الليرة السورية تتهاوى.. إلى التاريخ

الليرة السورية تتهاوى.. إلى التاريخ

وصل صدى الاحتجاجات في إيران والعراق ولبنان إلى دمشق عبر تدهور سعر صرف الليرة السورية مقابل الدولار الأميركي إلى رقم قياسي غير مسبوق في تاريخ البلاد، من دون وجود مؤشرات عن توقف الانهيار البالغ نحو 4% يومياً.
مع أن الاقتصاد السوري غير مرتبط كلياً بالاقتصاد العالمي، فإنه يعتمد بشكل رئيسي على إمدادات النفط ومشتقاته من إيران والزيارات من العراق والتحويلات من الأردن. غير أن النظام المصرفي اللبناني يعد بمثابة رئة الاقتصاد السوري، فيما تعد موانئ لبنان نافذة الحكومة السورية للالتفاف على العقوبات الأميركية والأوروبية التي فُرضت بعد 2011.
كان الدولار الأميركي يساوي 46 ليرة في 2011 وانخفض تدريجياً إلى أن استقر في منتصف العام الجاري عند 500 ليرة. لكن في الأسابيع الأخيرة تصاعد التدهور في سعر الصرف على وقع الاحتجاجات في الدول المجاورة والحليفة للحكومة السورية.
وأزمة لبنان الاقتصادية هي الأسوأ منذ حربه الأهلية بين عامي 1975 و1990. وتسعى الحكومة، عبر فرض قيود، لمنع نزوح الرساميل بعدما باتت الدولارات شحيحة ومع هبوط قيمة الليرة اللبنانية في السوق السوداء.

في موازاة ذلك، هوت الليرة السورية بنسبة 30% في الأسابيع التي تلت تفاقم أزمة لبنان الاقتصادية في 17 أكتوبر (تشرين الأول)، بعد موجة الاحتجاجات. واقترب سعر صرف الدولار من جدار الـ900 ليرة، في أدنى سعر في تاريخ البلاد.
وحسب خبراء سوريين، هناك جملة من الأسباب المحلية والإقليمية والدولية لتدهور سعر الليرة السورية، بينها «فشل مشروع صندوق دعم الليرة السورية التي قامت به دمشق بالتعاون مع القطاع الخاص السوري وغرف التجارة والصناعة، حيث عاد تدهور الوضع المالي وبسرعة وانعكس بشكل كبير على سعر صرف الليرة بسبب الخوف من انعكاسات ذلك الحراك على الوضع العام في سوريا وعلى الاقتصاد بشكل محدد، بالإضافة إلى أن السوريين بادروا بتحويل أموالهم إلى دولار والاحتفاظ به معهم والابتعاد عن المصارف».
وفرضت السلطات على كبار رجال الأعمال قبل أسابيع إيداع أموال بالقطع الأجنبي في المصارف الحكومية و«المصرف المركزي». وعُقد في أحد فنادق دمشق اجتماع لهذا الغرض، لكن الالتزامات لم تصل إلى السقف المطلوب من السلطات وكانت تتراوح بين 300 و500 مليون دولار، إذ إن التعهدات كانت قليلة ووصلت في بعض الأحيان إلى بضعة آلاف من الدولارات الأميركية.
وأوضح خبير مالي أنه بسبب التغيرات في السياسات المالية للمصارف اللبنانية قام آلاف السوريين بسحب أموالهم المودعة في المصارف السورية الخاصة المرتبطة بالمصارف اللبنانية «تخوفاً من أن تعمل تلك الأخيرة على تغيير في سياساتها النقدية كما حصل مع المصارف الأم في لبنان». وأشار عاملون في مصارف سورية خاصة إلى «عمليات سحب كبيرة للمودعين السوريين بالليرة وتوقف عمليات الإيداع والتحصيل المصرفي».

كانت السلطات السورية قد فرضت قيوداً على رجال الأعمال لمنع إيداع أموالهم في مصارف لبنانية مقابل التركيز على المصارف الحكومية في دمشق. وفرض «مصرف سوريا المركزي» تعليمات على المصارف لوضع سقف لعمليات السحب عند خمسة ملايين ليرة في اليوم، ثم خُففت إلى عشرة ملايين.
ومن الإجراءات الأخرى التي أسهمت في انخفاض سعر الصرف، توقع إجازات الاستيراد والتسهيلات المصرفية التي كانت تتم عبر طريق المصارف اللبنانية، إضافةً إلى إلغاء دمشق إجازات الاستيراد الشهر الماضي لـ«ضبط انهيار العملة السورية».
كانت ودائع السوريين في المصارف اللبنانية مصدراً أساسياً لدخل رجال الأعمال والأثرياء في دمشق. والفوائد التي تُدفع على الودائع في لبنان كانت تُحول إلى داخل البلاد هي مصدر مهم للدولارات للاقتصاد. كما يلجأ سوريون إلى النظام المالي اللبناني كقناة لإرسال أموال إلى أقاربهم تقدّر بمئات الملايين كل عام. وأفاد خبراء بأن «عشرات المودعين السوريين يواجهون مصاعب في سحب أموالهم المودعة في المصارف اللبنانية خصوصاً أولئك الذين تم الطلب منهم خلال حملة دعم الليرة إعادة الأموال التي اقترضوها من المصارف السورية في السنوات الماضية».
وقال أحدهم: «هناك عشرات أخذوا قروضاً من المصارف السورية وحوّلوها إلى دولار وأودعوها في مصارف لبنانية لتحصيل فوائد عالية تصل إلى 8% على الدولار و15% على الليرة اللبنانية».
كما تواجه شركات الحوالات السورية المرخصة وغير المرخصة مصاعب كبيرة في إيجاد طرق لتحويل الأموال من وإلى سوريا. كما أن «الفرق الهائل في سعر الصرف الرسمي هو 437 ليرة للدولار في حين سعر الصرف للدولار قد تجاوز الـ890 ليرة سورية للدولار الواحد، يدفع بالتحول نحو السوق السوداء وشركات الصرافة غير الشرعية». في عام 2017 أعلن «المصرف المركزي» أن قيمة تلك الحوالات الخاصة تصل إلى حدود الـ3 ملايين دولار يومياً من أصل إجمالي تداول قدره 15 مليون يومياً، ما يشكّل مصدراً لدخل الحكومة من القطع الأجنبي.

كانت أميركا والدول الأوروبية قد فرضت عقوبات على مصارف حكومية وشخصيات سورية مقربة من السلطات. وهناك أنباء عن حزمة جديدة من العقوبات الغربية، في وقت تسيطر «قوات سوريا الديمقراطية» المدعومة من واشنطن على حقول النفط والغاز شرق الفرات. وحسب معلومات، يذهب نحو 30 ألف برميل من النفط يومياً إلى مناطق الحكومة بموجب اتفاقات بين «قوات سوريا الديمقراطية» ودمشق.
وقال خبراء إن دمشق «تعتمد على الموانئ وشركات لبنانية لتجاوز العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها، ذلك أن 90%؜ من الصفقات النفطية وعمليات الاستيراد إلى سوريا تمر عبر تلك القنوات اللبنانية لتجاوز العقوبات. كما أن عمليات استيراد المواد الأولية اللازمة لتشغيل القطاعات الصناعية الخاصة والعامة تتم عبر هذه الشركات».

الجوع في سوريا

الجوع في سوريا

إن أكثر ما استوقفني في ثورة الحرية والكرامة في لبنان عبارة كررها المتظاهرون في كل المدن اللبنانية: جوعونا، جوعوا الشعب. ووجدت نفسي أنا ابنة اللاذقية محاصرة بصور كثيفة وموجعة بالكاد تتسع لها ذاكرتي من مشاهد الجوع في اللاذقية (وفي سوريا كلها). يكفي أن نعرف أن متوسط دخل الموظف في الدولة السورية هو بين (30 ألف ليرة سورية و40 ألف ليرة سورية) أي حوالي 50 دولاراً في الشهر. من ينظر لطابور الناس يقف لساعات أمام الأفران يدرك مدى الجوع في سوريا، وكي ينتظم الدور تقوم بعض الأفران بوضع لافتات معدنية صغيرة مكتوب عليها: موقف للنساء، موقف للرجال وموقف للعساك . أي أن ثمة شريحة كبيرة من العساكر والجنود السوريين تعاني من الجوع أيضاً وإلا لما خصوها بموقف خاص على كوة الأفران.

وأظن أن الدولة مُقصرة بحق الأطفال إذ يجب أن يكتبوا أيضاً موقف للأطفال لأن حشداً هائلاً من الأطفال السوريين يقفون في طابور رغيف الخبز. ومعظم هؤلاء يفرشون الأرغفة الساخنة – بعد أن يفصلوا الطبقتين على الأرصفة القذرة أو ظهر السيارا ، فلم يعد للنظافة مفهوم في سوريا. الأهم سد جوع المعدة بالخبز. كما أن الموظفين من متقاعدين وعسكريين ومدنيين يقفون لساعات أمام الصراف الآلي لقبض رواتب الاحتقار (رواتب بعض المتقاعدين 15 ألف ليرة في الشهر)، وليس من باب الصدفة ألا تعمل كل الصرافات!! بل معظمها يظل خارج الخدمة ويُشغلون صرافاً واحداً أو أكثر وطابور الشعب السوري يقف تحت لهيب الشمس أو صقيع البرد لساعات لقبض راتب الاحتقار الذي بالكاد يكفي لشراء الخبز، وغالباً ما تتوقف الصرافات عن العمل لسبب لا أحد يعلمه. والشعب المسكين الصابر صبر أيوب يبرر للمصارف توقف خدمة الصراف كأن يقول: تعطلت شبكة الإنترنت أو خلصت المصاري. والبعض تصيبه حالة هستيرية ويصرخ: ما بقا أقدر أتحمل هيدي ثالث مرة أنزل من قريتي لقبض راتبي التقاعدي وتتعطل شبكة الصراف!! الكثير من السوريين تنتابهم حالات هستيرية عصبية بعد انتظارهم لساعات كي يقبضوا الراتب ثم يتعطل الصراف بقدرة قادر ويقول أحد موظفي المصرف للناس ببرود وملل: تعالوا بكرة. ونسبة كبيرة من الشعب السوري تعيش على المساعدات الغذائية من الجمعيات الخيرية التي توزع من حين لآخر ما يُسمى سلة غذائية تضم كيساً من السكر وآخر من الطحين وزجاجة زيت نباتي وأحياناً حليب للأطفال. وطابور السوريين الواقفين أمام أبواب الجمعيات الخيرية ينافس بعدده طابور السوريين أمام الأفران والصرافات. وهكذا يمكن تسمية الشعب السوري بشعب الطابور.

الجوع الذي يعاني منه معظم الشعب السوري فظيع، كم من الأطفال يذهبون إلى المدرسة يحملون مجرد رغيف خبز يسدون به جوع معدتهم، ومن يراقب أسعار المواد الغذائية في سوريا يُصعق كيف لايزال هذا الشعب قادراً على المشي فسعر كيلو اللحم الذي يؤكل والصحي 6000 ليرة سورية للحم العجل و8000 ليرة سورية للحم الغنم، أي أن أعلى راتب يعادل حوالي خمسة كيلو غرامات لحم! ولأن الدولة السورية حريصة أن يأكل شعبها اللحم فقد استوردت أطناناً من اللحم غير معروف مصدره ولا مدة صلاحيته ولا نوعه وسعر الكيلو 1500 ليرة! وقد أكلت منه ذات يوم حين دعتني إحدى الصديقات إلى الغداء وكنت أعلك جيلاتيناً بني اللون مقزز الطعم وأجبرت نفسي أن أبتلعه حفاظاً على مشاعر صديقتي. حتى هذا اللحم الرديء لا يستطيع شراؤه معظم الشعب السوري فما بالك بالفاكهة التي أصبحت من الرفاهيات.

ولا أنسى منظر طفل لا يتجاوز السادسة من عمره يسأل أمه وهو يُشير إلى عربة الكرز: ماما ما هذه الكرات الحمراء فنهرته بقسوة ولم ترد ، وكان سعر كيلو الكرز 1200 ليرة سورية، وسعر أقية الفطر 1000ليرة سورية، وسعر البيضة الواحدة 80 ليرة سورية، أي أن أسرة مكونة من ثلاثة أطفال ويحتاج كل طفل أن يأكل مرتين أو ثلاث مرات بيضتين في الأسبوع ستكلفها مبلغاً عاجزة عنه، لا مجال لذكر أسعار كل المواد الغذائية لكن الجوع قاس ومُذل في سوريا، والجوع والحرمان من البروتينات والفيتامينات والمعادن التي يؤمنها الغذاء الصحي المتوازن يؤثر على نمو الدماغ لدى الأطفال وعلى نموهم الجسدي عدا عن مشاعر الحرمان المروعة التي يعانون منها.

 لم يعد هنالك طبقة وسطى على الإطلاق في سوريا، فنسيج المجتمع السوري إما غنى فاحش (أثرياء الحرب) أو فقر مدقع خاصة بعد الانهيار الإقتصادي والهبوط الفظيع لليرة السورية (اليوروبـ 760 ليرة سورية والدولار بحوالي 700 ليرة سورية)، والمواطن السوري يقبض بالليرة السورية لكن كل السلع التي يشتريها محسوبة بالدولار. يكفي أن أذكر أن سعر علبة الحليب متوسطة الحجم عشرة آلاف ليرة سورية في الصيدليات والحليب بالكاد متوف . سوء التغذية هذا سينعكس أمراضاً جسدية ونفسية خاصة لدى الأطفال>

وما أود ذكره من باب النزاهة المطلقة أن ثمة شريحة كبيرة من المجندين يعانون من الجوع ويقفون بالطابور عند باب الأفران والصرافات الآلية، وكم تأملت بألم كبير شباناً سوريين يلبسون البدلة العسكرية يمشون متعكزين على حمالتين  ليتمكنوا من المشي وتكون عدة أسياخ من الحديد خارجة من ساق أحدهم وفخذ آخر، هؤلاء أصيبوا وعُطبوا في الحرب القذرة وغصت بهم المشافي. والمروع أن ثمة قانوناً يمنع العسكري المصاب أن يُعالج خارج سوريا! حتى لو كانت أسرة المجند تملك المال الكافي لعلاج إبنها في الجامعة الأميركية في بيروت مثلاً فالقانون السوري يمنع المُجند المصاب أن يسافر! عليه أن يتلقى العلاج في مشافي الدولة فقط، وقد تحول المستشفى العسكري الضخمة في اللاذقية إلى مستشفى تركيب الأطراف الاصطناعية لمصابي الحرب من الجيش السوري. وكل الناس صُعقت من منظر شاحنة عملاقة مكشوفة الظهر ممتلئة بكل أنواع الأطراف الاصطناعية متجهة إلى المشفى العسكري وتحول مشفى الأسد الجامعي في اللاذقية إلى مشفى عسكري.

ولم تعد حتى مشافي الدولة سواء كانت المشفى الوطني أو العسكري أو غيرها قادرة على تأمين كل الخدمات الصحية للموطن. فمن يحتاج إلى عملية ماء زرقاء عليه أن يشتري بماله العدسة التي ستُزرع داخل عينه! فلم تعد العدسات متوفرة في مشافي الدولة ومن يتعرض لكسر في عنق الفخذ (وغالباً من الكهول والشيوخ عليه أن يشتري من ماله الخاص رأس عنق فخذ اصطناعي) وهو باهظ الثمن جداً لدرجة أن الكثيرين (العاجزين عن شراء رأس عنق فخذ اصطناعي) يعيشون بدون إجراء عملية ويتحملون آلاماً لا تُطاق ويرضون بالعرج الشديد المؤلم الذي سيرافهم ما تبقى من حياتهم.

صرخة شعب لبنان (جوعونا) انحفرت كالوشم في ذاكرتي وتذكرت شعبي الحبيب الجائع أيضاً. أجل شعب سوريا جائع حتى ثمالة القهر والحرمان والذل.

في شمال شرق سوريا، خارطة جديدة وأحلام ضائعة

في شمال شرق سوريا، خارطة جديدة وأحلام ضائعة

تتزاحم الجيوش في شمال شرق سوريا، وتمضي بمحاذاة بعضها وفق تفاهمات فيما بينها لضبط حركة المرور وتنظيم عملية السيطرة، فبين روسيا وأمريكا يوجد تفاهم (غير معلن) وبين روسيا وتركيا يوجد تفاهم ودوريات مشتركة، وبين أمريكا وتركيا هناك تفاهم ودوريات مشتركة أيضاً، ولا تسري هذه التفاهمات – طبعاً – على الميليشيات أو القوات التابعة أو المتحالفة مع تلك الجيوش، بحيث يمكن استخدامها للقتال في سبيل تحقيق نقاط قوة وارتكاز جديدة في المنطقة.

لقد تغيرت خريطة السيطرة منذ أعلن الرئيس الأمريكي انسحاب قواته من مناطق عملية ”نبع السلام“ التركية، وأصبح الجيش الأمريكي متمركزاً داخل الحدود السورية مع العراق من القامشلي حتى دير الزور والبوكمال، وأصبح للجيش الروسي قواعد موزعة ومهمة في المنطقة، وكذلك دخل الجيش التركي ومن معه من فصائل المعارضة السورية إلى مدينتي رأس العين وتل أبيض السوريتين، وأيضاً انسحبت قوات سوريا الديمقراطية إلى داخل الحدود السورية بعمق 30 كم وحل محلها قوات من حرس الحدود السورية.

لكن ما يهمنا من كل ذلك، هو تقييم الوضع الجديد، وملاحظة مصالح تلك القوى وإسقاطاتها على خارطة الحل السوري ومستقبل سوريا والسوريين.

من الملاحظ بأن هناك ازدواجية في تعامل الولايات المتحدة الأمريكية مع تركيا، فهي تتحدى أنقرة من جهة وتحارب اقتصادها وتفرض عليها العقوبات، ومن جهة أخرى تنسحب القوات الأمريكية مخلية الطريق أمام الجيش التركي والميليشيا التي تقاتل إلى جانبه، كما يصف الرئيس ترامب أردوغان بأنه ”صديق حميم“.

يمكن تفسير تلك الازدواجية من خلال وجهتي نظر، تقضي الأولى بأن هناك خلافات أمريكية – تركية، ولكن هناك علاقات ودية بين الرئيسين ترامب وأردوغان، وتقول الثانية بأنّ ما تقدمه الولايات المتحدة الأمريكية لتركيا في سوريا تحديداً، هو في الحقيقة تقدمة لروسيا وبالتنسيق معها وليس إلى تركيا، وهذا الأصح، مما يعني بأن هناك لاعبين اثنين كبيرين في الشمال السوري وليس ثلاثة هما روسيا وأمريكا.

بالنسبة إلى روسيا، فهي تعمل بجد على تهيئة ظروف تفاوض الأكراد مع دمشق، وترغب في الحل السلمي بدل العسكري في تلك المنطقة، لكن عندما يتعنّت الأكراد ويحجمون عن التفاوض وإبداء المرونة، تأذن روسيا للجيش التركي بالتقدم والسيطرة على مناطقهم، كما شاهدنا في عفرين وفي شمال شرق سوريا، بينما لم نلاحظ أي ضغوط من روسيا على دمشق لحضّها على قبول مطالب الأكراد أو إظهار بعض المرونة.

لقد فاوضت روسيا الكثير من فصائل المعارضة قبل إعادة السيطرة على مناطقهم، وأذكر تحديداً المفاوضات مع جيش الإسلام في مدينة دوما في الغوطة الشرقية، فهي تتشابه بصيغة المطالب مع ما تطالب به الإدارة الذاتية الآن، والتي يمكن تقسيمها إلى ثلاثة مواضيع بحسب ما قاله الجنرال مظلوم عبدي قائد قوات سوريا الديمقراطية في مقابلة له عبر إذاعة ARTA FM الكردية:

مواضيع إدارية: تتعلق بالحفاظ على المؤسسات وطريقة إدارتها بشكلٍ شبه مستقل في مناطق الإدارة الذاتية، مع وجود تنسيق مع الحكومة السورية في دمشق، وأن يتم الاعتراف رسمياً بمنهاج التدريس الجديد مع اللغة الكردية التي كانت ممنوعة في سوريا قبل عام 2011، مما يخوّل الطلاب الأكراد دخول الجامعات السورية وإتمام التحصيل العلمي بدون عوائق.

مواضيع أمنية: تطالب قوات سوريا الديمقراطية بأن تتحول قواتها إلى مؤسسة عسكرية رسمية تقوم بالتنسيق مع الجيش السوري وليس داخله، وكذلك الأمر بالنسبة للأمن الداخلي ”الأسايش“ مع وزارة الداخلية.

مواضيع سياسية: تتعلق بالدستور ونظام الحكم في سوريا واللامركزية، وهذه قد تطول لسنوات، بحسب الجنرال مظلوم.

هذه المطالب، تشبه إلى حد ما مطالب جيش الإسلام التي حاول الجنرال الروسي ألكسندر زورين التفاوض معه بعد حصار مدينة دوما، وحينها أعطى قادة جيش الإسلام بعض المساحة في التفاوض، وأظهر رغبته في منحهم بعض المزايا، مثل سيطرة شرطة محلية من عناصرهم على مدينة دوما بعد تدريبهم في وزارة الداخلية وبالتنسيق معها، مع إمكانية الحفاظ على المؤسسات المحلية عندما تقوم بالتنسيق مع مؤسسات الحكومة السورية وتعمل وفق قوانينها، وكذلك الحفاظ على كتيبة جيش الإسلام لتقاتل ”جبهة النصرة“ في محافظة إدلب بتسليح ودعم روسي. وقتها رفض قادة جيش الإسلام العرض الروسي، واستبدلوه بعرض جديد يقضي بعدم تسليم السلاح الثقيل، وإبقاء قواتهم في دوما مع إدارة كاملة للمنطقة، وتشكيل حزب سياسي له حرية الحركة والسفر عبر مطار دمشق، مع وجود تنسيق بين المؤسسات الإدارية في كلا الجانبين. وقتها انتكست المفاوضات وانتهت بعد حملة شديدة على دوما، وخرج على إثرها جيش الإسلام ليصبح تحت قيادة الجيش التركي في الشمال السوري ويعمل على محاربة سوريين آخرين بعيداً عن مناطقه وعن أهدافه.

ما يهمنا هو حجم التشابه مع اختلاف الظروف بين كلا الحالتين، مع طرح الأسئلة والتساؤلات المهمة مثل: هل ستبقى القوات الأمريكية إلى جانب الأكراد؟ ألم تخذلهم في عفرين؟ وفي منبج؟ وفي شمال شرق سوريا؟

من الحماقة أن نستمر بنفس الأدوات ونفس المطالب ثم ننتظر نتائج جديدة، بعض مما تطالب به قوات سوريا الديمقراطية لن توافق عليه دمشق ولا روسيا، وحتى لو فرضنا جدلاً موافقتهم على ذلك، فإن تركيا قادرة على تخريب الأمر وخاصة بأنّ الجيش التركي وقوات المعارضة السورية المسماة “الجيش الوطني السوري” التابعة له أصبحت تحكم الطوق على معاقل تجمع الأكراد في شمال شرق سوريا.

إنّ روسيا – وكذلك دمشق – تهتم بمصالح تركيا أكثر مما تهتم بما يريده الأكراد، على الرغم من أن بعض مطالبهم مشروعة ومحقة، وخاصة فيما يتعلق بالهوية الكردية. وكذلك الحال بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية، فعلاقتها مع تركيا – الشريكة في حلف الناتو – أكبر من علاقة أربع سنوات مع ”قسد“، وبالتالي من المهم أن لا يضيع الأكراد الفرصة، كما فعلت تنظيمات المعارضة السورية من قبل.

في المقابل، لم نسمع من أي معارض فاوض النظام السوري أي كلام حول تطبيق المرسوم التشريعي رقم 107 والخاص بالإدارة المحلية، والذي أنتجه النظام السوري نفسه في نهاية عام 2011 ولم يطبقه حتى في مناطقه، صحيح بأنّ قانون الإدارة المحلية ذاك يعطي بعض اللامركزية الإدارية المقيّدة، بحسب قراءات كثيرة، ولكنه على الأقل بداية لكسر المركزية المطلقة التي انتهجها النظام السوري على مر عشرات السنين، وربما – على الأقل – تكون إنجازاً في ظل الانتكاسات الكثيرة الماضية. خلال السنوات التي تلت اندلاع الانتفاضة السورية قامت العشرات من المؤسسات التنموية السورية والأجنبية بتطبيق هذا القانون في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، وكشفت نقاط قوته ونقاط ضعفه، وكذلك هناك العشرات من الدراسات حول هذا القانون، وبالتالي أليس من المفيد في هذا الوقت أن يتم التفاوض مع النظام السوري ليتم تطبيقه أو التعديل عليه بما يتناسب مع الواقع السوري الجديد؟ الثورات قد لا تعني بالضرورة التغيير المباشر، بقدر ما هي عملية هدم وبناء طويلة الأمد.

في النهاية تبقى مصالح اللاعبين فوق مصالح السوريين، وما عبارة ”السوريون وحدهم من يقررون مصيرهم“ إلا عبارة ترضية لا معنى لها في ظل هذا التدخل الكبير في الشأن السوري حتى في دستور بلادهم ومن يكتبه.

النساء بين المركز والأطراف

النساء بين المركز والأطراف

ما بين المركز والأطراف، علاقة متنافرة، مجهولة لغوياً لكنها محسوسة، وإن تم تجاهلها أو تأجيل الإفصاح عنها. ويسود الرأي بأن الأطراف غافلة عن كل ما  يدور في المركز، وبأن أهل الأطراف قليلو الهمة باردو الأنفاس وغيورون. ويُتهم أهل المركز بالتعالي والغرور وبالعدوانية وبمحاولات التحايل أو السخرية و الاسترزاق من بساطة أهل الأطراف، علاقة المركز بالأطراف علاقة صارخة في حدتها التي تستعمل كوصمة، كل طرف للآخر، لدرجة تم ترسيخ صورة نمطية عن أهل المركز عممها أهل الأطراف وبالعكس، وكل الفروقات أو التمايزات غير معتد بها، لأنها أصلاً لا تُراعى ولا تُلاحظ  تحت تأثير قوة التنميط الطرفي أو الأحادي والمستعمل لتثبيت شرخ بنيوي بينهما. شرخ خارجه أو مظاهره لا علاقة لها بمضمونه العميق، فتغيب الصورة الحقيقية ويتثبت الاختلال وكأنه سمة طبيعية لا تدبير له .

أحب الاحتيالات الصغيرة، المحبوكة بقلب متوثب ومقامر، أحب الخيط الواضح في بدن التمرد، والمطلوب مجرد سحبة واحدة للخيط حتى ينفرط الموثوق، المكبّل، المرهون للحظة فرار مراوغة أو إعتاق مرتجى.

على باب القصر العدلي تتجمع النساء، باحثات عن الأبناء، الأزواج، الأخوة، والآباء، يبدو المكان مشحوناً.  انتظار وخيبات متوقعة، حر وغربة ومدينة مزدحمة والكل يتهمك بمجرد وقوفك هنا، وخاصة إن كنتِ امرأة، لا وقت  للضحكات أو للأحاديث الشيقة، هكذا ينبغي لهذا المكان  أن يكون، وهكذا ينبغي على النساء المنتظرات هنا إظهار الدموع والحزن والانكسار والرجاء المر والصامت، لكن السيدات يتغامزن حول شرطي يسد باب الكراج بجسده الضخم قائلات :(إنه جميل ولكن جلف).

يتصل والد زوج إحداهن، تصمت مرتبكة وتطلب من الأخريات الصمت، وكأنهن شريكات في جريمة واحدة ويعمل المحقق للإيقاع بهن، تحاول خنق صوتها، تقول له: (شوب كتير يا عمي وسيارة الموقوفين لم تأتِ بعد!!).

تغلق السيدة جوالها وتقول: (والله عيشة قهر) ويضحكن من جديد، لكن أوامر الشرطي الجميل بالابتعاد عن مدخل كراج سيارات الموقوفين يجعلهن صامتات وتتحول العيون نحو جسم معدني حار ومعتم، لكن العيون تسبر أغواره والدموع تطوف والصمت سيد المكان .

على مسافة قريبة صبية عشرينية تجر حقيبة بأربعة دواليب، محجبة لكن قميصها بثلاثة أرباع الكم  وتحت الكمين كفان أبيضان يصلان حتى الكوع، في لحظة لا مبرر لها، تخلع الصبية الكفين وتقول بصوت عال لمن لا يهتم بها ولا بكفيها، لمن لا يراها أصلاً ومنشغل عنها بدوامة قابعة في رأسه، (شوب)!! أنتبه بعد كلمتها لأظافر مقلمة ومطلية بطلاء أحمر لامع، ستة خواتم ناعمة وذهبية موزعة في أصابع اليدين، مساحة طويلة تعرت. باتت الصبية في علاقة جديدة مع المكان ومع يد الحقيبة المثقلة بداء التنقل من بيت العائلة في طرف المدينة نحو بيت صديقة أو قريبة في مركز المدينة، وكأن يد الحقيبة تحولت إلى معرض لتحدق الصبية ملياً في أصابعها الغضة والمتناسقة، لتفرح بهم أو لتحبهم أكثر.

ما بين الأطراف والمركز علاقة فطام إرادي، كل التبدلات والتحولات الطارئة بقوة الحرب، أو بقوة انزياح الرقابة اللصيقة من أهل وأقارب وجيران، تتحول لفعل هنا، وستظهر التبدلات هنا علنية وواضحة، لابل معلنة ومتماهٍ معها. ستخلق أجيال، ليس بالتعبير العمري فقط، لكن بالمعنى الاجتماعي للكلمة تُظهّر كل التبدلات، تمارس كل ما تغير وتعلنه. أجيال تغير أشكال التداول المجتمعي والاجتماعي، وصولاً إلى تبدل واضح في طريقة الكلام وإعلان المطالب وتحديد الأوجاع والعثرات، والصراخ ربما لإزاحتها أو لرميها جانباً، أو الاعتراض عليها، لكن بصوت عالٍ وبمساحات أكثر ليونة ومرونة، أكثر انكشافاً، وإن كانت لا تتجاوز مساحة كفين وأصابع عشرة. والتبدلات ستصير مدونة سلوك مستجدة، لكنها متجددة، متمردة، وربما لا يمكن اللحاق بتبدلاتها المتسارعة في زمن يحرق المسافات كما الوقت كما القلوب والكلمات.

القمصان بأزرار ناعمة، طويلة ولا تظهر تفاصيل الجسد بحدة بارزة، لكن الأزرار قابلة للفك زراً تلو زر والعراوي متوسعة والحجة جاهزة إن أعلى الزر انفكاكه بصورة تظهر الرقبة معها أو يبان جزء من أعلى الصدر، هو ليس احتيال، هو احتفال بالمساحات النضرة من رغبات ظاهرة ومضمرة في آن معاً، والقيد الصارم بأزرار محكمة الإغلاق يوسع فتحات العراوي في صورة عكسية ما بين القرارات والرغبات.

والتباين بين الأطراف والمركز وإن بدا هنا مجرد تباين في السلوك لأهل الأطراف القادمين نحو المركز، لكنه يبدو في بعده الإجرائي وكأنه محاولة تملص من الضوابط الحادة، وكأن المركز متسع للجميع، فلا يكترث العابر بالعابر بسبب طبيعة العلاقة العابرة بينهما، علاقة تنشأ وتنمو مكانياً لا أكثر تكرس عبارة (ما حدا شايف حدا). حتى الزوجان الغريبان القادمان للمركز يتصرفان كعاشقين يمسكان بأيدي بعضهما البعض أو يشربان العصير من محل مرتجل، لأن الأطراف قد تنظر إلى تماسك الأيدي في الأطراف وكأنه وله مبالغ به، وكأن شرب العصير في محل عام يخص مناسبات معينة لا فعلا يوميا كما يظهر في المركز.

رنا فتاة عشرينية تعمل في البيوت، بمجرد مغادرتها بيت أهلها تخرج قلم أحمر الشفاه لتلون شفتيها، تتجه من شرق المدينة البعيد نحو غربها الغني، جل ما تريده ألا يتوقع أحدا طبيعة عملها من زيها المحافظ. في الحافلة العامة تحدق مراراً في شاشة الجوال التي تستعملها كمرآة، تضع عقداً من الخرز الملون الكبير،  وتظهر وداً حيال كل الركاب مشاركة في الأحاديث بثقة عالية لا تمتلكها العاملات المنزليات.

يبدو التحايل على اختلال العلاقة ما بين الأطراف والمركز ترتيباً إجرائياً للولوج في عالم أرحب، مسموح فيه أن تدخن إسراء مع شقيقتها في مقصف الجامعة، أو أن تغير امتثال اسمها إلى سوسو ليصبح اسمها المتداول، اسم صعب وثقيل حملت ثقله حين قررت والدتها تسميتها به على اسم خالتها الراحلة.

تبدو العلاقة أصيلة ما بين الأطراف والمركز رغم التجافي المعلن، إذن لا انفكاك وإنما تغيير للحدود وللضوابط في مساحات أوسع، يضيع فيها العابرون بفوضى مشتهاة أو بخفة نوعية من ثقل الروابط العائلية أو الريفية، مجرد أنك تائه ولا وجه يعرفك في هذا الزحام، يجعلك تفكر في اتجاه واحد كيف تنجو من ازدحام الروابط الواهية وكيف تكتشف السعادة، الانطلاق، التنكر، وربما النسيان أو التجاهل الكلي.

 في الأطراف، يطفو الخوف من التقييد الصارم ومن الأخبار المسربة والمتلاعب بها، محرفة بإمعان في تخييل مقصود عبر نساء متفرغات لمراقبة الجميع نساء فارغات وفاقدات لكل إمكانيات العبور نحو المركز، أو خارج أسوار الأطراف، هذا الخوف هو الذي يؤجل الرغبات للمضي نحو الحدود الخارجة عن المكان، يولد فعلا تغييرياً وإن كان بالشكل في أول لحظة لغياب حدود الأسوار الخانقة، أو تركها وراءك.

 إن النكوص نحو الحلقة الأضيق من العلاقات وخاصة الأسرية وما يفرضه من التزامات خانقة، قابل للتجاهل بمجرد العبور نحو المركز، الذي قد يكون ظالماً أو معتدياً أو غير عادل، لكنه مغر ومراد، والسعي نحوه وصفة للشجاعة والجرأة. وفي أحيان أخرى يكون وصفة للتمرد أو للضياع، خاصة إذا ما كانت العابرة عبر الحدود امرأة، هنا  يحصل ما يسميه البعض انتحاراً أو حرقاً للأوراق. يقابله نجاة خالصة بهروب خالص يرمي كل ما قبله نحو ماض لا وقت لذكره أولا قلب للنواح عليه أو تذكره، أو أن الانبهار به مجرد لحظة انفعالية عابرة لا تدوم، لكن الانفراج يتحقق في الضياع بعوالم غريبة، لا رقابة فيها ولا عين لصيقة أو فم يهذي ويحرّم ويوصي ويمانع..

ما بين المركز والأطراف نساء يرسمن الحدود الفاصلة بخيبة التعثر في إدامة العبور وفي أمل جامح  بالتعرف إلى المجاهيل الممنوعة بقوة السائد وبهيمنة السلامة الركيكة والحماية الواهية، التعرف إلى  مفردات جديدة للعيش، ومحاولة إن لن تُسعد  فاعلها! لكنها لن تدمي القلب ولن تخذله. وقد تصيب الغالبية بالعدوى، وهنا المفارقة أن تغير حياتك بمجرد إصابتك بالعدوى، عدوى الهروب من الأطراف نحو المركز، أو عدوى النكوص نحو أطراف ضبابية توحي بأمان مخاتل وهش.

هل التعايش ممكن في سوريا!

هل التعايش ممكن في سوريا!

طوال ثماني سنوات ومنذ بداية الثورة السورية، كان الفيس بوك وغيره من وسائط التواصل الإجتماعي حلاً مثالياً كي لا ينفجر الناس من الغيظ وكي يعبر كل مواطن عن أفكاره ومشاعره  وبما أنني اخترت أن أعيش في اللاذقية رغم أن كل أسرتي في باريس لأنني أريد أن أكون ضمير شعبي الحبيب وأشاركه آلامه وآماله، حتى أنني وبكل محبة كنت أستقبل في بيتي في اللاذقية النخبة المثقفة والسياسية في اللاذقية كي نتبادل الحوار ووجهات النظر. لكن كم يؤلمني ويؤسفني أن أحكي كيف تطورت الأمور خلال هذه السنوات الثماني.

بداية لا بد من الإقرار أن كل سوري خاسر سواء كان موالياً للنظام أو معارضاً له، الموت حصد الآلاف من شبان سوريا سواء كانوا من الجيش السوري أو من الفصائل المعارضة. النزوح طال الجميع سواء كانوا موالين للنظام أم معارضين له، الانهيار الاقتصادي المروع أذل الجميع وانهارت الطبقة الوسطى ليصير الفقر هو سمة المجتمع السوري. وكنت أتوقع أو أتأمل أن الجرح العميق الذي يوحد السوريين سوف يزيدهم تآزراً وتعاضداً ومحبة، لكن للأسف (وبشكل عام) العكس هو الذي حصل، فشلة المثقفين (ومعظمهم سُجن أكثر من 10 سنوات أيام الثمانينات) والذين يزيد عددهم عن الخمسة عشرة صاروا يترددون في الاجتماع في بيتي وصار كل واحد منهم يسألني: هل فلان سيحضر؟ فإذا أجبته: أجل سيحضر، يسرع ليقول: إذاً أنا لن أحضر لأنني لا أتفق معه ولا أطيق منطقه في التفكير وفي قراءة ما يحصل على الأرض السورية.

أصبحت النخبة المثقفة السياسية والتي دفع كل واحد منها سنوات طويلة من حياته في السجن لا تطيق بعضها. وكنت أتساءل بسذاجة: كيف يختلفون جوهرياً وكل منهم دفع زهرة شبابه في السجون السورية، بل (لا أبالغ) إذا قلت أنهم صاروا يخونون بعضهم البعض ويتهمون بعضهم البعض بالكذب والانتهازية. حتى اضطررت أن ألغي تلك اللقاءات الغنية بين الأصدقاء والتي كانت في العام الأول ونصف العام الثاني للثورة السورية التي فشلت وانحرفت كلياً عن مسارها في تحقيق الحرية والكرامة. وإذا كانت النخبة المثقفة والسياسية والتي تعيش في الداخل السوري تختلف في رؤياها اختلافاً جذرياً بدل أن تكون قدوة للشعب المتألم وجامعة له، فكيف حال عامة الشعب! للأسف من يتابع مواقع التواصل الإجتماعي الخاص بسوريا يرى هول الشرخ بين السوريين، فأحدهم مثلاً كتب لي موبخاً وبوقاحة إعجابي بزياد الرحباني لأن الموقف السياسي لزياد الرحباني لا يعجبه، وحين أجبته بكل لباقة بأن كل إنسان حر بموقفه السياسي وبأنني أقدر زياد الرحباني وأحب إبداعه بمعزل عن موقفه السياسي اتهمني بالتذبذب وأعلن أنه سيكف عن قراءة كل ما أكتب.

زميلة أخرى تعيش حالياً في إحدى دول اللجوء عنفتني بشراسة لأنني ترحمت على الممثل القدير فاروق الفيشاوي وأنا معجبة بفنه للغاية ولا تعنيني حياته الشخصية، والسيدة إياها اعتبرتني خائنة للشعب السوري لأن فاروق الفيشاوي زار دمشق. وكي تكتمل الصورة فإن من خونني لأنني أحب فن زياد الرحباني ومن خونتني لأنني أحب الممثل المبدع فاروق الفيشاوي، كانا يعيشان في الداخل السوري كالنعجة، لا ينطقان بحرف في انتقاد حتى كومة قمامة في الشارع ! ويتملقان كل مسؤول ويكيلان المديح له ، بل كانا يتجنبانني لأنني أكتب مقالات جريئة في نقد الأخطاء والممارسات الخاطئة في المجتمع السوري ، وقد دفعت ثمن مواقفي من منع السفر إلى استدعائي مراراً إلى الأجهزة الأمنية. ولم يكن أحد يجرؤ أن يدعمني أو يقف إلى جانبي في محنتي، فمن تستدعيه الأجهزة الأمنية يخاف منه أصدقاؤه ويبتعدون عنه كما لو أنه وباء. لكن حين خرج هؤلاء النعاج المنافقون خارج الوطن بدؤوا بالجعير وصار سهلاً عليهم الشتم وليس النقد، حتى أنهم اتهموني بأنني جبانة ويجب أن تكون مقالاتي أكثر جرأة وحدة في انتقاد النظام (النظام فقط وليس الجماعات المتطرفة الإرهابية التي لا يذكرونها أبداً والتي أبدعت في سفك الدم السوري والخطف والذبح) وأزعم أنهم يطالبونني بأن أكتب بجرأة أكبر كي أكون كبش المحرقة وكي يتفرجوا علي وحيدة وعزلاء في مصابي وهم يتلذذون.

ما أسهل أن تدعي الشجاعة والبطولة وأنت خارج سوريا، هؤلاء أشبه بديوك على مزبلة، وقد ابتلي الشعب السوري بقسم ممن يسمون أنفسهم بالمعارضة الخارجية التي ارتهنت لدول عديدة شريكة في سفك الدم السوري وقبضوا ثروات، وكلهم يتفقون على عبارة موحدة بأنهم يريدون أن يضحوا بآخر قطرة من الدم السوري! سبحان الله من قال لهم بأن الشعب السوري يريد أن يموت، الشعب السوري يحب الحياة والفرح ويريد أن يزوج أولاده ويزغرد في أعراسهم وليس في جنازاتهم. وهؤلاء الذين يتهمونني (ويتهمون غيري) بأنني أحب زياد الرحباني وفاروق الفيشاوي (وهم معترضون بشراسة على موقفه السياسي) لا ينبسون ببنت شفة على شلة الأدباء والفنانين الذين زاروا اسرائيل وتباهوا بالتطبيع معها.

أنا أؤمن أن الشعب السوري أعزل تماماً فلا النظام يمثله ولا المعارضة، وهو متروك للفقر والعقوبات الاقتصادية ولرفض العالم له، ومعظم دول اللجوء حالياً تتمنى وتسعى لترحيله وإعادته إلى سوريا التي تشرذمت وتجزأت. المؤسف أن من يكون منطقياً وغير متطرف وصادقاً في حب سوريا والشعب السوري، أي من يكون معتدلاً يُعاقب من قبل النظام الذي يمنعه من السفر ويشحطه إلى فروع الأمن كلما كتب مقالآ جريئاً ينتقد فيه مظاهر الفساد في سوريا، ويكون منبوذاً وخائناً أيضاً بالنسبة لمعارضة الخارج الموظفة لدى دول معينة وتقبض منها الملايين، ولا أنكر أن بعض أطراف معارضة الخارج الحاقدين يتهمونني بالتذبذب وبأنني ضمنياً مع النظام لأنني لست في السجن!! كما لو أن كل سوري كي يثبت وطنيته يجب أن يكون في السجن، وبعضهم يقول لي: لأنك مسيحية يتسامح معك النظام. ولا أعرف ما هذا التسامح!! وقد مُنعت مرتين من السفر وأنا على الحدود وفي إحدى المرات كنت مسافرة إلى البحرين لأشارك في مؤتمر ثقافي وتبدد السفر لأنني عرفت على الحدود أنني ممنوعة من السفر (الله أعلم لماذا). هل يجب أن يُقطع رأسي ورأس كل مثقف وطني ليثبت لهؤلاء المرتزقة أنه وطني ويحب الشعب السوري! بل إن البعض من هؤلاء المرتزقة يعتبرون كل مثقف يعيش في سوريا هو موال للنظام.

كم أحس بالقهر وخيبة الأمل وأنا أرى ما آل إليه وضع معظم السوريين بعد ثماني سنوات من الثورة السورية المُنتهكة، فبدل أن يوحدهم الجرح جعلهم ينفرون من بعضهم (رجاء لا أعمم) والطامة الكبرى أن نخبة المثقفين الذين قضوا سنوات طويلة من حياتهم في السجن دفاعاً عن مبادىء الحرية والكرامة ما عادوا يطيقون بعضهم وكل منهم يخون الآخر بل يعتبره موظفاً عند الأجهزة الأمنية. ويتحدثون عن إعادة الإعمار!! هل الإعمار ببناء حجر فوق حجر. من يرمم الشرخ الفظيع الذي حصل في نفوس السوريين. من يعيد للسوري روعة عبارة أخي في الوطن وشريكي فيه مهما كانت قناعاته سواء أحب زياد الرحباني وفاروق الفيشاوي أم كرههما. لأن بناء الوطن لا يقوم على الحجر بل على البشر. المؤسف أن الأحقاد انتصرت على الحب. وحصل شرخ كبير بين السوريين ألمسه تماماً هنا في باريس.

القطاع التعليمي في إدلب: بين مطرقة القصف وسندان انقطاع الدعم

القطاع التعليمي في إدلب: بين مطرقة القصف وسندان انقطاع الدعم

ينظر الطفل عمر العطار (١٢عاماً) ببالغ الحزن والأسى إلى مدرسته التي تحولت إلى دار لإيواء النازحين، فلم يعد بإمكانه ارتيادها مجدداً واضطر للسير مسافة طويلة للوصول إلى مدرسته الجديدة.

ارتفعت نسبة الدمار ارتفاعاً ملحوظاً في الشمال السوري الخاضع لسيطرة المعارضة بعد الحملة العسكرية الأخيرة التي شنتها القوات الروسية وقوات النظام السوري مطلع نيسان الفائت، حيث دمرت الكثير من المنشآت الحيوية وفي مقدمتها المدارس مما بات يهدد حيلاً كاملاً بحرمانه من التعليم في تلك المنطقة في سوريا.

أوضح الموجه التربوي بلال بركات (٣٥ عاماً) بأن”الواقع التعليمي يواجه أوضاعاً مزرية جداً في منطقة إدلب فقد خرجت أكثر من ٣٥٠ مدرسة عن الخدمة من أصل ١١٩٠ مدرسة نتيجة للقصف العنيف الذي أدى إلى دمارها”، ويضيف بأن ما يزيد الأمر سوءاً بالنسبة لهذا القطاع الهام هو توقف المنحة الأوربية المقدمة من منظمة كمونكس وهو ماينذر بكارثة حقيقية على القطاع التعليمي إن بقي دون دعم.

ويشير إلى أن العمل حالياً ضمن المدارس هو تطوعي ولكن لا يعلم إلى متى يمكن للمدرسين الاستمرار دون رواتب، وهو يعتقد بأنه إن طال الأمر عليهم سيبحثون عن فرص عمل أخرى وستبقى المدارس دونما معلمين مما سيؤدي إلى تسرب الطلاب من المدارس.

كما وتواجه مديرية التربية والتعليم في المناطق الشمالية الخاضعة لسيطرة المعارضة ازدحاماً كبيراً في أعداد الطلبة مع نزوح آلاف العوائل من ريف حماه الشمالي وريف إدلب الجنوبي إلى تلك المناطق، فباتت أكثر من ٢٥ مدرسة قيد التوقف عن عملها بعد أن غدت ملاجئ للنازحين الذين ضاقت بهم المعيشة ولم يتمكنوا من الحصول على مأوى أمام فقرهم وغلاء آجار المنازل في الشمال والذي وصل لحد ٤٠٠ دولار أمريكي شهرياً.

وتوضح لمى الحسين (٢٥عاماً) نازحة من ريف إدلب الجنوبي ومقيمة في مدرسة نهاد نجار بمنطقة معرة مصرين ”لم نجد بداً من السكن في هذه المدرسة بعد بحثنا الطويل عن منزل دون جدوى، فقد نزحنا وشردنا من بيوتنا ومناطقنا وخرجنا بأرواحنا دونما أمتعة أو حتى ملابس”. وتتابع بأنها أرملة ولديها ثلاثة أبناء ولاتعلم كيف تأمن لهم قوت يومهم فكيف لها أن تتمكن من دفع أجور المنازل الباهظة والتي تفوق مقدرتها المادية بأضعاف مضاعفة حسب وصفها.

عانى القطاع التعليمي في سوريا من الإهمال منذ بداية الثورة السورية، فقد تعمد النظام السوري تخفيض ميزانية التعليم  حيث انخفض عام ٢٠١١ بنحو عشرة مليارات ليرة سورية عنه في العام السابق، وانخفض سبعة مليارات إضافية في ٢٠١٢ وفق ماأعلنت وزارة التربية والتعليم التابعة للنظام آنذاك، كما عمدت إلى إيقاف مرتبات المعلمين المقيمين في المناطق الخارجة عن سيطرته ما سبب نقصاً كبيراً في الكوادر.

عن مسيرة القطاع التعليمي في المناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة يشرح المعلم نهاد قيطاز(٣٣عاماً) ”بعد تشكيل الجيش السوري الحر وتوسيع رقعة المناطق الخارجة عن سيطرة قوات النظام في عموم البلاد بدأ معلمون وموظفون تربويون وطلبة جامعيون متطوعون محاولات لاحتواء أزمة التعليم ” مبيناً بأنهم عمدوا إلى افتتاح حلقات التعليم في المدارس بما يتوفر من مقومات بسيطة محاولين سد ثغرة عامين من انقطاع التعليم لدى الأطفال لاسيما في مرحلة التعليم الأساسي، ولأن عملهم لم يكن منظماً ومدعوماً فقد زاد حجم المشكلة. ويستطرد بأنه وعلى الرغم من تشكيل المكتب التعليمي التابع للائتلاف الوطني السوري مطلع عام ٢٠١٣، إلا أنه لم يتمكن من ضبط قطاع التعليم ولم يقدم الدعم اللازم نظراً لقلة موارده، كما أن الحكومة المنبثقة عنه والتي شكلت مديريات التربية الحرة في عموم المناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة لم تتلق الدعم اللازم أيضاً إلا أنها وجدت نوعاً ما هيكلاً مبدئياً لمنظومة التعليم.

وللتعليم في المخيمات الشمالية حكاية أخرى، حيث تشهد تلك المخيمات ضعفاً شديداً في البنية التعليمية. فمن أصل ١١٥٣ مخيم في مناطق شمال غرب سوريا والتي تحوي ١.٢ مليون نسمة لايتجاوز عدد المدارس ضمن تلك المخيمات أكثر من ٤٩ مدرسة معظمها لا تلبي الاحتياجات التعليمية.

وعن هذا الوضع، يقول يوسف شعبان (٤١عاماً) ناشط في المجال الإغاثي والتعليمي في مخيمات الشمال “هنالك أطفال داخل المخيمات الشمالية لم يخضعوا للعملية التعليمية على مدى ثماني سنوات من عمر الثورة السورية والسبب في ذلك يعود لافتقار الكثير من المخيمات السورية على الحدود التركية لأي مدارس أو أنشطة تعليمية”.  عمد شعبان إلى إقامة مدرسة أطلق عليها اسم الناشط بلال كريم في مخيمات البرادقلي، وتلك المدرسة افتتحت أبوابها مع بداية أيلول ٢٠١٩ بمساعدة عدد من الناشطين والمتبرعين الأشخاص في سوريا ودول الجوار، غير أن المدرسة لم تستوعب سوى ٤٥٠ طالباً وطالبة من أبناء مخيمات البرادقلي التي يبلغ عددها ١٧ مخيم في حين أن عدد الأطفال في عمر الدراسة فاق هذا العدد أضعافاً مضاعفة. وحول المدرسة يؤكد شعبان بأنها “تضم المستويات الأولى والثانية والثالثة، وهي موزعة على دوامين لاستيعاب أكبر عدد ممكن من الأطفال.” ويشعر شعبان بالأسف حيال عدم استيعاب المدرسة إلا لعدد قليل قياساً بالأعداد الكبيرة المتواجدة، وما فاجأه أن ١٠ بالمائة من مجموع الطلاب الذين ضمتهم المدرسة فقط يجيدون بعض القراءة والكتابة، أما بقية الأطفال فلا يجيدون حتى كتابة أسمائهم رغم كبر أعمارهم التي وصلت حتى ١٢ عاماً، ولذا فهو يدعو جميع المعنين لتدارك تلك الأجيال وتدارك العملية التعليمية التي باتت مهددة بشكل كبير في سوريا وفق تعبيره.

في ظل استمرار العمليات العسكرية التي طالت منشآت تعليمية عدة، ومع انقطاع الدعم الرئيسي عن هذا القطاع الهام، فإن آلاف الأطفال في إدلب وريفها باتوا مهددين بحرمانهم من حق التعليم الذي سرعان ما سينعكس سلباً على ما سيؤول إليه حال هؤلاء الأجيال من جهل وانحراف وزواج مبكر.