بواسطة دعد ديب | مارس 14, 2025 | Cost of War, News, Reports, العربية, بالعربية, تقارير, غير مصنف, مقالات
بعد أربعة أيام دامية في مناطق الساحل السوري وبعد صرخات الموت التي بلغت الآفاق والتي طغت على المشهد العام، أكد كثيرون أن ما يجري نوع من الإبادة الجماعية، حيث لم يتح للناجين دفن موتاهم ومازال أغلبهم لغاية اللحظة يهيم على وجهه في الأحراش والغابات والتلال. وعلى وقع أصوات العويل والندب والصراخ وفي جو تنتشر فيه رائحة الموت الفاغر أشداقه، يأتي توقيع اتفاق تعثر طويلًا في توقيت حرج ومقلق.
ماذا يعني أن يأتي توقيع الاتفاق بين الأكراد والحكومة السورية في هذا التوقيت؟ ما الذي طرأ وما الجديد الآن؟ من منهما يحتاج الآخر ومن منهما قدم تنازلات للآخر وأين موقع العصا الأميركية في هذا الأمر؟
تساؤلات كثيرة تحوم حول هذا الاتفاق: هل جاء ليحول الأنظار عن المجزرة التي لم تتوقف حتى تاريخ إعلانه أم هو مناورة كي ينشغل الرأي العام بقصة جديدة تتعلق بقضية حساسة تهم كافة أطياف ومكونات الشعب السوري؟ هل ثمة ما يعوض هذا بذاك، فالمذبحة المفتوحة التي تمت وتتم على المكون العلوي السوري وسرقة بيوت العلويين وأرزاقهم وحرق أملاكهم والرعب الذي لاحقهم من جراء التنكيل بهم ضجت أخبارها وعمت حدود الكون رغم محاولات إنكارها. هل هي محاولة لتغييب المشهد النازف، لذا كان لابد من استعجال الاتفاق للتغطية على تداعياته السلبية التي تشير بعصا الإدانة لمن استجلب شذاذ الآفاق ليرتكبوا المجزرة.
الكل يستثمر في دماء السوريين فمن خلال النفير العام الذي أعلن في سوريا لكل جهاديي المنطقة، تمت معرفة العدد الكبير للمتشددين الموجودين ومآلات استثمارهم في منطقة أخرى أو التخلص منهم بعد أن أدوا أدوارهم المرسومة لهم ونفذوا المطلوب منهم. ويُشاع أنه حتى الدول الأوربية لاحقت وحصرت أعداد المؤيدين للمقتلة والزاعقين عبر وسائل التواصل الاجتماعي تمهيدا لطردهم واستخدام ذلك كذريعة للتخلص من أعداد اللاجئين المتنامية.
لا أحد باعتقادي إلا ويرغب بسورية موحدة من أقصاها إلى أقصاها رغم واقع التجزئة في الجغرافية السورية ودعوات التقسيم التي تخيم في الأفق وتركة النظام البائد المجرم والخراب الذي أمست البلاد عليه بعد رحيله، لذا من الطبيعي التساؤل عن تفاصيل الاتفاق، وهل سيكون بوابة للتخلي عن سياسة التهميش الذي رافق السياسة السابقة للحكومة الانتقالية على صعيد المشاركة والتشاركية بالفعل لا بالقول، وهل ثمة متغيرات تلوح في الأفق؟
طلب أحد القتلة من زميله أن يتوخى الحذر في القتل كي لا يخلط بين المستهدفين لأن كثيراً من العلويين يشبهون السنة في لهجتهم ولباسهم وسلوكهم وعاداتهم، هذا الكلام وإن كان لا يقصده قائله يؤكد أن الشعب السوري واحد ويعيش مع بعضه ويشبه بعضه على مدار عقود من التواجد المشترك قبل أن تلوثه سياسة الأجندات الحاقدة إلا أن هناك تساؤلات حول ما لم يرد في ما هو معلن من الاتفاق: هل ستسلم إدارة الساحل السوري للأكراد كنوع من التشاركية وبديلاً عن الأمن العام الذي صار بينه وبين سكان المنطقة ما صنع الحداد وانقطع حبل الثقة رغم ما يتردد من أن المقصود فلول النظام المجرم ولكن كثافة الضحايا المتعلمين من أطباء وصيادلة وخريجي جامعات ومعارضين أكل السجن من زهرة شبابهم تكذب تلك الرواية.
السيناريو قد يبدو مقبولًا وخاصة إذا تم السعي كي تكون الديمقراطية والقبول بالآخر هدفاً، وإذا جنحوا صوب السلم الأهلي ورأب الشرخ الاجتماعي الحاصل بتأثير الواقع المتفجر، وخاصة أن الواقع الاجتماعي المنفتح متقارب بين الأكراد والعلويين. من ناحية أخرى قد يمنع هذا إمكانية مواجهة عسكرية بين السوريين ويحول دون المزيد من الاقتتال وحقن دماء بشر تعبت من الموت، بالإضافة لحل مشاكل اقتصادية باتت تثقل كاهل الحكومة السورية.
ثمة من يقول أن الاتفاق سيتمخض عن إعادة انتشار لقوات قسد بالساحل السوري وهذا ما نتلمسه في الأقوال الشفوية التي تنتشر هنا وهناك والتي تهيأ لذلك تحت تسمية الجيش السوري، وسيتم استبعاد المجاهدين المتشددين بفصائلهم المتعددة بكل الوسائل الممكنة. ولا أستبعد هنا الصدام المسلح مع من يرفض منهم وبالمقابل قطع طريق التدخل على تركيا في سوريا بحجة الملف الكردي لأن الكرد وفق الاتفاق صاروا ضمن الدولة السورية ما لم يحدث طارئ يقوض هذه الإمكانية.
يقال إن مظلوم عبدي مع حفظ الألقاب جاء إلى دمشق على متن طائرة أميركية لذا من نافلة القول إن أميركا هي الراعي الرسمي للاتفاق، هذا إن لم يكن قبول إذعان، إذ صرنا نستغرب وللأسف أن يكون للسوري فعل حقيقي وأن يكون فاعلًا بقضايا تخصه وتخص حاضره ومستقبله، وهل بالإمكان يوماً أن نتخلى أن يكون دورنا كدمى في مسرح عرائس تدار أفعالنا بخيوط خفية تحاك عن بعد؟
في الحقيقة إن كل ما يوحد السوريين هو أمر إيجابي، وهذا كلام لا غبار عليه ولكن في زحمة الدم يحق لنا أن نتساءل عن التوقيت والجدية، وـما وراء الاستعجال فيه بعد التعثر الكبير، كما يحق لنا أن نتساءل عن حرمة الموت في ضجيج الفرح الإعلامي والرقص في الساحات العامة وإطلاق الأعيرة النارية والرصاص وتضخيم المشهد لصرف الأنظار عن رائحة الدم الطازج.
هل هذا الفرح طبيعي وهل هو مناسب؟ يجب أن يكون هنالك إعلان ليوم حداد وطني شامل كما يجري في كل دول العالم، حداد على أرواح الأبرياء الذين قضوا سواء من الأمن العام أو المدنيين ومعالجة الحقد والسعار الطائفي الذي انفلت من عقاله.
ما زلنا نترقب القطبة المخفية فيما يدور حولنا وننتظر ما تحت الطاولة أن يخرج للعلن وخاصة في ظلال الموت الذي لم يبتعد عن واقع السوريين على اختلاف أطيافهم وتوجهاتهم. وما زالت أعيننا شاخصة إلى الحل الديمقراطي والحرية والعدالة التي خرج آلاف السوريين والسوريات من أجلها وتضحياتهم شاهدة ملء العين والبصر وستظل هذه المطالب متجددة ومستمرة مهما طال الزمن لأنها محقة.
بواسطة أسامة إسبر | مارس 10, 2025 | Cost of War, العربية, بالعربية, تقارير, مقالات
يبدأ الرعب والترقب بعد موعد الإفطار مباشرة وهو الوقت الذي يقوم فيه المجاهدون بقرع أبواب البيوت وتفتيشها. الاتصالات بالأمن العام لم تُجد نفعاً. كان ردهم يأتي قاطعاً: ”لا نستطيع أن نفعل أي شيء معهم“. رصاصات تخترق النوافذ وتُهشّم البلور، أصوات مهدِّدة على مداخل الأبنية وفوهات بنادق تصعد الدرج في طريقها إلى القتل. وائل هرّب ابنه إلى بيت عائلة سنية تسكن في شقة تقع في طابق آخر. اقتحم خمسة مسلحين في منتصف الليل بيت حسين وملكة وسألوا إن كان يوجد شباب ثم طلبوا منهما أن يخرجا. مذعورين صعدا في ثياب النوم إلى الطابق الثاني، إلى بيت جيرانهم السنة. قرر المجاهدون الاستيلاء على البيت والإقامة فيه.
أحمد كان يرتجف وهو ينظر إلى ولديه والكلمات تخرج منه مختنقة ثم طلب إنهاء المكالمة قائلاً إنهم وصلوا إلى مدخل البناء ولا يستطيع مواصلة الحديث. طمأنني فيما بعد في رسالة نصية إنهم لم يدخلوا. كانت ريم تترقبُ وهي تحتضن ابنتيها البابَ الذي يؤدي إلى النفق الأسود للموت. ثمة قصص كثيرة لأشخاص مجهولين لا يعرف أحد ما الـذي حدث لهم في لحظاتهم الأخيرة. بقيت جثامينهم النازفة كي تروي الحكاية التي ربما لن تجد من يرويها في الإعلام الجماهيري القائم على فبركة الأكاذيب قالت ريم وهي تبكي: ”إن القتلة يمتلكون الحكاية والشاشة والجمهور. سلحوا أنفسهم بتغطية إعلامية جاهزة لوصف جرائمهم على أنها معارك ضد فلول النظام“.
تسرّبت صورٌ لمدينة جبلة كأنها صحراء، تماماً كما وصفها جهاديّ أجنبيّ تداول الإعلام الاجتماعي الفيديو الــذي صوّرهُ وهو يفتخر بدوره في تحويلها إلى صحراء. انتشر له أيضاً فيديو يقتل فيه شيخاً طاعناً في السن بالكلاشينكوف وهو راكب على الموتوسيكل مع إرهابي آخر.
كان ديب طالب الثانوية يمشي هو وزميله في قريته ظاناً أنه بعيد عن مسرح الأحداث حين جاءت زخة الرصاص من نافذة سيارة قافلة المجاهدين. مرهج أقنع زوجته بالإسراع في مغادرة جبلة إلى قرية حميميم، حيث كان القتلة بانتظاره هناك. قُتل المئات، وثمة من يقول إن الآلاف قُتلوا، وأن عملية التوثيق تجري ولم نصل إلى رقم نهائي. سامية بكت على الهاتف: ”لا يوجد طعام ولا ماء ولا يمكن الخروج أو حتى التفكير بفتح الباب”. كانت هي وولداها، الطالب الجامعي والآخر من ذوي الاحتياجات الخاصة الذي يعي جيداً سبب ملامح الرعب على وجه أخيه وأمه، يجلسون على الأرض بعيداً عن النوافذ في الظلمة المطبقة. وائل سمع صراخ الجارة التي قُتلت هي وولداها. سمع الجميع الصراخ إلا أنهم لم يستطيعوا الخروج لإنقاذها أو مساعدتها. لم يكن أحد يقوى على فعل أي شيء. أيمن اتصل بصديقه السني وقال له تعال خذني إلى بيتك. حسين وملكة لجآ إلى بيت جارهما السني في الطابق العلوي ووائل هرّب ابنه كي يمكث مع عائلة سنية في الطابق السفلي. جهاديون سوريون وأجانب قادمون للذبح يجوبون شوارع المدينة فيما سوريون علويون يحتمون في منازل أصدقائهم وجيرانهم السنة.
قال أحمد في اتصال آخر: ”أفهم الآن إحساس الموت في الحرب، أفهم الموت تحت القصف، أعرف أن الموت يأتي مع صوت الهاون، مع احتمال سقوط البرميل المتفجر، مع انفجار اللغم، أفهم أن كل ما حدث في الشمال والشمال الشرقي يشحن بطارية هذا الموت هنا. لقد ارتكبتُ خطأ. في هذه اللحظة اكتملت في ذهني صورة معاناة السوريين الآخرين والجرائم الوحشية التي ارتكبها النظام بحقهم. كان يجب أن أكون أكثر شجاعة في إعلان تضامني معهم منذ بدأت أن عملية استهدافهم في العقد الماضي. كنت خائفاً، ولم أكن أفهم قوة التضامن الإنساني مع الآخر الذي دُفع دفعاً إلى التطرف. إلا أن قتل المدنيين ليس حلاً. لم أقاتل السوريين في إدلب ولن أفعل ذلك حتى ولو أجبرت عليه”. كان مروان بدوره غاضباً، لا يأتيه النوم في أنغولا ويمضي وقته كله على الهاتف كي يطمئن على أولاده صاباً جام غضبه على بشار الأسد وكيف أوصل الجميع إلى هذه اللحظة وعدّه المسؤول الأول عن الجرائم التي تُرتكب في سوريا. أضاف: ”إنهم يجلعوننا ندفع ثمن ما اقترفته أيدي غيرنا. لسنا حاضنة النظام كما يدّعون. إن الحاضنة التي ربت النظام هي إيران وروسيا والغرب والدول العربية النفطية. كانوا يمولون النظام ويدعمونه ولم نكن إلا أشخاصاً نبحث عن وظيفة إلا أننا لم نفهم أننا كنا جزءاً من آلة القمع الخادمة للأسدين. أفهم هذا الآن. إن الصدمات الوجودية تعمّق الوعي. لكن انظر إلى من يُقتلون، إنهم الأبرياء والفقراء الذين لا حول لهم ولا قوة بينما المجرمون الحقيقيون هربوا كلهم بمقتضى الصفقة التي غيرت اتجاه بوصلة البلد. إن الذين ارتكبوا الجرائم قاموا بتسوية وضعهم أو هربو ومن يدفع الثمن الآن هم الأبرياء والفقراء“.
عزير، الذي قُتل صديقه الشاعر هو ووالداه أمام عيني الأم، قال: ”إن القتلة مهيؤون إيديولوجياً لارتكاب جرائمهم. ينظرون إلى الآخر ككافر وزنديق. صحيح أننا نستحق النقد على ما حدث لغيرنا من السوريين وعلى ضعف تضامننا معهم لكننا كنا خائفين من أجهزة الأمن مثلنا مثل غيرنا ولم نقبل بقتل السوريين. أخطأنا في أننا لم نرفع صوتنا عالياً لكن كثيرين منا عبّروا عن مواقفهم بكل رجولة وشرف. كان السوريون يرددون في بداية الثورة إن من يقتل شعبه خائن وهذا ما يحدث الآن، يظنون أنهم يقتلون كفاراً ومجرمين لكنهم في الحقيقة يقتلون أبناء شعبهم“.
لم يكن غسان مستسلماً للخوف مما يجري. قال: ”كنت أتوقع هذه اللحظة. ممارسات النظام السابق كلها تقود إلى المصائب. إن المشكلة تكمن أيضاً في الثقافة. تحتاج المرجعية التي تستند إليها عقلية الطوائف كلها في سوريا إلى تفكيك وتغيير. نحتاج إلى ثقافة جديدة مختلفة جذرياً تُبقي العقيدة أمراً بينك وبين ربك. إن العلة هي في النص المقدس وفي النص الثاني الذي تحدث عنه المفكر والباحث الجزائري محمد أركون والإيمان الأعمى بحرفية النصوص. نحتاج إلى ثقافة جديدة تسمح بالاختلاف وحرية الفكر وإلا فإن هذه المذبحة ستتكرر“. لم يكن غسان خائفاً. كان يؤمن بالإنسان السوري وبقدرته على أن ينهض بسوريا مهما كانت الظروف. أضاف: ”إن الكهرباء مقطوعة والمياه مقطوعة والطعام مقطوع. الشيء الوحيد الذي يتدفق ويجرفنا هو الخوف من هذا القتل المجاني، أن تُقتل كحشرة مجرداً من إنسانيتك. أكيد أن القاتل الذي سيدخل بعد قليل لا يعرفني، ولا يعرف أفكاري، ولا يحاول التعرف عليها. بالنسبة له أنا كافر ولا أنتمي إلى أمة الإسلام. ثمة سرديات تُرضعه أفكاره وتغسل دماغه وتوجهه في اتجاه التطرف والنظرة الأحادية القائمة على المسبقات. إن ثمني رصاصة بالنسبة له وقد يدوس على وجهي ببوطه ويلتقط صورة سيلفي وقد يأمرني أن أنبح كالكلب أو أشهنق كالحمار وهو يركب فوق ظهري ثم يفرغ رصاص حقده في رأسي وصدري لأنه لا يعدّني إنساناً وكأنه بهذا قد أصلح البشرية”.
لم يتسن لي الحديث بالهاتف مع كثيرين كنت أريد أن أطمئن عليهم. الظلام حالك والبرد شديد وأشباح الخوف تجوب الشوارع حيث تجوس فرق الموت باحثة بين البيوت تمارس جرائم الإبادة الجماعية ونهب الممتلكات وحرقها في الساحل السوري وريفه.
نجحتُ في الاتصال مع سمر. بكت على الهاتف. قالت: ”لست خائفة من الموت بل من هذه النظرة إليّ بوصفي لا أتمتع بهوية إنسانية، النظرة التي تجردني من صفتي الإنسانية وتشيطنني وتُلبسني هوية ليست لي، وتحمّلني أوزار الآخرين. بعد قليل ينتهي الإفطار. قد يكون دور بيتنا هو التالي“. أضافت: ”تنتمي فرق الموت إلى قوات صارت نظامية بعد حل الفصائل وتوحيدها في إطار وزارة الدفاع. سمعنا في البداية أن هذه القوات جاءت لنصرة الأمن العام الذي تعرض لهجوم من فلول النظام إلا أن هذه القوات التابعة لوزارة الدفاع جاءت كي تقوم ب ”غزوة“ جهادية تنسجم مع تقاليد القاعدة وتنظيم الدولة الإسلامية واقتحمت بيوت المدنيين العزّل ونفذت عمليات إعدام بدم بارد للأطفال والنساء والشيوخ والشباب حتى دون أن تحاول إخفاء ذلك بل صورته بالموبايلات وتركت الجثث مرمية في الشوارع أو في البيوت وأطلقت عبارات تجرد الضحايا من صفتها الإنسانية وتزيد من شيطنتها متوعدة بتحويل المدن والحواضر إلى صحارى. وما تزال قوافل فرق الموت تواصل عمليات القتل تحت حجة محاربة فلول النظام في إطار من الغموض الذي يلف تصريحات الحكومة التي حاولت في أحدث تصريحاتها تصوير المجازر في الساحل كرد فعل على ما حدث في الماضي كما لو أن في ذلك تبرير للجريمة وتشجيع عليها. لم تقم بإيقاف القتل وسحب المجرمين من المناطق التي تُمارس فيها الإبادة الجماعية كما لو أنها تتم تحت غطاء شرعي“.
لم أتمكن من الاتصال صوتياً مع طارق لكنه كتب لي قائلاً: ”إن دوريات القتلة تتجول في شوارع جبلة واللاذقية وبانياس وطرطوس وريف مصياف. يقتحم المجرمون البيوت بعد أن يتناولوا وجبة الإفطار. كان الرعب يخيم على السكان بعد موعد الإفطار الذي تحول إلى موعد مع عزرائيل. وبعد أن يتم القتل تُسرق النقود والمصاغ والسيارة التي لا تمكن قيادتها أو نقلها تُحرق في أرضها، كما تم احتلال بعض البيوت وتحويلها إلى غرف عمليات كما حدث في جمعية سكن المعلمين في جبلة“.
أضاف طارق: ”إن القتل ما يزال متواصلاً والقتلى يتساقطون في حي الرميلة وفي قرى كثيرة ولم يعمل أحد على وقف الإجرام“.
أنور الذي غادر دمشق إلى الساحل بعد أن ضاقت سبل العيش في وجهه بعد تسريحه من المستشفى الذي كان يعمل فيه حدّثني عن الجوع وتوقف الرواتب وتسريح الموظفين والغضب الذي يعتمل في النفوس وكيف أن فرق القتل جاءت كي تُخرس الجميع. أضاف: ”إن في تصريحات المسؤولين السوريين تنصلاً واضحاً من إدانة الإبادة الجماعية الممنهجة ومن التعامل معها كجريمة ضد الإنسانية، ينظرون إليها كرد فعل مبررعلى ما حدث في الماضي، كما لو أنهم يشرّعون الانتقام خارج أطر القانون والعدالة الانتقالية. ولو أن من مارس فعل الانتقام كان من الناس العاديين لتفهمنا الأمر لكن من ارتكب جرائم الإبادة الجماعية قوة نظامية تابعة لوزارة الدفاع، من قوات النخبة، أو قوة انكشارية كما أود أن أسميها، مؤلفة من المتطرفين الأصوليين المرضى الذين يرون في قتل الآخر وفي التطهير العرقي طريقاً إلى الجنة. إن أحد مشائخهم قال بالحرف الواحد في خطبة مسجد في دمشق إنهم يريدون أرض الشام نقية من الأرجاس لأنها أرض المحشر التي لا يرسل الله إليها إلا خيرة خلقه. فمارأيك بهذه العنصرية الواضحة؟ إن تنصل المسؤولين من المجازر وخطب الجامع العنصرية والحملة الإعلامية التي يتواطأ فيها الكثير من الإعلاميين والمثقفين السوريين والعرب يعني أنهم أعطوا الضوء الأخضر لارتكابها. والدليل على ذلك أن القتل ما يزال متواصلاً في بعض المناطق وأنا أتحدث معك“.
بواسطة سلوى زكزك | فبراير 24, 2025 | Cost of War, News, Reports, العربية, بالعربية, تقارير, مقالات
تقول الأرقام الواردة من دمشق، إنّ ما يقارب مليون سوري وسورية قد عادوا إلى بلدهم بعد سقوط النظام. لقد شكل هذا السقوط المدوي صدمة عاطفية دفعت كل قادر على العودة للسفر فوراً. انقسم العائدون إلى شريحتين: شريحة مدفوعة بالعاطفة وتمتلك وثائق تمكنها قانونياً من العودة؛ وشريحة من الصحافيين\ات السوريين\ات العاملين\ات في محطات إعلامية عربية ودولية ممن عادوا فعلياً للعمل على الأرض السورية فحققوا استجابة عاطفية وحضوراً عملياً، وكانوا خير بداية للإعلام المنقول من على الأرض في جو عارم من الزخم المهني والعاطفي.
لكن السؤال الأهم بعد هدوء العاصفة العاطفية وتصديق واقع رحيل النظام إلى غير رجعة، هو ماذا عن باقي عودة السوريين\ات المنتشرين\ات في بقاع الأرض؟
تجدر الإشارة إلى أن عدداً كبيراً تجاوز المائتي ألف سوري من النازحين\ات السوريين\ات في لبنان وخاصة من النساء والأطفال قد عادوا إلى سوريا في الأشهر الأخيرة وحتى قبل سقوط النظام بحوالي خمسة أسابيع تزامناً مع الضربات العسكرية الإسرائيلية.
هل يعود السوريون؟ إنها محطة جديدة من الأسئلة المستجدة والتي تتصارع الأجوبة عليها، لأنها أكبر وأوسع من الإجابة بالنفي أو بالإيجاب.
ترتبط الإجابة على سؤال العودة بظروف كل شخص وحالته القانونية والمالية والعائلية. وترتبط أيضاً وبشكل أساسي بالعمل وبالتوصيف الاقتصادي المهني، كما ترتبط بالبعد العاطفي الوجداني أو العائلي المتشابك ما بين سوريا وما بين البلد المقيم فيه.
لكن وللأسف الشديد وتطبيقاً للمثل العامي الشهير (راحت السكرة وإجت الفكرة)، تبدو موجبات العودة أقل من موانعها. فعلى سبيل المثال يعيش وليم وهو مهندس سوري في ألمانيا، ولم يتمكن بسبب اللغة والتقدم في العمر من تعديل شهادته، وهو يعمل الآن كسائق باص للنقل الداخلي في إحدى المدن الألمانية، يروي وليم حكايته مع العودة قائلاً: “بعد خمسة أيام من سقوط النظام سألني المشرف على العمل وبصورة رسمية هل سأعود إلى سوريا؟ كان السؤال صادماً لأنه ورد من المشرف أولاً، ولأن صدمة الفرح بسقوط النظام لم تسمح لي بتوجيه هذا السؤال حتى لنفسي!” ربط المشرف سؤاله بحقيقة صادمة لوليم وللمشرف أيضاً، وهي أن ستة عشر سائقاً من أصل أربعين سائقاً يعملون في شركة النقل هم من السوريين. من المؤكد أن وليم يعرف هذا، وأن كافة السائقين السوريين يعرفون بعضهم البعض، لكن توقيت السؤال يتضمن حرص الشركة وربما ألمانيا على ضرورة ترتيب جدولة العودة إلى سوريا حتى كزيارة. تتعادل وجوه الصدمة هنا، إذ تطفو على السطح مصلحة العمل، بينما يغرق السؤال عميقاً في وجدان وليم وشركائه في العمل من السوريين.
الصدمة الأكبر حول سؤال العودة كانت في البيوت، بمشاورات انفعالية، مترددة ومركبّة جرت بين أفراد العائلات وخاصة بين الزوجين، وصلت بعض الصدامات إلى طلب الطلاق إن لم يوافق الزوج أو الزوجة على العودة أو إن قرر العودة تم بشكل منفرد.
ثمة قطب مخفية وغير معلنة تجعل من عدم العودة قراراً مؤكداً، مثل التبدلات الشخصية التي اتخذها أصحابها وخاصة صاحباتها مثل الزواج من أجنبي، أو خلع الحجاب. وللأمانة وفي بعض الحالات وبعد مرور أكثر من سنوات عشر على اتخاذ هكذا قرارات شخصية يبدو أن بعض الأشخاص لم يعلنوها في بيئاتهم العائلية، بل وقد تُخفى حتى عن الأب والأم، رغبة بعدم فتح أي نقاش وتداركاً لأي عتب أو مساءلة قد تصل إلى درجة القطيعة.
لن يعود السوريون\ات ممن لديهم أطفال لا يعرفون حروف اللغة العربية ولا الأرقام ولا التحية ولم يتحدثوا بها مطلقاً منذ ولادتهم. كما يمكن القول إن سقوط النظام قد شكل صدمة وجودية للجميع خاصة أن أحداً لم يتوقع سقوطه رغم الأمل الكبير بذلك ورغم الجروح النازفة شوقاً ورغبة بلم الشمل. إن سقوط الأبدية أربك الجميع وخلق حالة من اختلال التوازن الوجودي والعاطفي، تغيرت فجأة خارطة الأولويات لدى الجميع، حزمة من القرارات الفجائية والارتجالية التي طغت على تفاصيل الحياة اليومية.
بدأت بعض اللاجئات بالتزام قرار جديد، قرار عاصف بالتوقف عن شراء أي شيء جديد حتى لوكان قطعة ملابس منعاً لتراكم الأغراض التي سيشكل تصريفها أو التخلص منها عائقاً أمام إجراءات العودة. كما أن البعض منهن وفوراً قُمن بالتخلص من الكثير من قطع الملابس الفائضة وحتى قطع منزلية مثل الحرامات والأغطية أو بعض أدوات المطبخ. وبعض الأشخاص كسلمى، فقد كان قرار العودة لهن حاسماً وممكناً ولو كان مؤجلاً، لذا فقد افتتحت سلمى حقيبة كبيرة وألصقت عليها بطاقة كبيرة مكتوب عليها (شنتاية سوريا)، وبدأت بتوضيب كل الأشياء التي تراها ضرورية لاصطحابها معها إلى سوريا في رحلة العودة النهائية.
لن يعود كل السوريين\ات، ولن تكفي الصفحات للإجابة على هذا السؤال، وعنوان العودة يبدو موازياً تماماً للسؤال السابق، إلى أين سيكون اللجوء؟
الأهم هو أنه بات للسوريين\ات وطناً، يفرض التفكير به كمساحة متاحة للزيارة مهما كانت قصيرة، وطن استعاد السوريون والسوريات فجأة تفاصيله بزخم عاطفي غير مسبوق. تقول لي صديقة: “فور إعلان السقوط والدموع تغمر وجهي انتابتني موجة حنين لا يطفئها ماء البحار كلها”، لكنها أردفت قائلة: “تخيلي أن رائحة سوق باب الجابية تسربت من أنفي، وكأنها كانت كتلة مخزنة في الأعماق وانفجرت فجأة، بت محاطة بها وكأنني أقف هناك، أوسع صدري وحواسي كلها لاستنشاق هواء حُرمنا منه مع أنه كان ملوثاً، كان عصياً حتى على الحضور في يوميات اللجوء الممتدة والطاعنة في قسوتها وفي مرارتها المتسارعة.”
هناك ملايين من السوريون والسوريات ممن لجؤوا في أوروبا وتركيا وكندا ومصر ولبنان والأردن، فعلى الأقل أصبح ثلث سكان سوريا خارج بلادهم منذ سنة ٢٠١١. هذا عدا عن ملايين السوريين\ات المقيمين في أوروبا ودول الخليج و أربيل والعراق منذ قبل الثورة السورية، فهل سيعود هؤلاء أيضاً؟ لا أحد يمتلك جواباً حاسماً، تبدو الأسئلة كما الأجوبة متفاوتة الأهمية، متقلبة، غير حاسمة وعدوانية في بعض تفاصيلها، لكنها تستحق الإنصات، تستحق التمعن بجدية بالغة وبحنان يليق بالسوريين والسوريات وبسوريا.
يسعى العديد من السوريين\ات الآن إلى الحصول على جنسيات بلاد لجوئهم، فقط لضمان إمكانية زيارة سوريا مراراً والعودة إلى بلدان لجوئهم التي صارت تعادل بلدانهم الأصلية في التوصيف القانوني لحضورهم، ربما لن يعود الكثير ممن يتمنوا العودة لأنهم يفتقدون إمكانية تغيير صفة اللاجئ فقد فاتهم سن العمل والمقدرة على تعلم اللغة الجديدة، سيعيشون حلماً مريراً أزاحوه جانباً واستسلموا لفكرة أنهم بلا وطن! لكن الازدواجية الحاصلة اليوم تشكل اختباراً قاسياً، مرهقاً وشديد المرارة للعاجزين عن تجاوز واقع أن بلدهم صار مباحاً للعودة، وأن فرق التوقيت بات عاملاً حاسماً يؤكد اللا عودة، خاصة أنهم في البلد بلا دعم مادي وبلا ضمان صحي وبلا بيوت وربما بلا أهل أو جيران، وربما أبناؤهم هنا في بلاد اللجوء لكن بظروف لا تشبه اللمة العائلية، لكنهم غارقون في العجز وفي الخيبة.
البلدان لا تزول ولا تسقط مهما طالت الأزمنة، لكنها تضيّع أبناءها في كل سياقاتها الثابتة والمتحولة سلباً أم إيجاباً.
لك السلام وعليك السلام يا بلد، سوريا يا بلدنا.
بواسطة أسامة إسبر | فبراير 4, 2025 | Cost of War, Culture, العربية, بالعربية, مقالات
بين اللطم المشهديّ في الشوارع “ولبّيك يا حسين” إلى “أعزّنا الله وأذلّكم”، و”الشام عادت إلى أهلها أمويّة أمويّة رغم أنف الحاقدين”، وفي ظلّ حملةٍ أمنية متبّلة، في بعض تصريحاتها، ببهارات الانتصار الطائفية، ومشهدية صارخة لمعاملة الآخر المعتقل كحيوان وإجباره على النباح أو العواء، وفي غياب شكل تمثيليّ واضح للحكم في سورية، تأفل بلاغة المهزومين، الذين يُخْتزلون بكلمة فلول، وتسود بلاغة المنتصرين، الذين يحكمون شفوياً ببلاغة المنتصر على غيره. تُمْحى شعاراتٌ، وتُطْلقُ شعارات جديدة ، تُزال المساحيق عن هويّات، وتنفضُ هويات أخرى عن نفسها غبار الكبت والتهميش وتستيقظ، لكنّ الثقافة التي تقود الحياة هنا لم تتغيّر من حيث الجوهر، كمثل جدران المدينة التي وقعت في شبكة هندسة عمارة عشوائية في متنها وهوامشها. وفيما تنبري الأقلام للحديث عن “نظام الأبد” وسقوطه، وما بعده، يطلُّ وجه المدينة المعماريّ المدمّر في بعض أجزائه، والمتآكل والمتسخ والمتشقق، على مجهولٍ يصعب اكتناهه، وتبقى مرحلتها الانتقالية طحيناً يحتاج إلى من يعجنه كي يخبز رغيف التمدّن والمواطنة، ويقدمه على مائدة الحاضر بينما تستيقظ ثقافة الاتباع المقموعة وتكشّر عن أنيابها.
اختُزلت دمشق في السياسة وصراعاتها، في الدين وتمذهباته، في الانقلابات والتهميش والتفرد بالسلطة والأيديولوجيات الإلغائية الأحادية، في التنكيل الأمني والبراغماتية المزدوجة، وغابت دمشق الثقافة والمواطنة والحرية والديمقراطية، لكن دمشق ليست سياسة فقط بل جيل جديد مختلف من الشبان والشابات جائع للحياة الكريمة، هي ماض وحاضر ومستقبل وعمارة واجتماع وحداثة وتخلّف وتقدّم ورجعيّة وسلفيّة وراديكاليّة، هي سنة وشيعة وعلويون وأكراد وشركس وأرمن وتركمان ومسيحيون ودروز وإسماعيليون، وهي أيضاً علمانيون ويساريون وقوميون وسلفيون وأصوليون ومتدينون غير مسيسين وملحدون وصوفيون وبشر عاديون لا يُصنّفون في هذه القوالب، وهي شعراء وسينمائيون ومسرحيون ونحاتون ورسامون وصحافيون ومفكرون وموسيقيون ورياضيون ونساء يناضلن من أجل قضايا النساء وجمهور متعطش إلى أن يعيش حياةً مدنية، أن يتنفّس هواء الحرية، التي حُرمَ منها على مدى عقود.
قضى حزبُ البعث على الثقافة، وقاد الدولة والمجتمع إلى الخراب. وفي ظلّ نظامه العسكريّ لم يعبر في سوريا وزيرُ ثقافةٍ واحد صنعَ ثقافةً حقيقيةً، ولم يعبر وزير تربيةٍ بنى مدرسة حقيقية، أو وضع مناهج تواكب العصر وتطور المعرفة، ولم يُعيّن وزير دفاع انتصر في معركة حقيقية، أو وزير إعلام صنع صحيفة حقيقية تستحقّ القراءة، أو يمكن تُقارن، على سبيل المثال، بالصحف اللبنانية الرائدة. ولم يستقل أي من هؤلاء احتجاجاً حين لم يحدث ذلك. كانوا كلهم قابلين بالوضع القائم ومتنفعين من سلطة الوظيفة. وكان السوريون، الذين يحملون فكراً مغايراً، ينشرون في صحف خارج البلاد، والقراء الحقيقيون يهرّبون ما يقرأونه لأن مدينتهم لم تكن مدينة ثقافة، كانت مدينة سياسة مراقبة أمنياً، ومفصّلة على مقاس “القائد الخالد” ووريثه. وفي هذه الظلال كانت دمشق تخون المدينة كتمدّن وتحضرّ وانفتاح وعمران، تتوسع عشوائياً وتزدحم وتضيق بسكانها، وتنتقل من هوية قسرية إلى أخرى في إعلانات استعراض القوة والهيمنة على شاشة السياسة. ونسمع اليوم عبارات وتصريحات مفخّخة مفادها أن دمشق عادت إلى أهلها، فهل الأهل الذين عادت إليهم ديمقراطيون ومنفتحون يؤمنون بدولة المواطنة أم أيديولوجيون ومذهبيون، لا يجسّدون دولة المدينة، ولم ينتظموا بعد في شكل حكم يعكس التنوع والتعدد السوري؟
ثمة من يصوغ في دمشق سرديةَ صراعٍ بين هويتي الغالب والمغلوب، ويشحنها بالأيديولوجيا، وكلتاهما قسرية ومستعادة، ماضوية وسلفية، لا وجود فيها للآخر، المُخوّن والمكفّر. تتواشجُ هذه السردية مع قبح الهوية المعمارية، ذلك أن جمال العمران في دمشق موضع شبهة، ليس فيها فنّ عمارة يمنحها هوية جمالية، كما أن خصرها مطوّق بأحزمة بؤسٍ من بيوت مرتجلة وعشوائية مخالفة بُنيت بين عشية وضحاها، ومهددة حتى بالهزات الخفيفة على مقياس ريختر.
في كتابها (حياة وموت المدن الأمريكية الكبيرة) الصادر سنة ١٩٦١ تحدثت جين جاكوبس (١٩١٦-٢٠٠٦) عن هوية المدن، ودعت إلى تصميم معماريّ أكثر عضويةً للمدينة يتمحور حول الإنسان لأنّ هوية مدينة ما ليست نتاج هندسة عمارة مهيبة، أو تصميمات تذكاريّة فحسب، بل تُبنى من خلال التفاعلات اليومية لسكانها. وتحدّث باحثون آخرون عن مدن تتوحّد فيها البشرة البيضاء مع السمراء، ويتجاور مطعم إثيوبي مع آخر ياباني وصينيّ وعربي ومكسيكي وإيطالي، ويتجاور معبد بوذيّ مع مسجد أو كنيسة أو كنيس، وهناك أيضاً البار والمقهى، ويعيش في المكان الملحد والمؤمن واللاأدري، والراديكالي وغير المكترث بهذا كله، وتسير المرأة محجبةً أو سافرة دون خوف. وتولد في المدينة حياة شارع حية، بوجود جماعات متنوعة تنغمس في أنشطة يومية، تكوّن بذلك هويتها. فالتنوع الثقافي والعرقي والقومي والديني، في تجلياته الحضارية والثقافية المنفتحة والمعانقة للآخر، هو الذي يصنع المدينة، ودمشق لا قيمة لها إلا في إطار العناق بين ابن الريف وابن المدينة، ابن الشمال وابن الجنوب، ابن الساحل وابن الداخل، ابن البادية وابن السهول والجبال، وبين الكردي والعربي، وبين المسيحي والمسلم، ولا قيمة لها من دون خصوصية درزية وخصوصية إسماعيلية وخصوصية شيعية وخصوصية سنية وخصوصية مرشدية وخصوصية علوية وخصوصية مسيحية، شرط ألا تتعدى هذه الخصوصيات حدود الإيمان والعلاقة بين الذات وخالقها، وألا تفرض نفسها على الآخر من خلال السياسة القمعية. وهذا لا يتحقق إلا في دولة مواطنة، تمثل الفروق، وتحميها، وتنطق باسمها من أجل مصلحة الجميع.
إن دمشق خلطة قابلة للتطوير مفتوحة على مزيد من التنوع وهذا ما يمكن أن يمنحها هوية جمالية وثقافية وحضارية استثنائية، وبسبب هذه القوة الحضارية الكامنة فيها لم تصمد الدكتاتورية العسكرية، ولن تصمد الدكتاتورية الدينية، ولهذا لم تصبح مدينة للطم، كما لن تصبح مدينة أموية بالمعنى الأيديولوجي. لن تكون دمشق النقية الصافية التي لوّثها غبار الأرياف، الذي تحدثت عنه جمعيات أرستقراطيي دمشق، الذين كانوا يعيشون في منازل فخمة ويرتادون الفنادق والمطاعم الفاخرة ويظنون أن أفقهم هذا هو المدينة الحقة. إن ما يمنح دمشق عظمتها هو هذا الخليط العجيب، الفسيفساء السورية الإبداعية، التي يجب أن تصنعها الآن بالمعنى السياسي والثقافي، ذلك أن الهوية مستقبل وليست ماضياً، إبداع ينطق بمكونات الحاضر، ويقودها نحو أفق جديد من الانسجام، وليست استعادة لشكل من الماضي. وإذا كان لونٌ قد طغا على آخر في لعبة السياسة، وبفعل الاستبداد ودكتاتورية الأسد العسكرية المتوحشة، التي قامت على التغول الأمني، فإن لوحة دمشق بحاجة إلى إعادة رسم بألوان متعددة تعكس تنوعها الثقافي الفريد. ولهذا لن تكون دمشق سنية ولا علوية ولا شيعية ولا مسيحية ولا درزية ولا إسماعيلية، لأنها القلب الذي يجب أن ينبض بهذا التعدد كله، وبمن يصنعون لوحتها الفريدة في شكل حكم متطور وديمقراطي، ما يزال حلماً، شكل حكم يحتضن المواطنة الحقة، المحمية بالحقوق. وإذا كانت دمشق ستعود إلى أهلها يجب أن تعود إلى أهلها مواطني دولة المواطنة والقانون، إلى من يجعلون منها مدينة فريدة بتعددها وألوانها الثقافية، تزهو بين الأمم، لا إلى أهلها المفرغين في قوالب مذهبية وأيديولوجية أحادية التوجّه والبعد، لهذا يجب ألا يُنظر إلى دمشق كمدينة مكتملة تعيش في الماضي، يمكن أن تُسْرَج وتُلْجَم مذهبياً، أو ”نوستالجياً“، بل بوصفها مشروعاً مفتوحاً على البناء والتطوير المتواصل في أفق الحرية.
لقد دمّر عنف السلطة الاستئثاري بكرسي السلطة دمشق على الصعيد العمراني والاجتماعي، ولهذا تحتاج إلى علاجٍ في غرفة العناية الفائقة لأبنائها المؤمنين بها كمدينة للجميع، وإعادة نظر في هويتها كمدينة معمارياً، ذلك أن نظام البعث لم يكن يهمه إلا ”تماثيل القائد الخالد“ وتماثيل ابنه، ولم يصرف على الارتقاء بجمال العمران، وحين ثار عليه ريفها دمّره دون رحمة. وما يبدو جلياً في دمشق هو تشوهها المعماري واتساخها وضيق شوارعها وتخلخل بيوتها وغياب أفق التنفس والمواصلات المريحة والحياة الكريمة. أما في دمشق القديمة على سبيل فليس هناك انسجام جمالي بين العمارات، وتهيمن عليها النزعة التجارية الاستهلاكية، وتحولت البيوت القديمة فيها إلى مطاعم وحوانيت وبارات. ويفتقر القسم الحديث من دمشق إلى تناغم معماري، إذ تختلط المباني التي تعود إلى الحقبة الاستعمارية مع العمارة العثمانية والمباني الحديثة من حقبة ما بعد الاستقلال، ما شوّه وجزأ هويتها المعمارية.
ما يريده السوريون عموماً في النهاية هو مدينة جميلة ونظيفة يسودها التمدن وتزدهر فيها الثقافة والصحافة الحرة ويسكنها المواطن، ابن دولة المواطنة، التي يتم فيها تداول السلطة ديمقراطياً بانتخابات نزيهة، مدينة لا تختزل أبناءها في طوائف، ولا تقولبهم في توجهات سياسة أو مذهبية أحادية، وتحرس حريتهم كي يعاودوا رسم هويتهم الفردية، وابتكار انتماءاتهم في هذا الضوء. بالتالي لا شيء إلا فضاء الحرية هو الذي يسمح للذوات التي تعكس التعدد والتنوع الثقافي بأن تكبر بنفسها وبمنجزها وتتناغم حضارياً وسياسياً وثقافياً، وتبدع وجودها المدنيّ، وتبني المؤسسات والمعايير الاجتماعية المشتركة، وأنظمة التعليم التي تعزز الهوية المدنية وتنتقل من الإنسان المتمذهب والمفرغ في قوالب إلى الإنسان المتمدن، العام، المتجاوز للحدود العشائرية والطائفية والعرقية، والمتمرد على القوالب التي يفصّلها عميان الأيديولوجيا.
بواسطة عمر الشيخ | يناير 31, 2025 | Cost of War, العربية, بالعربية, تقارير, مقالات
حين نعود بالزّمن إلى ما قبل سقوط نظام الأسد في سوريا، نجد أنفسنا أمام مشهدٍ ثقافيٍّ ضعيفٍ يخفي خلفه واقعًا قمعيًّا. كانت الكتب والمجموعات الشّعريّة الصّادرة عن الهيئة السّوريّة للكتاب، إلى جانب الرّوايات والمجلاّت، مجرّد واجهةٍ تروّج للإبداع المزيّف تحت سيطرة السّلطة. منذ أوائل ثمانينيّات القرن الماضي، فرضت القيود القمعيّة على الحرّيّة الثّقافيّة، ما أدّى إلى تدجين الإبداع السّوريّ. تفاقمت هذه الأزمة الفكريّة حتّى بلغت ذروتها مع عجز المؤسّسات الثّقافيّة عن مواكبة صرخات الثّورة السّوريّة في آذار/مارس ٢٠١١.
وعلى مدى عقودٍ من حكم آل الأسد، تحوّلت المؤسّسات الثّقافيّة في سوريا، إلى جانب الجمعيّات والأفراد، إلى أدوات دعايةٍ تخدم السّلطة وتروّج لروايتها الرّسميّة. هذه المؤسّسات شوّهت المشهد الثّقافيّ السّوريّ من خلال تصنيف أيّ معارضةٍ على أنّها “إرهابٌ”، بينما كانت الحقيقة تعكس واقعًا مأساويًّا تجلّى في استهداف المدنيّين، وتهجير العائلات، والزّجّ بالمعارضين في السّجون. بدلًا من أن تكون المؤسّسات الثّقافيّة مناراتٍ للإبداع ومساحاتٍ حرّةً تعبّر عن آلام النّاس وأوجاعهم، أصبحت أداةً لقمع الحقيقة وإقصاء الأصوات المستقلّة.
افتقدت هذه المؤسّسات لأيّ محاولةٍ جادّةٍ لتبنّي قراءةٍ بديلةٍ أو لتوثيق معاناة الضّحايا، ممّا حوّلها إلى وسيلةٍ لطمس الحقائق، بدلًا من أن تكون منبرًا للحرّيّة والدّفاع عن الشّعب.
وفي الوقت الحاليّ، يستمرّ المشهد الثّقافيّ السّوريّ في التّقوقع داخل إطارٍ مهادنٍ يتماهى مع الواقع المفروض، بعيدًا عن الاحتكاك الحقيقيّ مع القضايا الكبرى الّتي أثارتها التّجربة الثّوريّة. هذا التّراجع يعكّس عجز المؤسّسات الثّقافيّة عن مواكبة التّطلّعات الشّعبيّة لإسقاط النّظام وإقامة دولةٍ جديدةٍ تقوم على الكفاءة وتحرير الإبداع من قبضة الولاءات السّياسيّة، كما كان الحال خلال حكم البعث.
بدلًا من أن تصبح الثّقافة منبرًا لإعادة بناء الهويّة السّوريّة وتجديد روح المجتمع، لا تزال محصورةً في أطرٍ مكرّرةٍ، تفتقد للجرأة والانفتاح على التّجارب الثّوريّة الّتي أظهرت قدرة السّوريّين على الحلم بدولةٍ تعكس تنوّعهم وآمالهم.
اليوم، بات من الضّروريّ أن يتحرّر العمل الإبداعيّ في سوريا من القيود القديمة ليجد سياقه الاجتماعيّ والثّقافيّ الّذي يتطلّب تفاعلًا جادًّا وحقيقيًّا. السّينما، الدّراما، الكتابة الإبداعيّة بمختلف أشكالها شعرًا، نثرًا، قصّةً، وروايةً، إلى جانب الفنون التّشكيليّة والمسرح، تمثّل مجالاتٍ أساسيّةً لإعادة بناء الهويّة الثّقافيّة السّوريّة. لتحقيق ذلك، لا بدّ من تفكيك الهياكل الإداريّة والمعنويّة الّتي كرّست التّبعيّة لأجهزة الدّولة، واستبدالها بهياكل مستقلّةٍ تتيح للإبداع حرّيّة التّعبير والانفتاح.
يتطلّب هذا التّحوّل احتكاكًا حقيقيًّا بالثّقافات والتّجارب العالميّة، خاصّةً في البلدان الّتي حقّقت تقدّمًا في حرّيّة الإبداع، مع توجيه الجهود نحو تلبية احتياجات المجتمع السّوريّ وإبراز همومه وتطلّعاته.
يمكن للفنون أن تكون منصاتٍ حقيقيّةً للتّعبير عن الهموم الفرديّة والجماعيّة، تساهم في تخفيف العبث والاضطراب الّذي يعيشه الإنسان السّوريّ نتيجة الظّروف القهريّة. لتحقيق ذلك، يجب أن تتمتّع هذه التّجارب الإبداعيّة بالحرّيّة الكاملة، تحت حماية سلطة القانون الّتي تحترم الثّوابت الوطنيّة، مثل الهويّة ووحدة الأراضي، وتنبذ العنف والانقسامات.
في هذا السّياق، يمكن للفنون بمختلف أشكالها أن تنقل آلام النّاس وقصصهم إلى العالم، ممّا يتيح لهم مشاركة هذه الأوجاع مع الآخرين، ويخفّف من وطأتها على الأفراد. هذا النّهج، إذا استند إلى قيم التّنوّع والتّعدّديّة، يمكن أن يعيد للإبداع دوره الحقيقيّ كمرآةٍ للمجتمع ومصدر أملٍ للتّغيير.
وفي سوريا، تبرز الحاجة الماسّة إلى تحرير مجالات الإبداع من قيود الدّعاية السّطحيّة، وإعادة تفعيلها كأدواتٍ حيويّةٍ تسهم في نشر الوعي، توثيق القصص الإنسانيّة، والتّعبير عن الأفراح والأتراح. يمكن لهذه المجالات أن تكون وسيلةً لجمع السّوريّين على طاولة الحوار الإبداعيّ، وربط المدن والمناطق المختلفة بتجارب مشتركةٍ تسهم في تعزيز التّفاهم المتبادل. لتحقيق ذلك، يجب توجيه هذه الجهود نحو معالجة هموم الأفراد والجماعات، بما يساعد على فهمٍ أعمق لتفاصيل حياتهم اليوميّة ومعاناتهم. الإبداع، في هذا السّياق، يمكن أن يصبح لغةً جامعةً تسلّط الضّوء على التّنوّع والغنى الثّقافيّ، وتعبّر عن تطلّعات المجتمع نحو مستقبلٍ أكثر عدلًا وإنسانيّةً.
إنّ الأعمال الإبداعيّة في سوريا يجب أن تتحرّر من هيمنة السّلطة الّتي تسعى إلى تجهيل الأفراد والتّعتيم على قضاياهم، لتتحوّل إلى مرآةٍ صادقةٍ تعكس تطلّعات النّاس وآمالهم. سوريا اليوم بحاجةٍ ماسّةٍ إلى تجديدٍ فكريٍّ وثقافيٍّ يعبّر عن تنوّع مجتمعاتها وغناها الثّقافيّ، ويعيد بناء النّسيج الثّقافيّ والاجتماعيّ بعيدًا عن القيود التّقليديّة الّتي أعاقت تطوّره لعقودٍ.
وبالتّالي يجب دعم المبادرات المستقلّة الّتي تمنح المبدعين حرّيّة التّعبير، وتشجيع الأنشطة الثّقافيّة الّتي تعبّر عن تنوّع الهويّة السّوريّة.
في سوريا، لدينا وزارةٌ للثّقافة، وعشرات المراكز الثّقافيّة، والمكتبة الوطنيّة في ساحة الأمويّين، ودار الأوبرا بدمشق، وعددٌ من المسارح في بعض المدن. ومع ذلك، تبقى هذه المؤسّسات، بحالتها الرّاهنة، بعيدةً عن تحقيق الهدف الأسمى المتمثّل في تعزيز وعي المجتمع ومخاطبة العقول.
لماذا لا يتمّ إجراء مسحٍ شاملٍ لدور هذه الهيئات وأدائها الحاليّ؟ يمكن لهذه الخطوة أن تكشف عن مواطن القوّة والضّعف، وتساعد في إعادة توجيه هذه المؤسّسات لتكون أكثر ارتباطًا باحتياجات النّاس.
الثّورة، الّتي خاطبت وجدان السّوريّين، أكّدت ضرورة إحداث تغييرٍ جذريٍّ في كلّ مستويات المجتمع، بما فيه القطاع الثّقافيّ.
السّؤال الأكثر إلحاحًا هو: هل تكفي الوجدانيّات والرّوحانيّات وحدها لبناء وعيٍ سياسيٍّ متينٍ وتعزيز الفهم الفكريّ لمسار تطوّر الدّولة الجديدة؟ يجب التّركيز على نوعيّة الأنشطة الثّقافيّة، وتعزيز حضورها في المشهد العامّ، وفتح المجال أمام الحرّيّات الثّقافيّة لتصبح أداةً في الواقع الاجتماعيّ.
يمكن الاستفادة من نماذج ثقافيّةٍ ناجحةٍ داخل سوريا وخارجها، كمصدر إلهامٍ لإعادة بناء المشهد الثّقافيّ. على سبيل المثال، شهدت دولٌ مثل لبنان والعراق مبادراتٍ ثقافيّةً رائدة بعد أزماتٍ حادّةٍ، تمثّلت في مهرجاناتٍ فنّيّةٍ وأدبيّةٍ مستقلّةٍ، ومعارض كتبٍ شاملةٍ، ومراكز ثقافيّةٍ مجتمعيّةٍ أصبحت منصّاتٍ لتبادل الأفكار وتخفيف الاحتقان الاجتماعيّ.
حتّى في سوريا، قبل اندلاع الحرب، ظهرت بعض التّجارب الملهمة، مثل الأنشطة الّتي أقامتها مكتباتٌ محلّيّةٌ أو جمعيّاتٌ مستقلّةٌ، الّتي كانت تسعى رغم القيود المفروضة إلى تعزيز الوعي الثّقافيّ والتّنوّع الفكريّ. إنّ إعادة إحياء مثل هذه المبادرات، مع تطويرها لتكون أكثر شمولًا واستقلاليّةً، قد تسهم في تقديم نموذجٍ ثقافيٍّ مستدامٍ يواكب تطلّعات السّوريّين لمستقبلٍ أكثر إشراقًا.
لقد شاهدت مؤخّرًا تقريرًا على قناة الجزيرة من دمشق، يسلّط الضّوء على انفتاحٍ جزئيٍّ في المكتبات بعد سنواتٍ من القيود الصّارمة على عناوين معيّنةٍ. اللاّفت أنّ هذا الانفتاح اقتصر -بحسب التّقرير- على كتبٍ مثل مؤلّفات ابن تيميّة وأدهم الشّرقاويّ، ممّا يثير تساؤلًا حول طبيعة الأفكار الّتي يجري تحريرها.
تزامن ذلك مع نشاطٍ ثقافيٍّ دينيٍّ أقيم في دار الأوبرا بدمشق، ورغم أهمّيّة هذا النّوع من الأنشطة، إلّا أنّه يعكس انحيازًا ويطرح أسئلةً حول غياب الفعاليّات الثّقافيّة الأخرى الّتي تعبّر عن التّنوّع الحقيقيّ لدمشق وسوريا بأكملها. ورغم الانتقاد الموجّه للنّشاط الثّقافيّ ذي الطّابع الدّينيّ، فإنّه من الضّروريّ الإشارة إلى أنّ الأنشطة الدّينيّة، إذا كانت غير مسيّسةٍ أو موجّهةٍ لخدمة أجنداتٍ محدّدةٍ، يمكن أن تكون جزءًا من التّنوّع الثّقافيّ المنشود.
التّحدّي يكمن في تحقيق التّوازن بين هذا النّوع من الأنشطة وبين الفعاليّات الثّقافيّة الأخرى الّتي تمثّل مختلف التّوجّهات الفكريّة والإبداعيّة، بما يضمن شموليّة المشهد الثّقافيّ وتعدّديّته.
ترى أين معارض الكتب الّتي تقدّم وجباتٍ فكريّةً وثقافيّةً متنوّعةً؟ أين تلك الكتب الّتي قمعت لسنواتٍ لأنّها تتناقض مع أيديولوجيا النّظام السّابق؟
أعتقد أنّ سوريا بحاجةٍ ماسّةٍ إلى أنشطةٍ ثقافيّةٍ، سواءٌ أهليّةٌ أو رسميّةٌ، تكون حقيقيّةً وفعّالةً في تعزيز وعي المجتمع، أنشطة تقرّب النّاس من بعضهم البعض، تعزّز فهمهم المتبادل لأفكارهم وتطلّعاتهم، وتفتح الآفاق أمام العقول لاستكشاف أفكارٍ جديدةٍ. كما يجب أن تفسح هذه الأنشطة المجال لسماع أصواتٍ وطنيّةٍ مستقلّةٍ، بعيدًا عن هيمنة العسكر أو الدّين، مع توجيهها نحو تعزيز التّشارك المجتمعيّ.
هذه الضّرورة تبرز أهمّيّة بناء وعيٍ جديدٍ يتماشى مع تطلّعات السّوريّين لمستقبلٍ يلعب فيه الإبداع والثّقافة دورًا محوريًّا في تعزيز الانتماء الوطنيّ، وترسيخ قيم التّنوّع والتّعدّديّة، وقبول الآخر، والعمل على تحقيق السّلم الأهليّ.
لتحقيق هذا الهدف، لا بدّ من وضع خطّةٍ واضحةٍ تشمل خطواتٍ عمليّةً يمكن تنفيذها على أرض الواقع. من ذلك، إطلاق برامج تدريبيّةٍ تهدف إلى دعم المواهب المحلّيّة وتنميتها، وإنشاء شراكاتٍ ثقافيّةٍ مع مؤسّساتٍ دوليّةٍ تسهم في تبادل الخبرات والاطّلاع على تجارب الدّول الأخرى.
يمكن تعزيز الإنتاج الثّقافيّ من خلال إنشاء منصّاتٍ مستقلّةٍ لدعم الكتّاب والفنّانين والشّباب المبدعين، وتشجيع الفعاليّات الّتي تعبّر عن التّنوّع الثّقافيّ السّوريّ، مثل معارض الكتب المستقلّة، والمهرجانات الفنّيّة متعدّدة الاختصاصات.
إنّ التّحرّر الإبداعيّ يشهد اليوم ازدهارًا استثنائيًّا في تفاعله مع الشّارع السّوريّ، ومع اتّساع دائرة التّواصل بين المدن الّتي كانت فيما مضى مغلقةً على بعضها البعض بفعل الخوف الممنهج من الاختلاف. هذا الواقع الجديد يضع على عاتق الإبداع مسؤوليّةً كبرى في جمع النّاس من مختلف الانتماءات، ليوحّد أصواتهم حول مفهوم الحرّيّة في سياق الإبداع السّوريّ.
يتجلّى ذلك من خلال إنتاجهم الثّوريّ الّذي يواجه كافّة أشكال الطّغيان، والتّبعيّة، والهيمنة السّلطويّة على الأفراد.
بواسطة حيان درويش | يناير 27, 2025 | Cost of War, News, Reports, العربية, بالعربية, تقارير, مقالات
توقفت الصحف الرسمية عن طباعة النسخ الورقية مع جائحة كورونا، إلا أن الأمر لم يكن إلا مقدمة لاختفاء هذه النسخ بسبب رغبة وزارة الإعلام في زمن النظام السابق في خفض النفقات، الأمر الذي كان قد سبقه إيقاف قناة “تلاقي”، ومن بعدها إذاعة “صوت الشعب”، ليبقى الإعلام السوري الحكومي في ذلك الوقت محصوراً بقنوات “السورية – دراما – الإخبارية – إذاعة دمشق – إذاعة سوريانا”، علاوة على المواقع الإلكترونية التي تتبع لصحف “البعث – تشرين – الثورة”، وكمصدر أساس للأخبار الرسمية، بقيت “وكالة الأنباء السورية – سانا”، مع وجود مجموعة من الإذاعات المحلية وصحيفة الوطن، فتجربة صحيفة “الأيام”، لم تكن طويلة بسبب الضغوط العالية التي مارستها السلطات آنذاك على الصحيفة، واعتقال مالكها “محمد هرشو”، ما تسبب بهجرته إلى الإمارات العربية المتحدة، ليعمل من هناك في الإعلام من خلال موقع “هاشتاغ سوريا”، وكل محاولات رفع سقف الحرية في التعبير من قبل وسائل محدودة كانت تغامر بالأمر مثل “إذاعة شام آف إم – موقع أثر برس – موقع كيو ميديا”، كانت تصطدم برد فعل عنيف من قبل “المكتب الإعلامي في رئاسة الجمهورية”، والذي تسلمته في أوقات الذروة من الحدث السوري “لونا الشبل”، التي توفيت في حادث سير ما زال ذكره يرتبط بالكثير من التفسيرات التي تشير إلى قيام النظام بتصفيتها، إذ ترافق الأمر حينها مع معلومات عن اعتقال شقيقها من قبل مخابرات النظام، وتأكد الأمر من خلال تغيبه عن الجنازة المتواضعة التي شيعت من خلالها “الشبل”، ومن ثم لم يظهر له أثر بعد سقوط النظام، ما يشير أيضاً إلى تصفيته ربما. ضمن هذا المناخ العام كانت وسائل الإعلام النشطة خلال الفترة الممتدة ما بين العام 2011 وحتى سقوط النظام تعمل ضمن ما يمكن تسميته بـ “الإعلام الموجه”، بعض هذا الإعلام وجه قسراً ودون رغبة القائمين عليه، والبعض الآخر اتخذ اصطفافاً سياسياً واضحاً تبعا لرغبة المالك، مثل “قناة الدنيا”، التي تحولت إلى “سما” بسبب العقوبات الدولية التي تعرضت لها القناة آنذاك، والأمر نفسه ينطبق على صحيفة الوطن التي كانت تتبع لـ “مجموعة راماك”، المملوكة من قبل “رامي مخلوف”، رجل الأعمال الأكثر شهرة.
مصير الصحف
لا يبدو مصير الصحافة السورية مبشراً خلال الفترة الحالية، فإن كان غياب جريدة البعث عن الساحة طبيعياً بفعل قرار الحزب بتعليق نشاطه إثر سقوط النظام تبعاً للبيان الذي جاء موقعاً من قبل “إبراهيم حديد”، الذي شغل منصب الأمين العام المساعد في الفترة الأخيرة، فإن الإدارة السورية الجديدة لا تبدي أي خطوة في إعادة طبع الصحف، إلا أنها أصدرت تعليمات بتغيير اسم صحيفة “تشرين”، إلى “الحرية”، مع تغيير الهوية البصرية للصحيفة وتغيير ألوان شعارها من الأبيض والأزرق إلى الأبيض والأخضر، فيما بقي اسم صحيفة “الثورة”، على حاله، وسبب التغيير حسب المعلومات التي حصلنا عليها هو ارتباط مسمى “تشرين”، بالنظام السابق، فالاسم من وجهة نظر متخذي قرار التغيير لا يرتبط بحرب تشرين بقدر ما يرتبط بتمجيد الانقلاب الذي نفذه حافظ الأسد للوصول إلى السلطة في تشرين الثاني /نوفمبر من العام 1970، وهو الانقلاب الوحيد في التاريخ السوري المعاصر الذي حمل اسم “الحركة التصحيحية”، وعلى الرغم من إن صحيفة “الثورة”، تحمل اسماً يمجد الانقلاب الذي نفذ في تاريخ “8 آذار / مارس”، من العام 1963 والذي أفضى إلى تسلم حزب البعث السلطة بشكل رسمي في سورية، إلا أنها بقيت حاملة لاسمها فهو يشير إلى مفهوم “الثورة”، من حيث المطلق، ويمكن أن يستخدم لتمجيد ثورة 18 آذار من عام 2011 والتي أفضت إلى إسقاط النظام السابق، وضمن هذه الأجواء لم يزل مصير الصحيفتين على المستوى المهني مجهولا، وغير مبشر بالمطلق.
يقول أحد الصحافيين العاملين في صحيفة “الثورة”، والذي يفضل عدم ذكر اسمه، أن ممثلي وزارة الإعلام أجروا عملية “إعادة التقييم”، للعاملين في الصحيفة وتم منح 55 من العاملين وغالبيتهم من الصحافيين إجازة مدفوعة الأجر، وتم التواصل مع بعض من منحوا إجازة ليعودوا إلى العمل، ورئيس التحرير المعين من قبل الإدارة الجديدة، “أحمد حمادة”، يعمل على إعادة كامل من تم منحهم إجازات، وتعمل حالياً الصحيفة من خلال الموقع الخاص بها ونسخة إلكترونية من العدد. ولكن على الرغم من إن النظام السابق سقط، إلا أن عقلية إدارة الصحف الرسمية لم تتبدل، فهي موالية لـ “الإدارة السورية الجديدة”، وبحسب الصحافي ذاته فإن الأمر طبيعي، فإن الإعلام الحكومي بطبيعة ملكيته للحكومة فإنه ينطق بلسان حالها، ولا يمكن أن يكون إلا موالياً لها، ويحاول تقديم أفعالها للجمهور بطريقة تروج للحكومة، لا تنتقدها، وهذا الدور يطلب غالباً من وسائل الإعلام الخاصة لا العامة، وبالتالي لا يبدو أن الثورة أو غيرها من الصحف الرسمية ستخرج عن هذا السياق.
أثناء حديث ودي مع أحد أعضاء اتحاد الصحافيين الذي كان موجوداً في زمن النظام السابق كمؤسسة إعلامية من المفترض أنها تعمل كنقابة، يظهر واضحاً أن هذا الاتحاد منذ تأسيسه عام 1974 لم يكن خارج النص البعثي، إذ يتم انتخاب، أو لنقل تعيين من تريده القيادة القطرية في منصب “رئيس الاتحاد”، وأعضاء القيادة المركزية. ولم يكن الاتحاد قادراً في أي يوم على ممارسة دوره في حماية الصحافيين السوريين من الممارسات المخابراتية، ولا من قانون “الجرائم الإلكترونية”، الذي يبدو أن النظام أصدره أساساً للتحكم بـمسار الصحافيين حتى على صفحاتهم الخاصة على مواقع التواصل الاجتماعي. ويقول عضو الاتحاد الذي فضل عدم ذكر اسمه خلال حديثه لـ صالون سوريا: “المؤسسات الصحافية السورية ذات تاريخ عريق في المهنة على الرغم من أنها مملوكة للحكومة، وكان متحكماً بها.
الهيئة العامة: ما مصيرها؟
يُحكى منذ سقوط النظام عن تطوير منظومة التلفزيون السوري ليكون منافساً للقنوات الخاصة، ويُحكى أيضاً عن عملية إعادة تأهيل للكوادر، وإلى الآن لم يظهر مما يحكى إلا عملية إعادة التقييم، التي تصفها مذيعة تخشى من ذكر اسمها خلال حديثها لـ صالون سوريا بأنها تمت من قبل أشخاص لم يكونوا مهنيين، وتقول: لا يوجد قواعد واضحة لإبعاد مذيع أو محرر من العمل من خلال الإجازات القسرية التي منحت، فإحدى اللواتي تم إبعادهن عن العمل بإجازة ذات صوت معتمد من كبرى شركات الإنتاج لدبلجة البرامج الوثائقية، وكانت تعمل ضمن إحدى الإذاعات التابعة للهيئة، كما أن مذيعة تلفزيونية أجبرت على الإجازة وهي من ذوات الظهور اللائق والأداء المشهود له، ولا يمكن تبني وجهة النظر التي تقول آن الإبعاد تم بسبب الانتماء الطائفي، فكلا الشخصين اللذين ذكرتهما ليسا من الطائفة العلوية، ولم يكن لهما أي مواقف معلنة لتأييد النظام السابق، وبما أن الحديث عن عمل إعلامي فمن المؤكد أنهما لم تكونا كمذيعتين شريكتين في سفك الدم، ولكونها من النماذج النشيطة جداً في عملهما، يتأكد أن إعادة التقييم لم تكن جدية.
ويشير صحافي كان يعمل في الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون في سورية، إلى أن الآمال المبنية على التلفزيون السوري مستقبلا بأن يكون تنافسياً وقادراً على الحضور في المجتمع السوري خصوصاً، كوسيلة يمكن تصديقها، تبدو مثل ذر الرماد في العيون، فالوسيلة الإعلامية الحكومية لن تقدر على ممارسة الدور الرقابي المأمول منها، ولن تخرج عن دائرة الإعلام الذي تتحكم به الحكومة لتقدم مقولتها للجمهور، ولهذا الجمهور الحق بتصديقها أو تكذيبها بناءً على معرفته بالحقائق أولا، ومن ثم مراقبة وسائل الإعلام الأخرى وكيفية تعاملها مع أي قضية ستطرح من قبل التلفزيون السوري، وبدرجة ثالثة مصادر المعلومات التي منها “وسائل التواصل الاجتماعي”، وهذه الأشياء كان يمارسها الجمهور قبل سقوط النظام وسيبقى على حاله بعد سقوطها. وإذا كان هناك من يريد للتلفزيون السوري، أو المؤسسات الإعلامية الحكومية، أن تعمل بطريقة صحيحة فإن عليه أولاً أن يحررها من قيود “الإعلام الموجه”، الذي كانت تعيشه أيام النظام السابق، ولكن هل يمكن أن تترك وسائل الإعلام الحكومية لتمارس عملها تحت سقف عال من الحريات؟ هذا السؤال تبدو الإجابة عليه مقرونة بالنفي دائما.
هل تخلصنا من “التوجيه”؟
وسائل إعلامية عدة توقفت في سورية لأسباب تتعلق بغياب التمويل، أو نتيجة لتعرضها للتخريب، أو الخشية من العودة للعمل نتيجة ارتباطها بأحد رجال الأعمال المحسوبين على النظام. البيانان المنفصلان اللذان صدرا عن كل من جريدة الوطن، وإذاعة نينار، صبيحة يوم الثامن من ديسمبر / كانون الأول الماضي، وهما وسيلتان كان يملكهما “رامي مخلوف”، وسيطرت عليهما “أسماء الأسد”، بعد إقصائه من المشهد الاقتصادي، يعلنان التبرؤ من سياستهما الإعلامية الداعمة للنظام بالقول “كنا مجبرين”. وتعتبر مصادر صحفية عدة هذا الأمر مؤشراً على “الخوف”، من المرحلة الجديدة، فالمحاولات المبكرة لما سمي بـ “التكويع”، لم تكن ناجحة بالصورة التي كان يأملها القائمون على هاتين الوسيلتين على المستوى الإداري والصحافي. ويقول صحافي يعمل في صحيفة الوطني، شدد على عدم ذكر اسمه خلال حديثه لـ “صالون سوريا”، إن الأخبار التي تصدر عن جريدة الوطن تشرف عليها وزارة الإعلام من خلال ممثلين انتدبتهم إلى الجريدة منذ أن اعتبرت إن “الإدارة الجديدة”، تمتلك الحصة الأكبر في “جريدة الوطن”، نظراً لأنها باتت تمتلك حصة رجل الأعمال المعروف بولائه وتبعيته للنظام السابق، يسار إبراهيم، وذلك لكون أموال يسار هي من أموال الدولة المنهوبة وبالتالي لا بد من استعادة هذه الأموال. ويضيف الصحافي: على الرغم من أن رئيس التحرير وعد بعودة النسخة الورقية وعمليات الطباعة قريباً إلا أن الأمر لم يحدث نهائيا، علماً أن رئيس التحرير مقيم حالياً في فرنسا، إذ غادر البلاد صبيحة سقوط النظام وفقاً لما يعرفه العاملون.
الأمر نفسه ينطبق على عدد كبير من الإذاعات الخاصة، ولا يقبل أي من القائمين على هذه الإذاعات أو العاملين فيها الحديث عن المشكلة التي عرف “صالون سوريا”، بأنها نسخة طبق الأصل عما تعانيه جريدة الوطن، إذ إن “القصر”، تملك نسباً كبيرة من إذاعات “نينار – فيوز إف أم – ميلودي – شام إف إم” عنوة عن أصحاب التراخيص الرسمية في بعضها، ونتيجة لإقصاء صراع “أسماء – رامي”، في بعضها الآخر فيما بقيت إذاعة مثل “المدينة إف أم”، محمية بقرار من “ماهر الأسد”، شخصياً، لكون مالكها “ميزر نظام الدين”، من “أصدقاء الطفولة”، وأحد أذرعه الاقتصادية، وبعد سقوط النظام قررت الإدارة الجديدة أن “ترث”، هذه الإذاعات باعتبار أن الحصص الأكبر فيها مملوكة لشخصيات مرتبطة بـ “النظام”، وقد أسست من “أموال الشعب”، وهذا الإجراء لم يكن بالصورة القانونية، إذ تشير معلومات حصل عليها “صالون سوريا”، إلى أن الإدارة الجديدة وعبر “المحامي الممثل ليسار إبراهيم”، نقلت الملكية الخاصة بمن استهدفهم قرارها إلى شخصيات مرتبطة بها بشكل مباشر، وهذا الإجراء لم يكن قانونيا، إذ من المفترض أن تتم محاكمة رجال الأعمال، وإدانتهم، ومن ثم إصدار قرار بمصادرة هذه الوسائل الإعلامية وتحويل ملكيتها لـ الدولة (أي تأميمها)، أو عرضها في المزاد العلني واستعادة أموال الدولة، لا أن تصبح “وريثاً”، وتتعامل مع هذه الوسائل وكأنها من “غنائم الحرب”، ولا يمكن الحصول على رد رسمي من “وزارة الإعلام”، بوصفها المسؤولة عن الملف.
حالة نقل الملكية التي شملت عدداً كبيراً من وسائل الإعلام الخاصة، وتوقف بعضها الآخر عن العمل بسبب مصادرة المكاتب نتيجة لـ “ارتباطها بإيران”، مثل “قناة العالم سورية”، وقرار البعض التروي، والبعض الآخر نتيجة لـ “انعدام وجود ممول حالياً”، تشير إلى أن الإعلام السوري الذي سينشط حالياً داخل سورية، سيبقى إعلاماً موجها حاله في ذلك حال القنوات التي تقوم باصطفاف سياسي واضح لصالح “الإدارة السورية الجديدة”، مثل “تلفزيون سوريا – التلفزيون العربي”، الممولين من مؤسسة واحدة تتخذ من العاصمة القطرية مقراً لها، إضافة إلى منصة “تأكد”، التي تعمل على تبرير أو نفي الأخبار التي تدين “الإدارة السورية الجديدة”، بدلا من ممارسة دورها الذي تقدم نفسها من خلاله على أنها منصة تهتم بالتأكد من صحة المعلومات المروجة عبر وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، والتحقق من مصادر المعلومة ومحاربة الأخبار المضللة. إلا أن أخطر ما يهدد العمل الصحافي وسلامته حالياً، هو ما ينقله صحافي سوري يعمل حالياً في دمشق بالقول: وزير الإعلام يستقبل ويحتفي ويقدم الفرص لمن يسميهم بـ “الإعلاميين الثوريين”، ويعتبر أن الأفضلية في المرحلة القادمة لهم، على الرغم من إن غالبيتهم مايزالون في خانة الهواة، والإجازة الأكاديمية التي يحملونها هي من جامعات غير معترف بها مقرها في مناطق الشمال السوري مثل جامعة عفرين، كما أن الصحافيين الذين يصنفون أنفسهم على إنهم هواة يطالبون في كل لقاء مع الوزير بإيقاف كل الصحافيين الذين كانوا موجودين في المناطق التي كان النظام يسيطر عليها عن العمل بحجة أنهم موالون للنظام أو كانوا يروجون لدعايته، إلا أن السبب الأساس هو محاولتهم طرد هؤلاء الصحافيين من سوق العمل وترك المجال مفتوحاً فقط لـ “الصحفيين الثوريين”، وذلك لعزوف وسائل الإعلام المرموقة عن التعامل مع هؤلاء “الثوريين”، بسبب قلة خبرتهم وانعدام مهنيتهم في غالب الأحوال.
الخشية من الملاحقة الأمنية تدفع الكثير من الصحافيين، بمن فيهم كاتب هذه المادة إلى إخفاء أسمائهم، ويعكس ذلك حالة الخوف التي مازال الإعلاميون في سورية يعيشونها على الرغم من أن الإدارة الجديدة تشدد على أن زمن الخوف انتهى بسقوط النظام. ويسخر أحد الصحافيين الذين أدلو بشهادتهم ضمن هذه المادة من السؤال عن سبب رفضه ذكر اسمه ليجيب بالقول: “ما بدي كون ضحية حالة فردية”، في إشارة إلى تزايد الانتهاكات التي توضع تحت خانة “حالة فردية – تصرف فردي”، من قبل الحكومة.