“!حصار “حلال” وحصار “حرام

“!حصار “حلال” وحصار “حرام

مع تطور نتائج الحصار الاقتصادي الأمريكي على سورية والمسمى بـ ”قانون سيزر“ يتداعى أمامي فيض من قصص الحصار العسكري والاقتصادي الذي فرضه النظام السوري على الغوطة الشرقية، والذي امتد من مايو/أيار 2013 حتى استعادة السيطرة عليها في فبراير/شباط 2018.

لقد كانت أطول فترة حصار شهدها التاريخ الحديث، فطيلة مدة خمس سنوات حوصر ما يزيد عن 350 ألف في منطقة مساحتها تزيد قليلاً على 100 كيلومتر مربع، تعاون على من يعيش فيها تجار الحرب وتناحر على غلالها قادة الفصائل فكان الحال شبيهاً بالوضع الذي يعيشه المواطن السوري في الداخل بعد فرض الحصار الأمريكي عليه.

”قانون سيزر“ الأمريكي لم يوضع لخدمة المعارضة في حربها ضد النظام، بل وضعه المشرع الأمريكي بغاية ”تحسين سلوك النظام“ كما صرّح جيمس جيفري، الممثل الخاص لشؤون سوريا والمبعوث الخاص للتحالف العالمي لهزيمة داعش، في عدة مناسبات. وحتى لو توافق هذا القرار مع مصالح المعارضة السورية ورغبتها في إخراج إيران وحزب الله من سورية إلا أنّ المشروع الأمريكي يضع في اعتباره أمن اسرائيل أكثر من تحقيق العدالة والمحاسبة لصالح المواطن السوري المتضرر الأول والأخير من أفعال النظام ومن قانون سيزر على حد سواء.

القانون الأمريكي ينص فعلياً على الكثير من الأمور البراقة التي تهم المعارضة والمواطن السوري ولكنه لا يضع آليات لتطبيقها، وأكبر مثال على ذلك ما حدث في الأسبوع الماضي حين قامت روسيا والصين بالاعتراض على قانون يسمح بإدخال المساعدات الإنسانية إلى سورية عبر المعابر الواقعة خارج سيطرة النظام في حين أنّ قانون سيزر ينص صراحةً على السماح بمرور المساعدات الإنسانية إلى المناطق المحاصرة من قبل سوريا أو روسيا أو إيران أو أي داعمٍ أجنبي، والسماح بحرية الحركة والمساعدات الطبية، والتوقف عن استهداف المنشآت الطبية والمدارس والمناطق السكنية والتجمعات المدنية والأسواق.

القانون له تأويلات كثيرة ويبدو أن له تطبيقات خارج نصه ”البراق“، بحسب الاقتصادي السوري عارف دليلة، وسيطال في النهاية معيشة المواطن ولقمة عيشه وصحته، ولا يمكن التغاضي عن هذه الآثار الكارثية مهما كانت دوافع معدّي القرار المعلنة بأنها عقابٌ للنظام بسبب جرائمه ورغبةً في فرض التغيير.

يحمل هذا السيف الأمريكي دوافع أمريكية، وقد يتفق معارضو النظام مع بعض النقاط من حيث ابتزاز النظام وداعميه الروس في سورية، ولكن القرار سيبقى مسلطاً على أي نظام بديل قد يأتي من بعده، حتى ولو كان بقيادة المعارضة نفسها، تجربة العراق والعقوبات الأمريكية عليها لا زالت نصب أعيننا ولا فائدة من الدروس ما لم نعتبر منها.

بالرجوع إلى الغوطة الشرقية إبان حصارها، فقانون سيزر يشبه كثيراً ما حصل هناك مع وجود القصف الوحشي الذي لم يرحم المحاصرين ولم يفرق بين مدني وعسكري. وفي محاولة للتغلب على الحصار قامت فصائل المعارضة – كل على حدة – بحفر أنفاقٍ لها تصل بين مناطق سيطرتها ومناطق سيطرة النظام لإدخال المواد الغذائية والطبية والمحروقات من جهة، ولتسهيل حركتها وإمداداتها العسكرية من جهة أخرى. كانت هناك خمسة أنفاق تم حفرها وتشغيلها خلال الفترة الممتدة بين عامي 2014 وحتى مايو/أيار 2017 بعد إعادة النظام السوري سيطرته على حي برزة الدمشقي، ويمكن تعداد الأنفاق بالترتيب الزمني:

  • نفق الزحطة (حرستا – غرب الأوتستراد) بإشراف فصيل فجر الأمة ثم لاحقاً أحرار الشام الإسلامية.
  • نفق جيش الإسلام (حرستا – برزة) والذي أغلق مباشرة لوجود النفق في مناطق سيطرة فجر الأمة مما نتج عنه الكثير من الإشكالات والخلافات.
  • نفق الفيلق (عربين – القابون) وهو أكبر نفق كانت تسير فيه الشاحنات وبإشراف فيلق الرحمن.
  • نفق النور (عربين – القابون) وهو كبير أيضاً وبإشراف جبهة النصرة.
  • نفق (حرستا” المعارضة“ – حرستا ”المهادنة“) وهو نفق واسع وتم تفجيره عدة مرات ولكن فصائل المعارضة أعادت فتحه عبر تحويلات متعددة.

عندما لاحظ النظام السوري عدم جدوى الحصار مع تدفق البضائع عبر المعابر إلى المناطق المحاصرة بدأت فكرة الاستفادة المادية من الحصار مع إمكانية مراقبة تدفق البضائع ونوعيتها مع التحكم بأسعارها، فأصبحت سيارات ”المنفوش“، وهو متعهد محلي من مسرابا في الغوطة الشرقية، تدخل بسلاسة عبر معبر مخيم الوافدين الواصل بين دوما والمخيم، وبذلك بدأ عمل الأنفاق يتناقص، واقتصر على المواد التي لم تدخلها سيارات المنفوش مثل الدواء والمحروقات والأدوية الزراعية والذخيرة. وخلال الأشهر الستة التي سبقت استعادة السيطرة على الغوطة الشرقية توقف تدفق البضائع نهائياً ليعيش المحاصرون في ظل وضعٍ معيشي هو الأصعب تماماً بالمقارنة مع أية منطقة محاصرة، فأصبحت مادة السكر والرز والزيت تباع بالغرامات وبأسعارٍ خيالية.

من سياق ما حدث في الغوطة الشرقية، لم ينجح الحصار في إسقاط فصائل المعارضة بل عزّز نفوذها ومكنّها من إحكام سيطرتها على المنطقة، وكذلك فعلت الحرب، فقد غاب العمل المدني عن الواجهة وتمت السيطرة عليه، حتى أن قائد فيلق الرحمن أعلن نفسه قائداً عاما للقطاع الأوسط بما فيها المؤسسات المدنية والثورية في تلك المنطقة وجير لصالح معركته كل المواد والأموال المرصودة والمودعة ”أمانة“ في عهدته كما اكتُشف لاحقاً.

نرى تلك الصور والأمثلة من الغوطة الشرقية تتكرر، لكن على نحوٍ أوسع لتشمل سورية. فالنظام السوري أصبح في وضع المحَاصَر، وباتت قنوات هروبه من العقوبات في وضعٍ لا تحسد عليه، فلبنان الذي كان بمثابة حديقة خلفية للنظام السوري وتجار الحرب للهروب من المراقبة الأمريكية أصبح هو نفسه يعاني من حصار ٍأمريكيٍ غير مباشر وانحساٍر للدعم الخليجي، مما هدد المواطن اللبناني بكارثة اقتصادية غير مسبوقة.

بدأت أولى عمليات التصعيد في لبنان مع تقديم رئيس الوزراء سعد الحريري استقالته في أكتوبر/تشرين الأول 2019 على خلفية احتجاجات مدنية ضد النخبة الحاكمة التي يتهمها اللبنانيون بالفساد وجرِّ لبنان إلى انهيار اقتصادي لم يشهده منذ الحرب الأهلية التي دارت رحاها بين عامي 1975 و1990، ثم أتبع ذلك تخفيض تصنيف لبنان الائتماني مع نظرة مستقبلية سلبية في فبراير/شباط 2020 مما أدى إلى انهيار كبير في سعر صرف العملة اللبنانية مقابل العملات الأجنبية، حيث وصل سعر صرف الدولار مقابل الليرة اللبنانية إلى 9500 ثم تحسن تدريجياً ليصل حتى تاريخ كتابة هذه المقالة إلى حدود 6800، مع العلم بأن الليرة اللبنانية بقيت محافظة على سعر صرف ثابت منذ نهاية الحرب الأهلية في لبنان بحوالي 1500 مقابل الدولار.

يمكن أن نلاحظ مما سبق ومن تزامن انهيار العملة السورية الأخير مع العملة اللبنانية بأنّ ما يحدث لليرة السورية متأثر بشكل كبير بما حدث للاقتصاد اللبناني.

لقد حافظت الليرة السورية على سعر صرف وصل إلى 500  ليرة مقابل الدولار وذلك طوال سنوات الحرب الشديدة (بعد أن كانت 47 ليرة مقابل الدولار قبل بداية الأحداث في سوريا في 2011) وحافظت على هذا الرقم سنوات عدة حتى بداية الاحتجاجات في لبنان وبداية انهيار المصارف اللبنانية، حيث بدأ سعر صرف الليرة بالارتفاع حتى وصل إلى 2500 ليرة سورية مقابل الدولار وذلك قبل تفعيل قانون سيزر، ليرتفع مع بداية تطبيق العقوبات الأمريكية الى أكثر من 3000 ليرة ثم ليعود بعدها خلال أقل من شهر إلى حدود 2400 ليرة مقابل الدولار.

كانت الأزمة الاقتصادية والسياسية  في لبنان القشة التي قصمت ظهر الاقتصاد السوري الذي اعتمد على لبنان بشكل كامل للالتفاف على أية عقوبات خارجية مفروضة على مصارفه ووزاراته ومؤسساته وتجار حربه، وإنّ مفاعيل قانون سيزر سوف تطال المصارف والمؤسسات والشركات اللبنانية في حال تعاونها مع نظيراتها في سورية كما هي الحال بالنسبة للمؤسسات البنكية ومراكز التحويلات خارج لبنان، وبالتالي أحكم القانون الأمريكي الجديد خناقه على النظام السوري والاقتصاد الذي احتكره النظام طيلة العقود الخمسة الماضية، حتى أصبحنا لا نفرق بين مؤسسة خدمية والنظام الحاكم.

في النهاية، وبعيداً عن الحالة المعيشية للمواطن والتي أصبحت ما دون خط الفقر، يبقى السؤال الذي يطرح نفسه: أليس هذا ما يريده أغلب نشطاء الثورة ومعارضي النظام؟ ألم يفرح هؤلاء بالحصار على سورية/النظام في الوقت الذي شجبوا فيه ونددوا عبر بياناتهم الكثيرة بحصار الغوطة الشرقية ومناطق الحصار الأخرى ونادوا بفك الحصار عنها؟ أم أنّ هذا الحصار حلال وذاك حرام؟

في المقابل لا يمكن لنا التفريق بين المؤسسات الخدمية – كما أسلفنا – وبين مؤسسات النظام، وبالتالي مع انعدام أفق الحل في سوريا فهل سيكون هذا الحصار بداية لتصويب الحل السياسي كما طرحت الخارجية الأمريكية على موقعها وعلى لسان وزير خارجيتها مايك بومبيووالسفير جيمس جيفري؟

أليس أكثر المتضررين من انهيار العملة السورية وغلاء الأسعار هم المواطنون العاديون والموظفون المدنيون إلى جانب العاملين في قطاعات الجيش والأمن والشرطة المساندة للنظام؟!

لا أعتقد بأنّ أي خير قد يأتي من الإدارة الأمريكية الحالية أو أي إدارة سابقة ولاحقة، فالتاريخ شاهد على ذلك وهو مليء بالعبر.

الاقتصاد السوري واشتراكيات تلفظ نفسها!

الاقتصاد السوري واشتراكيات تلفظ نفسها!

قبيل نشوب الحرب السورية، كانت البلاد تتجه بمنحى تصاعدي فيما سمي حينها بمرحلة النمو الاقتصادي وازدهاره، لا سيما مع انتقال البلاد من نظام الاقتصاد الاشتراكي إلى نظام اقتصاد السوق الاجتماعي. اعتبر حينها الاقتصاد السوري مثالاً للدول النامية في المحيط، حيث ارتكز على الزراعة والصناعة الخفيفة وبدرجة أكبر على النفط، وبلغت قيمة الناتج المحلي في عام 2010 نحو 60 مليار دولار. إلا أن ذلك انهار تباعاً مع كل يوم تقدمت فيه الحرب بعد 2011، حيث فرضت حزمة عقوبات اقتصادية متتابعة عزلةً على سوريا تعادل أضعاف الحصار الاقتصادي والسياسي الذي فرض إبان فترة الثمانينات، وصولاً إلى قانون قصير الأخير الذي دخل حيز التنفيذ في السابع عشر من حزيران/يونيو الفائت.

المعركة الأخيرة

يذكر تقرير البنك الدولي عن تبعات الحرب والخسائر الاقتصادية والاجتماعية للصراع في سوريا: “أن خسائر الاقتصاد السوري بلغت نحو 226 مليار دولار، وذلك بسبب دمار البنى التحتية والخسائر البشرية الفادحة، خلال الحرب المستمرة”، ويرد في التقرير أن أكثر من ثلث الكتل السكنية قد دُمر بشكل كامل، وأن أكثر من نصف المستشفيات والمستوصفات قد دُمر بشكل كامل أو جزئي. هذا عدا عن فقدان السوريين لنحو نصف مليون وظيفة سنوية، ما جعل نحو 6 من 10 أشخاص يعيشون في فقر شديد، إضافة إلى أن 3 من كل 4 أشخاص لا يعملون، أي ما يعادل نحو ثمانية مليون سوري عاطل عن العمل.

تؤكد كثير من الآراء الاقتصادية أن سبيل العودة الوحيد يكمن في تحويل أو إعادة الاقتصاد إلى إنتاجيته التصديرية قبل عشرة أعوام، وذلك يتم عبر بناء أسس ومواثيق واضحة للمستثمرين، ولاحقاً، فتح باب التنافس الشريف ضمن ميزات تعددية تستطيع البلاد تقديمها على صعيد التجارة. إلا أن الأمر يبدو أصعب بمراحل مما كان عليه قبل الحرب، فاليوم يسيطر تجار الحرب على البلاد، ويتقاسمون ثرواتها دون حسيب أو رقيب، خصوصاً أن سورية فقدت عدداً يقدر بالآلاف من المصانع والمعامل الإنتاجية، وتدهورت بالضرورة قيمة إنتاج القطن والقمح لأسباب عدة ومعها آليات توليد الكهرباء، واستخراج النفط، وبدرجة موازية الجسور وعموم البنى والسكك الحديدية. وتقدر مصادر اقتصادية أن خسائر الحرب في الثلثين الأولين من الحرب تعادل تريليون دولار.

وتحاول الحكومة عبر تصريحاتها إعطاء أهمية خاصة لحركة إعادة الإعمار، على اعتبارها حلاً إنقاذياً لوضع البلاد عموماً، فلا تدخر جهداً عبر وزرائها في الحديث عن خطة اقتصادية شاملة ستنطلق قريباً. فعلى سبيل المثال كان محافظ حمص قد رفع مشروعاً متكاملاً للحكومة عن خطة إعمار شاملة لمدينة حمص وسط البلاد، والتي دمرت الحرب أكثر من نصفها، مشروع مضى على تقديمه نحو خمسة أعوام، وحتى الآن لا حراك فعلياً على الأرض ولا شيء ينذر ببدء الإعمار، إلا تصريحات فقدت مصداقيتها دون رجعة.

ترى بعض الآراء الاقتصادية المتواترة خلال الفترات الماضية أن من أهم الصعوبات التي واجهت الصناعيين في إعادة بناء  ترميم الاقتصاد هو تنامي نفوذ طبقة تجار الحرب وانعدام الرؤية التنموية الحكومية وعدم وجود أي خطة حقيقية لتعافي المنشآت الصناعية المتضررة وإصدار قرارات تفضل التجارة على الصناعة والإنتاج، وهذا خطير جداً لأنه يحول البلد إلى بلد استهلاكي فقير بدل أن يكون إنتاجياً في طور النمو والازدهار وخاصة بعد الحرب، مع التأكيد على أن أكبر الكوارث لا تكمن في هجرة رؤوس الأموال وحسب بل وفي انعدام الثقة الاستثمارية الخارجية والداخلية وعدم وجود أي جهد أو مساع حقيقية لترميمها.

إذاً، فمن الجلي أن الاقتصاد السوري انهار بصورة قد تبدو لا رجعة عنها في الأمد المنظور، والسياسات الحكومية (الاستجدائية – التشليحية) توحي بهذا، فليس من الصعب مراقبة العمل الحكومي واستخلاص نتائج لا تحتاج تركيزاً عالياً، ولا حتى تحتاج متخصصاً اقتصادياً، إذ يكاد لا يمر شهر دون أن تطرح حكومة البلاد على مواطنيها حلاً اقتصادياً تَسِمهُ بالإنقاذي، وكان آخر هذه الاجتهادات قراراً صدر في بداية الأسبوع الثاني من تموز/يوليو الحالي، قضى بفرض ما سماه رواد مواقع التواصل الاجتماعي بالإتاوة – أخذ المال عنوةً دون وجه حق). قضى القرار بإلزام كل سوري أو من في حكمه بدفع مبلغ 100$ أمريكي بمجرد دخوله إلى سوريا، ليتم تصريفه من البنك المركزي وتالياً، يكون المواطن قد فقد 50% من قيمة العملة قياساً بالسوق السوداء. وتساءل مدونون عن الهدف من استثناء الأجانب من تصريف هذا المبلغ بالسعر الرسمي الذي صار يعادل نصف سعر السوق السوداء، وراح آخرون للتساؤل عن شرعية إجبار السوري الذي ذهب ليجلب أغراضاً من لبنان أو ذهب لرؤية طبيبه وعادوا في نفس اليوم أو اليوم التالي، وحتى لو بعد أيام، وكذلك حال الطالب السوري، فلماذا يجب على هؤلاء دفع هذا المبلغ، في بلده متوسط الراتب الشهري فيه لا يتعدى 25$؟

تحدث الباحث محمد صالح الفتيح في تدوينة له متسائلاً عن كيفية تأمين النقد الأجنبي المستخدم لدعم الاستيراد الذي ترفض الحكومة التخلي عنه؟، مكملاً: “لماذا لا يتم إيجاد حلول أكثر فاعليه له، فقرار إلزام القادمين بصرف 100$ على الحدود بالسعر الرسمي هو أحد هذه الإجراءات التي تهدف لضمان استمرار المستوردات، علماً أنه غير حيوي”.

المعركة الأولى – طوشة الستين

في ستينيات القرن التاسع عشر اندلعت حرب أهلية خلفت مجازر راح ضحيتها أكثر من 50 ألف سوري وقتذاك، وتمثلت بثورة الفلاحين على الإقطاعيين، وتالياً، الصراع العشائري–المذهبي، وانتهت بتدمير أكثر من 500 قرية، وكوارث اقتصادية لا تحصى، وانتهت بتدخل أممي عاجل عبر لجنة دولية.

كانت الشام وقتذاك ترزح تحت الاحتلال العثماني، وكانت دمشق رائدةً عالمية في انتاج البروكار والحرير الطبيعي والصناعي، وكانت تلك الصناعات في حينه، تعادل أهمية النفط في يومنا هذا، وهذه الصناعات أسهمت في ازدهار شامي غير مسبوق على مستوى الدول آنذاك، قبل أن تشتعل الحرب وتحرق معها كل معامل الإنتاج هذه، في صراع درزي–مسيحي ابتدأ في لبنان وحط رحال دماره في دمشق.

كانت هذه الصفعة الأولى للاقتصاد السوري في التاريخ الحديث، أما الصفعة الثانية فقد بدأت في عام 2011، وما بين الانهيارين بلد يحاول الوقوف، وفي كل مرة تقص هاتان القدمان بفتنة، أو حرب، أو صراع، أو انفجار.

واقع ثقافة الكتب في سورية .. ماذا تبقى للقارئ؟

واقع ثقافة الكتب في سورية .. ماذا تبقى للقارئ؟

من المعروف في الحروب أن الثقافة والفنون هما أول من يتضرر وآخر من يتعافى. وقد دفعت الثقافة في سوريا ثمناً باهظاً من الخسائر الناجمة عن الحرب الطويلة وتبعاتها الاقتصادية، والتي لم تُلحق أذاها بمصادر الثقافة ومنتجيها ومروجيها فقط، بل طال أذاها القارئ أيضاً.

وقد أجهزت المعارك التي اندلعت في البلاد على الكثير من دور النشر والمكتبات والمطابع ومستودعات الكتب وغير ذلك، فعلى سبيل المثال تعرض مقر دار الجندي ومستودعاتها في الغوطة الشرقية لأضرار كبيرة، فيما أُحرق المستودع الرئيسي لدار الحصاد ونهبت وخُرِّبت مطابعها إلى جانب خسارتها لكميات كبيرة من الورق ومعدات الطباعة وغيرها. كما لحق الدمار أيضاً بمستودعات مكتبة النوري العريقة في منطقة حرستا، وهذا مجرد غيضٍ من فيض.

وخلال سنوات الحرب تبدلت هوية عشرات المكتبات فتحولت لمقاهٍ ومحلات تجارية أو لجأت لبيع القرطاسية والألعاب والهدايا لتقاوم الإفلاس، فيما تراجع حجم الإنتاج والتوزيع في دور النشر، التي باتت تواجه عقبات كبيرة تهدد استمرارها، وذلك نتيجة عوامل عديدة منها: ارتفاع أسعار الورق ومواد الطباعة والتجليد بشكل خيالي. وتوقف الكثير من المطابع عن العمل. وصعوبة تسويق الكتاب، نتيجة غياب المعارض وتراجع نسبة المبيعات. إلى جانب ذلك حُرم الكثير من الناشرين من المشاركة في المعارض الخارجية لصعوبة الخروج من سورية ولعجزهم عن تحمل نفقات السفر والشحن، فيما أغلقت بعض الدول أبوابها في وجههم، فحرموا بذلك من تسويق إصداراتهم.

حلول بديلة

نتيجة للظروف والعوامل السابقة لجأت وتلجأ معظم المكتبات إلى بيع النسخ المزورة لبعض الكتب التي تحقق مبيعات جيدة. وعند الاطلاع على الكتب المعروضة في بعض المكتبات أمكنني ملاحظة حجم التزوير بسهولة، بدءاً من الغلاف، المصنوع كيفما اتفق، ونوعية الورق الرديء، مروراً بالطباعة، التي تختلف سماكتها وقتامتها بين صفحةٍ وأخرى وسطرٍ وآخر، وليس انتهاءً بالحجم الضئيل للكتاب مقارنة بالنسخة الأصلية منه.  ويحدثنا غسان (45 عام)، صاحب مكتبة عامة في مدينة جرمانا تحفل بعشرات الكتب غير الأصلية، عن هذا الأمر: ” نتيجة عجز معظم المكتبات عن شراء النسخة الأصلية للكتب الرائجة وصعوبة إدخال بعضها إلى سوريا تكتفي باقتناء نسخة واحدة من كل كتاب لتقوم بتصويرها أو إعادة طباعتها”. ويبرر البائع ذلك الأمر بقوله: ” النسخة الأصلية التي  قد يصل سعرها إلى أكثر من  عشرة آلاف ليرة، تباع النسخة المزورة منها بنحو ثلاثة أو أربعة آلاف، وبذلك نستطيع نشر شيء من الثقافة وتزويد القارئ ببعض الكتب الهامة وتعويض بعض الخسائر”.

 وعلى الرغم من أن الكتب المزورة قد ترأف بحال القارىء إلا أنها لا تحقق له الفائدة والثقافة المطلوبتين، فهي إلى جانب كونها رديئة الطباعة وسطور صفحاتها متقاربة وكلماتها صغيرة وشبه متلاصقة، نجد أن حجم الاختصار الكبير فيها، والذي يحذف صفحات بأكملها وأحياناً فصولاً، يجعلها تفقد قيمتها الفكرية والثقافية وتسيء لعقل القارئ.

تراجع نوعية ومضمون الكتاب

خلال السنوات الأخيرة بات واضحاً حجم التراجع والتبدل الكبير في النوعية والمضمون الفكري والثقافي والمعرفي للكتب المطروحة في الأسواق، حيث يطغى على معظم المكتبات والبسطات حضور الكتب  الدينية والترفيهية وكتب الأبراج، إلى جانب بعض الروايات الاستهلاكية الرائجة ذات العناوين المطروقة والتي لا تغني ولا تطور عقل القارئ. ويلخص أحمد(50 عاماً) ، صاحب مكتبة عامة في  الحلبوني، سبب ذلك بقوله: ” أصبحت سوريا خارج حركة الثقافة العالمية ما أبعد القارئ عن مواكبة أحدث إصدارات الكتب القيمة والمميزة  والتي تحظى باهتمام وانتشار عالمي، فهي لا تصل إلينا إلا نادراً وذلك نتيجة ارتفاع سعرها، بعد انخفاض قيمة الليرة السورية، وصعوبة استيرادها وضعف إمكانية الترجمة والطباعة وغياب كثير من المترجمين المميزين عن الساحة السورية”.

وتضطر كثير من دور النشر اليوم لنشر كتب سطحية لا تحظى بأي قيمة فكرية لكتَّابٍ لا يمتلكون أي موهبة أو إبداع وإنما يمتلكون المال فقط، وذلك لتتمكن من الاستمرار. ويقول أحمد الذي يعمل لصالح إحدى دور النشر (فضل عدم ذكر اسمها) : “كنا نُخضِع أي مخطوطٍ لتقييم دقيقٍ ونرفض نشره ما لم يكن قيماً وجديراً بالنشر ولكن اليوم تضطر الدار لنشر أي كتاب. وقد كنا سابقاً ندعم الكثير من التجارب المبدعة والجادة لبعض الكتَّاب بنشرها على نفقتنا الخاصة ومن ثم تحصيل تكاليف النشر بعد بيع المنشورات في حفلات التوقيع والمعارض، أما اليوم فقد باتت معظم دور النشر عاجزة عن دعم أحد”. وبحسب أحمد، ثمة عامل آخر أسهم أيضاً في تراجع مستوى منشورات دور النشر وهو “خسارة البلاد للكثير من كتابها وأدبائها ومفكريها الذين غادروها، فباتت نتاجاتهم تُنشر في الخارج بعيداً عن متناول يد القراء في سوريا”.

من جهته يشتكي  أبو نديم (62 عام)، بائع بسطة كتب تحت جسر الرئيس، من غياب مصادر الكتب القيمة والثمينة التي كانت تمدُّ البسطات بالعناوين النوعية، حيث يقول: “لم يعد هناك أي مصدر نرفد به بسطاتنا، فالمكتبات المنزلية القيمة التي كنا نشتريها لم يعد لها أي وجود اليوم. فيما انعدم وجود معارض الكتب التي كانت توفر لنا عروضاً جيدة تمكننا من شراء كميات كبيرة بسعر الجملة. أما دور النشر التي كانت تمدّنا بالكتب القديمة وبعض الإصدارات الرائجة فقد أصبحت اليوم عاجزة حتى عن توفير الكتب لنفسها”. ونتيجة لهذا الواقع “أصبحت بسطات الكتب المستعملة اليوم تقتني أي كتاب بصرف النظر عن مضمونه الفكري والمعرفي وذلك لتتمكن من مواصلة عملها”. بحسب أبو نديم.

قبل الحرب كان معرض دمشق للكتاب يمثل المصدر الغني والرئيسي للقارئ الشغوف باقتناء الكتب والبحث عن العناوين الفريدة بنُسخها الأصلية التي كانت تتدفق من كل حدب وصوب إلى المعرض الذي كان يستضيف آنذاك نحو 300 دار نشر عربية وعالمية. لكن تلك الحقبة الذهبية اختفت تماماً منذ العام 2012،  حيث توقف المعرض لمدة أربع سنوات. ورغم إعادة افتتاحه في العام 2016 إلا أنه لم يعد لما كان عليه في الماضي، وعن ذلك يحدثنا أبو نديم الذي زار المعرض في دورتيه الأخيرتين: “غابت عن المعرض عشرات دور النشر العريقة والنوعية فيما فردت معظم أقسامه لدور نشر تجارية ذات صبغات إيديولوجية ودينية كبعض دور النشر اللبنانية والإيرانية وغيرها، فيما بدا واضحاً حجم التراجع، كماً ونوعاً، في مستوى المنشورات داخل أجنحة دور النشر السورية،  لذا لم يحظَ المعرض باهتمام يذكر من قبل القراء الذين لم يجدوا فيه ما يرضي ذائقتهم “. يذكر أن معظم الأصدقاء الذين زاروا المعرض يشاطرون أبو نديم وجهة النظر ذاتها.

واقع البلاد يؤثر على عادات القراءة ونوعيتها

الوضع النفسي العام، القلق والتوتر وضغوط الحياة اليومية التي أفرزتها الحرب وتبعاتها، التفكير في الحدث السوري وتحليله والدخول في دهاليزه السياسية، هي عوامل كان لها آثار سلبية كبيرة على عادات القراءة التي تحتاج إلى تركيزٍ كبيرٍ وذهنٍ صافٍ وراحةٍ نفسية، وهو ما لم يعد في متناول القراء. ونتيجة لذلك بات الكثير منهم يبتعد عن قراءة الكتب الفكرية والثقافية والعلمية وغيرها ليتجهوا لقراءة الكتب الخفيفة والسهلة والتي لا ترهق عقولهم ولا تحتاج لتفكير كبير، كبعض الروايات والقصص البسيطة. ويحدثنا غسان عن نوعية الكتب التي يُقبل عليها القراء في مكتبته: “تحظى  الروايات السلسة كرويات أحلام مستغانمي وباولو كويلو ودان براون وإليف شفق، بأعلى نسبة مبيعات، فبمعدلٍ وسطي نبيع شهرياً نحو 60 رواية منها، فيما نبيع نحو 20 كتاباً في التراث والدين، ومقابل ذلك لا تحقق كتب الفكر أو النقد أو الفلسفة أو التاريخ سوى مبيعات هامشية لا تكاد تذكر”.

وقد تغيرت اهتمامات بعض القراء الذين توجهوا، في محاولة للهرب من ضغوط الحياة، نحو علوم الطاقة واليوغا والتأمل والاسترخاء فباتوا يقرؤون الكتب المتعلقة بتلك العلوم التي استقطبت الكثير من الناس خلال الحرب. فيما انشغل قراء آخرون بتعلم لغات وثقافة بعض البلدان الأوروبية التي يحلمون أو ينتظرون السفر إليها، فجاء ذلك الانشغال على حساب الوقت المخصص للمطالعة.

من جهة أخرى تخلى البعض عن عادة القراءة ليستبدلها بمشاهدة المسلسلات والأفلام والبرامج الوثائقية التي لا تحتاج لجهد ذهني كبير، من بينهم المدرس فراس (42 عاماً) الذي كان مهووساً بالمطالعة ويمتلك مكتبة ضخمة. وعن سبب ذلك يقول: “لنحو شهرين لم أقرأ سوى 50 صفحة من الكتاب الذي كنت أطالعه، فبمجرد أن أقرأ بضعة أسطرٍ منه أشرد بعيداً، لأغرق بالتفكير في المستقبل الغامض والوضع الاقتصادي المعدم وعجزي عن تأمين ثمن سجائري، لهذا قل شغفي بقراءة الكتب وفقدت شيئاً من المتعة فبت أبحث عن شيء مسلٍ ينسيني واقعي كمشاهدة الأفلام وممارسة بعض الألعاب الترفيهية”.

 الكتاب الذي كان في ما مضى  يقع في قمة الأولويات تراجعت أهميته ليصبح نوعاً من الكماليات، وبات شراؤه حلما بعيد المنال عند كثير من الناس، ففي ظل تدهور الواقع المعيشي والغرق في مستنقع اليأس والمجهول والعجز عن تأمين أبسط متطلبات الحياة يصبح شراء الكتاب نوعاً من الترف والبذخ، فالثقافة لا يمكنها أن تصبح بديلاً عن الخبز.

سوريا على حافة المجاعة

سوريا على حافة المجاعة

* تُنشر هذه المادة ضمن ملف صالون سوريا “الحرب على كورونا: معركة جديدة مصيرية للسوريين\ات:”

أدى دخول “قانون قيصر لحماية المدنيين السوريين 2019” حيّز التنفيذ، الأربعاء 17 من الشهر الحالي إلى تداعيات اقتصادية عدة أبرزها الانهيار غير المسبوق تاريخياً لليرة السورية أمام العملات الأجنبية، حيث فقدت حوالي 70% من قيمتها منذ الشهر الرابع من العام الحالي، وهو ما أدى إلى ارتفاع جنوني بالأسعار وغياب العديد من السلع والأدوية من الأسواق المحلية. وتزامن هذا الوضع مع تصاعد الأزمة بين بشار الأسد وزوجته أسماء، وابن خاله، رجل الأعمال، رامي مخلوف، وتعرض “العائلة الحاكمة” لهجوم هو الأوّل من نوعه من قِبل موسكو -الحليف الأقوى للنظام- ومؤسّساتها الإعلامية المقربة من الرئيس بوتين.

 وتتعمق المعاناة التي يعيشوها السوريون أكثر في ظلّ ارتفاع عدد الإصابات بفيروس كورونا المستجد (كوفيد-19) في المناطق الخاضعة لسيطرة نظام الأسد. الجائحة التي خلفت حتّى الآن نحو 456 وفاة وأكثر من ثمانية ملايين إصابة مؤكدة في 210 دولة وإقليم حول العالم، بحسب موقع “ورلد ميتر” المختصّ برصد ضحايا الفيروس القاتل، حاول النظام الالتفاف عليها بنشر أنباء مفادها أنّ “سوريا ناجية من الوباء”، ليعلن تدريجياً عن وجود إصابات زعم أنّ جميعها لمواطنين قادمين من الخارج أو ممن خالطوهم.

تصاعد الأرقام المفزعة وما سببته من هلع حول العالم، وما رافقها من تصريحات لكبار المسؤولين الأمميين وقادة العالم، لم يكن دافعاً ليغير نظام الأسد من سلوكه في التعامل مع السوريين في ظلّ هذا التحدي الصحي المباغت، حيث تسجّل سوريا يومياً تصاعداً في أعداد الإصابات والوفيات بالفيروس القاتل. حيث أعلنت وزارة الصحة مؤخراً عن تسجيل 9 إصابات جديدة في قرية واحدة فقط بمحافظة القنيطرة جنوب سوريا. وبينما بلغت الإصابات على الأقل 248 حالة، توفي منها سبع حالات على الأقل؛ إلّا أنّ كثيرين من الموالين والمعارضين السوريين ومنظمات صحية وحقوقية عربية ودولية، يشككون في صحة هذه البيانات بسبب غياب الشفافية وتكتّم النظام على الأعداد الحقيقية للإصابات في مناطق سيطرته، حيث أشارت العديد من التقارير إلى أنّ هناك مئات الإصابات وحالات وفيات في معظم المناطق والمدن والمحافظات التي يسيطر عليها النظام، والتي يتمّ تسجيلها على أنّها “فشل كلوي”، أو “ذات رئة”.

وفي حين تدعو حكومة النظام للالتزام بالإجراءات الصحية الوقائية من جائحة كورونا، وعلى رأسها التباعد الاجتماعي، ينظم حزب البعث (الحزب الحاكم) وجهات أمنية، مسيرات “قسرية” موالية في محافظة السويداء جنوبي سوريا، ليتبعها مسيرات ومهرجانات خطابية في دمشق وطرطوس وحمص وغيرها من المناطق الخاضعة لقوّات الأسد، كرد على الاحتجاجات الشعبية ضد الفساد والغلاء وسوء المعيشة، والتي بدأت في السويداء، لتمتد إلى محافظة درعا وعدد من المناطق في العاصمة دمشق.

الوضع الصحي الكارثي في كافة المناطق الخاضعة لسيطرة النظام ترافق مع تدهور الأوضاع الاقتصادية، وتراجع القدرة الشرائية لدى عموم السوريين. الفيروس القاتل، الذي يؤكد الأطباء وخبراء الصحة أنّ البشر بحاجة ماسة إلى تعزيز مناعتهم الذاتية لمقاومته، من خلال تأمين قوتهم من الخضار والفواكه واللحوم إلى جانب الاحتياجات الأساسية من المواد الغذائية والأدوية، يجعل من معظم السوريين فريسة سهلة لوحشيته. كيف لا والحال أنّ كيلو البندورة وصل سعره منذ قرابة الشهر إلى 700 ليرة، فيما وصل سعر كيلو البصل إلى 500 ليرة، وسعر كيلو البطاطا ما بين 500 و600 ليرة، في حين تجاوز سعر كيلو الليمون الـ 4000 ليرة، والبرتقال قرابة الألف ليرة، والتفاح 1700 ليرة.

أما كيلو اللحم الضاني فقد وصل إلى 18000 ليرة، ما جعل منه حلمًا من أحلام السوريين من البسطاء وذوي الدخل المحدود. وكذلك الأمر بالنسبة للحم العجل الذي تراوح سعره بين 13000 و14000 ليرة. ليصبح لحم الدجاج ملاذ السواد الأعظم من عامّة الناس رغم ارتفاع السعر عن غير المعتاد حيث وصل الكيلو من الفروج النيء حوالي الألفي ليرة.

كما ارتفع سعر الذهب ليصل ثمن الغرام الواحد، قبل دخول “قانون قيصر” حيّز التنفيذ بأيّام، إلى أكثر من 110000 ل.س، فأغلقت معظم محلات الصاغة، بينما شنّت قوّات النظام حملة اعتقالات لمنع الإغلاق، ومنع البيع بغير السعر الرسمي.
حجم الكارثة هنا يكمن إذا ما علمنا أنّ متوسط أجر السوريين الشهري يتراوح بين 40 و60 ألف ليرة سورية (الدولار حوالي 3000 ليرة في السوق الموازي)، في حين يقدر «مركز قاسيون» مقره دمشق، متوسط إنفاق الأسرة بأكثر من 350 ألف ليرة ما زاد نسبة الفقر عن 83%.

وتضاعفت أسعار الدواء والغذاء والمواد الأساسية مثل الأرز والسكر والزيت خلال عام واحد في سوريا على خلفية العقوبات الأمريكية على النظام، والصراع الجاري داخل الدائرة الضيقة للحكم، أي بشار الأسد وزوجته أسماء و(شقيقه اللواء ماهر الأسد) من جهة، ورامي مخلوف ووالده (خال الرئيس بشار) اللواء محمد مخلوف، المقيم حاليًا في روسيا من جهة ثانية، للهيمنة على الاقتصاد السوري والاستيلاء على ما تبقى منه. ناهيك عن شح الدعم الإيراني، وتداعيات الأزمة المالية الحادّة في لبنان، وليس وانتهاءً بتفشي فيروس كورونا في سوريا.

  • خطر المجاعة يطرق أبواب السوريين..

المبعوث الأممي الخاصّ إلى سوريا، “غير بيدرسون”، حذّر قبل أيّام، من حدوث مجاعة في سوريا مع بدء تطبيق “قانون قيصر”، الذي يتضمن عقوبات أميركية تهدف إلى حجب إيرادات للنظام السوري، تزامناً مع انخفاض قياسي لليرة وانهيار شبه تام للاقتصاد السوري في المناطق الخاضعة لسيطرة الأسد.

وخلال جلسة عبر الفيديو بمجلس الأمن الدولي، قال “بيدرسون”: إنّ “الوضع في سوريا يزداد سوءًا، حيث يعاني 9 ملايين و300 ألف سوري من انعدام الأمن الغذائي، وهناك أكثر من مليونين آخرين مهددون بذلك، وإذا تفاقم الوضع فقد تحدث مجاعة”.

وكان «برنامج الأغذية العالمي» التابع للأمم المتحدة حذّر، منتصف الشهر الحالي، من أن تطرق المجاعة أبواب سوريا بسبب استمرار التدهور الاقتصادي والمعيشي.

وقال المدير التنفيذي في «البرنامج العالمي»، “ديفيد بيسلي”، في حديث لصحيفة “ذا ناشيونال”، التي تصدر باللغة الإنكليزية في العاصمة الإماراتية أبو ظبي، إنّ “استمرار تدهور الأوضاع في سوريا قد يجعل خطر المجاعة يطرق الأبواب”، مضيفًا أنّه “لا فائدة من إرسال الأموال للسوريين في الوقت الحالي”.

وأضاف “بيسلي”: إذا أرسلنا مبالغ نقدية للسوريين فلن يستطيعوا شراء أي شيء بها، لذا علينا إرسال مساعدات غذائية، خاصّة وأنّ الأرقام تشير إلى ارتفاع غير مسبوق في الأسعار هناك”. مشيرًا إلى أنّ سعر السلة الغذائية التي يقدّمها «البرنامج العالمي» ارتفعت بنسبة 16% منذ آخر إحصاء شهري، مضيفًا أنّ التوقعات تشير إلى أن الأوضاع “ستزداد سوءًا”.

المسؤول الأممي، شدّد على أنّه “إذا استمر الوضع في سوريا بالتدهور، فإن إمدادات الغذاء ستتعطل، في البلد الذي دمرته 10 سنوات من الحرب، والمجاعة يمكن أن تطرق بابه”، داعيًا إلى “استبدال الأموال المرسلة بالمواد الغذائية”.

ووفقا لتصريحات أممية سابقة، فإنّ 83% من السوريين يرزحون تحت خط الفقر، في حين من المتوقع أن ترتفع النسبة مع دخول قانون “قيصر” حيّز التنفيذ.

القانون الأمريكي، الذي شبهه مقال في صحيفة “ليبراسيون”، نشر في الثامن من الشهر الحالي، بـ “حبل يلتف حول عنق الاقتصاد السوري، الذي يعاني أصلًا من مشكلات جمّة”.

ومما جاء في مقال الصحيفة الفرنسية، أنّه “بين العقوبات الدولية والأزمة الاقتصادية والخلافات داخل الحاشية التي تحكم البلاد، ووسط انتقادات موسكو وطهران والتظاهرات الشعبية، يراكم النظام السوري المصائب”.

فيما بيّنت مجلة “بوليتيكو” الأميركية، في الوقت نفسه، أنّ “قرار الأسد بإقالة رئيس وزرائه عماد خميس الخميس 11 حزيران/ يونيو، مؤشر واضح على أنّ الانهيار الاقتصادي والمعارضة الصريحة الجديدة تشكل تحدّياً حقيقياً لشرعيته”.

وكان المتحدث باسم الأمين العامّ للأمم المتحدة، “ستيفان دوغريك” أكّد، في وقت سابق، أنّ “11 مليون طفل وامرأة ورجل في سوريا بحاجة لمساعدة إنسانية عاجلة.”

وأشارت تقديرات «البرنامج العالمي»، مؤخراً، إلى أنّ “إجراءات العزل العامّ المرتبطة بفيروس كورونا المستجد، ستؤثر على نحو ثمانية ملايين سوري، الأمر الذي يجعلهم يعانون من نقص الأمن الغذائي”.

  • تنبؤات دولية بتداعيات كارثية..

منذ مطلع العام الحالي، تتوالى تحذيرات المنظومة الأممية وفي مقدّمتها «منظمة الصحة العالمية»، والمنظمات الدولية ومنها منظمة «أطباء بلا حدود»، من خطورة الوضع الصحي في سوريا، والتنبؤ بتداعيات كارثية حيث إجراءات حكومة النظام ليست على قدر المسؤولية، ناهيك عن عدم وقف إطلاق النار واستمرار العمليات العسكرية لقوّات النظام والطيران الروسي في الشمال السوري، وخروج مظاهرات احتجاجية ضدّ فساد نظام الأسد وارتفاع الأسعار الغير مسبوق في تاريخ السوريين المعاصر.

لا يخفى على أحد أنّ النظام الصحي في سوريا أصبح اليوم منهاراً تماماً بسبب استنزاف موارده البشرية مع موجات اللجوء باتجاه البلدان الأوروبية والاسكندنافية، ومن ثمّ استهدافه عسكريًا في العديد من المدن من قبل النظام وخاصّة المدن التي خارج سيطرته العسكرية، والتي تقسم الآن إلى مناطق الشمال السوري، التي تشمل إدلب وريف حلب وتخضع لسيطرة قوّات المعارضة السورية المسلّحة، وتعتمد على الدعم التركي بشكل رئيسي. ومنطقة “الإدارة الذاتية الكردية” في شمال شرقي سوريا، والتي تسيطر عليها “قوّات سوريا الديمقراطية” (قسد) بدعم من الولايات المتحدة، والتي أكّد تقرير لـ«مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية في سوريا» (OCHA) و«الصحة العالمية» وفاة أوّل مصاب بفيروس كورونا في مدينة القامشلي بريف الحسكة، في 18 نيسان/ أبريل الماضي.

وتمّ تسجيل أوّل إصابة بالفيروس في مناطق سيطرة النظام في الثاني والعشرين من شهر آذار/ مارس الماضي لشخص قادم من خارج البلاد، فيما تمّ تسجيل أوّل حالة وفاة في التاسع والعشرين من الشهر ذاته.

  • عجز هائل في القطاع الصحي السوري..

صنفت «منظمة الصحة العالمية» عقب تفشي جائحة كورونا عالمياً، سوريا على أنّها من بين الدول الأكثر عرضة للخطر في إقليم شرق المتوسط​​، “نتيجة للتحدّيات في النظام الصحي الناتجة عن أكثر من 9 سنوات من الحرب في البلاد”. بحسب تصريح لممثل المنظمة الأممية في سوريا، نعمة سعيد عبد، أعلنه في 03/04 الماضي.

ووفقاً لـ «لجنة الأمم المتحدة الدولية المستقلة للتحقيق بشأن سوريا»، فإنّه “لا تعمل في سوريا الآن سوى 64% من المستشفيات و52% من مراكز الرعاية الصحية، كما فرّ 70% من العاملين الصحيين من البلاد”.

وكشفت دراسة مفصلة عن الاستعدادات الصحية السورية للتعامل مع وباء فيروس كورونا، أعدّتها “كلية لندن للاقتصاد” London School of Economics، ونشرت في 25 آذار/ مارس 2020، أنّ “عدد المشافي الحكومية الإجمالي 111 منها 58 فقط تعمل بشكل كامل و27 تعمل بشكل جزئي و26 مدمرة بالكامل”.

فيما بيّن تقرير للأمم المتحدة، نشر في مطلع الشهر الثالث من العام الجاري، أنّ “70% من العاملين في القطاع الصحي قد غادروا سوريا”.

الدراسة البريطانية، التي اعتمدت على التقارير السورية وتقارير «الصحة العالمية» وكذلك بيانات الأمم المتحدة، أوضحت أنّه “باستثناء محافظة إدلب يوجد 465 سريرًا للعناية المركزة في مشافي حكومة النظام و650 سريراً في القطاعين الحكومي والخاصّ”. مقدّرة أنّ 53% من هذه الطاقة مستخدمة (حتّى نهاية الأسبوع الثالث من شهر آذار/ مارس الماضي، مما يترك حوالي 305 سريرًا للعناية المركزة (مع أجهزة مساعدة على التنفس، يضاف لهذا الرقم 20 سريراً في محافظة إدلب، مما يجعل إجمالي المتوفر 325 سريراً مع أجهزة مساعدة على التنفس”.

كما بيّنت الدراسة أنّ “القدرة القصوى للقطاع الصحي السوري، العامّ والخاصّ، على التعامل مع مصابي وباء فيروس كورونا المستجد هي استيعاب 6500 مصاب فقط، منهم 325 في العناية المركزة”. مشيرة إلى أنّ “هناك تفاوت كبير في قدرة المحافظات السورية على استيعاب مرضى هذا الفيروس القاتل، القدرة الأعلى هي في دمشق حيث يمكن استيعاب حوالي 1920 مصاب بينما تنخفض القدرة في حلب إلى 100 فقط وفي دير الزور إلى صفر”.

دراسة “كلية لندن للاقتصاد” شدّدت على أنّه “سيكون من الصعب تطبيق الحجر الصحي مع وجود 83% من السوريين تحت خط الفقر”. محذّرة من أنّ “انتشار الوباء في بلدان مثل سورية واليمن والصومال وليبيا يمكن أن يقود إلى استمرار انتشار وباء فيروس كورونا عالمياً لفترة أطول”.

ورغم الخوف المتزايد من تفشي فيروس كورونا المستجد في الشارع السوري، في ظلّ غياب الثقة بين الحكومة وعموم السوريين حول مدى انتشار الوباء، ونقص الإمكانيات الطبية جراء الفساد في كلّ مفاصل الدولة الرئيسية، وكذلك التقصير من قِبل المنظمات والجمعيات الإغاثية، تغيب المبادرات المجتمعية ودعوات التكافل الاجتماعي لسدّ الحاجات والمستلزمات الضرورية لمنع انتشار الفيروس، خاصّة تجاه النازحين داخلياً من المناطق التي تعرضت لدمار كبير.

مظاهرات السويداء: شعارات واسعة وخيارات ضيقة

مظاهرات السويداء: شعارات واسعة وخيارات ضيقة

لم يفاجأ أحد بخروج الناس إلى الشارع في مدينة السويداء وخصوصاً بعد الانهيار الأخير الذي أصاب الليرة السورية والارتفاع الجنوني في الأسعار، سيما وأنّ مظاهراتٍ سابقة اندلعت في شهر كانون الثاني (يناير) تحت شعار “بدنا نعيش.” لكن أحداً لم يتوقع أن تكون هذه المرة الاحتجاجات سياسية ومباشرة وبهذه الصيغة الواضحة، حيث لم توارب كما في المرات السابقة بل أشارت صراحة إلى أصل المشكلة والمتمثل بالسلطة الحاكمة مناديةً علانيةً بإسقاط النظام وتنحي الرئيس السوري عن الحكم وإنهاء الاحتلالات والتدخلات الخارجية.

المظاهرات التي انطلقت في وسط المدينة ومقابل مبنى المحافظة كانت سلمية بالمطلق ولم تتعرض لأي مضايقات من أحد كما لم ينجم عنها أي أعمال شغب أو عنف، وكانت بشعاراتها الصريحة والمفاجئة قد لفتت أنظار الجميع مع إحساسٍ عام بالريبة والحذر، وسرعان ما بدأت ردود الأفعال تجاهها من كل الأطراف سواء من الداخل أو الخارج، من دائرة السلطة أو من دائرة المعارضة، وخصوصاً بعد أن تصدرت أحداثها نشرات الأخبار.

وكالعادة تجاهلت السلطة بدايةً هذه المظاهرات ثم أعلنت تخوينها وربطها بأجندات خارجية فتهمة الأصولية والتكفير لا تنفع في السويداء، إلا أنّ اتهاماتٍ أخرى تزعم وجود ارتباطات بين المتظاهرين ووليد جنبلاط وجهاتٍ خارجية أخرى تبقى جاهزة وحاضرة لتخوين المتظاهرين. أرسلت السلطة تعزيزاتٍ أمنية مشددة للمراكز الحكومية والأمنية وهددت بقمع المظاهرات بالعنف والقوة والترهيب، ثم سيّرت مسيراتٍ مؤيدة للسلطة، باتت أشبه بمسرحيات لا تنطلي على أحد، حيث أجُبر الموظفون والحزبيون وطلاب المدارس والجامعات على الخروج في مسيرات تحت الضغط والتهديد بالفصل من العمل، بدليل ما تسرب من تسجيلات صوتية لإحدى المسؤولات في حزب البعث تهدد وتتوعد بعقوباتٍ لكل من يتخلف عن المسيرة، وانتهاء بالصدام المباشر والاعتقالات وهو ما حدث فعلاً في اليومين الماضيين وأدى إلى فض المظاهرات بالقوة واعتقال عدد من المتظاهرين أيضاً.

تطرح الاحتجاجات الأخيرة في السويداء أسئلة كثيرة حول ما يمكن أن تحمله هذه الحركات وإلى أي مدى يمكن أن تؤدي إلى نتائج واضحة؟ كيف ستستمر؟ وما هي ردود الأفعال حولها ومنها؟ وكيف يمكن أن تقرأ بشكل عام؟

بدايةً كان من المحبط ما لاقته هذه الاحتجاجات من انتقادات وردود أفعال حولها وخصوصاً من جهات المعارضة وممن لا يزالون يحسبون أنفسهم أوصياء على العمل الثوري ومتعهديه الوحيدين وخصوصاً تلك الأصوات الموجودة في الخارج والتي تباينت ردود أفعالها بين الترحيب والحماس المبالغ فيه كما لو أن المظاهرات حدث كسر محرمات الصورة النمطية عن السويداء ومجتمعات الأقليات وأنها أخيراً التحقت بـ”ثورة الحرية والكرامة” على حد تعبيرهم وأنها ستقلب الموازين على الساحة السورية وغيرها من التهليلات السطحية التي اتسم بها هؤلاء في تعاملهم مع الحدث السوري منذ 10 سنوات حتى اليوم. والمقلق في هذا التأطير، أنّه أنتج حالة من التماهي مع هذه الفكرة عند العديد من السوريين سواء من الشباب المشاركين في الاحتجاجات أو من البعض في الخارج وكأنّ السويداء مطالبة بصك غفران واعتذار لا بدّ أن تقدمه عن موقفها المحايد سابقاً من الصراع المسلح لتنال شرف المشاركة في “الثورة السورية”، بدايةً من الهتافات ورفع “علم الثورة”، الذي رُفع لمرة واحدة، وليس انتهاءاً بأغنية سميح شقير ( قامت حقا قامت).

وعلى الرغم من أنّ الاحتجاجات والشعارات تكاد تتطابق من ناحية الشكل والمضمون مع تلك التي رُفعت عام 2011 في إشارةً غير ملتبسة وصريحة لغاياتها السياسية والمطلبية، إلا أنّ الكثير من الآراء اعتبرت الحراك متأخراً وعديم النفع وقابلته بالاستهتار والتشكيك وبردود فعل شامتة ومتعصبة مثل ( يطعمكم الحج والناس راجعة، هلق لتذكرتوا وجعنا وحسيتوا فيه، هذه ثورة جوع وما بترقى لثورة الكرامة) وغيرها من العبارات التي قللّت من أهميتها وشككت بها.

المقهورون لا سند لهم ولم يجدوا سوى الشارع للتعبير عما يريدون، شارع له خصوصية واضحة وفريدة في السويداء، فما يمكن تحقيقه في وسط المدينة وقبالة المربع الأمني فيها مباشرة من وقفات واعتصامات وحتى احتجاجات سياسية لا يمكن أن يتحقق في أي حي بضاحية أي مدينة أخرى، فوجود الميلشيات المحلية من جهة والتي يمكن أن تتدخل فيما لو حدث صدام مباشر وخصوصية المجتمع في السويداء من عصبية واضحة إزاء مواقف الأزمات من جهة ثانية شكلا فرصة لانطلاق المظاهرات فيها دون أن يتم قمعها مباشرة. بالإضافة إلى ذلك فإنّ الحماس الواضح لجيل من الشباب الذي وعي وكبر في سنوات الحرب الماضية ويعاني ما يعانيه من فقدان هويته وانسداد الأفق أمامه كان طاغياً، فحضور هذه الفئة العمرية ضمن المحتجين والتي ليست لديها خبرة أو برامج واضحة ومدفوعة بحماس قد يبدو متهوراً في المشهد السوري بعد كل هذه السنوات الدامية، إلا أنه يبقى الأصدق تعبيراً عن ألم وبؤس حال جيلٍ محطمٍ ومهدور دفع وسيدفع فاتورة الحرب الكارثية.

تردّد الكثير من التبريرات السائدة اليوم بأنّ السويداء “قالت كلمتها ووقفت بشجاعة عندما تريد”، فهل يصح هذا القول فعلاً للاختباء والإفلات من سؤال وماذا بعد؟

تتجه الآراء اليوم في المدينة لانتقاد شعارات الاحتجاجات التي رفعت سقفها كثيراً وإن كانت محقة بكل ما قالته من جهة التدليل على أصل المشكلة والحل إلا أنها لم تقارب الصواب في طريقة انتشارها واستقطاب الناس لها أو في مدى تأثيرها على الأرض بشكل فعال ومباشر يؤدي إلى نتائج ويبني مواقف يمكن الاستناد إليها لاحقاً، فلو بقيت الاحتجاجات مطلبية ومعيشية واستفادت من الظروف الحالية لكانت حظيت بتأييد ومشاركة واسعة داخل السويداء وخارجها.

ما أزال أقف عند رأي بائع البسطة في الشارع الذي سمعته يقول: “بات من البديهي والواضح أن المسؤول عما نحن فيه هو النظام الحاكم والسلطة المستبدة بكل رموزها، لكن حتماً الهتاف ضدهم علانية في الشارع لن يفضي إلّا إلى العنف والعنف المضاد ولن يؤدي إلى أي نتيجة.”

قد يكون كلام البائع البسيط صحيحاً لكن لشباب الحراك المتحمس والبائس وفاقدي الأمل رأي آخر تماماً، فبحسب معتصم، أحد المتظاهرين: “لا جدوى من أي محاولة للإصلاح وإن كان الثمن هو الخراب فليأتي، فلم يعد هناك ما نخسره أكثر من ذلك على أي حال.”

يمكن تصنيف المواقف في السويداء اليوم حيال الحراك الاجتماعي إلى ثلاث فئات. الفئة الأولى تضم الراغبين بضرب الناطور فقط دون تحصيل أي شيء لقناعتهم بأنه هو من يسرق العنب، ولا يكترثون لما يمكن أن تؤدي إليه خياراتهم من احتمالاتٍ ونتائج، ودون أن يخبرونا بكيفية ضرب الناطور أو إزاحته من المشهد! وهناك فئة أخرى أكثر عقلانية تريد العنب فقط، وهي فئة أكثر براغماتية إن صح التعبير تعتبر مسك العصا من الوسط هو الحل أو ما بات يعرف في المصطلح الشعبي “قدم في البور وقدم في الفلاحة،” وفي انتظار حدوث تغييرٍ من الخارج لقناعة مترسخة بعد كل هذه السنوات بأنّ المسالة السورية خرجت من أيدي أبنائها. أما الفئة ثالثة فمغلوب على أمرها وعانت وصبرت على ما قاسته لأنها تريد النجاة فقط من حرب عبثية تدمر ماتبقى أو كما يقال “تريد سلتها بلا عنب”. ما يجمع هذه الفئات الثلاث هو عدم قدرة أي منهم على شق أي طريق أو وضع أي خطة أو برنامج يضمن الوصول لأي هدف كان. هو مشهد عصيّ على النتائج ولا ينحصر بما يحدث اليوم في السويداء فقط بل يمكن أن يُعمّم على كافة المناطق ولعله المشهد الذي بات يسم المسألة السورية برمتها منذ استعصاء الحل فيها خلال السنوات الماضية إثر التدويل والعسكرة.

قوة اللحظة والمشهد في الاحتجاجات والتي فرضتها خصوصية المدينة بدت وكأنها تلاشت بعد حادثة فض الاحتجاج بالقوة واعتقال عدد من المشاركين فيه، فالتعويل الضمني والإحساس بالحماية التي وفرته الميليشيات والتوازنات التي أقيمت في المدينة بعد اغتيال وحيد البلعوس لم تعد موجودة اليوم أو هكذا بدا الواقع، وما تشير إليه المعطيات حتى الآن، فلم تتدخل أي من الفصائل المحلية والتي رفعت فيما مضى شعارات حماية شباب المدينة من الملاحقة والاعتقال وتعهدت بالحفاظ على السلم الأهلي وحماية الجميع وعلى رأسهم رجال الكرامة. بل على العكس فالمشهد ذهب إلى أبعد من ذلك، فالبيان الذي أصدرته الهيئة الدينية في السويداء (في 12 حزيران)، والذي أثار حفيظة “شباب الحراك السلمي،” كان موارباً في مضمونه بحيث يبدو أنه إدانة للعصابات والمنفلتين من القانون والذي قد تستغله السلطة كتفويض لاعتقال المتظاهرين وربما تصفيتهم بحجة أنهم مارقون وخارج القانون ويسعون لزعزعة أمن السويداء، وهذا ما يؤكده زج أتباع السلطة من أبناء المدينة لفض الاحتجاجات والاعتداء على المتظاهرين ما يجعل المدينة ممزقة بين موقفين يحدثان شرخاً في المجتمع وهو ما يسعى إليه الحل الأمني، المجرّب سابقاً بنجاح في عدة مناطق. فلو قررت هذه الفصائل مساندة الاحتجاجات والوقوف ضد السلطة بشكل مباشر لكانت أعطت النظام الفرصة الذهبية التي ينتظرها لتصفيه هذه الميليشيات، وهو بالضبط ما يفسر صمت هذه الفصائل إزاء ما يجري وخصوصاً أن ثمن المواجهة سيكون كارثياً ودموياً على الجميع ابتداءً بالتصفيات الفردية والاقتتال الداخلي ووصولاً إلى العقاب الجماعي للمنطقة على غرار باقي المناطق السورية، وخصوصاً في هذه الأوقات الحرجة التي يتم فيها الحديث عن تسويات سياسية قادمة للمنطقة بالإضافة لتقارير جديدة تُفيد بعودة نشاط خلايا داعش في بادية السويداء القريبة ما يخلط الأوراق ويجعل المشهد أكثر تعقيداً في السويداء مما يبدو عليه.

لا أحد يمتلك الإجابة عما ستؤول إليه الأوضاع في الأيام القادمة والى أين ستصل تطورات وتداعيات هذه الاحتجاجات، لكن تبقى الترجيحات المطروحة بقوة والتي يهمس بها الجميع، بأنّ السلطة لن تقدم أي تنازلات إزاء ما يحدث حتماً وخصوصاً وأنها ستستخدم فرض عقوبات “قانون قيصر” هذه المرة أيضاً كشماعة للهروب من تقديم أي حل هي بالأساس عاجزة عن إيجاده، ولا تريد إنجازه بالأحرى كما تجلى منذ 2011، وعليه فإنّ الشباب الذي خرجوا إلى الشارع لايمتلكون خيارات كثيرة، وربما يمكن اختصارها بخيارين لا ثالث لهما، إما فهم المعادلة الداخلية وربطها بتوازنات القوى العظمى في سوريا وعليه سيكون عليهم الانسحاب من الشارع، أو تحويل الشعارات لما يخدم تحقيق نتائج مباشرة على الأرض تلامس حاجات الناس وتخفف من قسوة الواقع المفروض عليهم، أو بحسب تعبير ريّان، وهو أحد المتظاهرين: “الشعب يريد تركيب ميكرفون” في دلالة ساخرة لحلقة “الشعب يريد”، من مسلسل الخربة الشهير، الذي تدور أحداثه في إحدى قرى السويداء، حين تحولت المطالب من إقالة مدير الناحية إلى المطالبة بتركيب ميكرفون للقرية. ويؤكد ريّان على ضرورة: “العمل على جعل ما حدث رابطاً يجمع الناس بدلاً من أن يفرقهم،” فأي نتيجة إيجابية في زمن الحرب تنقذ شخصاً من الجوع والحاجة أهم بما لا يقاس من أي نتيجة أخرى… وعلى رأي أحد شيوخ الدين الذي أعلنها في أكثر من مناسبة بأننا “لا نستطيع ولا نملك إلا خياراً واحداً ألا وهو ’مسك العصا من الوسط فقط‘؛ فالسويداء ليست على قلب واحد في ما يحدث، ولا كرامة لجائع في النهاية.”

الخيار الآخر المتاح سيقود إلى مواجهة مفتوحة ولن تبقى الاحتجاجات ذات طابع سلمي وقد تجر المنطقة للعنف والدمار والمزيد من الدماء وخصوصاً وأنّ كل مقومات النزاع متوافرة على الأرض بدءاً من انتشار السلاح والاحتقان والواقع الأمني والاقتصادي المتردي في المدينة، ووصولاً إلى من ينتظر تلك الفرصة من الخارج لتحقيق حسابات كثيرة، فمن يستثمر في الدمار لابدّ وأنه سيفرح حتماً إذا ما اتسعت دائرة استثماره في منطقة جديدة.

عارف دليلة وربيع ناصر يناقشان الوضع الاقتصادي والسياسي في سوريا

عارف دليلة وربيع ناصر يناقشان الوضع الاقتصادي والسياسي في سوريا

يعاني السوريون من تدهور شديد في أوضاعهم المعيشية بسبب السنوات التسع المتواصلة من النزاع. وفي الأشهر القليلة الماضية تفاقمت خسائر البلاد بسبب عوامل عديدة داخلية وخارجية من ضمنها  مؤسسات مركزة على الصراع، معارك عسكرية، الأزمة الاقتصادية اللبنانية، وباء كوفيد ١٩ وقانون قيصر. ومؤخراً شهد الاقتصاد تدهوراً غير مسبوق في سعر صرف الليرة السورية، وارتفاعاً في الأسعار ومعدلات الفقر وموجة ضخمة من فقدان الوظائف. وصار الانهيار الاقتصادي أولوية محورية للنزاع السوري. يناقش المحرر المشارك في صفحة سوريا في جدلية ربيع ناصر والباحث عارف دليلة  تأثير عوامل بنيوية غذت الصراع ودور اقتصاد الصراع في التطورات الأخيرة بالإضافة إلى سيناريوهات وخيارات على المدى القصير.

ربيع ناصر باحث اقتصادي وأحد مؤسسي المركز السوري لأبحاث السياسة، ويعمل كباحث في سياسات الاقتصاد الكلي، النمو الشامل وديناميات الصراع. حصل على الإجازة الجامعية في الاقتصاد من جامعة دمشق في ١٩٩٩. كما حصل على شهادة الماجستير في الاقتصاد من جامعة لايشستر في المملكة المتحدة.