موت السينما والحياة الثقافية في اللاذقية

موت السينما والحياة الثقافية في اللاذقية

لا يليق باللاذقية التي تُسمى عروس الساحل أن تتعرض لكل تلك الإنتهاكات والتشويه، فلا يزال سكان اللاذقية (وغيرها من المدن) مُروعين بجريمة تبليط البحر وإزالة أجمل المقاهي البحرية بحجة توسيع المرفأ. لقد أصبحت اللاذقية مدينة ميته تماماً، فلا مسرح راقي حقيقي ولا سينما. وأريد أن أعرض واقع دور السينما في اللاذقية.

بداية أريد أن أحكي عن مرحلة في الستينيات والسبعينيات كانت فيها عدة دور سينما في اللاذقية تعرض أهم الأفلام، ولا أنسى يوم كنت لا أزال في بداية مراهقتي وكنت في مدرسة الكرمليت الخاصة التي تشرف عليها الراهبات كيف اصطحبونا (نحن المراهقات) إلى السينما لنحضر فيلم (رجل وامرأة). وأثناء دراستي للطب البشري من عام 1977 إلى 1984 في اللاذقية كنا نتفق أصدقائي وأنا بعد تقديم كل امتحان أن نحضر فيلماً سينمائياً، وفعلاً حضرنا أروع وأجمل الأفلام في صالات سينما اللاذقية وأشهرها: سينما الكندي، وسينما الأهرام، وسينما أوغاريت.

ولا أنسى كم تأثرت بفيلم (الفراشة) لداستن هوفمان لدرجة أنني حضرته مرة ثانية. وكان أخي مولعاً بأفلام الكاوبوي وحضر عشرات الأفلام، أما سينما أوغاريت الأكبر والأجمل والمؤلفة من طابقين، فقد اشتهرت بعرض الأفلام الهندية وكم ذرفنا من دموع ونحن نحضر هذه الأفلام. وكانت صالة سينما أوغاريت فخمة ونظيفة وجميلة وقد قدمت فيها المطربة المشهورة جين مانسون حفلة حضرها معظم شباب وشابات اللاذقية بكثير من الاستمتاع. كنتُ أكتب على دفتر صغير اسم كل فيلم أحضره وبضعة أسطر عنه. وتجاوز عدد الأفلام التي حضرتها في صالات السينما في اللاذقية المئتي فيلم.

كان الأجمل والأروع أن المسؤولين (في تلك الحقبة من السبعينات وبدااية الثمانينات) سمحوا للشباب والشابات ومعظمهم جامعيون\ات أو أنهوا دراستهم الجامعية أن يُحضروا أفلاماً مهمة أو حديثة قيمة في سينما الأهرام حيث كانت  تُقام بعد كل فيلم جلسة حوار لمناقشته. أذكر أنني كنت لا أزال طالبة في كلية الطب حين كنت أحضر كل خميس أروع الأفلام في سينما الكندي وسط جو فني وثقافي رائع، وبعد انتهاء الفيلم كان الصديقان الشاعر الصديق منذر مصري (والذي كان يملك مكتبة فكر وفن التي كانت علامة حضارية في اللاذقية) والصديق مصطفى عنتابلي يقفان على المنصة في سينما الكندي ويبدآن بالتحدث عن الفيلم وكل الحضور يشارك في الحوار. كم كانت هذه الحوارات مفيدة وغنية. ولا أذكر التاريخ الدقيق لانهيار أهم منبر ثقافي وفني في اللاذقية أي صالات السينما، إذ كنت قد انتقلت إلى دمشق للاختصاص في طب العيون عام 1986 وماتت السينما تماماً في اللاذقية، ولم يتم عرض أية أفلام إلا فيما ندر وتحديداً في سينما الكندي لأن سينما الأهرام وسينما أوغاريت تحولتا إلى خراب، وتكومت هضاب الزبالة في مدخلهما.أما سينما الكندي فكانت تعرض بشكل شبه حصري أفلام عبد اللطيف عبد الحميد، ولم تتم أيه صيانه لسينما الكندي إذ كانت مقاعدها مهترئة والصوت فيها مشوش. وأحب أن أذكر تلك الحادثة حين كان عمر ابنتي خمس سنوات، وأردت أن تعرف معنى السينما وأن تحضر فيلماً سينمائياً، وللعجب كانت سينما الكندي تعرض فيلماً لعمر الشريف هو المواطن مصري، وكنت أعرف أن الموضوع لا يناسب طفلة لكنني اصطحبت ابنتي إلى السينما، وكانت القاعة خالية تماماً! كنتُ وحدي مع طفلتي التي لم تكمل الخمس سنوات وصعب علي إقناعها بالجلوس فكانت تتسلى بصعود الدرج في صالة السينما والنزول، ولأنني كنت أعرف قاطع التذاكر في سينما الكندي فوجئت أنه أحضر لي طاولة صغيرة وضعها بجانبي وفنجان قهوة وبسكويت، وشعرتُ أنني في مقهى وأظنه كان ضجراً لحد الانفجار فأخذ يتحدث إلي متنقلاً من موضوع إلى موضوع فيما الصوت الرديء للفيلم مستمر ولم أعد أركز على أحداث الفيلم إذ أحسست أنني في مقهى أرشف القهوة وأتابع ابنتي تلهو في صالة السينما بصعود الدرج ونزوله. وخرجتُ بعدها بخيبة أمل كبيرة وغصة ولم أجرؤ أن أسأل طفلتي إن كانت السينما قد أعجبتها!

وفي بداية 2011 أصبح وضع صالات السينما كارثياً بدرجة أكبر مما ذكرته سابقاً؛ حيث تحولت سينما أوغاريت إلى ثكنه عسكرية وشُيد مقابلها بناء يضم عناصر من الجيش السوري، وتم إنشاء سور عريض يحيط بمساحة واسعة حول سينما أوغاريت . كان هذا السور مكوناً من دواليب الشاحنات السوداء العملاقة والتي يزداد إرتفاعها كل مدة، حتى أن بعض الجنود وضعوا أصص نباتات في قلب دواليب الشاحنات (أي سور ساحة سينما أوغاريت)، وبعضهم وضع بوطاً عسكرياً ضخماً في داخله تختنق وردة حمراء، ولأن سينما أوغاريت تحولت إلى ثكنة عسكرية وسجن أيضاً فمن وقت لآخر كان المواطنون السوريون في اللاذقية يشاهدون العديد من الجثث يُخرجونها من السينما، ولصق مدخل السينما امتدت بسطات تبيع أرخص وأردأ أنواع المكياج وملاقط الشعر الملونة والمقصات والأهم حبال من شحاطات النايلون. وكنتُ أشعر أن فن السينما الراقي تحول إلى شحاطة في اللاذقية، كنتُ أتعجب من هذا الكم الهائل من الشحاحيط حول سينما أوغاريت، وتعفنت اللافته التي تحمل اسم سينما أوغاريت وصار المشهد كله كما لو أننا في مسرح اللامعقول أو مسرح تمجيد القبح والرداءة واغتيال فن السينما. وإنتعشت محلات بيع الأفلام المُقرصنة، وكان حلاً لا بد منه بل رائعاً أن يحضر الشباب المحرومون من السينما أفلام الأوسكارات وأحدث الأفلام العالمية لكن جماليات شاشة السينما وصوت الديجيتال والجلوس باحترام في صالة السينما وذلك الشعور بالألفة مع الحاضرين حُرمنا منه في اللاذقية. واضطررنا لشراء الأفلام المُقرصنة، وتفجرت فضيحة سينما الأهرام التي يملكها ثري مسيحي عجوز ولا وريث له، وسطا عليها أحد كبار الشبيحة، وصارت ملك الشبيح، لكن مالك سينما الأهرام وبدعم من أصدقائه ومن كل الوطنيين من كل الطوائف لجأ إلى أشهر محامي في اللاذقية لتعود ملكية سينما الأهرام له. وحاول المحامي جهده وتمكن بعد جهود جبارة ووساطات عالية أن يُعيد سينما الأهرام لصاحبها لكنه نصحه أن يتبرع بها للكنيسة الأرثوذوكسية لأن احتمال أن ينقض عليها شبيح آخر ويسلبها من مالكها وارد جداً خاصة أن مالكها رجل عجوز وأعزب ولا وريث له. وفعلاً تم التبرع بسينما الأهرام إلى طائفة الروم الأورثوذكس في اللاذقية.

والسؤال الذي يطرح نفسه: لماذا لم تُجدد صالات السينما في اللاذقية؟ ولماذا أغلقت وتحولت إلى ثكنه عسكرية كسينما أوغاريت أو خرابة تزينها القمامة كسينما الكندي أو شبح سينما صغيرة هي سينما دمشق التي حضر فيها كل أهالي اللاذقية فيلم الفهد؟ لماذا تُصرف الملايين لتشويه أجمل شاطىء في اللاذقية ويُلون الفنار الحجري للكورنيش الجنوبي في اللاذقية بألوان فاقعة قبيحة كما لو أنها تتهافت لدخول موسوعة غينيس في القبح!! لماذا تُهدر الملايين مثلًاً في تبديل الأبواب الخشبية العالية في المشفى الوطني واستبدالها بأبواب من الخشب الرخيص الأشبه بالورق المُقوى! ومن سرق أجود أنواع الخشب (الأبواب في المشفى الوطني). وما معنى الملايين التي هُدرت لسد كل نوافذ غرف المرضى في المشفى الوطني بشبك معدني، بحجة أن المرضى يسرقون أغطية السرير بطريقة رميه من النافذة، لذا فحين يضعون شبكاً معدنياً على النوافذ لن يتمكن المريض من سرقة الغطاء الصوفي الرديء ورميه من النافذة.

تُهدر الملايين من أجل الفساد وتشويه المدينة بينما يقولون: لا توجد ميزانية لتجديد صالات السينما. ومنذ ثلاث سنوات تم تجديد سينما الكندي لكنها بقيت لسنتين دون أن يُعرض فيها أي فيلم! حتى أتحفونا منذ أشهر بفيلم لنجدت أنزور قد يبقى سنوات. وكي أقدم شهادة حق كانت وزارة الثقافة ترعى كل سنة أسبوعاً تعرض فيه الأفلام ذاتها في سينما الكندي وهي: رسائل شفهية لعبد اللطيف عبد الحميد؛ بيت الأرواح لإيزابيل إيلندي؛ وبضعة أفلام أخرى لا تسعفني ذاكرتي بتذكرها. المهزلة وقمة الاحتقار لسكان اللاذقية أنه على مدار أكثر من سبع سنوات كانت تُعرض الأفلام ذاتها في سينما الكندي تحت شعار: أسبوع الأفلام السينمائية. كم هو مُحزن ما يُمارس في حق مدينة جميلة كاللاذقية التي مسحوا فيها عن وجه الأرض أجمل سلسلة مقاهي بحرية كانت متنفساً لأهلها وتحول البحر إلى بحر واسع من الإسمنت، وماتت فيها كل صالات السينما وتحولت إلى ثكنات عسكرية أو خرابة تتراكم الزبالة حولها وتتقافز الجرذان فيها، ولا يجد جيل الشباب المسكين أي بديل أو معين لهم لصرف طاقات الشباب سوى في هدر الوقت في مقاهي الأركيلة المتكاثرة والتي تنافس محلات البالة، فعنوان الحياة في اللاذقية (وفي سوريا عامة) الأركيلة والبالة. أما الفن فلا وجود له، فالمحاضرات الثقافية كلها مختصرة لمواضيع حول الغزو والتطبيع ومعاداة أميركا. المحزن بالنسبة لي أن مدينة بدون سينما هي مدينة بلا روح. ولا زلت أحتفظ بالدفتر الصغير الذي شحبت أوراقه وقد سجلت فيه أسماء حوالي مئتي فيلم حضرتهم لما كانت اللاذقية حقاً عروس الساحل بمقاهيها البحرية ساحرة الجمال وصالات السينما فيها وجرائدها، أما الآن فاللاذقية شاحبة حزينة.

السويداء وكورونا واحتمالات المجهول المرعبة

السويداء وكورونا واحتمالات المجهول المرعبة

* تُنشر هذه المادة ضمن ملف “الحرب على كورونا: معركة جديدة مصيرية للسوريين\ات

شكّل الانتشار الكبير لفيروس كورونا على مستوى العالم وتصّدر أخباره وسائل  الإعلام لحظة بلحظة هاجساً للجميع، وبالرغم من خطورة الموضوع والتقارير المقدمة عن عدد الإصابات والوفيات حول العالم إلا أن المشهد في سوريا اتخذ صبغة خاصة حول ذلك. تم تسجيل إصابات مؤكدة في كل دول الجوار إلا أن سوريا لم تُسجل أي إصابة حتى اليوم حسب الرواية الرسمية، الأمر الذي أثار موجة من الأسئلة في الشارع السوري حول مصداقية التقارير المقدمة وخصوصاً أن هناك الكثير من الأخبار التي انتشرت على وسائل التواصل الاجتماعي تؤكد وجود حالات إصابة بالمرض في أغلب المدن، إلا أن الحكومة تتكتم على الموضوع لأسباب أمنية واقتصادية في ظل واقع الحرب الذي مازال قائماً في البلاد.

وفي خطوة وصفتها بالاحترازية قررت الحكومة السورية فرض مجموعة من التدابير لمنع انتشار المرض مستقبلاً والوقاية منه، ومن هذه التدابير إغلاق المدارس حتى مطلع نسيان وتخفيض نسبة الدوام الرسمي للموظفين واعتماد مبدأ المناوبات وتجهيز المستشفيات وفرق الطوارئ ومقرات الحجر الصحي. كما منعت التجمع في المطاعم والنوادي والأسواق والأماكن الدينية، وقامت بحملات تعقيم للمرافق العامة بالإضافة لحملات التوعية بالمرض وضرورة الالتزام الطوعي بالبقاء في المنزل وتقليل الاختلاط والازدحام ما أمكن.

قوبلت الإجراءات الحكومية المفاجئة من الشارع السوري بردود أفعال متباينة، ففي السويداء على سبيل المثال نرى اختلافاً واضحاً في التعامل مع التحذيرات والقرارات الجديدة بين من يعتبرها ضرورية ولازمة لمواجهة المرض، وبين من يعتبرها إجراءات مبالغاً فيها كثيراً ولا داعي لها أبداً طالما لا توجد حالات إصابة على حد قولهم.

يعتبر بيان (47 عاماً، طبيب) ما تقوم به الحكومة من إجراءات في غاية الأهمية، لكن يبقى التعويل الأهم على وعي الناس في التعامل الجدي مع الوباء. يقول .بيان: “الجميع يدرك مدى محدودية الخدمات والرعاية الصحية الموجودة نتيجة الحرب، ففي حال انتشر الوباء في سوريا سيكون كارثياً بكل معنى الكلمة، المستشفيات والمراكز الصحية لا تستطيع التعامل مع جائحة بهذا الحجم فيما لو حدثت، ولذا يجب على الجميع عدم الاستهتار بالموضوع والالتزام بخطوات الوقاية والتي للأسف لحد اليوم لازالت محدودة وغير جدية.” ويعلق مازحاً: “على غير العادة هذه المرة لم تعقد حلقات الدبكة في الساحات العامة لمواجهة فيروس كورونا، هي فترة محدودة وستمر فإما أن ندخل التاريخ أو نخرج من الجغرافيا”.

ويضيف بيان: “المفارقات التي نراها في الشارع تدعو للقلق، فرغم قرار إغلاق المدارس إلا أن الأطفال يتجمعون في الحارات وكأنها فرصة أو عطلة للعب والتسلية، كذلك الأمر في المناسبات الاجتماعية والزيارات العائلية حتى أن البعض أسماها بعيد الكورونا، حيث وجدوها فرصة للتواصل أشبه بأيام الأعياد. فما نفع الكمامات والمعقمات طالما بقي التواصل الاجتماعي على ما هو، الأمر يحتاج جدية في التعامل حتى لو اضطرت الحكومة لفرضه على الناس فرضاً.”

الحياة الاجتماعية في مدينة كالسويداء لا تزال تحكمها كثير من العادات التي تعتبر تهديداً حقيقياً في حال انتشر المرض فعلاً، الزيارات بين الناس، والتجمعات في المناسبات، وعادات شرب القهوة المرة من نفس الفنجان، و شرب المتة بكأس مشتركة، أو حتى المصافحة والتقبيل، كلها عادات تشكل خطراً حقيقياً ويمكن أن تؤدي لانتشار المرض. ورغم تعليمات الصحة والهيئات الدينية والاجتماعية في المدينة لإلغاء هذه العادات في الوقت الراهن إلا أن الكثيرين يقللون من أهمية تلك الإجراءات واعتبارها خارج سياق الوقاية الفعلية.

يتساءل أبو أحمد (55 عاماً، موظف حكومي) عن فائدة هذه الإجراءات الحكومية في الوقت الذي لا تطبق بشكل جدي على باقي مناحي الحياة في المدينة، ويقول: “لا تكون الوقاية بالشكل فقط وتطبق على أشياء دون غيرها، فما نفع هذه القرارات طالما بقيت أزمة المحروقات قائمة والناس تتدافع على منافذ بيع الغاز والكازيات، وعلى الأفران والمؤسسات الاستهلاكية لشراء مخصصاتهم من المواد التموينية، ماذا عن وسائل النقل العامة والخاصة، كيف يمكن تعقيم أوراق العملة مثلاً والتي يقوم الجميع بتداولها، ماذا عن وحدات الجيش والقطع العسكرية والجنود في المعارك، من يريد تطبيق الوقاية يجب أن تكون شاملة وإلا فهي حبر على ورق.” ويتابع القول: “تطالبنا الحكومة بالبقاء في المنازل والالتزام بالتعليمات بينما لا تخبرنا ماذا ستفعل في حال انتشر المرض ونحن نعلم جميعاً مدى سوء الرعاية الصحية في البلد. هناك تقارير تؤكد أن في سوريا كلها لا يوجد أكثر من 30 منفسة وجهاز إنعاش. الحكومة التي تطالبنا بالنظافة وغسيل الأيدي والتعقيم هي نفسها المسؤولة عن أكوام القمامة المنتشرة في الحارات والشوارع. الأجدى بالحكومة أن تقوم بواجباتها أولاً وبعدها فلتطلب من الناس الالتزام. إن صور مركز الحجر الصحي التي انتشرت على مواقع التواصل في ريف دمشق تُثير الرعب وتبعث على التشاؤم والإحباط، هذا عدا عن أن غالبية الناس تضطر للخروج والعمل لتأمين قوت يومها في ظل الأوضاع المعيشية الصعبة والمنهارة التي يعانيها الجميع ليأتي قرار المنع وإغلاق الكثير من المرافق فيزيد الطين بلّة، في حين لم تصرح الحكومة عن أي إجراءات لمساعدة الناس أو تعويض المتضررين إلى الآن.”

يبدو الخوف واضحاً في كل مفاصل الحياة في مدينة السويداء وإن بدا في بعض الأحيان عكس ذلك، خوف يخالطه الكثير من العبث واللامبالاة، الجميع يعلم في قرارة نفسه مدى خطورة وباء كورونا فعلاً، لكن إحساسهم بالعجز والخوف يتجاوز التعامل الجدي مع الموضوع لينقلب إلى شيء أشبه بالدعابة في بعض الأحيان أو التقليل من أهمية الموضوع والتسليم في أحيان أخرى. سيرى المتابع لصفحات التواصل الاجتماعي ذلك بوضوح، وسيلمس المتنقل في بعض شوارع مدينة السويداء ذلك حتماً، فحركة الأسواق بدأت تتأثر بالموضوع، وقل الطلب على أغلب السلع باستثناء المواد الغذائية والطبية والتي شهدت إقبالاً كبيراً وزيادة ملحوظة في أسعار بعض المواد وبالأخص مواد التعقيم والمنظفات والكمامات الطبية وغيرها، حتى أنني لم أوفق بالحصول على علبة فيتامين c  رغم سؤالي لأكثر من 10 صيدليات في المدينة.

اللافت في السويداء سرعة الاستجابة لقرارات الوقاية في الريف بشكل كبير، فقد قامت العديد من القرى بمبادرات محلية لتعقيم جميع المرافق والطرقات وحث الأهالي على الالتزام بالنظافة وارتداء القفازات والكمامات وبالأخص أصحاب المحلات التجارية أو سائقي المركبات العامة، بالإضافة لمنع كافة أشكال الاجتماعات والفعاليات وتخصيص صندوق لجمع التبرعات في حالة الطوارئ.

قد تتدبر الناس أمرها وتتحايل في التعامل مع الواقع اليوم سواء بالإنكار أو الامتثال أو حتى بالسخرية، لكن ما يثير القلق هو السؤال: ماذا لو بات المرض واقعاً فعلياً؟ كيف سيواجهه السوريون\ات وهم بهذه الحالة بعد كل ما حل بهم؟ سؤال يبقى مفتوحاً لاحتمالات المجهول المرعبة.

أمهات دون أعياد

أمهات دون أعياد

ورثتُ بعد سفر أصدقائي إلى مختلف بقاع العالم، أهلهم وذكرياتهم وصارت رائحتي تشبه رائحة كل بعيد، أجلسُ بينهم شاهدة على أثر الغياب. أراقبُ الخالة سعاد كيف تعتني بما تبقى من ثياب ابنتها وكتبها المدرسية وتعتني بقطة لطالما انزعجت من اعتناء ابنتها بها، تلاعبُ بحنانِ جدةٍ أطفال القطة ذاتها وكأنهم أحفادها التي تمنت أن تلاعبهم في يوم ما، تقول: “لم يبق لي غيرهم يؤنسني بعد رحيل الأبناء”.

ويؤلمني النحيب المكتوم لوالدة صديقتي الأخرى كلما احتضنتني، تخبرني بغصّة: “رهنتُ كلّ ما أملك لمنح ابنتي فرصة حياة أفضل في أوروبا، حياة تليق بابنةٍ أفنيتُ عمري في تنشئتها، والآن أقف عاجزة يحاصرني السؤال هل كان أمامي خيارات أفضل؟ سأحرمُ رؤيتها ما تبقى من حياتي وسأموتُ هنا وحيدة.” واليوم تكادُ تنهار وهي تتابع أخبار انتشار كورونا في أوروبا خوفاً من أن تفقد ابنتها الوحيدة.

لم يمض عيدُ أمٍ منذ توفيت صديقتي حلا بمرض السرطان منذ 8 أعوام إلا وأزور أمها الخالة أم حلا، وما أن تراني مقبلة من باب البيت حتى تنتفض واقفة وهي العجوز السبعينية وتأخذني بحضنها لننتحب في بكاء طويل وهي تصيح “هلا بريحة الحبايب”. أم حلا التي تعيش وحيدة بعد وفاة زوجها وابنتها وسفر باقي أبنائها تخبئ لي أخبار القرية لتقصها علي دون أن تنسى الكثير من التنهيدات عندما يمر ذكر ابنتها أو عندما تتذكر الأيام الماضية السعيدة يوم كان أبناؤها يملؤون البيت، وبدوري أحكي لها عن قصص نساءٍ في المدينة وما فعلت بهنّ وبأبنائهن الحرب، ثم أودّعها وأعدها بألاّ أتأخر في زيارتها المرة القادمة.

أكاد أجزم أنه لا يوجد أم سورية لم تحترق بالدموع خلال هذه الحرب المجنونة، الكل بكين أبناءهن سواء الضحايا أو المعتقلين أو المفقودين أو الهاربين من الجيش أو العاطلين عن العمل، أو اللاجئين الذين  توزعوا في كافة أرجاء الأرض. لم أزل هنا بينهم أراقب حزنهنّ اللانهائي، وأحسد من استطاع النجاة والهروب بعيداً.

في عيد الأم أفتقد جدتي، لو أنها على قيد الحياة اليوم لمسحت بيدها قلبي المليء بالحكايات ولشكوتُ لها عن خلاف خالاتي، فالكبرى فقدت أحد أبناءها أثناء خدمة العلم وترفضُ الاعتراف بموته معللة “لم أر جثته، هو في مكان ما وسيعود حتماً”؛ يأكلها الانتظار بعدما فقدت بصرها من كثرة ما بكت عليه، تستلم راتبه كل شهر وتخبئه لتزوجه فور عودته.

 أما خالتي الصغرى التي التحق أحد أبنائها بفصائل الجيش الحر حالماً بغدٍ أفضل وبحرية شاسعة تشبه البراري التي نشأ بها قبل أن يُفقد أيضاً في الحرب ولا أحد يعلم عنه شيئاً، فإنّ كل ما تفعله هو إشعال الشموع والنذور له كل ليلة والنحيب الطويل عليه. أمي ذات الولد الوحيد والذي لم يذهب للحرب ولازال بقربها يعاني قسوة الحياة ويشقى بلا طائل، يذوب أمامها وتذوب معه، وتحاول بشجاعة أن تقف بجانب الأختين اللتين تحولتا إلى عدوتين لدودتين ولا يمكن أن تعزي إحداهما الأخرى وفي أعماق كل واحدة حقدٌ وقناعة بأنّ “ولدك قتل ولدي”. وأمي التي تفتتت بين أختيها تبكي معهما وتعيش مأساة الفقد هي الأخرى آسفةً على شابين رائعين نشآ معاً كأخوة وفرقتهما الحرب.

أسيرُ في طرقات هذه المدينة وأقول في نفسي لن تقسو الحياة هذه المرة على السوريات المنكوبات، ولن تأتي أعيادُ أمٍ أخرى والدموعُ تملأ المحاجر والقلوب، أضحك بمرارةٍ من تفاؤلي أو ربما من حماقتي، لا أدري حقاً، ولكني أتذكر مشهداً من فيلم الفراشة (Papillion)، عندما وصل البطل إلى جزيرة المصابين بالجذام وكان لزاماً عليه أن يصافح أحدهم، وقتها ورغم كل ما عاناه أثناء هروبه ليحصل على حريته يتقدم ويصافح الرجل بشجاعة وبثقة العارف أنّ الحياة لن تقسو عليه هذه المرة أيضاً، وأنه سينجو ولن يصيبه الجذام، وينجو فعلاً في النهاية.

آه يا جدتي .. هل ستحيا السوريات أياماً جميلة قادمة؟ وهل ستفتقدني حفيدةٌ ما بعيدِ الأم كما أفتقدك؟

كورونا، حرب جديدة في دمشق

كورونا، حرب جديدة في دمشق

* تُنشر هذه المادة ضمن ملف “الحرب على كورونا: معركة جديدة مصيرية للسوريين\ات

يكتسح فيروس كورونا شاشات الأخبار ومواقع شبكات التواصل الاجتماعي  وكأنه يغزوها فيصيبها في مقتل، يتجاوز الشاشات ليحضر بقوة بين الناس، في البيوت وفي الغرف الضيقة وفي المطابخ والمدارس ومراكز العمل وصولاً للأسواق والأمكنة العامة والطرقات والمشافي.

في المصعد تتردد الأصابع بالضغط على رقم الطابق المراد الوصول إليه، الجميع يحتاج لمغامر يُبادر لضغط زر الإقلاع. يتردد السوريون بخجل في إعلان عدم رغبتهم بالتقبيل ولا حتى بالمصافحة. البعض يُحيي ملوحاً بيديه من بعيد والبعض الآخر يرمي قبلات طائرة في الهواء، والبعض يحافظ على عاداته بالحضن والتقبيل المبالغ به في حالة نكران معلنة.

في البداية تعامل غالبية السوريين مع الخبر بالسخرية أو باللامبالاة، قالوا إنهم موتى منذ سنين تسع، ولن يزيد فيروس سخيف من مآسيهم المتعددة والتي تبدو مستمرة دونما توقف أو تباطؤ. لكن الوضع تغير بعد القرار الرسمي بتعطيل المدارس والجامعات وبتقليص ساعات دوام العاملين في القطاع العام والخاص وفي البنوك والشركات والمؤسسات المالية، وذلك اعتباراً من الخامس عشر من آذار وحتى الثاني من نيسان. أوقف هذا القرار كل النشاطات الجماعية من مباريات رياضية أو رحلات المسير أو الندوات والمحاضرات والاجتماعات العامة، حتى أن القرار أُلحق بتأكيد على وقف الصلوات الجماعية في المساجد والكنائس، واستكمل رجال الدين التعليمات بحيث دعوا إلى التقليل قدر الإمكان من المشاركة بالجنازات وبالتعازي. كما  دعا الأطباء والمسؤولون الصحيون الى التقليل من عدد مرافقي المرضى، لدرجة وصل الأمر بالبعض إلى الدعوة إلى حملة عنوانها “خليك بالبيت”  حفاظاً على السلامة وتجنباً للعدوى. تلاها حملة عنوانها “نحنا قدها” تقدم النصائح والتوعية والخدمات الممكنة للناس الذين اختاروا عزلاً طوعياً أو أن سنهم المتقدم أو إصابتهم بأمراض مزمنة دعتهم لتجنب أي اختلاط وامتنعوا عن مغادرة بيوتهم حرصاً على سلامتهم وأملاً بالتخفيف من أية إصابة محتملة ولو برشح عادي قد تتضاعف آثارها وتجعل من إصابتهم فرصة محتملة تهددهم بالخطر بسبب ما يعانون منه من أمراض تجعلهم عرضة للإصابة المباشرة أو الأكيدة بفيروس الكورونا  ومضاعفاته التي قد تكون مميتة لهم.

وعلى الرغم من أن الجائحات الخطرة عادة ما تترافق بحالات هلع شديدة تدفع الأفراد للتخزين المبالغ به وخاصة للأدوية والمواد الغذائية والمعقمات ومواد التنظيف، إلا أن الحركة التسوقية في دمشق كانت باردة بشكل عام، ماعدا بعض المناطق المزدحمة مثل مساكن برزة وجرمانا، اللتين شهدتا مبالغة في زحف الأفراد وخاصة إلى المخزنين الكبيرين فيهما (مول قاسيون ومول جرمانا ). وتقول سيدة (لا تريد الإفصاح عن اسمها) تسكن في جرمانا بأن مول جرمانا شهد ازدحاماً مرعباً يوم السبت، فرغت بعده الرفوف من المواد الأساسية، وتقول إنها رأت بعينها فواتير البعض التي وصلت إلى ما فوق المائة ألف ليرة، وهو مبلغ كبير في سورية تعجز الغالبية عن أن تملكه، وإن توفر لها، لا يمكنها إنفاقه دفعة واحدة لحاجتها لمبالغ كبيرة لإنفاقها في مناح حياتية متعددة.

نقلت سيدة أخرى على صفحتها على الفيس بوك معاناة سائقي التكسي الذين يعانون من قلة الطلب على خدماتهم، بسبب قرار الغالبية بالجلوس بالبيت، أو بسبب نقص السيولة الذي يعتبر سمة عامة للسوريين، وقد قال أحد السائقين والذي قرر ارتداء الكمامة للوقاية قدر الإمكان من الاختلاط بالركاب بأن الراغبين باستقلال سيارة أجرة كانوا يعدلون عن الطلب إليه للتوقف لنقلهم إلى وجهتم فور رؤية الكمامة، توجساً من إصابته بالكورونا أو من وساوسه حسب توصيفهم في ظل ترد شبه عام للوعي الصحي وفي ظل ثقافة شعبوية تعوّم مفاهيم التوكل والقدرية والتردد والعزوف عن تنفيذ أية تعليمات وقائية كائناً من كان مصدرها، إضافة لفقدان الثقة بكافة الإجراءات الرسمية. كما أشار إلى شكوى سائق آخر من روائح الكحول والمعقم الذي يسكبه الركاب على أيديهم وأجسادهم للوقاية، مما يسبب له الاختناق نظراً لإصابته بالتحسس المزمن. ويضع بعض سائقي الحافلات العامة الكمامات على وجوههم ومن لا يحتمل بقاءها على وجهه يترك المقعد الملاصق له مطوي الظهر وفارغاً كي يخفف قدر الإمكان من التقارب الشديد مع راكب قد يكون مصاباً.

وقال لي أحد المعارف مُعلقاً على حال السوريين بعد قرارات التعطيل واتساع انتشار فيروس كورونا وتوصيفه كجائحة عالمية، بأن لا شيء تغير في أحوال السوريين سوى أنهم انتقلوا من خطاب “الله يفرّج” لخطاب “الله يتلطف”!! مشيراً إلى أن البؤس وضيق ذات اليد وتعثر النمو الاقتصادي والأمان النسبي بقي على حاله لكن الخطاب يتبدل لمراعاة الظروف المستجدة.

اللافت في تعامل السوريين مع جائحة فيروس كورونا هو الازدحام الخانق على الأفران العامة والخاصة، حتى خبز السندويش شهد طلباً زائداً عليه، وكذلك الكعك الحلو والمالح والتوست وكافة أنواع المعجنات. ويسعى السوريون بشكل دائم لتخزين الخبز، لأنه ملحهم وقوتهم اليومي ولأن الفوز به يتطلب وقوفاً طويل الأمد في طوابير لشرائه، حتى أفران خبز السكري شهدت تزايداً بعدد طالبي الخبز وبازدياد الكميات المطلوبة وخاصة أن مرضى السكري يرغبون بتخزين الخبز في ثلاجاتهم ومن ثم الاستسلام للحجر الطوعي بعد أن اطمأنوا إلى توفر الخبز القابل للعيش فترة طويلة والصالح للمشاركة مع أي مادة غذائية أخرى لتتحول المادتان إلى وجبة كافية.

ولابد من الإشارة إلى نفاذ مادة الكحول الايتيلي من الأسواق والتي تم التوجيه بأنها المادة الأكثر توفيراً للوقاية وللأمن الصحي. وقد شهدت الصيدليات ازدحاماً خانقاً أيضا للحصول على الكحول وعلى المعقمات الشخصية وعلى الأدوية للأمراض المزمنة وأدوية التهابات الأطفال وخافضات الحرارة والكمامات. وقد وصل سعر الكمامة الواحدة إلى ثلاثمائة وخمسين ليرة بعد أن كانت تباع بخمسين ليرة فقط، هذا بالإضافة إلى ارتفاع فجائي وسريع بأسعار الخضراوات والفواكه وخاصة الليمون والحمضيات والبطاطا لزيادة الطلب عليها، خاصة لما أشيع عن فوائدها الطبية وعن إمكانية تخزينها.

وإن استقبل السوريون أخبار فيروس الكورونا بالسخرية وبترويج الفكاهات والنكات وبتحويل كلمات الأغاني الشعبية مثل الدلعونا إلى كلمات تناسب وتعاصر انتشار فيروس كورونا، إلا أن السخرية المُرة أيضاً طفت على السطح وانتشرت بخيبة وبمرارة، خاصة حيال إجراءات الحماية المطلوبة والضرورية في خضم حاجات يومية لا يمكن للسوريين تلبيتها دونما الانتظام في طوابير لا تؤمن السلامة لأحد، لابل تهدد السلامة الشخصية بشكل مباشر، مثل الوقوف في طوابير للحصول على مخصصات الرز والسكر والمواد التموينية المخفضة والتي تباع حصراً في المؤسسات العامة الاستهلاكية وكذلك الوقوف في طوابير لاستلام الرواتب الشهرية من الصراف الآلي. هذا عدا عن الازدحام في المشافي العامة، رغم أن حالات عديدة لجأت للمشافي بدافع الهلع فحسب ومع مرافقة عددية كبيرة من الأهل أو الأصدقاء أو الجيران، مما فاقم من حالات الازدحام ومن تعثر تأمين سرعة الفحص والتشخيص وتقديم الإسعافات أو المساعدات الطبية اللازمة.

أما الأطفال فقد تعاملوا مع قرار العطلة وكأنه مكافأة لهم، لدرجة أن طالباً قال لمديرة مدرسته الجديدة: (أنت أحلى مديرة بالعالم ع وجهك إجت كل العطل!). أما ذوو الطلاب فقد شعروا بمسؤولية مضاعفة، تفرض عليهم البقاء في المنزل مع أطفالهم وإن اضطروا لأخذ إجازات طويلة من العمل ومحاولة تعويض ما سيترتب من نقص علمي لأن الدراسة توقفت وبالتالي فإن إعطاء المنهاج كاملاً خرج عن دائرة التحقق.

وقد أخبرتني إحدى الأمهات أنها فكرت بالسفر إلى قريتها لأن الجو أنظف وبيت القرية أوسع، لكنها خافت من الانتقال بالحافلة الضيقة والتي لا يراعي فيها أحد شروط السلامة العامة، عدا عن أن أجرة التنقل باتت مكلفة ومرهقة جداً والبيوت في القرية خالية من التدفئة والمونة.

هذا وقد سعى بعض الأساتذة لدعم طلابهم بدروس عبر الانترنت. أما أهالي طلاب الشهادتين الإعدادية والثانوية فقد نظموا زيارات الأساتذة الخصوصيون لأبنائهم لتقديم الدعم اللازم والمراجعة الشاملة والواجبة للمنهاج متضمناً كل الدروس التي لم تُعطى لهم، في محاولة لتعويض كل ما خسروه في الصفوف بسبب قرار العطلة قبل وقت الانقطاع الطبيعي.

ينتظر السوريون\ات بلهفة وقلق انحسار جائحة فيروس كورونا، ليعودوا إلى أعمالهم التي توقفت لتتوقف أرزاقهم معها، وليخففوا من الأعباء المالية الطارئة لتأمين السلامة الشخصية وشراء الأدوية والكحول والمعقمات، وليشعروا أن عبئاً جديداً قد انزاح عن صدورهم المثقلة بالخوف والحرمان والنقص شبه الدائم والمتفاقم لأساسيات حياتهم اليومية في كافة مناحيها. مازال البعض متأملاً بقدرة خارقة تُنقذهم، متجاهلاً فرضية الانتشار والخطورة الفائقة للوباء المرعب، بينما تتصاعد مخاوف المختصين وخاصة الجسم الطبي والعقلاء من لحظة انفلات للفيروس لن يقدر حينها أحد ولا بأية مقدرة من القضاء عليه أو لجمه. أما مجمل السوريين\ات فيتأملون بحل خارق أو بضربة حظ تُنقذهم من وباء الكورونا.

سوريا في أسبوع  9-16 آذار /مارس 2020

سوريا في أسبوع 9-16 آذار /مارس 2020

قتلى ودمار ونزوح

14  آذار/مارس

تسبّبت تسع سنوات من الحرب الدامية والمدمرة في سوريا بمقتل 384 ألف شخص على الأقل، بينهم أكثر من 116 ألف مدني، وبين القتلى المدنيين أكثر من 22 ألف طفل و13 ألف امرأة وفق حصيلة نشرها المرصد السوري لحقوق الإنسان، عشية دخول النزاع عامه العاشر.

وتسببت الحرب بأكبر مأساة إنسانية منذ الحرب العالمية الثانية، وفق الأمم المتحدة، مع نزوح وتشريد أكثر من نصف السكان داخل البلاد وخارجها. كما استنزفت الاقتصاد وموارده والبنى التحتية وتسببت بانهيار قياسي في قيمة الليرة السورية.

وفي ما يتعلق بالقتلى غير المدنيين، أحصى المرصد مصرع أكثر من 129 ألف عنصر من قوات النظام والمسلحين الموالين لها من جنسيات سورية وغير سورية، أكثر من نصفهم من الجنود السوريين، وبينهم 1697 عنصراً من حزب الله اللبناني الذي يقاتل بشكل علني إلى جانب دمشق منذ العام 2013.

وتشمل هذه الإحصاءات وفق المرصد، من تمكن من توثيق وفاتهم جراء القصف خلال المعارك، ولا تضم من توفوا جراء التعذيب في المعتقلات الحكومية أو المفقودين والمخطوفين لدى مختلف الجهات. ويقدر عدد هؤلاء بأكثر من 97 ألف شخص.

عدا عن الخسائر البشرية، أحدث النزاع منذ اندلاعه دماراً هائلاً، قدرت الأمم المتحدة في وقت سابق كلفته بنحو 400 مليار دولار.

إجراءات “كورونا

13  آذار/مارس

أعلنت السلطات السورية الجمعة سلسلة إجراءات للوقاية من احتمال تفشي فيروس كورونا المستجد في البلد الذي يعيش حرباً ولم تعلن فيه رسمياً أي إصابة بعد، وفق ما أفادت وكالة الأنباء السورية الرسمية سانا.

وإذ جرى تأجيل الانتخابات البرلمانية التي كانت مقررة في 13 الشهر المقبل، أعلنت الحكومة في ختام اجتماع وزاري برئاسة رئيس الوزراء عماد خميس،  “تعليق الدوام في الجامعات والمدارس والمعاهد التقنية العامة والخاصة…ابتداء من يوم الغد 14 آذار/مارس ولغاية الخميس 2 نيسان/ابريل”.

وتقرر كذلك “إيقاف كل النشاطات العلمية والثقافية والاجتماعية والرياضية” في البلاد، وفرضت السلطات أيضاً منع “تقديم النراجيل في المقاهي والمطاعم”.

وذكرت الوكالة أن عدد العاملين في القطاع العام سيخفض بنسبة 40%، وسيجري خفض ساعات العمل إلى ما بين الساعة 9,00 و14,00.

وقالت الحكومة السورية إنه سيجري تجهيز مراكز حجر صحي “بمعدل مركزين في كل محافظة”، بحسب سانا، في حين لم تعلن سوريا حتى الآن تسجيل أي حالة وفاة أو إصابة بالفيروس.

وأكد وزير الصحة السوري الجمعة عدم وجود أي إصابة بكوفيد-19 في بلاده، وفق سانا.

سير روسي – تركي

13  آذار/مارس

اتفق مسؤولون أتراك وروس الجمعة على البدء بتسيير دوريات مشتركة في محافظة إدلب السورية في عطلة نهاية الأسبوع، بحسب ما أفاد وزير الدفاع التركي خلوصي اكار، عقب وقف هش لإطلاق النار في آخر معقل للمقاتلين السوريين.

ويزور وفد عسكري روسي أنقرة منذ الثلاثاء لتحديد تفاصيل وقف إطلاق النار الذي تم الاتفاق عليه في الخامس من آذار/مارس في موسكو بين الرئيس التركي رجب طيب اردوغان ونظيره الروسي فلاديمير بوتين.

وجاء في الاتفاق أنه سيقام ممر أمني عبر تسيير دوريات تركية روسية على طول الطريق السريع الرئيسي ام4 في محافظة إدلب شمال غرب سوريا.

وتتعرض إدلب لقصف شديد من القوات السورية والطائرات الروسية منذ كانون الأول/ديسمبر أدى الى مقتل مئات المدنيين وأجبر نحو مليون على الفرار باتجاه الحدود التركية.

طفلان كل يوم

 12آذار/مارس

 قبيل الذكرى السنوية العاشرة لبدء الحرب في سورية، ناشدت منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونسيف) الحكومات والرأي العام عدم التخلي عن الأطفال السوريين. وذكرت المنظمة اليوم الجمعة في بيان: “كل عشر ساعات يموت طفل جراء الحرب”.

وتُقدر المنظمة عدد الأطفال الذين لا يستطيعون الذهاب إلى المدرسة جراء الحرب بنحو 8،2 مليون طفل، مشيرة إلى أن كثيرا منهم لم يذهب إلى المدرسة على الإطلاق.

وخلال الأسابيع الماضية، نزح أكثر من 900 ألف شخص في محافظة إدلب السورية إلى الحدود مع تركيا. وتعتبر إدلب المعقل الأخير لمقاتلين إسلاميين انسحبوا من محافظات أخرى في سورية.

وذكرت اليونسيف في بيانها أن نحو 60% من النازحين أطفال، مضيفة أنهم يعانون على الجبهات القتالية من العنف والتشريد والعوز الشديد.

قتل غامض

 12آذار/مارس

قتل 26  عنصراً من الحشد الشعبي العراقي في ضربة جوية في شرق سوريا ليل الأربعاء، وفق حصيلة جديدة للمرصد السوري لحقوق الإنسان الخميس، في أعقاب هجوم استهدف قوات التحالف بقيادة الولايات المتحدة في العراق موقعاً قتلى.

ونفى التحالف الدولي أن يكون شنّ غارات في سوريا ليل الأربعاء، بعدما رجّح المرصد السوري أن تكون طائراته استهدفت المقاتلين العراقيين قرب مدينة البوكمال الحدودية في ريف دير الزور الشرقي.

وأتت الغارة بعد ساعات على مقتل جنديين، أميركي وبريطاني، ومتعاقد أميركي في هجوم بصواريخ كاتيوشا استهدف مساء الأربعاء قاعدة التاجي العسكرية العراقية التي تؤوي جنوداً أميركيين شمال بغداد.

ويعد هذا الهجوم الأكثر دموية على الإطلاق ضد مصالح أميركية في العراق منذ سنوات عدة.

ولم تعلن أي جهة مسؤوليتها عن الهجوم الصاروخي على القاعدة العسكرية>

قيصر” في الكونغرس

11  آذار/مارس

حضّ عسكري سوري منشقّ عن النظام وثّق بالصور انتهاكات مارستها أجهزة الرئيس السوري بشّار الأسد، الكونغرس الأميركي الأربعاء على ضمان محاسبة مرتكبي هذه الممارسات وذلك خلال إدلائه بشهادة أمام مجلس الشيوخ.

والعسكري السابق الذي كان يعمل مصوّراً في الجيش السوري وبات لقبه “قيصر”، انشقّ في العام 2014 وبحوزته 55 ألف صورة توثّق وحشية الممارسات في سجون النظام السوري إبّان فترة قمع الانتفاضة في سوريا.

وفي مشهد غير مألوف في الكونغرس الأميركي، أدلى “قيصر” بشهادته أمام لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ مخفياً وجهه ومرتدياً سترة رياضية بغطاء للرأس تفوق قياسه، وقد طُلب من الحضور ووسائل الإعلام إطفاء الهواتف وآلات التصوير.

وقال “قيصر” إنّه وعلى الرّغم من المجازفات التي قام بها، لم يحقّق هدفه بوضع حدّ للانتهاكات.”

وإثر شهادة سابقة أدلى بها “قيصر” في العام 2014 أعدّ أعضاء الكونغرس مشروع قانون يحمل اسمه فرض قيوداً مالية على سوريا، بما في ذلك وقف مساعدات إعادة الإعمار إلى حين سوق مرتكبي الأعمال الوحشية إلى العدالة.

ومشروع القانون الذي يفرض عقوبات على شركات تتعامل مع الأسد وبينها شركات روسية، وقّعه أخيراً الرئيس دونالد ترامب في كانون الأول/ديسمبر بعد سجال في الكونغرس استمر لسنوات.

وأشاد “قيصر” بالقانون لكنّه دعا الكونغرس الأميركي للسهر على تطبيقه.

مدرب جديد للمنتخب

11  آذار/مارس

عيّن الاتحاد السوري لكرة القدم التونسي نبيل معلول مديرا فنيا للمنتخب الأول، بحسب ما أعلن المدرب السابق لمنتخب بلاده ليل الثلاثاء الأربعاء.

وأورد معلول عبر حسابه على “تويتر”، “سعيد بتعييني مدربًا للمنتخب الوطني السوري ولثقة الاتحاد السوري لكرة القدم في شخصي وسيكون هدفنا الأول التأهل إلى مونديال قطر 2022 إن شاء الله”.

وكان معلول (57 عاما) قد وصل دمشق الأحد للاجتماع بالاتحاد تمهيداً لتوقيع اتفاق يخلف بموجبه المدرب السابق فجر إبراهيم الذي انتهى عقده نهاية العام الماضي بعدما قاد منتخب سوريا إلى صدارة المجموعة الآسيوية الأولى للتصفيات المزدوجة لكأس العالم 2022 وكأس أسيا 2023.

ويتصدر المنتخب السوري الذي لم يسبق له التأهل الى نهائيات كأس العالم، مجموعته بعد خمس جولات بالعلامة الكاملة برصيد 15 نقطة، مقابل 7 نقاط للصين والفليبين و3 لجزر المالديف ولا شيء لغوام.

وأعلن الاتحاد الدولي للعبة (فيفا) إرجاء المباريات المقبلة من التصفيات التي كانت مقررة في آذار/مارس وحزيران/يونيو الى موعد يحدد لاحقا، على خلفية المخاوف من انتشار فيروس كورونا المستجد.

وتولى معلول بداية تدريب تونس عام 2013 وفشل في قيادة المنتخب لنهائيات كأس العالم 2014، قبل ان ينتقل الى الجيش القطري ومنه الى المنتخب الكويتي، ويعود لتدريب المنتخب التونسي في نيسان/أبريل 2017 خلفا للبولندي-الفرنسي المقال هنري كاسبرجاك.

جرائم تعذيب

10  آذار/مارس

 أعلنت محكمة ألمانية الثلاثاء أنه سيتم للمرة الأولى في ألمانيا محاكمة سوريين اثنين اعتباراً من نيسان/أبريل القادم بتهمة ارتكاب جرائم تعذيب في سجون الرئيس السوري بشار الأسد.

ووافقت المحكمة الإقليمية العليا بمدينة كوبلنتس على الدعوى المقدمة من الادعاء العام الاتحادي ضد موظفين اثنين سابقين بالاستخبارات السورية، وفقاً لبيانات المحكمة.

وبحسب بيانات المركز الأوروبي للحقوق الدستورية وحقوق الإنسان، ستكون هذه المحاكمة أول محاكمة جنائية من نوعها على مستوى العالم ضد أعمال التعذيب للحكومة في سورية.

ومن المقرر أن تبدأ المحاكمة يوم 23 نيسان/أبريل القادم. يذكر أنه تم إلقاء القبض على المدعى عليهما  السوريين أنور أر. 57/ عاما/ وإياد إيه. 43/ عاما/ في شباط/فبراير عام 2019 بالعاصمة الألمانية وفي ولاية راينلاند-بفالتس. ويقبعان في الحبس الاحتياطي منذ ذلك الحين.

وبحسب صحيفة الادعاء، فإن أنور أر. متهم بارتكاب جرائم ضد الإنسانية، ويتم اتهامه بالقتل والاغتصاب وارتكاب انتهاكات جنسية شديدة. ويشتبه أن أنور أر. كان يتولى مهمة قيادية في سجن بدمشق وكان مسؤولا عن أعمال تعذيب وحشية لما لا  يقل عن أربعة آلاف شخص.ويتم إتهام إياد إيه. الذي تم إلقاء القبض عليه في ولاية

راينلاند-بفالتس بالمساعدة على ارتكاب جرائم ضد الإنسانية، ويشتبه أنه جلب 30 متظاهرا إلى سجن التعذيب.

تقسيم إدلب

10  آذار/مارس

 قال وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو الثلاثاء إن الجيش التركي سيتكفل “بالرقابة” على الجزء الواقع شمالي ممر أمني أقيم حول طريق سريع في محافظة إدلب بشمال غرب سوريا بينما سيخضع الجزء الجنوبي لرقابة القوات الروسية.

ويعد الاتفاق على هذا الممر جزءاً من اتفاق لوقف إطلاق النار توصلت إليه تركيا وروسيا الأسبوع الماضي لوقف القتال الدائر في إدلب الذي أدى إلى نزوح قرابة مليون شخص خلال ثلاثة أشهر وأثار احتمال وقوع اشتباك عسكري بين تركيا وروسيا.

وعزز هذا الاتفاق ما حققته القوات السورية المدعومة من روسيا من مكاسب أمام المعارضة التي تدعمها تركيا لكنه أوقف زحف القوات السورية وخفف من أعظم مخاوف أنقرة وهو تدفق المزيد من المهاجرين السوريين للانضمام إلى 3.5 مليون لاجئ سوري في تركيا حاليا.

حفتر في دمشق

09  آذار/مارس

 أفادت صحيفة “الشرق الأوسط” اللندنية، نقلاً عن مصادر متطابقة، بأن زيارة سرية لقائد ما يسمى بـ”الجيش الوطني الليبي” خليفة حفتر إلى دمشق مهدت الأرضية أمام استئناف العلاقات الدبلوماسية بين ما توصف بـ”الحكومة الموازية” في بنغازي والحكومة السورية في دمشق.

وذكرت الصحيفة على موقعها الإلكتروني أنها علمت أن زيارة حفتر لدمشق “باركتها زيارة سرية أخرى قام بها رئيس المخابرات العامة المصرية عباس  كامل لمدير مكتب الأمن الوطني السوري اللواء علي مملوك منتصف الأسبوع الماضي”.

وأشارت إلى أن “الهدف المعلن من التحركات السرية، هو إعادة الحرارة إلى  طريق دمشق. بينما الهدف المضمر، هو تنسيق الجهود لمواجهة الدور التركي

في ساحات عدة أهمها سورية وليبيا”.

ولفتت الصحيفة إلى أن “العلاقة بين الحكومة السورية وحفتر تعود إلى سنوات طويلة، بل إن بعض أبناء أسرته يعيشون في العاصمة السورية كما هو الحال مع أقرباء وأحفاد العقيد معمر القذافي. ومع مرور الوقت، بدأت تتراكم الظروف إلى أن انتقلت العلاقة من بعدها الشخصي إلى التنسيق العسكري والاستخباراتي والتعاون السياسي”.

كورونا في سوريا، ومسرح اللامعقول

كورونا في سوريا، ومسرح اللامعقول

* تُنشر هذه المادة ضمن ملف “الحرب على كورونا: معركة جديدة مصيرية للسوريين\ات

أغلقت الحكومة السورية المدارس والجامعات في سوريا إبتداء من يوم 14 آذار وحتى 2 نيسان لتعقيم الصفوف، وأصدرت قراراً بمنع الأركيلة في المقاهي. وجاء هذا القرار بغتةً إذ أن الإعلام الرسمي السوري أكد مراراً أن سوريا خالية من فيروس كورونا وبأن الحالة الوحيدة التي اشتبهوا أنها مصابة بفيروس كورونا ثبت بعد التحاليل أنها ليست كورونا ! لذا جاءت هذه الإجراءات التي اتخذتها الحكومة السورية مفاجئة، لكن ماذا تعني هذه الإجراءات بالفعل؟

حالة صفوف المدارس: بداية أحب أن أشير إلى أهم مدرسة في اللاذقية وهي ثانوية البعث للطالبات في المرحلتين الإعدادية والثانوية. وتقع هذه المدرسة في حي العوينة المكتظ سكانياً، وأهم ما يميزها هضاب الزبالة عند باب المدرسة، ولا أبالغ بكلمة هضاب أبداً، لدرجة أصبحت هضاب الزبالة من جغرافية المشهد، حتى أنني عندما طلبتُ تاكسي قلتُ للسائق أنني أريد الذهاب إلى جانب مدرسة البعث للبنات في حي العوينة فرد للتو: يعني عند حاويات الزبالة ؟ قلتُ تماماً. أصبحت حاويات الزبالة دليلاً للعنوان، ولأنني على احتكاك مباشر مع العديد من المدرسين والطلاب في مدارس اللاذقية فقد أخبروني ما يلي ومن يرغب بالتأكد يستطيع زيارة تلك المدارس:

أولاً: معظم الطلاب يحضرون إلى المدرسة خاصة في الأحياء الشعبية بحالة دوار من الجوع، لدرجة تضطر المُدرسة بالتعاون مع إدارة المدرسة أن يشتروا خبزاً وزيتاً وزعتراً أو لبنة لهؤلاء الأطفال الجياع، ومعظم هؤلاء الأطفال يتناوبون هم وأخوتهم الطلاب أيضاً الدفاتر نفسها والقلم نفسه، لأن لا إمكانية للأهل أن يشتروا لكل ابن دفتراً وقلماً.

ثانياً: معظم الصفوف في مدارس اللاذقية غير مدفأة ولا مُضاءة، وفي الشتاء يبدأ الظلام حوالي الساعة الرابعة والنصف وينتهي دوام الطلاب عند الساعة الخامسة والنصف أي أنهم يقبعون ساعة وأكثر في الظلام وقالت لي إحدى الطالبات: ننزل الدرج خائفين أن نسقط لكن إن كانت الأستاذة لطيفة تنير لنا الدرج بضوء موبايلها.

ثالثاً: الحمامات في المدارس أي المغاسل والمراحيض مروعة في قذارتها وإهمالها لدرجة يمكن إعتبارها مزارع لأخطر أنواع الجراثيم وثمة طلاب يمتنعون عن شرب الماء كي لا يضطرون للتبول في المراحيض، والكثير منهم يُصابون بإلتهاب المجاري البولية بسبب القذارة المقرفة للمراحيض والمغاسل. وهذه القذارة نجدها في معظم المقاهي والمطاعم في اللاذقية ولو بدرجات متفاوته.

لا أعرف معنى تعقيم الصفوف فيما هضاب القمامة على أبواب المدرسة! وحين سألت الطلاب إن كان بعض الأساتذة أو المسؤولين في المدرسة قد نبهوهم للإصابة بفيروس كورونا وكيفية الوقاية منه أجمع كل الطلاب على جواب: أبداً لم يتكلم معنا أحد عن فيروس كورونا لكنهم (بعض المدرسين وإدارة المدرسة) وعظوا الطلاب عن أهمية الليرة السورية وإحترامها والليرة عزتنا الخ ونبهوا الأطفال (الدائخين من الجوع) إلى خطورة التعامل بالدولار (الشو اسمو). وبأن عقوبة من يتعامل بالدولار كبيرة جداً! هل نبالغ إذا وصفنا سوريا بمسرح اللامعقول أو وطن اللامعقول! من أين سيحصل طالب فقير على الدولار! وهو الذي يلهث وراء رغيف الخبز ليسد جوع معدته! ما هذه المواعظ الخُلبية التافهة؟ من يقرر هكذا مواعظ لطلاب فقراء يدرسون على ضوء الشموع في منازلهم ومحرومين من الأكل الصحي الضروري لنمو أجسامهم وعقولهم، يحدثونهم عن عقوبة التعامل بالدولار! يا للعار، يا لاحتقار الطفولة والمراهقة.

جاء قرار إغلاق المدارس والجامعات ومنع الأركيلة مُضحكاً والكل يرى الحشود التي تزيد عن مئتي أو ثلاث مئة سوري محتشدين متلاصقي الأجساد عند باب الأفران أو بانتظار جرة الغاز أو عند أبواب المؤسسات الإستهلاكية حين توزع السكر والرز والزيت النباتي على المواطنين ولكل مادة غذائية بطاقة ذكية! كل شيء مجبول بالذكاء في سوريا ولا يمكنك الحصول على أي شيء إلا بواسطة ذكاء البطاقة الذكية! هؤلاء الحشود كيف ستتعامل معها وزارة الصحة السورية وكيف ستقيها من الكورونا! إذ يكفي أن يكون أحد الأشخاص الواقف في طابور الخبز أو الغاز أو الرز مصاباً بفيروس كورونا حتى يعدي الـ300 مواطن سوري الذي يهدر وجوده بانتظار الخبز والرز والغاز وغيرها من المواد الأساسية.

الأمر المهم أن سوق البالة المركزي وسط اللاذقية يعج بآلاف محلات البالة، وهو عبارة عن زقاق ضيق جداً تتراص دكاكين البالة على جانبيه ولا يمكنك المرور به بسبب الازدحام الشديد للناس والذي ينافس الازدحام على الأفران، ولا أظن أن الدولة السورية قادرة على اتخاذ قرار بإغلاق محلات البالة، وإلا لمشى 80 بالمئة من الشعب السوري عارياً. وثمة إجراءات هامة اتخذتها الدول المتقدمة وحتى لبنان بأن تعوض الراتب كاملاً للعمال الذين يضطرون للعمل كل يوم محتكين بالناس. في سوريا لم تلتفت الحكومة لوضع هؤلاء العمال ولم تطالب أي من العاملين في كل مؤسسات الدولة بتخفيض عمل العاملين فيها أو أن يعملوا من بيوتهم، بقي وضع المصارف ومعظم مؤسسات الدولة كما هو. وبقيت هضاب القمامة في الطرقات والأزقة وعند مداخل المدارس، واستمرت آلاف محلات البالة تشرع أبوابها كي يلبس الفقراء أجمل الماركات العالمية وبأسعار معقولة. الحشود على الأفران والمؤسسات الإستهلاكية التي توزع المعونات للمواطن السوري والحشود في محلات البالة لا يُمكن تعقيمها، بل هي بيئة ممتازة لإنتشار فيروس الكورونا وتحوله إلى وباء. وماذا بعد 2 نيسان! هل ستتعقم المدارس والجامعات فعلاً، في حين تتراكم الزبالة عند مدخلها وينغل الذباب والجرذان، ومراحيضها ومغاسلها قمة في القذارة وغالباً المياه مقطوعة.

 التعقيم في سوريا مجرد ديكور، شيء منفصل عن الواقع الحقيقي لشعب يعاني من الإهمال والفقر والجوع والخوف. حياة السوري مع التعقيم الذي أوهمتنا به وزارة الصحة تشبه حكاية الإمبراطور العاري. على الشعب كله أن يمتدح ملابسه ووحده طفل سوري فقير لا يعرف طعم السمك ولا اللحم ولا الفاكهة ويحضر إلى المدرسة بحالة دوار من خواء معدته ليجد نفسه يتلقى وعظاً عن خطورة التعامل بالدولار! وحده الطفل سوري الطالب في صفوف معتمة باردة مخلوعة النوافذ والأبواب يمكن أن يقول: التعقيم كذبة ويكشف عري وزارة الصحة والإجراءات المزعومة للوقاية من الكورونا.