط صحيحة ودراسات بناءة من أجل مستقبل جديد متجاوزة لماضيها الأليم. أوّل ما يجب بناؤه في المجتمع هو الإنسان، فلذا قمنا بتحليل لما هو موجود ولما يمكن أن نحشده من طاقات بشرية ومادية لإعادة النهوض مرة أخرى”. مؤكّدين أنّه علينا “أن نعي أنّ تجارب الأمم في إعادة البناء تشير بوضوح إلى أنّنا كسوريين سنتحمل كل أعباء إعادة بناء وطننا وسندفع تكاليفه وربّما لبعض الدول التي دمرت بلدنا، وستظلّ هذه الدول تملي علينا ما تريده لسنين طويلة، ورغم ذلك لا بدَّ من وضع الخطط الصحيحة وبشكل ممنهج وواعي من أجل إنهاء هذه التدخلات”.

طرحٌ وتنظير كثير قدّمه المؤلفان في كتابهما ليس فقط في قضية إعادة الإعمار وإنّما في مسائل كثيرة أبرزها كيف يمكن الخلاص من نظام الحكم الاستبدادي الذي خرجت المظاهرات الشعبية العارمة مطالبة برحيله منذ الهتافات الأولى في منتصف آذار (مارس) 2011، ولكن دون تحديد كيف يمكن أن تترجم هذه الأطروحات الفضفاضة على أرض الواقع كأفعال تصل بالسوريين إلى بر الأمان وتعيدهم لديارهم بعد هذه التغريبة الطويلة وتشظي البلاد التي تعاني اليوم من احتلالات عسكرية متعدّدة ووجود ميليشيات شيعية تابعة لنظام الملالي في طهران وأصحاب الرايات السوداء من الجهاديين السنة، ما ساهم بشكل كبير في تأجيج الصراع بين الأخوة وتدمير المزيد من العمران، كل هذا في ظلّ قوى معارضة متهالكة تعاني من التشتت في المواقف الإيديولوجية، فضلًا عن تعدّد الداعمين العرب والإقليميين والغربيين وتنوّع أهدافهم.

المؤلفان أشارا في الصفحات الأولى من الكتاب أنّ هذه الدراسة انطلقت مما وصفاه بـ “واقع أليم آلت إليه الأوضاع في سوريا، وإدراكًا منا بأنّ الأمور خرجت من يد السوريين معارضة وحكمة وشعبًا، وباتت حتى الاتّفاقات الصغيرة يديرها الكبار”.

كما أكّدا على اعتمادهما “مبدأ الحياد العلمي في الطروحات العلمية والعملية”، التي قدّماها بين دفتي كتابهما، غير أنّه يمكننا القول إنّهما لا يملكان “عصا سحرية” لإيجاد حلول لكلّ تشعبات القضية السورية، وهو ما يلفتان إليه النظر عند إشارتهما أنّ “ما ورد في هذا الكتاب من أفكار ورؤى هي وجهات نظر مطروحة للنقاش، نعرضها على المعنيين والمختصين وعلى الشعب السوري كأفراد ومؤسّسات ومكوّنات من أجل إنضاجها وإغنائها، آملين أن تسهم في فتح باب للحلّ وتمنح بلدنا فرصة لانبعاث جديد من تحت ركام الحرب والخراب، مؤمنين بأنّ ذلك لن يكون إلّا بعمل جماعي مبني على أسس عادلة وعلمية تحقق الحدّ الأدنى من الأمن والأمان لجميع السوريين”.

المواطنة لا الفزعة

المواطنة لا الفزعة

رغم نشأتي في أسرة يسارية الفكر، كانت ترى في المناطقية عيباً مجتمعياً، إلّا أنني بقيتُ حاملة لآثار تلك المناطقية حتى بلغت الخمسين ونيفاً، تقودني إليها جذوري وردود فعلي حين أُصبح محط اتهام بمرتبة إنسانيتي ومواطنتي لأنني سليلة فلّاحين. يدفعني هذا الاتهام للتحصّن وراء مناطقيتي، فتراني أستدعيها على الفور حين تقديمي لنفسي كحورانيّة، وكأنني أقول حذاركم والمساس بأجدادي فأنا حفيدة فلّاحين من حوران فانتبهوا لما تنوون قوله حتى قبل أن يلفظوا حرفاً.

ربما هذا بالضبط ما يحدث أيضاً مع الطوائف والقوميات وليس المناطق فقط، في مجتمع فيه أغلبية ذات لون واحد تجعل الفئات الأصغر أو الأضعف فيه تشعر أنها مضطرة لحماية نفسها تحسباً لأي انتهاك محتمل.

 يحدث هذا على ما أظن حول العالم، في كل الدول التي يفتقد مواطنوها قوانين تحمي مواطنتهم، وتضبط حقوقهم وواجباتهم، فتختفي الانتماءات الصغيرة لعدم وجود ما يخشوه، ولعدم الحاجة للتقوقع حول أنفسهم أوللتحالف على عماء تحت غطاء الدفاع الاستباقي عن النفس، والتضامن في وجه المخاطر المحتملة.

بينما تجد تلك الفئات تتحوّل في الدول ذات السلطة الديكتاتورية إلى مجتمعات مغلقة تحافظ بشدة على أواصر وصلات بين أفرادها، قوامها العادات والتقاليد والممارسات واللهجة المشتركة، ويصبح الانتماء للمنطقة أو الطائفة أو القومية معنى الوجود وأصل الحياة التي تصبح بلا معنى لديهم بدون تلك الروابط، ويصبح هذا الانتماء عصب الوجود كلّه، إلى درجة أن يُحرِّم الإنسان على نفسه الاقتراب من الخطوط الحمراء لمنطقته أو طائفته أو قوميته خشية فقدان انتمائه لها بلفظه خارجها، والحكم عليه بالقطيعة فينقطع شريان الحياة.

الكارثة ليس فيما ينهجه عموم الناس غرائزياً، الكارثة حين تلمس من أصحاب العقل والثقافة والمنطق والعلم الخوف من الاقتراب من تلك الخطوط الحمراء ونقد ما يمس مجموعاتهم، في حين يدعون للحريّة والتحرر من القيود الدينية والطائفية والقومية لدى الآخر، أي آخر. هذا الخوف هو بالضبط ما جعل أجنّة الإجرام والانحراف تصبح قوّة مؤثرة قد تأخذ أهلها إلى داهية كما يحدث في درعا والسويداء، وأرى فيه نموذجاً لما يمكن أن يحدث بعد حين في أنحاء سوريا، ويحوّلها كلّها إلى أرض لحرب أهليّة حقيقية سعى النظام السوري من سنوات عديدة لتتبنى المصطلح دول العالم حين توصّف المقتلة الجارية في سوريا تحت رعايته ومن بطولته وبطولة أشباهه.

ما يحدث في درعا والسويداء في الجنوب، وما سيحدث في الشرق والغرب والشمال، بين العرب والكرد، بين أهل الدير والرقة، بين إدلب وحلب، حتى بين الطوائف التي تحمل من مئات السنين تاريخاً مثقلاً بالظلم والقهر من إحداها للأخرى، أو عداءاً تاريخياً بين واحدة وأخرى، هو بجدارة حرب أهلية حقيقية ستحصد الجميع بلا استثناء، أو بالأحرى ستحصد ما بقي من بلد وأهله. لم تعد القضايا الساخنة المطروحة على الساحة السورية ثورة شعب ولا حراك تغيير ولا انتفاضة مقهورين، تعدّت كل هذا بعد سنوات حرب طويلة أنهكت السوريين اقتصادياً واجتماعياً، وأودت بأحلامهم إلى داهية، تعدّت كونها حمل السلاح للدفاع عن النفس، أو لتغيير نظام حكم بثورة مسلّحة، أو لأرض معركة لنزاعات بين دول تريد موطىء قدم لها في منطقة جغرافية حسّاسة تفتح نوافذ على شرقنا الملعون، أو حتّى لم تعد لحفاظ سلطة الاستبداد على الحكم، ولا للدفاع عن وطن، ولا لمحاربة إرهاب.

القضايا الساخنة ضاقت لتتحول لدفاع عن مصالح فردية، أو مجموعاتية، أو مناطقية، أو قوميّة، أو طائفية دينية. ضاقت حتى مُسِخت كل القضايا التي جمعت حولها السوريين حين اتّحدوا تحت شعار الحريّة، والعدالة، والديمقراطية، والمواطنة المتساوية.

 تلك نتائج طبيعية لمجتمعات أنهكها السلاح، فأصبح صوته يحكم الأرض لا القانون، في ظل دولة لم تعد تملك مقومات دولة، تقودها سلطة السلاح المستبد وفق عقلية تشبه بشكل ما عقلية العصابات التي أنتجها الوضع الراهن، سلطة فلت عقالها فانفلت السلاح على الأرض المستباحة، فوق رأس الشعب  المستباح.

ما يجري في درعا والسويداء نموذج واضح لمن ما زال يملك بصراً وبصيرة، السلاح أغرق الأرض وأصبح في متناول الجهلة والهُمّل، والزعران والمجرمين، والمنحرفين وسَقَط القوم، يتم استخدامه لغايات وأهداف ليس فيها ذرة من الأخلاق، للسرقة ولفرض السطوة وللخطف وللتهريب ، لتجارة السلاح والحشيش، لتهريب الآثار، للصفقات المشبوهة في سوق مفتوح للمنافسة، وتضارب مصالح لا حدود له.

كل هذا يجري تحت بصر سلطة لا سلطة لها تتظاهر بالعماء، وأفراد وعائلات، وحمايل وعشائر وشيوخ، غضّوا الطّرف، وتظاهروا بالعمى والطرش، وتسلحوا بالخرس، حتى وقعت الواقعة وستقع، ولم يعد بالإمكان ضبط عقال الحمقى، في بلد مريض عليل، بلا قانون، وشعب بلا حماية، يهرول للتقوقع كل حول نفسه، وتحيا غرائز البقاء والدفاع عن الانتماء الضيّق، العائلي أو المناطقي أو الديني أو غيره.

في ظل وضع بهذا السوء، وعندما تقع الواقعة، تحيا غرائز البقاء والدفاع عن الانتماء الضيّق تذرّعاً بأسباب هي أبعد ما تكون عن الحقيقة، وتُستثار العواطف بالدعوة للنخوة والفزعة، وانصر أخاك ظالماً أو مظلوماً، وأنا وأخي على ابن عمي وأنا وابن عمّي على الغريب، وتُشعل النار وتحترق البشر والحجر.

ما تحتاجه درعا والسويداء وما يحتاجه من سيأتيهم الدور بعدهما ليس عقلاء وشيوخاً لم يكونوا يوماً عقلاء، إنما صحوة مجتمعية تعيد ترتيب أولوية الولاء فتضع على رأسها الولاء لوطن في نزعه الأخير، تنعش فيه دولة ديمقراطية تحمي مواطنيها وتضع قوانين تضبطهم، تدافع عن حقوقهم وتفرض عليهم واجباتهم، دولة يتفوّق بها حس المواطنة على أي حس مناطقي أو قومي أو طائفي أو ديني، دولة يشعر في ظلها الإنسان بالأمان فلا يحتاج لقوقعة يتوهّم أنها تحميه، ولا يهرول للاحتماء تحت عباءة تجرّده من حرّيته وتثنيه عن الجرأة المطلوبة للتخلّص منها كمرحلة أوليّة على الطريق للتخلّص من كل أنواع الاستبداد السلطوي، السياسي منه أو الديني أو العسكري أو المناطقي. الحريّة تبدأ عندما نبدأ في كسر قيودنا الفردية لنستطيع أن نكسر القيود التي تكبّلنا جميعاً فنتحرر.

حوض الشام: كنز غازي محط أطماع

حوض الشام: كنز غازي محط أطماع

أثار في بداية الألفية الثانية اكتشاف موارد غازية هامة في باطن شرق البحر الأبيض المتوسط أطماعا لدى البلدان المحيطة به. ولكن استغلال هذه المنطقة البحرية المحدودة مازال خاضعا لنزاعات عديدة متعلقة بترسيم المناطق الاقتصادية الخالصة لكل من البلدان المعنية.

في 1999 مع اكتشاف الحقل الغازي “نوح” قبالة سواحل إسرائيل، انطلقت عملية واسعة للتنقيب في شرق البحر الأبيض المتوسط. وقد سمح ذلك باكتشاف على التوالي حقول ماري ـ ب، داليت، تامار، تنين وعند آخر العشرية حقل ليفياثان. وتقع جميعها في المنطقة الاقتصادية الخالصة1 التي تطالب بها إسرائيل. ويبدو أن حقل لفياثان يحتوي لوحده على 18 مليار مليار متر مكعبويسمح استغلاله بتزويد إسرائيل بالكهرباء على مدى السنوات الثلاثين القادمة.

كما تسمح مجمل هذه الموارد لإسرائيل من أن تحتل دور مصدر غاز، وهو خيار يحظى بتقدير الاتحاد الأوروبي الذي سيكون بذلك أقل تبعية لروسيا ولكنه في الواقع يتجاهل كونه سيصبح شريكا في نهب جزء من الغاز الذي ستأخذه إسرائيل من موارد الفلسطينيين.

عند اكتشاف حقل “نوح”، راودت الفلسطينيين أيضا كثير من الآمال في استغلال الغاز، وقد اعتُبر حقل “آمارين” البحري للغاز كعامل رئيسي نحو الاكتفاء الذاتي من الطاقة. وصرّح آنذاك رئيس السلطة الفلسطينية الراحل ياسر عرفات بحماس: “إنها هبة من الله لشعبنا وأطفالنا ونسائنا هنا وفي المهجر، ولأولئك الذين يعيشون هنا على أرضنا”. غير أن الأمور لم تسر بالشكل المنتظر، وقد فشلت مجموعة “بريتيش غاز غروب” وشركة اتحاد المقاولين -أكبر شركة بناء في الشرق الأوسط- وصندوق سيادي فلسطيني في إنجاز المشروع. ويعود ذلك بجزء كبير إلى العقبات التي وضعتها إسرائيل والتي لم تعد في حاجة لهذه الفرضية كون مواردها الذاتية تكفيها.

كما قامت السلطات اللبنانية هي أيضا في أبريل/نيسان 2013 بإطلاق مناقصات لاستغلال كتل استكشافية في منطقتها الاقتصادية الخالصة. تحتوي المياه اللبنانية على احتياطي يقدر بما يقارب 25 مليار مليار متر مكعب. ولكن التوترات مع إسرائيل تضع حقول “تمار” و“ليفياثان” الموجودان نظريا ضمن المنطقة الاقتصادية الخالصة الإسرائيلية محل إشكال، كون الحدود بين المنطقتين الاقتصاديتين الخالصتين ليستا ثمرة لأي اتفاق. وتعتبر لبنان أن هاذين الحقلين هما نتاج جيب يوجد تحت الأرض البحرية اللبنانية وأن استغلاله من طرف إسرائيل يعد اغتصابا.

بخصوص سوريا ونتيجة للحرب، فإن استغلال مياهها الإقليمية معلق في الوقت الحالي. تم بيع في المزاد لـ“كتل استكشافية” في بداية 2011 ولم تبلغ دمشق أبدا بقائمة الفائزين، غير أن محادثات متقدمة في 2013 مع روسيا والصين تعد إشارة على الأرجح عن الفائز بالصفقة.

مصر هي أيضا أحد الأطراف الحريص على الاستفادة من موارد الغاز في عمقها البحري. وقد عهدت بمهمة التنقيب إلى شريكها الإيطالي لأكثر من ستين عام “إيني”. وصرحت “إيني” أنها اكتشفت أكبر حقل غاز طبيعي في الشرق الأوسط، الذي سمي بـ“حقل ظهر”، والذي قد تصل إمكاناته إلى 850 مليار متر مكعب على مساحة 100 كلم مربع، ومن شأنه تلبية حاجيات مصر من الغاز الطبيعي لمدة عقد على الأقل.

سينقل هذا الحقل مصر من موقع المستورد إلى موقع المصدر. يقدر الجيولوجيون أن حوض المشرق، وهي منطقة بحرية مجاورة للمياه الإقليمية المصرية ويحدها الساحل التركي والسوري واللبناني وإسرائيل والأراضي الفلسطينية المحتلة وقبرص، بأنه قد يحتوي على 3454 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي على الأقل، أي أربعة أضعاف احتياطي حقل ظهر وحده.

في عام 2015 زار الرئيس المدير العام لشركة إيني القاهرة ليحتفل بذلك مع الرئيس عبد الفتاح السيسي قائلا: “هذا الاكتشاف التاريخي بإمكانه أن يغير السيناريو الطاقوي في مصر”. وهو خبر سار في بلد يعرف انقطاعات كهربائية متكررة.

قبرص، فاعل مركزي

قبرص، الجزيرة الصغيرة بمساحة 9000 كلم مربع في حوض الشام، مقسمة بخط أخضر -معروف بـ“خط آتيلا”- بين جمهورية قبرص في الجنوب (61% من الأراضي) وجمهورية قبرص التركية في الشمال. كان من المقرر إجراء انتخابات رئاسية في 26 أبريل/ نيسان 2020 في الجزء التركي من الجزيرة -وقد تم تأجيلها إلى أجل غير مسمى بسبب فيروس كورونا. يترشح الرئيس الحالي مصطفى ايكينجي لعهدة أخرى، وسيواجه رئيس وزرائه آرسين تتار، المدعوم من تركيا.

في الواقع يشكل هذا الاقتراع نوعا من الاستفتاء. إما أن يقوم القبارصة الأتراك بتزكية فكرة أن الجزء التركي من الجزيرة هو -وفق خطاب أنقرة- “طفل تركيا” وأن هذه الأخيرة هي “أمه”، وإما سيؤيدون نظرة توحيد الجزيرة كما يتوخاها الرئيس المترشح.

ليس هذا الانتخاب روتينا بل رهانا رئيسيا بالنسبة لأنقرة. فعلى الرغم من حملة إعلامية تركية عنيفة وكلام حاد من طرف السلطات التركية ضده، كرّر ايكينجي دعوته إلى هوية مشتركة للجزيرة وانضمامها -بعد توحيدها- بصفة كلية إلى الاتحاد الأوروبي، وهو أمر واقع بالنسبة للجزء اليوناني وقانوني بالنسبة للجزء التركي. وإذا نجح في ذلك سيقلل بصفة هائلة من إمكانية تركيا في الوصول إلى الثروة الغازية المحيطة بالجزيرة والتي قدرتها هيئة مسح جيولوجي أمريكية بـ5765 مليار متر مكعب.

كانت جمهورية قبرص أيضا إحدى أكبر المستفيدين من الاكتشافات البحرية في بداية الألفية الثانية. وقد سمح الحقل الغازي “آفروديت” الذي اكتشفته الشركة الأمريكية “نوبل إينرجي” في 2011 بزيادة احتياطاتها المقدرة بـ7 مليار مليار متر مكعب، أي بمداخيل تزيد عن 8 مليارات يورو خلال 18 سنة.

ومنذ ذلك الحين بدأت “نوبل إينرجي” في حفر بئر جديدة وكل شيء يدعو إلى أمل اكتشاف كمية من الغاز تسمح بالوصول إلى 30 أو 40 مليار متر مكعب في المنطقة الاقتصادية الخالصة للجزيرة. ومن جهة أخرى أوكلت السلطات القبرصية اليونانية كتل استكشاف للشركة الإيطالية “إيني” وللشركة الكورية للغاز وشركة “توتال” الفرنسية. الاكتشاف الآخر الوارد جدا يتمثل في حقل “أفروديت 2” في الجانب الإسرائيلي من الحدود البحرية مع قبرص. وإذا ما تأكد أن هذا الحقل يأتي من نفس التكوين الجيولوجي لحقل “أفروديت” فهذا من شأنه دفع إسرائيل وقبرص إلى تعزيز علاقتهما الثنائية قصد الاستغلال الأمثل لهذه الطاقة الأحفورية في المناطق الاقتصادية الخالصة لكل منهما.

في 2018 اتفقت هاتان الدولتان اللتان التحقت بهما كل من اليونان وإيطاليا وبدعم من الولايات المتحدة على مشروع “إيست ميد” (شرق المتوسط) لبناء خط أنابيب غاز طوله 2200 كلم لنقل الغاز الإسرائيلي نحو اليونان وإيطاليا حيث يمكن إيصاله إلى أوروبا. ومن المتوقع أن يربط خط الأنابيب هذا بين حقول “ليفياثان” و“أفروديت”، وهما على التوالي أكبر حقلين في إسرائيل وقبرص.

ولكن في مواجهة هذا المشروع، سبق وقامت روسيا وتركيا بعمل مضاد من خلال تدشين خط أنابيب الغاز “توركستريم” في 8 يناير/كانون الثاني 2020، البالغ طوله أكثر من 900 كلم والذي سينقل الغاز الروسي إلى تركيا ثم إلى أوروبا. وقد بدأ بالفعل “توركستريم” بتزويد بلغاريا وسيتم تمديده إلى صربيا والمجر. ومع ذلك تواصل تركيا نداءها بأن تكون قضية الموارد الطبيعية البحرية جزءا من اتفاق شامل مع قبرص.

دبلوماسية المدافع

كما أن أنقرة قلقة أيضا من الدور المتزايد للأمريكيين. ففي 7 نوفمبر/تشرين الثاني 2019 وقع وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو ووزير الخارجية القبرصي اليوناني نيكوس كريستودوليديس على إعلان نوايا من أجل تعزيز وتطوير “العلاقات الأمنية الثنائية، والأمن في البحر وعلى الحدود، وكذلك تعزيز الاستقرار الإقليمي”. ثم في 29 نوفمبر/تشرين الثاني، قامت سفيرة الولايات المتحدة بقبرص كاتلين دوهيرتي ووزيرا الطاقة والشؤون الخارجية القبرصيان جورج لاكوتريبيس ونيكوس كريستودوليديس، بزيارة سفينة “إيكسون موبيل” التي تقوم بالحفر على الرغم من احتجاجات أنقرة.

وقبل هذه اللقاءات قررت حكومات كل من قبرص ومصر واليونان وإسرائيل وإيطاليا والأردن وفلسطين في يناير/كانون الثاني 2019 إنشاء “منتدى الغاز في شرق المتوسط” من أجل التحكم في بروز سوق للغاز في المنطقة. ولم تتم دعوة تركيا ولبنان وسوريا إلى هذا المنتدى. وقد اجتمع منتدى الغاز لشرق المتوسط مرة أخرى في يوليو/تموز 2019 حيث استقبل الولايات المتحدة كإحدى الدول المؤسسة في حين قام الاتحاد الأوروبي في نفس الوقت بإعلان دعمه لليونان وقبرص ضد تركيا وأدان الأعمال التركية في شرق المتوسط.

من جانبه حذر رئيس البرلمان التركي بن علي يلدريم “الشركات الكبرى التي تقوم ببحوث [بأن] عليها أن تعرف حدودها […] سترد تركيا على كل محاولات تهدد مصالحها المشروعة في شرق البحر الأبيض المتوسط وحقوق الجمهورية التركية لشمال قبرص. وستقوم بكل ما يتعين فعله […] يجب أن يعلم الجميع أننا لن نتخلى عن شبر واحد من حقوقنا ومصالحنا المشروعة في البحار.”

منذ اكتشاف حقل “أفروديت”، واصلت الإدارة القبرصية اليونانية تكثيف أنشطة التنقيب في شرق المتوسط. وردّت تركيا في فبراير/شباط 2018 بإرسال سفن حربية لمنع شركة “إيني” من الحفر قبالة الساحل القبرصي، وبعد أشهر من ذلك، أرسلت سفينة تنقيب سميت بـ“الفاتح” -نسبة إلى السلطان محمد الفاتح قاهر الامبراطورية البيزنطية- مخفورة بسفن حربية.

وفي إجراء غير مفاجئ ومدعم لجمهورية قبرص في نزاعاتها الإقليمية والبحرية مع تركيا، قرر الكونغرس الأمريكي في ديسمبر/ كانون الأول 2019 رفع حظر بيع الأسلحة إلى نيقوسيا الذي يعود إلى 1987. وأدان الكونغرس أنقرة بخصوص نشاطات تنقيبها حول الجزيرة، مما أضاف خلافا جديدا إلى تلك الموجودة في العلاقات التركية الأمريكية. من جهتها ووفق وزارة الدفاع القبرصية، تحصلت نيقوسيا على أربع طائرات إسرائيلية بدون طيار (50 ألف دولار للواحدة) وسيسمح ذلك لجمهورية قبرص بتحسين مراقبة منطقتها الاقتصادية الخالصة حيث تقوم شركات دولية بعمليات بحث وتنقيب. وحسب مُصنِّعهم الإسرائيلي “آيرونوتيكس غروب”، فإن هذه الطائرات بدون طيار هي الأفضل أداء من نوعها -ربما كنظيرتها التركية “بير قدار”.

يعد هذا الملف ذو أهمية قصوى بالنسبة لتركيا. فمنذ 2013، أصبح الغاز أول مصدر طاقة مستهلكة في تركيا. وتشكل الجزر اليونانية المتعددة والموجودة على مقربة من سواحلها حاجزا لتحديد منطقة اقتصادية خالصة كبيرة لها. وقصد تجاوز هذا الضعف، تبرز تركيا وجودها في الجزء الشمالي من قبرص، بما في ذلك من خلال إرسال قوات إضافية ـ كما تحركت لتقديم المساعدة لحكومة الوفاق الوطني الليبية ورئيسها فايز السراج الذي يواجه قوات المشير خليفة حفتر. وفي 27 نوفمبر/ تشرين الثاني 2019، واستنادا منهما إلى كون منطقة البحر المتوسط بقيت لمدة طويلة غير محددة قانونيا، قام الرئيسان التركي والليبي بإعادة رسم الحدود البحرية، مع إدماج المناطق التي تطالب بها كل من قبرص واليونان بحجة أنها تتجاوز الجرف القاري الليبي. وكون أن كتل التنقيب والاستكشاف القبرصية للغاز توجد جنوب جمهورية قبرص فهذا يعد طريقة لكي يكون لتركيا أمل في الوصول إلى جزء من كعكة محتملة.

يعود تصميم أنقرة على تعديل المنطقة الاقتصادية الخالصة الليبية إلى ثراء باطن البحر، وقد تم في السنوات الأخيرة اكتشاف حقول غازية هامة فيه. إذ هناك حديث عن 6 مليارات متر مكعب من الغاز بالنسبة لحقل “كاليبسو” وحده، أي ما يساوي 10 سنوات من الإنتاج الروسي. في وقت كانت فيه أنقرة توقع على اتفاق بخصوص الحدود البحرية مع طرابلس، أجبرت البحرية التركية سفينة بحث إسرائيلية على المغادرة وإنهاء حملة تنقيب في المياه الإقليمية القبرصية على الرغم من أن ذلك تم بالاتفاق مع نيقوسيا.

لم تكن هناك صعوبة لليونانيين والقبارصة اليونان -الذين لهم صوتان في الاتحاد الأوروبي ويحظيان بدعم واشنطن- في الحصول على دعم الاتحاد الأوروبي ضد تركيا. وقد فرض المجلس الأوروبي (الهيئة التي تجمع رؤساء حكومات الاتحاد الأوروبي) عقوبات مالية على تركيا بعد عمليات حفر اعتبرت غير قانونية في قاع البحر قبالة قبرص.

في هذا الإطار، كما ورد في تقرير خاص للاتحاد الأوروبي، سيتم إعادة النظر بالنسبة لسنة 2020 في المساعدة السابقة لانضمام تركيا للاتحاد بقيمة 800 مليون يورو (و9 مليارات بين 2007 و2020). وقد أطلقت أنقرة التي بدت أنها تتجاهل هذه القرارات أول عمليات تنقيب لها في المياه الإقليمية القبرصية بإرسالها في يناير/كانون الثاني 2020 سفينة الحفر “يافوز”. كما أعلنت عن مشروع إجراء خمس عمليات تنقيب بحرية “في مياه الجمهورية التركية لشمال قبرص”، أي بعبارة أخرى في المياه الإقليمية الرسمية لقبرص.

وفي 27 يناير/كانون الثاني 2020 أكد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون دعمه لليونان بإرسال وشيك لسفن بحرية إلى شرق المتوسط يكون لها دور “ضمان السلام”. ومؤخرا بينما طلبت تركيا من أثينا تجريد 16 جزيرة في بحر إيجة من السلاح، صرّح الوزير اليوناني للدفاع نيكوس بانايوتوبولوس بأن القوات المسلحة “تدرس جميع السيناريوهات بما في ذلك سيناريو الاشتباك العسكري”.

يبقى النزاع المسلح مستبعدا كون اليونان وتركيا عضوان في الحلف الأطلسي، ولكن ذكره يكفي ليشهد أن تركيا باتت هنا كما في أماكن أخرى معزولة بشكل متزايد على المستوى الدولي. وفي ظرف يتميز بفائض في الإنتاج وانخفاض في الطلب بسبب الاحترار العالمي ونتيجة لثمن بيعه الزهيد (في بداية فبراير/شباط كان سعر مليون وحدة حرارية بريطانية لا يصل إلى دولارين في الولايات المتحدة)، تتسم كل هذه المناورات بخصوص الغاز بطابع جيوسياسي أكبر منه اقتصادي أو تجاري.

*ترجم هذا المقال من الفرنسية حميد العربي ونُشر  هنا على Orient XXI. 

 

سوريا في أسبوع 30 آذار/مارس- 6 نيسان/ابريل

سوريا في أسبوع 30 آذار/مارس- 6 نيسان/ابريل

الجبل والسهل

5  نيسان/ابريل

تصاعد توتر «الجبل والسهل» في الجنوب السوري، بتبادل الخطف في مناطق بالسويداء، وأخرى في درعا، وسط جهود روسية لضبط هذا الوضع، بالتزامن مع استمرار الفلتان الأمني في درعا.

وأفاد «المرصد السوري لحقوق الإنسان» بأن مسلحين من بصر الحرير بريف درعا الشرقي «عمدوا إلى اختطاف حافلة تقل مجندين في قوات النظام من أبناء محافظة السويداء، واقتادوهم إلى جهة مجهولة»، وأن الخاطفين قالوا بأن العملية «رداً على اختطاف أحد أبناء البلدة من قبل مسلحين في السويداء».

جاء هذا في وقت يسود التوتر بين مناطق عدة بالريف الشرقي لدرعا ومناطق في ريف السويداء عند الحدود الإدارية بين المحافظتين، وسط استنفار من قبل الطرفين ومخاوف شعبية من تصاعد الأحداث أكثر، وتحولها لقتال طويل الأمد، بالتزامن مع مساعٍ من قبل وجهاء المناطق للتهدئة واحتواء الموقف. كما تواصل «الفلتان الأمني» في محافظة درعا الخاضعة لسيطرة قوات النظام والميليشيات الموالية، حسب «المرصد».

عزل “السيدة زينب

4  نيسان/ابريل

تساءل أهالٍ في دمشق عن مدى قدرة الحكومة على تنفيذ قرارها عزل «السيدة زينب» تحسباً لتفشي فيروس كورونا، كونها منطقة أساسية للنفوذ الإيراني في سوريا.

وأكدت مصادر أهلية في «السيدة زينب» تواصل توافد أشخاص إيرانيين وعراقيين ولبنانيين إلى المنطقة بـ«شكل كثيف». ومنذ بداية الحرب في سوريا، اتخذت إيران من مسألة «الدفاع عن المقام» حجة لجذب المسلحين منها، ومن أصقاع العالم، إلى سوريا، إلى أن أصبحت تنتشر في سوريا ميليشيات إيرانية ومحلية وأجنبية تابعة لطهران، يزيد عددها على 50 فصيلاً، ويتجاوز عدد مسلحيها 60 ألفاً.

كانت الحكومة قد أعلنت ارتفاع العدد المصابين بـ«كورونا» إلى 16 إصابة، توفيت حالتان منها. كما أعلنت التوسع في فرض حظر التجول يومي الجمعة والسبت، ليمتد من الساعة 12 ظهراً حتى السادسة من صباح اليوم التالي، وبقائه من السادسة مساء حتى السادسة صباحاً في بقية الأيام. وشمل الحظر الكلي منع التجول على الكورنيش البحري في طرطوس، بدءاً من الثانية ظهراً من يوم الخميس حتى إشعار آخر، بينما منعت محافظة حلب التجول في منطقة كورنيش الإذاعة في المدينة.

ومساء الخميس، أعلنت الحكومة: «في إطار الإجراءات المتخذة لتقييد الحركة في المناطق ذات الكثافة السكانية العالية، حفاظاً على السلامة العامة، درس الفريق الحكومي المعني باستراتيجية التصدي لوباء كورونا آلية عزل تدريجية لمناطق التجمعات السكانية المكتظة، وتقرر عزل منطقة السيدة زينب»، وذلك بعد يوم واحد من فرضها أول حالة عزل صحي على بلدة منين، الواقعة في ريف دمشق الشمالي الغربي، إثر وفاة امرأة بـ«كورونا».

وقبل بداية الحرب في سوريا التي دخلت عامها العاشر، تتخذ إيران من منطقة «السيدة زينب» معقلاً رئيسياً بسبب وجود مزار «السيدة زينب» الذي يؤمه آلاف الزوار الشيعة من إيران والعراق ولبنان وأفغانستان وباكستان.

روسيا مسؤولة

3  نيسان/ابريل

انتقد فصيل محلي في السويداء ذات الغالبية الدرزية، دمشق بسبب تقصد حصول «فراغ أمني» في المدينة، وموسكو بعدم منع فصيل في درعا موالٍ لها بتصعيد التوتر الأخير في جنوب سوريا.

وحملت حركة «رجال الكرامة» في السويداء، وهي أكبر تشكيلات الفصائل المحلية في المدينة، القوات الروسية مسؤولية الأحداث الأخيرة التي حصلت في بلدة القريا في ريف السويداء التي راح ضحيتها كثير من القتلى والجرحى. وقالت إن «الفيلق الخامس تشكيل من مرتبات الجيش، ويتبع مباشرة للقوات الروسية في سوريا، وعلى هذا فإن المسؤولية المباشرة عن المجزرة التي ارتكبها الفيلق التابع لها تتحملها القوات الروسية، ويقع على عاتقها محاسبة المرتكبين، بدءاً من حليفها أحمد العودة وصولاً إلى عناصره الذين ارتكبوا المجزرة بحق المدنيين». وعزت «مسؤولية الفراغ الأمني في محافظة السويداء بشكل كامل للجهات الحكومية» في دمشق، قائلة إن «الضيوف من الوافدين من كل المحافظات السورية، خصوصاً من سهل حوران، هم أهلنا، وقد أثبت أهالي الجبل خلال تسع سنوات من أمد الصراع أنهم على عهد سلفهم الصالح، يُكرمون ضيوفهم وجيرانهم على السواء».

 6 أسباب لتسجيل عدد أدنى من القتلى

2  نيسان/ابريل

سجل الشهر الماضي أدنى حصيلة للقتلى في سوريا منذ 9 سنوات. «فقط 103» مدنيين قُتلوا، نصفهم جراء القصف والغارات. أما الباقون، فقتلوا بانفجارات وألغام واغتيالات.

لا يعود انخفاض عدد القتلى (وهو ليس قليلاً في معايير دول أخرى)، إلى نصف عدد ضحايا فبراير (شباط)، إلى وجود قرار ذاتي صرف بوقف البحث عن «انتصار عسكري» بقدر ما هو القلق من «انتشار نار (كورونا) في الهشيم السوري». ويمكن الحديث عن ستة أسباب متداخلة:

الأول، الهدنة التي أبرمها الرئيسان الروسي فلاديمير بوتين والتركي رجب طيب إردوغان في موسكو، 5 مارس (آذار) الماضي.

الثاني، التدخل الروسي، إذ إن الرئيس بوتين أوفد وزير دفاعه سيرغي شويغو إلى دمشق، بعد أسبوع من اتفاق موسكو. الرسالة الروسية إلى القيادة السورية، هي ضرورة التزامها الاتفاق وعدم شن عمليات عسكرية في إدلب.

الثالث، الدعوة الأممية لوقف النار، إذ إن الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش وجّه نداء عالمياً لـ«وقف نار شامل» في جبهات الصراع، أعقبه المبعوث الأممي إلى سوريا غير بيدرسن بدعوة الأطراف السورية إلى هدنة شاملة وفورية، بهدف التفرُّغ إلى العدو المشترك المتمثل بـ«وباء كورونا».

الرابع، فيروس «كورونا»، ذلك أن الخوف المضمر والمعلن من هذا الوباء، لأن سوريا «عرضة أكثر من غيرها بكثير لأضراره»، دفع الأطراف المحلية والخارجية إلى إعطاء أولوية لمحاربته في الوقت الراهن.

الخامس، «منع الاحتكاك»، ذلك أن روسيا وأميركا لا تزالان ملتزمتين باتفاق عسكري بينهما يمنع الصدام بين جيشيهما في شرق الفرات.

سادساً، القوى المحلية، اتخذت القوى المحلية في «مناطق النفوذ» الثلاث، مناطق الحكومة وفصائل إدلب والإدارة الكردية، مبادرات لحظر التجول وتقييد الحركة وتجميد خطوط التماس تحسباً لتفشي «كورونا».

قصف إسرائيلي جديد

1  نيسان/ابريل

أفادت مصادر في تل أبيب، بأن الغارات الإسرائيلية التي استهدفت قاعدة الشعيرات قرب حمص وسط سوريا مساء أول من أمس، كانت بمثابة رسالة تذكير لإيران بـ«الخطوط الحمراء» وعدم استغلال انشغال العالم بوباء «كورونا» لتعزيز وجودها العسكري في سوريا.

وكشفت مصادر في المعارضة السورية، عن أن القصف طال اجتماعاً رفيع المستوى لضباط من الجيشين السوري والإيراني، و«فيلق القدس» التابع لـ«الحرس» الإيراني.

من جانبه، أفاد «المرصد السوري لحقوق الإنسان»، بأن «قصفاً نفّذته طائرات حربية إسرائيلية كانت تحلّق في أجواء لبنان، استهدفت بأكثر من 8 صواريخ، مطار الشعيرات في حمص، في حين سُمع دوي ناتج من محاولة الدفاعات الجوية السورية التصدي لتلك الضربات».

ولم تنف الجهات الرسمية في تل أبيب أو تؤكد قصف القاعدة، لكن مصادر أمنية عدّت القصف رسالة تحذير موجهة إلى طهران. وقالت المصادر، إن طهران «لا تكفّ عن محاولاتها لتعزيز وجودها في سوريا وتنفيذ خطتها لإنشاء ممر بري مباشر من إيران إلى البحر المتوسط عن طريق العراق وسوريا ولبنان وتكريس اقتراب ميليشياتها من الحدود الإسرائيلية».

2100   آلية

31  آذار/مارس

واصل الجيش التركي إرسال التعزيزات إلى نقاط المراقبة التي أقامها في مناطق خفض التصعيد في إدلب وشمال غربي سوريا.

ودخل رتل عسكري تركي جديد يتألف من 25 آلية عبر معبر كفرلوسين على الحدود السورية – التركية بريف إدلب الشمالي واتجه إلى محافظة إدلب، وبدأ نشره في نقاط المراقبة، أمس (الأربعاء).

وارتفع عدد الآليات التركية التي دخلت الأراضي السورية منذ بدء وقف إطلاق النار بموجب اتفاق موسكو في السادس من شهر مارس (آذار) الماضي إلى 2100 آلية، بالإضافة لآلاف الجنود.

وأحصى المرصد السوري لحقوق الإنسان الشاحنات والآليات العسكرية التركية التي دخلت منطقة «خفض التصعيد» في إدلب خلال الفترة الممتدة من الثاني من فبراير (شباط) الماضي حتى أمس، قائلاً إن العدد بلغ أكثر من 5515 شاحنة تحمل دبابات وناقلات جند ومدرعات وكبائن حراسة متنقلة مضادة للرصاص ورادارات عسكرية، فيما بلغ عدد الجنود الأتراك الذين انتشروا في إدلب وحلب خلال تلك الفترة نحو 10 آلاف و250 جندياً.

إطلاق المعتقلين

1  نيسان/ابريل

حث وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو النظام السوري على الإفراج عن جميع السوريين المحتجزين تعسفاً والمواطنين الأميركيين وسط مخاوف من تفشي وباء «كورونا» وانتشاره في سوريا. وكرر بومبيو في لقاء مع الصحافيين مساء الثلاثاء مطالب الرئيس دونالد ترمب بالإفراج عن الصحافي الأميركي أوستن تيس المحتجز في سوريا منذ عام 2012.

ورداً على سؤال حول إمكانية رفع أو تخفيف العقوبات على بعض الدول ومنها سوريا في ظل دعوات أممية لتخفيفها في ظل الانتشار المخيف لوباء كورونا، قال بومبيو: «إننا نعيد تقييم كل سياستنا بما في ذلك سياسة العقوبات، وإذا استنتجنا أنه من مصلحة الشعب الأميركي تغيير أي من هذه السياسات فسوف نقوم بذلك».

وكرر بومبيو أن العقوبات لا تعيق وصول المساعدات الإنسانية، قائلاً: «تعمل الولايات المتحدة في كل البلدان الخاضعة للعقوبات لمحاولة المساعدة في حصولها على المساعدات الإنسانية ليس فقط من الولايات المتحدة وإنما من الدول الأخرى أيضاً»

كانت دمشق قد طالبت الولايات المتحدة برفع العقوبات المفروضة عليها للتخفيف من وطأة تفشي وباء «كورونا». وتزامن الطلب السوري مع المطالب الأميركية بالإفراج عن السجناء الأميركيين في سوريا، إضافة إلى دعوات أممية وضغوط صينية وروسية لرفع العقوبات على النظام السوري باعتبارها تعيق قدرة النظام في مكافحة الفيروس.

خدام “يحكي” بموته

31  آذار /مارس

تحكي مسيرة عبد الحليم خدام في حياته والمناصب التي تولاها في دمشق إلى وفاته في باريس، أمس، جانباً مهماً من تاريخ سوريا في العقود الأخيرة.

بدأ حياته «بعثياً» ثم عُيّن محافظاً لحماة، لحظة قصفها، وللقنيطرة وقت احتلالها. كان قرب «صديقه» حافظ الأسد في مرضه وعيّنه «نائب السيد الرئيس» بعد شفائه. أشرف على «ملف لبنان» وشاهد الخروج منه. أمضى السنوات الأخيرة «معارضاً» في المنفى. كان مريضاً مثل بلاده التي تركها.

ولد خدام عام 1932 في بانياس ودرس في جامعة دمشق، حيث انضم إلى «حزب البعث» الذي أصبح الحاكم بعد انقلاب مارس (آذار) 1963.

وخلال الجامعة، أصبح رفيقاً «بعثياً» و«صديقاً» للأسد الطيار في سلاح الجو. وبعد تسلم الأسد الحكم في 1970، أصبح خدام في 1975 الذي كان تسلم الخارجية «المبعوث الخاص» للأسد في لبنان.

خلال مؤتمر «البعث» في 2005، استقال خدام من نيابة الرئيس. وبعدها، غادر إلى باريس بعد اغتيال رئيس وزراء لبنان رفيق الحريري. وفي نهاية العام، أعلن انشقاقه عن النظام.

ولم يلعب دوراً بارزاً بعد انتفاضة 2011. وقال مقربون منه، إنه عانى من أمراض كثيرة إلى أن توفي بسكتة قلبية فجر أمس.

أول وفاة

31  آذار /مارس

أشارت مصادر سورية معارضة إلى «تخبط» الحكومة السورية إثر إعلانها عن وفاة أول مصابة بفيروس «كورونا»، مساء أول أمس، بعد دخولها المستشفى، حيث تبين بعد إجراء الاختبار أنها كانت تحمل الفيروس.

وقالت المصادر إن بيان وزارة الصحة حمل «الكثير من الأسئلة والاستهجان والسخرية، لما تضمنه من تناقضات غرائبية، حيث أفاد بوفاة سيدة فور دخولها إلى المشفى بحالة إسعاف وتبين بعد إجراء الاختبار أنها حاملة فيروس كورونا. كما أعلنت وزارة الصحة عن ارتفاع عدد المصابين بالفيروس إلى 9 إصابات قالت إنهم يخضعون للعلاج». وقال خبير معارض في العاصمة السورية أمس: «كيف ظهرت نتيجة التحليل فوراً علما بأن نتائج تحليل فيروس كورونا تستغرق يومين بأقل تقدير، وفق ما سبق وأوضحته وزارة الصحة. بالإضافة إلى أسئلة أخرى كثيرة حول هوية السيدة المتوفاة ومكان إقامتها، ومصدر إصابتها».

ولوحظ أن «ارتباك» أداء الحكومة لم يساهم في «تخفيف الازدحام والإقبال على شراء الحاجات بل على العكس تماماً، حيث زاد الازدحام، لا سيما أن قرار منع التجول الليلي الذي عززته حالة الازدحام اليومي في محلات الأغذية وأمام الأفران والصرافات الآلية»، حسب قول معارض. كما أدى أيضاً إلى ازدحام حركة السير في الشوارع قبيل حلول موعد الحظر مساء.

وأظهر فيديو تم تصويره في سوق شعبية بحي الزهور حشود الناس وهم يتدافعون بفوضى عارمة للحصول على الخبز من رجل يقف على السيارة يقوم برميه إليهم.

فقراء دمشق لا يمتلكون حتى خيار الخوف من كورونا

فقراء دمشق لا يمتلكون حتى خيار الخوف من كورونا

* تُنشر هذه المادة ضمن ملف صالون سوريا “الحرب على كورونا: معركة جديدة مصيرية للسوريين\ات

على الرغم من الإجراءات الحكومية، التي اتُخذت للوقاية من انتشار وباء كورونا، كإغلاق المدارس والجامعات، وتعليق الدوام الرسمي لمعظم الموظفين، وإيقاف حركة المواصلات العامة، وإغلاق المطاعم والمقاهي والأسواق التجارية، وحظر التجول المسائي، ومنع التنقل بين المحافظات، وعلى الرغم من إعلان الأمم المتحدة بأن الوضع في سوريا قد يكون كارثياً، وارتفاع عدد المصابين بكورونا إلى نحو 10حالات بينهم حالتي وفاة، لا يكترث كثيرٌ من الناس في دمشق بكل ما ذكر، حيث نجد معظم الشوارع، خلال فترة النهار، مليئة بالمارة، تعج بضجيج السيارات وأصوات الباعة المتجولين.

حين أطل من شرفتي وأرى حركة الناس في الشارع، أتساءل: ألا يخشى هؤلاء البشر على حياتهم؟، ألا يرعبهم كورونا؟، لماذا لا يحجرون أنفسهم في بيوتهم أسوةً بمعظم شعوب العالم؟،  فتأتيني الإجابة من وجوههم المنهكة ومن خطاهم المتهالكة. ببساطة هم ليسوا كشعوب العالم ولا يشبهون سوى بلادهم التي مازالت ترزخ تحت وطأة وباء الحرب الذي يحاصرهم منذ تسعة أعوامٍ اختبروا خلالها أنواعاً لا تحصى من الموت.

الفقراء لا يملكون حتى خيار الخوف من كورونا

في الساعة السابعة صباحاً، يكنِّس أبو عبدالله الشارع أمام بعض البقاليات ومحلات الخضار، التي نجت من قرار الإغلاق، ثم ينقل القمامة بكفيه إلى العربة. لا يرتدي كمامة أو قفازات طبية، فهو لا يكترث للوباء: “تسع سنوات ونحن نلعب مع الموت، نجونا منه أكثر من مرة، لن أتوقع أن رب العالمين سيقتلنا بفايروسٍ غير مرئي”. أبو عبدالله ليس موظفاَ في البلدية وإنما يزاول عمله هذا مقابل بعض المال الذي يجنيه من أصحاب تلك المحلات، إلى جانب بقايا الخضار والفاكهة والخبز اليابس التي يهبونه إياها دون مقابل.

وليس ببعيدٍ عن أبو أحمد، وأمام أحد أكشاك معتمدي بيع الخبز الحكومي يتجمهر عشرات الناس في ازدحامٍ مخيفٍ. نظرة سريعة على هيئاتهم ستكشف أن معظمهم ينتمي للفقراء والمعدمين.  أوقفتُ سيدةً كانت خارجة لتوها من قلب ذلك الازدحام، وقد نزعت، بتأففٍ وغضبٍ، شالها الذي غطت به وجهها كبديلٍ عن الكمامة، وسألتها عن خوفها من خطر التواجد في الأمكنة المزدحمة فأجابت لاهثةً وبكثيرٍ من القهر:” لو كان باستطاعتي شراء الخبز السياحي لما أتيت إلى هنا، فسعر ربطة ذلك الخبز (700 ليرة)  يكفيني وأولادي ثمن وجبة طعام. نحن الفقراء ممنوعٌ علينا أن نخاف من الوباء”.

الطفل عدنان، عامل توصيل الطلبات في سوبرماركت، هو أيضاً لا يكترث للكورونا. يرتدي كمامته ويواصل عمله مبتسماً، ليصعد كل يومٍ عشرات البنايات محملاً بطلبات الزبائن الذين اختاروا البقاء في بيوتهم حرصاً على سلامتهم، وهو خيار ليس بمقدور عدنان وأخيه -الذي يعمل في عملٍ مشابه- اتخاذه، فهما المعيلان الوحيدان لعائلتهما النازحة والتي تعاني ظروفاً معيشية قاهرة.

وخلف عربةٍ صغيرة لبيع الفريز والعوجة يقف أبو غسان، مرتدياً كمامته وقفازاته لينادي على بضاعته القليلة. البائع مقتنعٌ بأهمية وضرورة الحجر الصحي ولكنه لا يستطيع تطبيق ذلك :” أتمنى أن أجلس في بيتي لأرتاح من كابوس الوباء الذي يلاحقني طوال عملي، حيث أضطر للاحتكاك مع عشرات الزبائن، ولكن إن جلست في البيت، ربما أنجو من الكورونا ولكني قد لا أنجو من الجوع”.

قبل أيامٍ، وبالتزامن مع حملة “خليك بالبيت” وتنفيذ قرار حظر التجول المسائي، وفي مشهدٍ درامي، اكتظت معظم المحامص، التي مررت بجانبها، بالزبائن الذين كانوا يشترون مؤونة وفيرة، من المكسرات والموالح وغير ذلك، تكفيهم أياماً وربما أسابيع، وذلك استعداداً لتطبيق خيار الحجر المنزلي. مقابل إحدى تلك المحامص وقف متسولٌ عجوزٌ يستجدي المارة والخارجين بصحبة أكياسهم، منادياً: “ساعدوني الله يبعد عنكن الكورونا”، وعلى بعد أمتارٍ منه كان طفلٌ ينام على الرصيف بأسماله البالية غير آبهٍ بالوباء الذي يرعب العالم.

كورونا يهدد مصدر رزق الفقراء

 في إحدى ساحات مدينة جرمانا يقف سائق التاكسي أبو راشد لأكثر من ساعتين، منتظراً  ركاباً، باتوا شبه معدومين، كي يصعدوا إلى سيارته التي يتكفل بتعقيمها عدة مراتٍ في اليوم. يشتكي السائق واقع حاله: ” تضرر عملنا بعد قرار إغلاق المطاعم وبعض الأسواق والمحلات التجارية حيث شُلت حركة الناس بشكلٍ كبيرٍ، كما أن الرعب قد تسلل لقلوبهم فباتوا يخافون من الصعود معنا خشية احتمال إصابتهم بالفايروس”. ويضيف :” أدفع لصاحب التاكسي مبلغاً شهرياً لقاء استثمارها، ونتيجة حظر التجول المسائي تراجعت ساعات عملي ما قد يجعلني عاجزاً عن دفع ذلك المبلغ”.

في ساحة أخرى يتجمع عدد من الرجال الذين يعملون في مهنة العتالة ونقل الأثاث ومواد البناء. تحدق وجوههم، الطافحة بمعالم القهر والوجع، في كل الاتجاهات علَّها تلتقط أحداً يطلبهم في عملٍ ما.

يحدثني أبو ياسر أحد أولئك الرجال عن واقع عملهم خلال أزمة الكورونا: ” قبل يومين قمت بنقل أربعة أكياس رمل وكيسيْ إسمنت إلى شقةٍ في الطابق الخامس لقاء ثلاثة آلاف ليرة، وكان هذا آخر عملٍ قمت به وقد كنت محظوظاً به مقارنة بمعظم العتالين الذين لم يحظوا بأي عملٍ يذكر منذ عدة أيام”. مضيفاً :”عملنا هذا يؤمن قوتنا يوماً بيوم، وقد أصبحنا الآن مهددين بخسارته، إذ لا أحد سيحتاج لجهودنا في مثل هذه الظروف؟”.

وعند الظهيرة تصدح في الشارع عربة بائع البوشار بأغنية “طير وفرقع يا بوشار”، ولكن دون أطفالٍ يتحلقون حولها كما اعتاد البائع الذي يقول:” في السابق كنت أحقق مبيعاتٍ كبيرة، خاصة خلال عودة الأطفال من مدارسهم، وبعد أزمة الكورونا انخفضت مبيعاتي لأكثر من 70%  نتيجة انحسار وجودهم في الشوارع، وأخشى أن يسوء الوضع أكثر فأضطر لإيقاف عملي الذي يشكل  مصدر رزقي الوحيد”.

 وحدهم الفقراء يدفعون ثمن القرارات الوقائية

نتيجة قرارات الإغلاق وإيقاف حركة المواصلات العامة تحول آلاف الناس إلى عاطلين عن العمل، وباتوا مهددين بغدٍ مخيفٍ ومجهولٍ، خاصة من ليس لديهم أي مصدرٍ مالي آخر أو أي داعم يلجؤون إليه.

  لم يفرح الشاب شادي بمقهاه الجديد الذي أغلقه بعد أسبوعٍ من افتتاحه، حيث يقول: “لنحو شهرين وأنا أستعد للافتتاح. بشق النفس جهّزت المكان وبذلت جهداً في تصميم ديكوراته وقد استدنت لأجل ذلك نحو مليون ليرة، كما أن معظم المستلزمات التي أحضرتها للمقهى لم أسدد ثمنها بعد”. ويضيف بقهر: “ماذا سأفعل الآن لتعويض خسارتي وكيف سأسدد إيجار المكان؟”، أخشى أن يطول أمر الإغلاق وحظر التجول لأنني حينها قد أموت من القهر وليس من الكورونا”.

ويحدثنا سائق السرفيس أبو عمر عن تداعيات توقفه عن عمله: ” كان السرفيس يؤمن عملاً لثلاثة سائقين فتعتاش منه ثلاث عائلات، وخلال الأيام الماضية تقلص دخلنا لأكثر من النصف، ومع قرار إيقاف حركة المواصلات العامة حُرمت عوائلنا من أي دخلٍ وبتنا مهددين بالعوز والحاجة، ولولا المساعدات المالية التي يمدني بها أخوتي لكنت مهدداً بالجوع بشكلٍ فعلي”.

 معاناة أخرى يعيشها الشاب مهند الذي كان يعمل نادلاً في مطعم حيث يقول” أتفهم مدى أهمية قرار الإغلاق في الحفاظ على السلامة العامة، ولكن بالمقابل، هل سيدفع لي صاحب المطعم أي تعويضٍ يساعدني على تأمين قوت يومي، وهل سيعفيني صاحب البيت الذي أسكنه من دفع إيجاره؟، وهل سأجد من يؤمن أدوية الضغط والسكري لأمي المريضة؟”.

الإجراءات الوقائية تكلف غالياً  

“درهم وقاية خيرٌ من قنطار علاج”. بالرغم من أهمية ذلك المثل إلا أنه لا يناسب الكثير من الناس في سوريا، إذ باتت الوقاية تحتاج لقناطير من المال، نتيجة جشع تجار الأزمات، فقد وصل سعر الكمامة الجيدة إلى 700 ليرة وأكثر، والسعر ذاته لعلبة الكحول الصغيرة، كما طال الغلاء الفاحش أسعار الصابون ومواد التنظيف، وهو ما شكل عبئاً إضافياً على المواطن الذي بالكاد يتمكن من تأمين لقمة عيشه. وفي مفارقة مؤلمة، دفع أبو غسان (بائع الفريز والعوجة) كل ما جناه من عمل يومٍ كاملٍ لشراء كمامته وقفازاته وعلبة معقمٍ صغيرة.

 وتحتاج تقوية الجهاز المناعي لتناول الأغذية الصحية المتنوعة إلى جانب الراحة النفسية والابتعاد عن التوتر، لكن معظم الناس لا يستطيعون إلى ذلك سبيلاً، في ظل تحليق أسعار الفاكهة والخضار، فعلى سبيل المثال،  وصل سعر الموز والتفاح والبصل إلى ألف ليرة، فيما تجاوز سعر الليمون والفليفلة – الغنيين بفيتامين C-  الـ 1600 ليرة. أما اللحوم فقد أصبح شراؤها حلماً بعيد المنال.

ولعل الرجل الذي صادفته في محل بيع الخضار يلخص واقع الحال، فبعد أن كان عازماً على شراء كيلوين من الليمون والبصل، تراجع عن ذلك بغضب حين علم بسعرهما مكتفياً بشراء بصلتين وليمونتين صغيرتين، ومعلقاً بسخرية رمادية: “ينصحوننا بضرورة تقوية مناعتنا !، هل سنقويها بتناول الخبز والعدس والبرغل؟. إن الفقر والألم والحرمان الذي نعيشه كفيلٌ بتدمير جميع أعضاء جسدنا. يبدو أنه ليس لنا من منقذٍ سوى الرعاية الإلهية”.

وعند سؤال أحد اللحامين عن مدى إقبال الناس على ملحمته أجاب متنهداً :”معظم الزبائن يكتفون بشراء مئة أو مئتين غرام لا أكثر، وهناك من يكتفي بشراء العظام لكي يضعها مع الحساء ممنياً نفسه بطعم اللحم، فالناس اليوم بالكاد يستطيعون شراء الخبز والخضراوات الرخيصة”.

مع بداية موعد حظر التجول المسائي وحلول الليل يعم الصمت فجأة، ليخوض الناس معاناة أخرى داخل بيوتهم التي تغيب عنها معظم وسائل الترفيه والتسلية وأبسط مقومات الحياة، نتيجة الأزمات السابقة التي مازالوا يعايشونها، كفقدان الغاز المنزلي والانقطاع الطويل للكهرباء وسوء خدمات الإنترنت التي تعيق إمكانية التواصل الالكتروني الذي بات المتنفس الوحيد أمامهم.

أحدِّق في نوافذ البيوت المعتمة، أفكر بحال ساكنيها. ماذا يفعلون الآن؟ وماذا يخبئ الغد لهم؟، ترى هل يستطيعون إلى النوم سبيلاً في ظل الكوابيس التي تداهمهم في نومهم وصحوهم؟.

كالضوء، لا أفهم سرّ انكساري

كالضوء، لا أفهم سرّ انكساري

ثَمرة ٌ ناضجةٌ

امرأةٌ

بقلبٍ مفتوحٍ

وعينٍ واسعةٍ

،تهزُّ شجرة الروح

:يسقطُ كلُّ شيء أمامها

الحياةُ

العينُ

القلبُ

.الروح

بنظرةٍ طويلةٍ

وابتسامةٍ عميقةٍ

،تُودِّعُ الحياة

تُوَدِّعُ ما رأتْ

.وما سترى

بنظرةٍ عميقةٍ

وابتسامةٍ طويلةٍ

ترى كلَّ ما كانَ

.وما سيكون

ليستْ عرافةً

كانت حدساً

.يضيء

كانت

.ثمرةً ناضجةً

:فهمتْ كلَّ شيء قبل السقوط

عَجْزَ الانسان في أن يكونَ أو لا يكونُ

.عجزَ الطائر في أن يطيرَ أو لا يطير

،يا حياةً

يا تعباً تُتَرْجِمَهُ الصُّورُ

امرأة بقلبٍ مفتوحٍ

وعينٍ واسعةٍ

.رأتْ الحياة صوراً مرسومةً على وجهها


كلما  مرَّ أمل اصطدتهُ

ٍمثل شجرةٍ ميتة

مثل موجةٍ تضرب الشاطئ

مثل غريبةٍ

لا أرى الطفولةَ

ولا ملامحَها

ولا أمراضَها

لا أتذكّر لقاحَ الجُدري

َّولا السل

ولا الحصبةَ

.ولا أيامَ الفِطام

َيائسةٌ مثل ثدي امرأة لم تعرفْ الرضاع

مثل أرملةٍ تنتظُر غبارَ الربيع

.كلما  مرَّ أمل اصطدتهُ


كالضوء، لا أفهمُ سرَّ انكساري

أنا الطالعةُ من رَحِمِ الأرضِ

بدعائي أشقُّ السماء

في سطوعٍ أعلو

.وفي عتمةٍ أغفو

منحتُ الحديقةَ خُضْرتَها

والأشجارَ

،أولادي

.وَرثوا أقوى عظامي

في تصاعدٍ خفيفٍ أقطعُ المسافةَ

،متصالحةً مع نفسي

يتراءى لي

.لكنّني كالضوءِ لا أفهمُ سرَّ انكساري

.أحتاجُ سفراً طويلاً كي أعبرَ المتاهةَ

.من حرير الكلام أرسمُ ألواني

:أسألكَ أيها البحر الصامتُ

لماذا رمتْ أمي ثيابي؟

،لماذا لم تترك سوى صبيةٍ في قلبها يلعبون

حفاة إلا من حبِّها؟

صادقتُ الضياءَ حتى انفجرتْ عيني

صادقتُ البحار فأخذني الموجُ

صادقتُ الصحراء فابتعلني رمْلُها

.صادقتُ البعد فخاطبني: أنت أبعدُ مني


عاريات

يا شجَرةَ الصَّفْصَافِ لماذا تَشْهَقين؟

سألتْها المرأةُ التي تنامُ تحتها

أعاريةٌ أنتِ مثلي بلا أوراق؟

ضحكت الأرض من تحتهما

،وتكوّرت

.سبحان نسائي، خَلَقْتَهُنَّ عارياتٍ


عاشقةً كنت
 

.هبطتُ من القُرَى أجرُّ أحلامي

غيمةٌ مرَّتْ فوق رأسي المجنون

.وأوحت لأقدامي بالهرب

عاشقةً  كنتُ

أرسمُ أحلامي بقَشٍّ

بلا حبرٍ

.ولا قلم

أغيّرُ وجهي مثلَ أوراق الشَّجر

ٍ من خريفٍ إلى ربيع

.إلى مطرٍ

أغيّرُ وجهي

مثل البراري

ٍ من ذئاب

.إلى حجر

بيتي لا يطلُّ على ساحلٍ

بيتي لا يطلّ على غابةٍ

ٍ بيتي ليس في مرتفع

ولا في منخفضٍ

بيتي في مساحة التيه

.تسكنهُ امرأةٌ ضائعةٌ

أعرفُ الحبَّ

يجري كماءِ الجداول

أعرفُ  الحبَّ

.يَعصفُ مثل الرياح

أنامُ مثلَ غيمة ٍفي حُضْنك

تنامُ مثل ريحٍ في عينيَّ

أغرفُ من نَبعِ أيَّامي

ألمُّ الحَصى

.وأشربُ الرمْل

كلَّ يوم أنسجُ امرأةً جديدةً

أقنعها بالحُجَج

أحتال عليها لألف ِغايةٍ

…كي أحيا

سلامٌ على هذه المرأة التي تفتحُ أبوابَ الفجْرِ

وتغلقُ خلفَها أبواب َاللّيل

.وتنتظر أبواب الصَّباح ِكي تمضي إليها

الورودُ التي زرعناها

،تبكي

.يدٌ خائنةٌ مرَّتْ عليها

أخطائي تنام ُعلى كتفي

.كنتُ لها خيرَ صديقٍ

.سأزرع ورداً كثيراً

.سأزرعُ ورداً بعددِ أخطائي

سأحفرُ الأرضَ

أحاول أن أصلَ إلى العمقِ

.ربما أجدُ نَفْسيِ

تتفتحُ الأزهار حولي

بيضاءَ بيضاء

إنّه الربيعُ

سأغنّي أغاني الحب

سأغني أغاني الفقراءِ

سأغنّي أغاني المغدورات

:وأردّدُ

.كل نفس ذائقة الحُبّ

،تعبتِ المرأة التي تسكنُ الأرض

.تعب َنعاسها من الصُّراخ

عندما أستيقظُ أرفع ُستائرَ السَّماء

ألوِّح ُلها من الأرض البعيدة

هي تطل على مَدَاري

.وأنا أدورُ مع كواكبها

يا إلهَ الغَابات

احرسْني من الضوء

.لقد سرقوا عينّي