حين تقف عاجزاً عن كتابة الفرح 

  حين تقف عاجزاً عن كتابة الفرح 

منذ نحو سبعة أعوام وأنا أكتب لموقع صالون سوريا، وكانت معظم المواد والتحقيقات التي نشرتها في الموقع وفي مواقع أخرى، طوال أكثر من عشرة أعوام، تدور حول  ظروف الحرب وتبعاتها، الحرب التي فرضها نظام الأسد على الشعب السوري لكي يُجهض ثورته العظيمة التي سيُخلدها التاريخ. كتبتُ عن الشوارع المليئة بمشاهد القهر والألم، والمزدحمة بالمتسولين والمشردين، الذين باتوا جزءاً مألوفاً منها، ونابشي حاويات القمامة التي باتت مصدر رزقهم الوحيد، وباعة الأرصفة الذين يرتجلون من العدم بسطاتٍ تبيع أي شيء يمكن بيعه كي يؤمنوا لقمة عيشهم. كتبتُ عن النازحين والفقراء والمعدمين، وعن المتسربين من التعليم وأطفال الشوارع الذين تربوا وكبروا فيها. كتبتُ عن تدهور الواقع التعليمي والثقافي وعن هجرات الفنانين والمثقفين وأصحاب الشهادات، وعن العقبات والصعوبات التي يواجهها من تبقى منهم في البلاد، كما تحدثت في أكثر من مادةٍ وتحقيقٍ عن أزمات الكهرباء والوقود والمواصلات، وعن تردي الواقع المعيشي والاقتصادي لدى السوريين، الذين أصبح جلهم يعيش تحت خط الفقر، وغير ذلك من الموضوعات التي تناولت معاناة الناس وظروف حياتهم اليومية التي تميتهم كل يومٍ عشرات المرات.   

اليوم، وبعد سقوط نظام الأسد المجرم، الحلم الذي انتظرناه طوال حياتنا، وقفت عاجزاً طيلة الأسابيع الماضية عن الكتابة عن الفرح، رغم أن حدثاً كهذا، لم نكن نتخيله حتى في أحلامنا، يُمكن أن تُفرد لأجله عشرات بل مئات الصفحات، ولكن كيف يمكن للغةٍ من حروفٍ وكلمات أن تُجاري، تعبيرياً أو شعرياً، ما تقوله الشوارع والساحات التي كانت أفراحها أبلغ وأفصح وأشد تعبيراً من أنواع الفنون والأدب والصحافة كلها؟ أفراحٌ شاسعة بحجم وطنٍ يولد من جديد، كان لصوته الاحتفالي قدرة تعبيرية  فاقت جميع محاولاتي التعبيرية التي عجزت عن صياغة مادةٍ ما، أنا الذي اعتادت لغتي لسنواتٍ على صياغة موضوعاتٍ تفوح منها رائحة بلاد مُنهكة، صُنفت كواحدة من أسوأ أماكن العيش في العالم.   

في الساحات كانت وجوه الناس المُشرقة والطافحة بالنبض والفرح  تكتب نيابةً عني، بعد أن زالت من تعابيرها معالم القهر واليأس والوجع. الأطفال المتسولون والمشردون في الشوارع والعاملون في نبش حاويات القمامة، في الصباح الذي تلا سقوط الأسد المجرم، كانوا يفردون صوره الممزقة على الطرقات والأرصفة ويدعون المارة أن يدوسوا عليها وأن يعبروا بسياراتهم من فوقها، وهم يرقصون ويهتفون هتافات الحرية والنصر الذي كان يَشعُّ من وجوههم التي زينوها برسوم علم سوريا الجديد، وجوههم التي لطالما تلونت بالقهر وأوساخ الشوارع والندبات التي حُفرت فيها. لربما كان هذا المشهد من أروع مشاهد انتصار العدالة. 

  بعض النازحين، الذين عاشوا لسنواتٍ في شققٍ غير مكسوة (على العظم) لا تصلح للعيش البشري، تحولت من سكنِ مؤقتٍ إلى شبه دائم، كانوا يحتفلون بكثيرٍ من الفرح والدموع في ذات الساحات والشوارع، التي لطالما جلسوا فيها باحثين عن أي عملٍ يمكن أن يؤمن لقمة عيشهم المريرة. كانوا يقفون فيها، مع أطفالهم، لأول مرة منتصرين على من دمَّر بيوتهم وهجَّرهم من مدنهم وقراهم، التي بات حلمهم بالعودة إليها قابل للتحقيق، وكان أطفالهم، الذين تفيض عيونهم أملاً وتفاؤلاً، يشعرون لأول مرة أن لديهم وطناً حقيقياً وأن بإمكانهم العودة إلى قراهم ومدنهم التي لم يتعرفوا إليها منذ ولادتهم.

في ساحة الحجاز وخلال وجودي في وقفةٍ تضامنية مع المعتقلين المفقودين، كانت قدسية المشهد وعظمته وملحميته تُلهم ذهني بعشرات الأفكار والمواضيع التي يُمكن الكتابة عنها، لكن دموع المرأة التي كانت تقف بجواري، كانت أكثر بلاغة وتعبيراً من أي كلماتٍ يُمكن أن تُكتب، دموعها التي كانت تشبه سوريا المتخبطة بين مشاعر الفرح والأمل والحزن والفقد والحسرة على المعتقلين الذين استشهدوا لكي يرسموا لنا طريق الحرية. 

كانت صور المعتقلين المحمولة في الساحة تحدق بي، وهي تقول الكثير، وكنت أشيح بوجهي عنها، أخجل من عظمتها ومن النظر إليها. كيف يمكنني أن أكتب عنها بضع كلماتٍ مقتضبة، وكل صورة منها تحفل بعشرات القصص والمشاهد والذكريات، ويُمكن أن تُفرد لأجلها عشرات المقالات؟ 

خلال وقوفي في الساحة فكرت للحظة أن أجمع حكايات بعض الناس الذين حضروا إلى الوقفة، حاملين صور أبنائهم وأخوتهم وأقاربهم المفقودين، علهم يحظون بأي خبرٍ عنهم، لكن نظراتهم، الباحثة عن أي أمل، كانت تصفعني وتجعلني مشلول الحركة، غير قادرٍ على القيام بأي فعل، بل كانت تُشعرني بسخافة أن يُكتب عن معاناتهم فيما يقف العالم بأسره عاجزاً عن تقديم أي خبرٍ يُريح قلوبهم المتعبة التي مزقها الفقد. هربت من نظراتهم ورحت استحضر إلى ذهني، مشاهد المعتقلين المحررين من المعتقلات والسجون، والتي أمضيت ساعاتٍ طويلة وأنا أشاهدها خلال الأيام الماضية، بمزيجٍ من الفرح والحزن. شردت معها بعيداً لدقائق، حتى قاطعت شرودي نظرات شابة كنت أعرفها حين كانت طفلةً في إحدى مراكز الايواء قبل نحو ثماني سنوات. من كان يصدق أنها ستقف اليوم في إحدى أهم ساحات دمشق، وهي تودع الخوف والقهر والعجز، وتحمل علم سوريا الجديد، لتقول للعالم إنها انتصرت على من دمَّر بلادها واعتقل عدداً من أقربائها وشردها مع عائلتها لسنوات طويلة؟. 

في السنوات الماضية تحدثت في أكثر من مادة صحفية عن الجيل الجديد، أو ما يُمكن تسميته بجيل الحرب، الذي فقد شعوره بالإنتماء إلى سوريا المُدمرة والممزقة، التي قد لا يعرف منها سوى مدينته أو قريته، هو الذي  تربى على ثقافة الحرب والانقسام السياسي والخوف من الموت، ولم يتبلور لديه أي مفهوم واضح عن الوطن في ظل انحسار دور المرجعيات الوطنية وتمزق معظم الهويات الوطنية الجامعة. ذلك الجيل، الذي كان السفر إلى خارج البلاد، بالنسبة لمعظمه، الحلم الأبرز وطوق النجاة الوحيد، تراه اليوم، بعد سقوط النظام البائد، يتعافى ويُبعث من جديدٍ، ينهض حافلاً بالطاقات والانتماء الوطني، يَنشَط كخلايا النحل، يحضر في الساحات، في الوقفات الاحتجاجية والتضامنية، في حملات تنظيف الشوارع وزراعة الحدائق، وفي مختلف الأنشطة المدنية، ويشارك في التجمعات السياسية والمدنية وفي المبادرات الشبابية، يُعبِّر عن رأيه ، الذي كان مغيباً، وبكثيرٍ من الحماس والمسؤولية يشعر اليوم أنه أمام فرصةٍ ذهبية ليستعيد انتماءه لبلاده وليكون شريكاً فاعلاً ومؤثراً في صناعة تاريخها الجديد والنهوض بها. 

قبل أيام من سقوط نظام الطاغية المجرم، كنت أفكر بالكتابة عن تلوث الهواء في بعض المناطق المحيطة بدمشق، وخاصة مدينة جرمانا، والتي يضطر الكثير من سكانها، في ظل أزمتي الوقود والكهرباء، لإشعال النايلون والبلاستيك والخشب والكراتين في مدافئهم، وكل ما توفر من موادٍ تساعدهم على استحضار بعض الدفء إلى بيوتهم الباردة. ويؤدي احتراق تلك المواد إلى انبعاث دخان كثيفٍ يلوث الهواء ويبعث على الاختناق. لكن هواء المكان تغير فجأة، بعد سقوط النظام البائد، وليس في الأمر حالة شاعرية ورومانسية، فقد لمس معظم الناس هذا التغيير وأصبحوا يتنفسون هواء مريحاً وخفيفاً وغنياً بالأوكسجين، بعد أن زالت رائحة الخوف واليأس والعجز من الشوارع التي أصبحت مُشرقة ورحبة، وتفوح منها رائحة الفرج والأمل. 

آخر المواد التي كتبتها كانت تتحدث عن انعدام مساحات التنفس عند الناس في سوريا، نتيجة ما أفرزته ظروف الحرب التي التهمت الكثير من المساحات الخضراء وحرمت معظم الناس من طقوس النزهة والسيران  وزيارة البحر، في ظل تدهور الواقع الاقتصادي وتفاقم أزمات الوقود والمواصلات، وهو ما جعلهم يلجؤون إلى أي مساحةٍ زراعيةٍ أو حتى ترابية تذكرهم بالطبيعة. اليوم، بعد سقوط نظام الطاغية، يُمكن القول أن كثير من  الناس وجدوا مساحات تنفسهم في الساحات والشوارع التي بات السير فيها، بالنسبة لهم، نوعاً من النزهة والسيران، بل أن عشرات الآلاف باتوا يأتون كل يوم لزيارة دمشق من مختلف المحافظات، وبعضهم كان يتعرف إليها لأول مرة. الشباب الذين كانوا محاصرين في أحيائهم وحاراتهم وبيوتهم لسنوات، كونهم مطلوبين للخدمة العسكرية، تحرروا أخيراً من سجنهم وتعافوا من رُهاب الحواجز، وباتوا يتنقلون بين الأحياء ويجوبون الشوارع والساحات بكامل حريتهم، وتعلو أصواتهم  في المقاهي وهم يخوضون النقاشات السياسة حول مستقبل سوريا، وكأنهم يولدون من جديد. 

لقد كنت واحداً من أولئك الشباب، وبقيت مشلول الحركة لنحو سبعة أعوام، خشية اقتيادي للخدمة العسكرية الاحتياطية، كنت خلالها أتنقل، عند الضرورة، بحذرٍ شديد، سيراً على الأقدام، وأحياناً كنت أستعين بهوية أخي، وها أنا اليوم أمضي كثيراً من الوقت متجولاً في أحياء دمشق، التي كتبت كثيراً عن تعبها ومرضها وعتمتها، أتسكع في شوارعها بخفة ورشاقة من يمتلك جناحين، وأنا أودع الخوف الذي كان يتربص بخطاي كلما رأيت حاجزاً أو دورية عسكرية. أحاول استعادة علاقتي الحميمية الأثيرة مع المدينة، أُمعن النظر في كل تفصيلٍ صغيرٍ في شوارعها وأبنيتها، أُدرِّب عيني، التي اعتادت لسنواتٍ على رصد مشاهد الفقد والألم والقهر، أُدرّبها على إبصار التفاؤل والأمل والفرح الذي بات يرتسم على كل تفاصيل المدينة ويطل من وجوه الناس. لقد كنت أشتكي خلال السنوات الماضية من نقص الأصدقاء الذين غادر معظمهم إلى خارج البلاد، وها أنا اليوم أكتشف أنه مازال هناك الكثير منهم في دمشق، بعد أن خرجوا من حصارهم وعزلتهم ليبصروا النور، أصادفهم في الشوارع والمقاهي والساحات، التي بت أستعيد من خلالها ذكريات أصدقائي المسافرين، الذين عادت ذكرياتهم وضحكاتهم وأحاديثهم وخطاهم لتطل من كل شارعٍ أسير به، بعد أن باتت عودتهم، التي كانت شبه مستحيلة، إلى سوريا أمراً ممكناً.  

انتهت الحملة الأمنية في مدينة حمص ولم ينته الخوف

انتهت الحملة الأمنية في مدينة حمص ولم ينته الخوف

لا أعرف من روى نكتة أنه لو فُرض علينا حظر تجول لخرجنا نتفرج على حظر التجول! هذا ما حدث في الحي عند بدء الحملة الأمنية على بعض أحياء حمص التي وُصمت بالموالاة للتفتيش عن السلاح وفلول النظام كما قيل، إذ خرج سكان الحي ووقفوا “يتشمسون” أمام أبواب البيوت كي يراقبوا السماء حيث كانت الطائرات المسيرة تصور الحركة في الأحياء، محاولين استطلاع تقدم عمليات التفتيش في الشوارع.

ربما كان هـذا فضولاً أو رهاناً على الآخر الجديد والغريب الملثم بقناع ردع العدوان، من البسطاء الذين استغلهم بشار الأسد والذين تمنوا سراً كل يوم سقوطه. 

أربعة عشر عاماً من القمع والقصف والتعذيب في السجون وشيطنة الآخر وتجريمه بالخيانة والطائفية على يد النظام الذي زج بالشباب السوري في الدفاع عنه في حربه الطويلة ضد الثائرين عليه، بينما كان على مدى خمسين عاما يعمق الطائفية بين مكونات الشعب السوري فلم يتوقف منذ الثمانينات عن ضخ الماء العكر في القنوات ليسمم مكونات المجتمع. وبدل أن يمد جسور المواطنة كان يقطعها بتغذية الانتماءات الطائفية  والعشائرية والعائلية ليحافظ على وجوده أولاً وعلى خزان القوى البشرية لجيشه وعلى دعم فئات لها وزنها خارج البلاد.

إشارة استفهام حول معايير اختلاف التعامل مع السكان  

بدأت الحملة الأمنية دون إنذار مسبق، إذ استيقظنا على صوت رشقات  الرصاص من عدة أنواع من السلاح، للوهلة الأولى كنا بحاجة لوقت لاستيعاب الحدث وما يمكن أن يليه فكل الاحتمالات ممكنة، والخوف حالة غريزية عند الإنسان يثيره المجهول وغير المجرَّب حتى الآن. كان الوقت يمر ببطء في انتظار وصول الشباب للتفتيش حتى سمعنا صوت يحث الجميع على الدخول إلى المنازل، ولعلها نكتة حمصية أن نقول: إن الذين انصاعوا قلائل. 

عرّف شباب الحملة عن أنفسهم بالشرائط الملونة على الكتف وكان بعضهم يضع شرائط حمراء وبعضهم الآخر صفراء وخضراء فهل اختلف السلوك حسب لون الشريطة أم حسب الحي؟

بعضهم دخل المنازل وهو يعتذر قائلاً إنه لا يمتلك وقتاً لخلع الأحذية وعبر عن أسفه للأمهات لأن سجاد المنزل قد يتسخ، وبعضهم الآخر زاد على تهذيبه بعض التلميحات التي تحمل اللوم والتنديد بصمت سكان هذه الأحياء على قصف النظام لهم والمقارنة بين دخولهم إلى بيوتها ودخول شبيحة النظام الساقط إلى بيوتهم في سنوات سابقة وكيف أن الشبيحة لم يتورعوا عن ارتكاب المذابح والمجازر والتقاط الصور مع الضحايا.

بعضهم قام بكسر الآلات الموسيقية والشاشات ربما لأنه يرى الموسيقا حراماً والتلفاز بدعة! وثمة من لم يكتف بالكلام، بل صب جام غضبه المكبوت على بعض الشبان ضارباً ومعنفاً ومهيناً لهم إذ تناقلت الصفحات فيديوهات لإذلال الشباب بعد جمعهم سواء بالضرب أو الطلب منهم القيام بالنباح أو تقليد صوت الحمار. 

وهو ما كان يفعله سجانو النظام  مع السجناء بإجبارهم على النباح أو تقليد أصوات الحيوانات،  فهل فكر هؤلاء الشبان وهم  يقومون بذات الفعل الذي قام به سجانو الأسد في النظام السابق بخطورة فعلهم؟ وهليفكرون بتحويل سوريا إلى سجن كبير؟ 

عدالة أم انتقام؟

كان الخطر يكمن في طبيعة النظرة التي تم إيصالها للآخر فهو حين يجبره على تقليد صوت حيوان عملياً يقول له إنه يراه بهذا المستوى ويحط من  كرامته الإنسانية إلى مستوى أقل في التطور، وهذا يعني أنه لا يريده شريكاً، وعلاقته لن تتعدى هذا المستوى. نتذكر كيف كان ينظر البيض إلى الأفارقة على أنهم بمستوى أقل إذ كان في بداية القرن الماضي يتم عرضهم في أقفاص، وهو ما يشابه ما قامت به السلطة النازية بإذلال الشعوب الأخرى على أساس التمييز العرقي.

يرافق الإذلال حين يكون علنياً ومصوراً إحساس بالخزي والعار وهنا يترك الممارس عليه عرضة لحالات مختلطة تتوقف على كونه فردياً أو جماعياً و تتراوح بين الانتحار والانتقام فإن كانت الجهة التي تمارسه لها شكل سلطة واضح ومحدد يزداد الشعور بعدم القدرة على رد الاعتبار وهو ما يمكن أن نراه في حالة البوعزيزي الذي أشعل الربيع العربي، أما إن كان غير ذلك فقد يؤدي إلى محاولة رد فعل عنفي، إذ يسقط الإنسان المقهور ذات الفعل على غيره في محاولة التعويض النفسي للإحساس بالخزي.

هل من عدالة في شعار من يحرر يقرر؟

سُجلت هذه الانتهاكات كحالات فردية وشعر الناس بالراحة بعد انتهاء الحملة الأمنية لكن ما حدث من حالات فردية زرع الخوف من طبيعة المرحلة القادمة في البلاد خصوصاً بعد الرد على كل انتقاد بشعار من يحرر يقرر وهذا تلميح بالسعي للانفراد بالحكم ورغبة ضمنية بإقصاء الآخر وتغيير جوهر الثورة التي قامت على أساس رفض ديكتاتورية الأسد التي انفردت بالحكم وأقصت سائر فئات الشعب الأخرى، الثورة التي نادت بالحرية هدفاً أول.

 إن هذه الأفعال الانفعالية والشعارات لا تبني سوريا القادمة التي تحتاج  إلى كل الجهود والترفع على الآلام والماضي مع محاسبة المجرمين والقتلة فالعدالة التي تبني سورية ليست الانتقامية والثأرية بل عدالة قانونية تستهدف كل من حمل إثم الدم السوري.

إن اللجوء إلى الفعل الانتقامي دون رقابة أمنية خطير لأنه يهدد الشراكة التي تقوم عليها الدولة والتي قام الأسد ونظامه بتدميرها، ليس فقط كمؤسسات بل أيضاً كقاعدة شعبية، ولنتذكر الآية الكريمة “لا تزر وازرة وزر أخرى” فبعض الشبان الذين تعرضوا للإذلال من أعمار صغيرة ولم يشاركوا بأي فعل عنفي  يستحق الانتقام. 

تم اعتقال كثير من الشبان أثناء ذلك، ثم تم الإفراج عن 360 شاباً منهم فقط بينما ما زال الأهالي ينتظرون أولادهم على أحر من الجمر. 

في هذه الأثناء تتواصل حوادث الاختطاف وتهدد السلم الأهلي في المدينة بينما يعرف الجميع أن التركة التي ورثها الشعب السوري من النظام الساقط ثقيلة كهذه الأيام، والكل يتمنى أن يتجاوز ذلك بأقل الخسائر، فهل ينجح؟ 

السيرورة المألوفة: من الخطاب المتطرف إلى الاعتدال

السيرورة المألوفة: من الخطاب المتطرف إلى الاعتدال

لطالما خطرت في ذهني وأنا أفكّر بالوضع الذي آلت إليه الأمور في سورية في ظلّ حكم نظام بشار الأسد، قصيدةُ الشاعر اليوناني قسطنطين كافافي الشهيرة “بانتظار البرابرة .“اليوم وصَل من صوّرهم إعلام النظام السابق بأنهم ”برابرة“، و”إرهابيون” إلى العاصمة، وجلسوا على الكرسي الذي ورثه بشار. لكنهم لم يأتوا مرددين ”بالذبح جيناكم“، بل استخدموا لغة مسالمة وتصالحية خالية من الإقصاء والعنف، وجّهوها إلى السوريين من مختلف الطوائف والمذاهب، الذين عانوا من التدهور السياسي والاقتصادي والاجتماعي والتعسف والإجرام الأمني في ظل حكم الأسد، إلى درجة أصبحوا فيها مستعدين لإنشاد خاتمة قصيدة كافافي بمكبرات الصوت: ”ما الذي سيحدث لنا من دون البرابرة؟ لقد كانوا نوعاً من الحل”.
عمل النظام الديكتاتوري العسكري السابق طوال عقود على إفراغ البلاد من أي بدائل سياسية تقدمية أو يسارية أو علمانية حقيقية عن طريق قمع وحشي مارستْهُ أجهزته الأمنية دفع العديد من السوريين إلى الانضواء تحت رايات التنظيمات السلفية الجهادية المتطرفة. وحاول النظام تصوير نفسه على أنه يقاتل هذه التنظيمات، وحظيَ بقبول عالمي نوعاً ما، وتم الترويج له بأنه يمثّل التوجهات النيوليبرالية، وحرية السوق الأمر الذي اقتضى رسم صورة براقة عنه تقدمه كمتحضر إزاء “متخلفين” ثائرين عليه يجب ضبطهم كما قالت الباحثة الأكاديمية الأمريكية ليزا ودين في حوار أجريتهُ معها منذ عدة أعوام، ونُشر في “العربي الجديد”. تحدّثت ودين عن صورة عالمية ـ محلية ارتبطت فيها سيطرة النظام برأسمال خاص، وتجسّدَ هذا رسميًا في تسويق صورة عصرية عن “عائلة الرئيس“ في الإعلام قُدم فيها أفرادها كأعضاء للطبقة الأخلاقية النيوليبرالية. إلا أن هذه الصورة لم تكن حقيقية، ولم يفعل النظام شيئاً سوى سنّ سكّين القمع على مِشْحَذ تحالفات عبّدت له طريقاً في فراغ تهاوى فيه واختفى كأنه لم يكن موجوداً، ولم يبق منه إلا الجراح التي أحدثها في الجسد السوري.

يتجلى اليوم في سوريا مشهد حيويّ يفتح باب التحولات السياسية. أحد أبرز هذه التحولات هو الانتقال المتوقع إلى شكل الحكم القادم في ظل قيادة هيئة تحرير الشام، والتي تتبنى الآن لغة الاعتدال وقبول الآخر والانتقال إلى مرحلة المؤسسات، بحسب تصريحات مسؤوليها. وحين سأل مراسل الجزيرة زعيم هيئة تحرير الشام عن شكل الحكم القادم في سورية، وإن كانت تركيا توافق عليه، في المؤتمر الصحفي الذي عُقد مؤخراً في دمشق مع وزير الخارجية التركي هاكان فيدان اعتبر أن السؤال موجه إلى وزير الخارجية التركي، إلا أنه في جوابه على سؤال آخر قال: ”إن منطق الدولة يختلف عن منطق الثورة“، وأنه يجب تأسيس دولة ”تليق بوضع المجتمع السوري“. هذه التصريحات تحمل دلالات واضحة تشير إلى توجّه نحو الاعتدال، رغم أنها قد تحتمل أيضاً قراءات أخرى بسبب عدم توفر سياق كاف يوضح الأمر بشكل تفصيلي. ولقد تحدّث وزير الخارجية التركي عن ضرورة صياغة دستور جديد يرسّخ المواطنة والتساوي في الفرص والواجبات، ويحمي المجتمع من تسلّط فئة على أخرى.
يُستشفّ من هذه التصريحات الإعلامية وما سبقها، ومن السلوك على الأرض السورية، أن هيئة تحرير الشام عدّلت خطابها، وتبنت لغة سياسية معتدلة تقتضيها عمليه الحوكمة التي تهيئ نفسها لها، وهذه الظاهرة ليست جديدة في الشرق الأوسط، فقد حدثت في دول مثل إيران ومصر، إلا أن الوضع في سوريا أشد تعقيداً، وما يزال علينا أن ننتظر كي نرى إذا كان باب السلطة القادمة سيُفْتح لمشاركة الآخرين.
في كتابه “الإسلام والسياسة” (صدرت طبعته الرابعة في الإنجليزية في ١٩٩٨)، درسَ الباحث والأكاديمي الأمريكي جون إل. إسبوسيتو، أستاذ الدين والشؤون الدولية والدراسات الإسلامية بجامعة جورجتاون، ظاهرة الانتقال من الخطاب المتطرف إلى الاعتدال في الحركات الإسلامية، وأشار إلى أن الحركات الإسلامية السياسية غالباً ما تبدأ بخطابات أيديولوجية راديكالية تدعو لإقامة دولة إسلامية تحكمها الشريعة، ولكن بمجرد أن تصل إلى السلطة تجد نفسها أمام التعقيدات الكبيرة لعملية إدارة الدولة وللحوكمة ما يدفعها للتكيف مع الواقع السياسي، وتقديم تنازلات، وهو ما يفضي إلى تحوّل تدريجي نحو الاعتدال. هذا ينطبق قليلاً على هيئة تحرير الشام، التي منذ أن تولت إدارة المناطق المحررة في إدلب، لوحظ تغير جليّ في سلوكها. فقد تحولت من مجرد حركة جهادية سلفية متشددة إلى “حكومة مصغرة” تدير الشؤون اليومية للسكان. وربما كان هذا التحول ناجمًا عن ضغوط داخلية وخارجية، وعن الحاجة الماسة للتكيف مع الواقع السياسي.

في كتابه “جعل الإسلام ديمقراطيًا: الحركات الاجتماعية والتحول ما بعد الإسلاموي”، يدرس المفكر والمؤرخ آصف بيات كيفية تحول الحركات الإسلامية من جماعات متطرفة إلى حركات تتبنى مواقف أكثر اعتدالًا. ذلك أن هذه الحركات، عند وصولها إلى السلطة، تدرك صعوبة تطبيق أفكارها المتشددة، مثل إقامة دولة إسلامية تتقيد بالشريعة. وبالتالي، تبدأ بحثها عن تسويات مع القوى السياسية القائمة، سواء على المستوى المحلي أو الدولي. في إطار هذا التوجّه تبنت الحركات الإسلامية في مصر وتونس وتركيا وإيران خطابًا أكثر ديمقراطية وتعددية بعد وصولها إلى السلطة، نتيجة للضغوط السياسية والاقتصادية. وأصبحت مضطرة للتعامل مع قضايا معقدة مثل الإصلاح الاقتصادي والتعليم والرعاية الصحية، الأمر الذي تطلب اتخاذ قرارات سياسية عملية احتاجت إلى تفاوض وتسوية مع أطراف متعددة. وتلعب العوامل الداخلية والخارجية، بحسب بيات، دورًا جوهريًا في تحول التنظيمات الإسلامية نحو الاعتدال. فالعولمة والضغوط الدولية تدفع هذه الحركات إلى تبني سياسات براغماتية تتماشى مع معايير الحكم المعترف بها دولياً. كما أن الشباب داخل هذه الحركات، يعارضون التفسير المتشدد للإسلام، ويلعبون دورًا مهمًا في دفع الحركات الإسلامية نحو الاعتدال عن طريق مطالبتهم بمزيد من الحريات السياسية والإصلاحات الديمقراطية، ما قد يشجع الحركات على إعادة النظر في بعض مواقفها التقليدية.
يتفق بيات وإسبوسيتو على أن التنظيمات الدينية، عندما تنتقل من المعارضة إلى الحكم، تواجه تعقيدات إدارية تدفعها إلى اتخاذ قرارات قد تتناقض مع أيديولوجياتها الراديكالية الأصلية. ذلك أن إدارة الدولة تتطلب وضع سياسات عملية تتعارض في كثير من الأحيان مع الرؤى الطوباوية، مثل إنشاء دولة إسلامية نقية، أو فرض تفسيرات صارمة للشريعة. كما أن حكم دولة ما يتطلب توازناً بين المصالح المتنافسة داخلها، وإدارة المطالب المجتمعية المتنوعة، فضلاً عن الانخراط في الأنظمة الاقتصادية العالمية. وبالتالي، تجد هذه الحركات نفسها مضطرة لتنفيس تشددها الأيديولوجي لضمان قدرتها على الحكم بفعالية.
تتسارع التغيرات في الداخل السوري وتظل التساؤلات والشكوك قائمة بشأن كيفية تأثيرها وتجليها في طبيعة وتركيبة النظام الذي سيحكم دمشق مما يبقي المستقبل مفتوحاً على العديد من الاحتمالات خاصة أن الوضع الداخلي يسوده الترقب في ظل تفاقم التوتر وتعقيدات الوضع في الشمال، واستمرار خروقات جيش الاحتلال الإسرائيلي وتعدياته في الجنوب.

النساء ومعاركهن المتجددة

النساء ومعاركهن المتجددة

 يتم تسويف قضايا النساء بذرائع متعددة على الدوام، مرة بذريعة الحرص على الأخلاق العامة، ومرة أخرى بذريعة عدم المواجهة مع قوى الأمر الواقع، ومرات بذرائع تنبع فجأة من خبايا السنين وتصير حاضرة بقوة مثل طبيعة المرأة البيولوجية، أو التشريح الوظيفي لدماغ المرأة، وصولاً إلى عدد حبات الدموع التي تذرفها النساء بسبب ضعفهنّ العاطفي وطبيعتهنّ الهشة والرخوة في مواجهة تفاصيل الحياة.

النقطة الجوهرية والأكثر عنفاً، هو أن كل ما سبق وسواه الكثير لا يقال على ألسن النساء، ولا يذاع على منابرهن أو في جلساتهن النسائية الخاصة. كل ما سبق وأكثر منه سوءاً وتمييزاً يُقال بالنيابة عن النساء! تخيلوا أن نحبس كائناً في الزاوية المعتمة، ثم، نسمي أنفسنا ناطقين باسمه، ثم قائدين لصمته وانكساره لنصل إلى لحظة الانكشاف الحقيقية وهي إعلان عنفنا المباشر، مصادرتنا الحصرية لحقوق النساء حتى في التعبير عن أنفسهن! إنها وببساطة حلقة متكاملة من العنف المكرس، المدار بخبث، والمعمم بصلافة وإنكار همجي.

بعد فرار طاغية سورية، بدأ عهد جديد، تمناه السوريون والسوريات عهداً للحريات والمساواة، لكن الواقع انكشف عن واقع مستجد أجهض أحلام السوريين وخاصة السوريات ببزوغ فجر حرية جديد، فجر يعترف بالشراكة بل وينشدها لتكتمل دورة الحياة الإنسانية بين النساء والرجال وبين دولة مؤسسات، تحمي ولا تظلم، تمنح ولا تحرم، تبسط الأمان كما السيادة، وتؤسس لغد حر وكريم لكافة أبناء وبنات البلد.

فجرت المقابلة مع الناطق الرسمي بإدارة العمليات العسكرية عبيدة الأرناؤوط سيلاً جارفاً من الانتقادات والرفض المباشر الفردي والجماعي، ومازال يتردد صداه، ويمكن اعتبار الردود الجماعية الحادة وغير المستكينة وكأنها المعركة الأولى والأكثر شراسة مع العهد الجديد.

إن كل تصريحاته وأقواله التي قدمها بصورة التفافية، بطريقة تبدو لطيفة لكنها تسويفية أجلت ما هو مطلوب إعلانه بصورة واضحة وحاسمة. كما كانت تصريحات رخوة و قاضمة لحقوق النساء، تصريحات أشعلت معركة لن تخسرها النساء أبداً. والأهم أنه تعرض وبأذى مباشر إلى كرامات النساء السوريات عبر إنكاره لكل التراكم المادي والفكري والعلمي والثوري الذي أسسته وراكمته السوريات وخاصة بعد اندلاع الثورة السورية سنة 2011. إن إنكاره للقوة الحية للنساء السوريات وادعاءه بحقيقة مزيفة تماماً وهي، أن الطبيعة البيولوجية للنساء تعيق تمتعهن بالعمل إلا في مجالات محددة مثل التعليم والخدمة الاجتماعية، تُعد انكشافاً علنياً وحقيقياً لآراء وتوجهات العهد الجديد حيال النساء السوريات. لقد مثلت هذه التصريحات إقصاءً معلناً وواضحاً للنساء السوريات. إن الرفض الإقصائي لحضور السوريات الفعلي في المجالات العامة بكافة أشكالها، قد استنهض قوة النساء، لم يتركن حرفاً دون شرحه، دون الاعتراض عليه، وتفنيده وتقديم خيارات بديلة مع أدلة من خبرات النساء السوريات وإنجازاتهن رغم كل الظلم الذي عانين منه. طالبن بإقالة المذكور عبيدة الأرناؤوط واعتبرن أن تصريحاته قد دقت ناقوس الخطر.

إن الإرث الواسع من تهميش النساء يحتاج إلى قلب بنيوي وقطيعة مع كل أدوات الاستبداد القديم والجديد، والحقيقة التي يجب إعلانها دوماً أن النساء السوريات لطالما سبقن القوانين والأعراف وتجاوزن بإرادة ذاتية معلنة وخفية، كل العثرات والتحريمات القطعية لانطلاقتهن نحو مجازاتهن المرادة والمطلوبة بقوة، بل والممارسة بصلابة منقطعة النظير.

 لا تنتظر النساء المكافأة على صبرهن على الاستبداد الطويل، ولا على بقائهن وحيدات في مواجهة تغييب الشركاء من الرجال آباء وأزواج وأبناء وأخوة. لا تطلب السوريات تمجيداً عاطفياً فارغاً على ثورتهن وانخراطهن في تفاصيل الساحات العامة والخاصة بوضوح وغيرية نبيلة، متظاهرات، معتقلات، طبيبات وصحفيات وكاتبات، معيلات لعدة أسر ومدافعات عن الرجال. المبدأية في طرح قضايا النساء لا تنتظر شكراً من أحد، لكنها تتطلب اعترافاً واضحاً وعلنياً تبنى عليه شراكة متساوية، شراكة وطنية من أجل بناء البلد حراً كريماً لجميع أبنائه وبناته.

يبدو المشهد العام جلياً وواضحاً اليوم، هناك سعي حثيث وفج لخطف كل القيم التي ناضلت النساء من أجلها مع بعض الشركاء الرجال الداعمين لتثبيتها ونيلها، لكن المواجهة اليوم فعلياً هي مواجهة صادمة وحقيقية، لأن النساء السوريات لن يتخلين عن إرثهن النضالي العظيم، عن سعيهن المعلن والواضح لقطع الطريق أمام قوى الظلام والتعنت والإقصاء. المواجهة اليوم ليس فقط من أجل تثبيت الحقوق لكن من أجل استعادتها طالما باتت مهددة بالخطر.

تطالب النساء دوماً بالعدالة وبالمساواة، ويؤكدن دوماً على أن مستقبل أي بلد برجاله وأولاده وبناته لن يكون حراً وكريماً دون حضور النساء الفعال. إن المظاهرات الضخمة التي طالما تعطش لها السوريون والسوريات هي أكبر دليل على أن الخيارات معلنة واضحة تحت سقف الشعار الوطني الأول (سوريا للجميع).

 بعد كل إنجاز مهما كان بسيطاً تراكم السوريات قوة مستجدة لتكسر حلقات الهشاشة المراد تثبيتها وبالتالي يتم عبرها لجم النساء عن الحضور العام. بعد أن أسقطت نضالات الشعب السوري أقسى نظام طغيان لن يعجزوا عن إبقاء جذوة الثورة والأمل بالغد الكريم، الغد الحر، الرحب، الديمقراطي، المدني، الآمن للجميع، ستواصل النساء طريقهن الطويل رغم كل الانحرافات المفروضة بلطف وادعاء واهن ومزيف، لن تسلم النساء الراية حتى تحصيل الحقوق من أجل أن يحيا جميع السوريين والسوريات بحرية وكرامة. 

مرحلة اللادولة: بين إرث الماضي ومسؤولية المستقبل

مرحلة اللادولة: بين إرث الماضي ومسؤولية المستقبل

تمر سوريا اليوم بمرحلة فارقة في تاريخها، حيث يقف الجميع أمام اختبار صعب: هل يمكن تجاوز إرث القهر والاستبداد لبناء دولة جديدة قائمة على الحرية والكرامة؟ أم أننا سنتعثر مجددًا في أخطاء الماضي، التي صنعها الخوف، الصمت، وصناعة الأصنام؟

اليوم، نحن في حالة فراغ سياسي ودستوري، يمكن وصفها بـ”مرحلة اللادولة”. بغياب رئيس الجمهورية، وتعليق عمل السلطة التشريعية، ووجود حكومة تسيير أعمال محدودة الصلاحيات، لا قوانين تُسنّ ولا قرارات مصيرية تُتخذ. الحديث عن تعديلات دستورية أو تشكيل جمعية تأسيسية يبقى كلامًا نظريًا، طالما لا توجد آليات واضحة أو قوى سياسية حقيقية على الأرض تقود هذا التحول.

ما يثير القلق أكثر من غياب الرئيس أو تعطل المؤسسات هو غياب الرؤية السياسية والتنظيم المؤسسي القادر على قيادة الجماهير وتنظيم العمل السياسي. لا يمكن بناء دولة على أحلام فردية أو قرارات مرتجلة. الشعب بحاجة إلى قوى سياسية منظمة تمثله، تضع أولويات وطنية جامعة، وتدير المرحلة الانتقالية بحكمة وشفافية.

حتى الآن، لم يُعلن عن تشكيلة وزارية واضحة، ولا عن لجان مكملة في الوزارات الموجودة. حكومة تسيير الأعمال تبدو وكأنها مجرد كيان شكلي، غير قادر على تفعيل مقدرات الدولة أو رسم سياسات عامة تلبي احتياجات الشعب. أكثر من ذلك، لا توجد منصة رسمية تجمع مختلف الأطراف لطرح خطط واضحة حول المستقبل.

الإعلام في سوريا، الذي لعب دورًا كبيرًا خلال الثورة، يحتاج الآن إلى إعادة هيكلة وتوظيف مؤسسي. لدينا وكالات رسمية مثل “سانا”، ومحطات فضائية وإذاعات، لكنها ما زالت تعمل بأدوات الماضي، بعيدة عن الواقع اليومي للمواطنين. لماذا لا يتم تفعيل الإعلام ليصبح لسان حال الشعب؟ لماذا لا يتم استخدام هذه الإمكانيات الضخمة لتوثيق الحياة اليومية في المحافظات، ورصد التحديات الحقيقية؟

الثورة تجاوزت مرحلة الأفراد كمحطات إعلامية أو رموز للخطاب الثوري. الآن، نحن بحاجة إلى إعلام مؤسسي يوثق الواقع، يبني رواية جماعية، ويرسخ مفاهيم الرقابة والمساءلة الشعبية. العمل الإعلامي يجب أن يتحول إلى جزء أساسي من بناء الدولة، يعكس تطلعات الناس، ويكون أداة ضغط على المؤسسات لتحقيق الشفافية.

المجتمع المدني اليوم أمام مسؤولية كبيرة. في ظل غياب القيادة السياسية الواضحة، يجب أن يصبح المجتمع المدني حاضنة للنقاشات حول الحقوق والواجبات. الشعب السوري بحاجة إلى فهم عميق لما تعنيه دولة المواطنة والديمقراطية. هذا لا يمكن تحقيقه إلا من خلال نشر ثقافة الحوار والنقد البنّاء، بعيدًا عن العواطف والشعارات.

هناك حاجة ملحة لتحويل النقاشات إلى خطط عملية، تعكس أولويات الشعب. على الجميع أن يدرك أن السياسة ليست مجرد صراع على السلطة، بل هي وسيلة لتحقيق العدالة والمساواة والحرية. المرحلة الحالية تتطلب صراعًا حقيقيًا على الأولويات الشعبية الجامعة، وليس مجرد تنافس على الخطابات الرنانة أو الشعارات.

ربما أكبر درس يمكن أن نتعلمه من المرحلة الماضية هو خطورة صناعة الأصنام، سواء كانوا رموزًا سياسية أو اجتماعية. لا أحد يجب أن يكون فوق النقد أو المساءلة. سوريا الجديدة لا يجب أن تكون مكانًا لتقديس الأفراد أو المؤسسات، بل فضاءً للنقد الحر والمراقبة الشعبية الحقيقية.

الحرية لا تتحقق فقط بإسقاط نظام، بل بإرساء ثقافة لا تقبل بالاستبداد بأي شكل. هذا يعني أن كل شيء يجب أن يكون تحت المجهر: القرارات الحكومية، السياسات العامة، وحتى أداء القوى الثورية والمعارضة. الشعب السوري يجب أن يكون هو الحَكَم النهائي، وهو مصدر الشرعية الوحيد.

سوريا الحرة التي نحلم بها لن تتحقق بين ليلة وضحاها. بناء الدولة يعني الانتقال من مرحلة الفوضى إلى مرحلة المؤسسات. هذا يتطلب تفعيل كل مقدرات الدولة وإعادة هيكلة المؤسسات القائمة. لدينا وكالات إعلامية، مؤسسات حكومية، وموارد بشرية هائلة، لكنها بحاجة إلى إدارة واعية، تؤمن بالعمل الجماعي والمؤسسي.

لا يمكن ترك الساحة للعواطف أو الخطابات العاطفية. هذه مرحلة السياسة الفاعلة، التي تعتمد على التخطيط والالتزام بأولويات الشعب. المجتمع السوري يجب أن يتحول إلى قوة ضغط مستمرة، تضع معايير للمساءلة وتفرض أجندتها على كل من يتصدر المشهد.

إن كنا نحلم بسوريا ديمقراطية، متنوعة، وحرة، فعلينا أن نعمل بجدية على تحقيق هذا الحلم. بناء الدولة ليس مجرد شعار، بل عملية طويلة ومعقدة، تتطلب تضحيات وصبرًا. المسؤولية تقع على عاتق الجميع: القوى السياسية، المجتمع المدني، الإعلام، وحتى كل مواطن يؤمن بأن سوريا تستحق الأفضل.

مرحلة اللادولة ليست نهاية الطريق، بل بداية جديدة.

العمارة ما بين التراث والهوية والنزعة الاقتصادية

العمارة ما بين التراث والهوية والنزعة الاقتصادية

يقع كهف لاسكو في جنوب غرب فرنسا بجوار نهر فيزنر الذي اعتادت الغزلان قطع مياهه صباح كل يوم، وفي مشهدية ساحرة تنفض عنها قطرات المياه العالقة بوبرها، ومن ثم تتجه نحو بوابة الكهف، لتدخله بروية وتتابع حياةً امتدت لما يقارب 17000 عام بجوار قطعان الثيران والأحصنة والغزلان والماعز البري والبيزون والماموث. عوالم مثيرة ارتسمت على جدران هذا الكهف، حددت معالمها شبكة من الخطوط والأصباغ الطبيعية، التي كرّسها إنسان ذلك العصر لتشكيل ما يشبه أولى معارضه الفنية.

في العام 1998 م، اجتاحت سلالات الفطور والعفن رسومات كهف لاسكو، حيث لم تشفع لها آلاف السنوات التي عاشتها متشبثة بجدران الكهف من فتك هذه المخلوقات الصغيرة. ومذ ذاك الاجتياح، لا تنفك ترتسم أمام عينيَّ صورةُ الثور بجرحه الذي ينزُّ كل تلك الأعوام الطويلة، وأتساءل عن المصير الذي ينتظره في حال وصول تلك المخلوقات إليه.

تُصنّف رسومات لاسكو بأنها وثائق مصوّرة يعود تأريخها إلى العصر الحجري القديم الأعلى، وقد أفضت غالبية الدراسات إلى أنّ الهدف الأساسي من هذه التصاوير محوره “السحر” أي تطويع هذه الرسومات وما تحمله من عناصر في ممارسات سحرية وتسخيرها لإشباع غريزة البقاء!

– هل حقًّا “السِّحر” هو الدافع الحقيقي الوحيد الذي حدا بإنسان ذلك العصر إلى تصوير هذه المشاهد؟

– يتبعه تساؤل حول دوافع إنسان العصر الحالي إلى استنساخ هذا الكهف الضخم، و بناء نسخة مطابقة له على بعد 2 كم من الموقع الأصلي؟!

في إحدى دراساته لتاريخ الفن عبر العصور، يذكر أرنولد هاوزر: “إن الغريب في التصاوير المطابقة للطبيعة في العصر الحجري القديم، أنها تعطي انطباعاً بصرياً يبلغ من التلقائية، ومن نقاء الشكل والتحرر من كل تأنق أو قيد عقلي مالا نجد له أي نظير في تاريخ الفن اللاحق إلا عند حلول النزعة الانطباعية الحديثة، ففيها نكتشف دراسات للحركة تذكرنا بالصور الفوتوغرافية”(1). يعني ذلك أنّ إنسان العصر الحجري القديم كان يرسم ما يراه، ولم يكن يصوّر أكثر مما يمكنه أن يلتقطه في لحظة واحدة وفي لمحة واحدة للموضوع.

اذاً يمكننا اعتبار هذه الرسومات بمثابة دلالات بسيطة عن شكل عالمنا قبل ولادة الكاميرا، الأداة المستنسَخة عن أعيننا التي تنقل الانطباعات عن العالم، وتحفظُها. لكنّ الحظ لا يسعفنا دوماً بمصادفة وثائق وبقايا تُسّهل بناءَ تخيّلٍ للحياة سابقاً، خاصة وأنّ غالبية المواد التي استخدمت فيما مضى ذات طبيعة قابلة للتلف والتآكل بفعل عوامل الزمن، والاستثناءات هنا محكومة بمعايير تفرضها البيئة المحيطة وشروطها المناسبة لإنتاج آليات تقاوم التقلبات المناخية القاسية. تزخر المنطقة العربية بالبقايا والدلائل الحافظة لأرشيف كبير من عمر البشرية، إلا أنها الأكثر تشويهاً لهذا المخزون التراثي. ينجم هذا التشوه بشكل أساسي عن “المزاجية السلطويّة”، حيث تتحكم القوى الحاكمة في هذه المنطقة بخارطة توزع هذا التراث، وتكرّس سؤالاً بات يتكرّر:

– ما الذي تقدمه لنا اللُّقى والبقايا الأثرية؟ ولماذا نسعى لدراستها ونقوم بترميم التالف منها؟

التعديات الخطيرة على البنى التاريخية في مصر:

ضمن هذا السياق، ساد الأوساط الثقافية في الآونة الأخيرة جدلٌ كبير، أثارتهُ عمليات الهدم المدروسة للأبنية التاريخية في مصر، والتي يبدو أنه لن يكون آخرها هدم “قصر أندراوس” في الأقصر بقيمتهِ التّاريخيّة والمعماريّة، حيث صرّح أحمد عرابي مدير معبد الأقصر:

“إن القصر له قيمة تاريخية بكل تأكيد، إلا أنه ليس قصراً أثريًّا بأي حال من الأحوال، وغير مدرج كأحد القصور الأثريّة وعدة عوامل أدت إلى هدمه منها عنصري القدم والتشقق!”(2)

بنى “قصر اندرواس” توفيق باشا أندراوس الذي يعدُّ من أهم سياسييّ عصره، وأحد زعماء حزب الوفد المصري(3). تأتي أهمية القصر من كونه شاهداً على أحداثٍ تاريخيّة وسياسيّة هامة، في مقدمتها النضال ضد الإنجليز، واحتضانه لسعد زغلول سنة 1921 عندما رفضت الحكومة أن ترسو سفينته على أي شاطئ، كما شهد القصر اجتماعات عديدة لقيادات حزب الوفد بصعيد مصر والمحافظات الأخرى، وهو أحد قصرين يعودان لعائلة أندراوس، الأول لـِ “يسي باشا أندراوس” هُدم في تسعينات القرن الماضي.

لم يكن قصر أندراوس أول القُصور التي هُدمَت، بل سبقه هدم سلسلة من العمائر التاريخية من بينها قصر “مكرم عبيد” في قلب محافظة قنا، والذي تعرّض سنة 2013 إلى سلسلة من المحاولات الحثيثة الهادفة لهدمه. وهو واحد من العمائر الأثرية ذات الطراز الذي شاع في القرن الماضي في قصور الوجهاء والساسة في عهد أسرة محمد علي، وتعود أهميته التاريخية والحضارية إلى أنه كان مملوكًا لأحد زعماء الحركة الوطنية المصرية، فضلاً عن عناصره الأثرية وتفاصيله المعمارية الفريدة.

وفي المحافظة نفسها يقع قصر “فاضل باشا” حاكم قنا، الذي تعرض لسلسلة من الحرائق، الأمر الذي دعا الأهالي للاعتقاد بأن القصر مسكون بالجن والشياطين، إلا أن المعاينة الجنائية أشارت إلى وجود آثار سكب مواد بترولية ساعدت في اشتعال النيران بأجزاء كبيرة منه. ومحافظة قنا تحتوي على العديد من الأوابد الأثرية، باتت غالبيتها محاطة بالقمامة والقاذورات، وتتعرض لأبشع أنواع الإهمال وعمليات التخريب الممنهجة.

أثارت هذه الإبادة وساوس وأسئلة حيال الرغبة العارمة في اجتثاث القصور التي بنيت مطلعَ القرن العشرين من قبل زعماء الحركة الوطنية المصرية، المناهضة للاحتلال الانكليزي وللملكيّة أيضاً بشكلٍ خاص، والأخطر يكمن في انتهاج سياسة عامة هدفها السّعي وبقوة إلى مسح خارطة المباني التّاريخيّة المنتشرة بكثرة ونسفها من الذاكرة.

في منتصف مايو 2021، كشف آثاريون أنّ طابية الفتح الأثرية في أسوان الفريدة من نوعها في مصر، والتي يرجع تاريخ بنائها إلى العصر العباسي/ الفاطمي، قد هُدمت لإنشاء خزّانات مياه. نفت وزارة الآثار في البداية أن يكون هناك قرار بهدم الطابية ثم زعمت أنّ الهدم حدث عن طريق الخطأ.

تُعلّق الباحثة الآثاريّة سالي سليمان مؤسّسة مبادرة “بصّارة” على الهدم داخل القرافة بأنه كارثة، مشيرة إلى أنّ “قرافة المماليك”*(4) تحتوي على آثار ومبانٍ أخرى مسجّلة بالتنسيق الحضاري ومبانٍ أخرى غير مسجلة، والهدم بحسب الوزارة لم يمسّ ما هو مسجّل كأثر، إلّا أنّ القرافة تدخل ضمن حدود القاهرة التاريخية التي تخضع لقانون اليونيسكو. وتضيف: “حينما دخل بلدوزر جهة الهدم لم يهدم آثاراً مسجّلة لكن هدم تراثاً إنسانياً مهماً، وكان يمكن أن يحدث أكثر من ذلك لولا أن أثار الأمر الرأي العام.”(5)تعرضت العديد من الأوابد والعمائر الأثريّة في المناطق المأهولة بالسكان لأبشع المجازر، ولم توضع أيّ استراتيجية لحمايتها ودراسة آليات حفظها، آخذين بعين الاعتبار النزعة الاقتصادية في التعامل مع الآثار، وتنازع الملكية بين مسؤولي الأوقاف من جهة ومسؤولي الآثار من جهة ثانية والورثة كجهة ثالثة، الأمر الذي غالبا ما يتحول إلى تبادل الاتهامات فيما بينهم ومن ثمّ تهربهم من المسؤولية، فتضيع معه هوية المبنى ويصبح رهينة قيّمة معلّقة المصير. سيتوه في دوامة المعاملات والأوراق القانونية عند احتياجه لأبسط عمليات الترميم والصيانة، وهناك شواهد عديدة على هذا النوع من المباني التي تهاوت نتيجة الصراع على الملكية والطمع بما سيدره المبنى من أموال وكنوز.

رداً على كل هذه التعديات، جرت مطالبات كثيرة لتسجيل هذه العمائر أثريّاً، إلا أنّ الذي حصل هو العكس تماماً، فلقد عانت بعض الأوابد من سحب الصفة الأثريّة عنها بالرغم من أنها مُسجّلة، وعانى بعضها من ضخ المياه إلى أسسه بهدف تفتيتها، وأُضرمت النيران بأسقف وجدران البعض الآخر محولين إياها إلى مساكن أشباح مخيفة لا تجد من يدافع عنها لحظة إعدامها والفتك بها. ما أشبه ذلك بالاجتياح الفطري الذي يهدد حياة الرسوم الجدارية في الكهوف! ففي كلتا الحالتين نواجه مخلوقات مُتنفذة تتمدد وتنمو بشكلٍ خطير وبتغذية من البيئة المحيطة، وما تقدمه لها من عوامل بقاء وانعاش!

في كتابه “سببية وجدلية العمارة” يذكر رفعت الجادرجي: ” الهدف الإنساني من حماية التراث هو المحافظة على التوثيق العمراني، أي الحفاظ على العمارة كوثيقة تاريخية تتحول إلى كتاب مفتوح لجميع الناس، ولا تتضمن هذه العملية أية أهداف اقتصادية على الإطلاق. إضافة إلى أنّ المحافظة على المعالم التراثية هو المدخل الحقيقي لتأكيد هوية المجتمع وخصوصيته..”(6)

فأهمية الأبنية التاريخية أنّها تجسيد ظاهر لما هو مخفي ومطمور بين صفحات الكتب والدراسات، تختزل آلاف الرفوف من التاريخ في مداميكها الحجرية، الحافظة للعديد من الوثائق والدلالات المميزة لكل عصر، مما يجعلها سفن للعبور والانتقال بين الأزمنة. وبدورنا سوف نتلقف سير أصحابها وحكاياتهم عبر شقوق النوافذ والشرفات، ما يمكننا من محاكاة الزمن وقراءة تحولاته، لذا فإنه ليس من الترف أو الرّفاهية الحفاظ على هذه العمائر بشقيّها الزخرفي والانشائي.

تتعاظم كارثة هذه الأبنية في حالة تجاورها إلى جانب بعضها البعض مشكّلة (المتحف المديني). شوارع كاملة تتباهى بعصور تاريخية مختلفة تسكن جنباتها. ومع هذا الكم التراثي الهائل، ما الذي يترتب على مدن كحلب، القاهرة، دمشق، بغداد وصنعاء و.. فعله ازاء المتغيرات العاصفة التي تستشرس في استيراد مقاييس الحداثةالبعيدة عن بنية المكان السّيكولوجية والهويّاتية وتجبرها على استيعابه؟

التأثيرات الأساسية في تغيير بنيوية العمارة ونقدها:

لعبت المَيْكَنة التي اجتاحت العالم في أواخر القرن 18 الدور الأساسي في ظاهرة استنساخ الأنماط المعمارية المقولبة، التي أنتجت مدناً منسوخة عن بعضها البعض، مدمرةً كل مظاهر التّنوع والتّجانس الذي يشكّل ملامح كل مدينة ويميزها عن الأخرى. استطاعت المكننة إحداث تغيير جذري في العمارة، وكان أول ظهور لها في مجال تصنيع الحديد الصلب، الذي دخل في تصنيع الجسور والبيوت الزجاجية. ولقد ساهمت حروب القرن (20) في تطور المكننة، فحجم الدمار الذي أصاب المدن فرض على العالم خطة إعادة إعمار سريعة، وبناء عليه بدأت معايير وأشكال جديدة في عمليات البناء. وأبرز ما تم طرحه في ذلك الوقت تجسّد في وحدات لوكوربوزييه(7) التي اعتُبرت حينها الأكثر نجاحاً من سواها لقدرتها على إعادة بناء النسيج المديني على النحو الذي يُساعد في تأمين عمالة كاملة، وتحسين المشهد الاجتماعي، إلى جانب دورها الكبير في حفظ الانتظام الاجتماعي الرأسمالي الذي كان مهدداً بوضوح في العام 1945.

أُثيرت العديد من الانتقادات لنمط عمارة الحداثة، حيث اعتبر كريير بأنّ التخطيط المديني الحداثي يعمل أساساً من خلال إيجاد قطاعات وظيفية، وعليه تغدو حركة السّكان بين القطاعات عبر وسائط مصطنعة هي الهاجس الأساسي للمخطط، مولّدةً بالتالي نمطاً مدينياً هو “مضاد للبيئة” لإسرافه في هدر الوقت والطاقة والأرض، وعبّر عن ذلك في قوله:

“إن البؤس الرمزي للعمارة الراهنة والمجال المديني الراهن هو نتيجة مباشرة وتعبير في آن للرتابة الوظيفية كما أرستها تقاليد التقطيع الوظيفي فنماذج البناء الحديثة وأنماط التخطيط الرئيسية كناطحات السحاب، وسابرات الأعماق، ومنطقة الأعمال المركزية، وشريط المحال التجارية، وغابة المكاتب، والضاحية السكنية…الخ، هي تركيز مفرط، أفقياً أو عمودياً، لاستعمال واحد في قطاع مديني واحد، أو في برنامج بناء واحد، أو تحت سقف واحد”.

على نقيض ذلك سعى كريير إلى مخطط مدينة مؤلفة من “جماعات مدينية محددة وكاملة” تشكل كل منها دائرة مدينية مستقلة داخل عائلة كبرى من الدوائر المدينية، أو بتعبير آخر “مدن داخل مدينة”. في ظل هذه الشروط يمكن إعادة بحث “الثراء الرمزي” للأشكال المدينية التقليدية المبنية على “استيعاب التنوع الأقصى ومحاورته والتعبير عن التنوع الحقيقي، كما تظهره الوقائع الغنية والفعلية للأمكنة العامة، والنسيج المديني”.(8)

وتأتي أهمية هذا الطرح من قدرته على خلق رؤية لأمكنة جديدة مستوحاة من رؤى تقليدية بالرغم من كل التسهيلات التي قد تضفيها التقنيات والمواد الحديثة. مما يتيح الحفاظ على طابع الأمكنة وهويتها دون المساس بمقوماتها كمدينة لها معايير ومحددات تخدم طبيعتها وشروطها الوظيفية، حيث انه ليس من السهل إعادة صياغة شبكة العلاقات المعقدة التي ترسمها وتحددها نقاط ارتكاز مسار الحركة والمركز الحيوي للمكان.

أثار هالبفاكس فكرة الفضاء الاجتماعي ومدى ارتباطه وتأثيره الوطيد في الذات البشرية في كتابه “الذاكرة الجمعية”:

“ليس الموضوع موضوع تناغم وتوافق فيزيائي بين طابع الأمكنة والأشخاص، ولكن كل غرض من الأغراض التي نلقاها ونحتك بها ضمن مجمل الاشياء، تذكرنا بطريقة عيش الكثير من الأشخاص، وعندما نحلل هذا التكوين ونعير انتباهنا لكل جزء من أجزائه نكون وكأننا نشرّح فكراً تتداخل فيه مساهمات عدد من الجماعات.”(9)

في بحثه في أعماق الذاكرة الجمعية يغوص في معضلة “الفضاء المعماري” الذي ترسخ في أدمغتنا، فأفعالنا وردود أفعالنا تنبع مما يحيط بنا من مكونات، وعلاقتنا بالفضاء المعماري بشقيه المادي والعاطفي ومدى انغلاقنا عليه تمثل أدوات ذات تأثير فعال في سيكولوجيتنا البشرية.

في سيرتها الذاتية المعنونة بـ”جبل الرمل” – تيمناً بالجبل الرملي في المندرة في الاسكندرية- تنسج رندا شعث من بيت جدتها فاطمة الذي يقبع في قمة الجبل ذاكرتها الأولى، وتذكر في نهاية سيرتها بأن الجبل قد أُزيل لِيتم البدء بحفر أساسات عمارة على حافة السور البحري: “بيعت الرمال البيضاء، واختفى الجبل تماماً بعد بناء ثلاث عمارات ملتصقة على الصف نفسه. صار الجبل الرملي الأبيض مسكناً لمئات العائلات، عانت الجدة من العابرين المجهولين الذين يقتحمون حديقتها ليلاً ونهاراً، عابثين بنباتاتها وأزهارها. حاصرتها من جميع الجهات عمارات عشوائية عالية سدت منافذ الهواء. أصابتها حالة ارتباك فصارت تسأل الخالة الزائرة: “أنتو غيرتو عفش البيت ليه؟” ثم تنظر من شباك غرفتها وتسأل: “هو المكوجي اللي كان هناك راح فين؟” والعبارة الأكثر ترديداً صارت: “أنا عايزة ارجع بيتي- رجعوني البيت”. ثم استسلمت للصمت.”(10)

فمحيطنا المادي يحمل طابعنا وطابع الآخرين في آن معاً، ومنزلنا وأثاثنا والأسلوب الذي تُرتب فيه هذه الأشياء، والتراكيب المؤلفة للمكان خارج فضائنا الخاص تشكل إشارات تعريفية ليومياتنا وتذكرنا بأصدقائنا وعائلاتنا وعلاقاتنا المحمية التي غالباً ما نراها ضمن هذا الإطار الآمن. وعند اختفاء أحدها نشعر بتشتت خفي لا ندرك معالمه إلا في حالات التغير المفاجئ الحاصل دفعة واحدة، الأمر الذي لن يلاحظه الكثيرون ممن يسكنون في محيط المكان بداية، لسبب رئيسي يعتمد على أنّ العلاقة مع المحيط المادي قوامه الألفة والثقة. يتم اجتياز الشارع ذاته مرات كثيرة دون التدقيق والتميز لمكونات رصفت بديهياتها في ذاكرتنا الصورية. نعود إلى المكان محتفظين بصوره وتفاصيله الدقيقة التي تركناها فيه، ليس هذا فحسب فمن الممكن أن نضيع في حال باغت المكان الذي ألفناه مصّنعات غريبة.

في كتابها “في أثر عنايات الزيات”، أمضت إيمان مرسال، التي كانت قد غادرت مصر منذ العام 1998، وقتاً طويلاً في رحلة البحث والاستقصاء والتي أرادت أن تكون نقطة البدء المدفن الذي استقر فيه جثمان عنايات. ففي واحدة من الورقات الثلاثة عشرة المتبقية من أثر عنايات وجدت جملة غامضة بخط يدها: “يجب أن تبدأ الرحلة من المقابر”. إلا أن الطريق إليها لم يكن سهلاً.

في رحلتها هذه لا يمكننا أن نجزم إن أرادت الكاتبة أن تنقل لنا أحاسيس غربتها وتَنَقّلها في أرجاء المكان كمغتربة لا تعلم الكثير عن خباياه، فنقطة الانطلاق حددها عنوان مكتوب في “جريدة الأهرام في يناير 1967” إحداثياته “مدفن المرحوم رشيد باشا بالعفيفي”، وقد جاءت الكاتبة على ذكر هذه المنطقة في مقدمة العمل أثناء زيارة لها في العام 1995، أي قبل خوضها غمار السفر وبالتالي قبل معرفتها بعنايات.

“بدت هذه المقابر ليلتها أجمل مكان في العالم، نسيم الصيف وأضواء هضبة المقطم،.. لست في نزهة ولا سفر، بل رحلة الإسراء ستنتهي بانتهاء الليل”.(11)

في العام 2015 عرجت الكاتبة على المكان ذاته إلا أن إحداثياته قد ضاعت منها وتاهت بين أزقته، ولم تصل الكاتبة إلى المكان المطلوب إلا في العام 2018 وبمساعدة باحث آثار، خبيرٍ بتوزع المقابر، إلى جانب حفظه لمعالم القاهرة الفاطمية وتحولاتها.

“قرأت مرة بأن هذه الصحراء كانت مسرحاً لمسيرات المماليك العسكرية ومسابقاتهم وبطولاتهم واحتفالاتهم الدينية، وأنهم بنوا مقابرهم هنا بسبب جفاف التربة، يتوه الغريب في هذه الأميال من الأسوار والبوابات والشوارع المستقيمة. تتداخل عصور تاريخية بولاتها وباشواتها ومساجدها وصورها ومقامات عارفيها. لا إشارات لترسيم الحدود في مدينة الموتى”. (12)

سيزداد تيه هذه الأماكن يوماً بعد يوم إلى أن تجتثّ كعشبة ضارة تسمم المجال الحيوي حسبما يراها الكثيرون في يومنا هذا، فلو انتظرت الكاتبة قليلاً لكانت قد رثت بعض هذه البقايا الأثرية التي جرى هدمها لاحقاً، ومنها ما كان قد ذكر أعلاه “قرافة المماليك”*، أما الأجزاء المتبقية من هذه البقايا فكانت من نصيب الموتى كمثوى أخير لهم، يحاصصهم فيها أحياء لا مكان قادر على استيعابهم.

في كتاب “في أثر عنايات الزيات” اخترقت الكاتبة طبقات من العفن والتكلس المتراكم عبر السنين، وذلك خلال البحث والتنقيب عن شخصيات علمية وسياسية هامة كان لها دورها الكبير في تطوير التراث المصري وحفظه، والتسلسل الحياتي لشخص عنايات المجهول. لقد ارتطمت في رحلتها هذه بالعديد من العراقيل والمجازر المُرتَكبة بحق الأشخاص بالدرجة الاولى وبحق التراث والعمائر بالدرجة الثانية.

المجزرة الأولى ارتكبت بحق عنايات الزيات نفسها المتوفاة سنة 1963، حيث لم يعثر على ملف باسمها بالرغم من وجود اسم ورقم له، ولكن الملف نفسه اختفى واكتفت الموظفة ببضع كلمات: “مش موجود.. غالباً في الهالك.. استغنوا عن ملفات كثيرة في السنة اللي فاتت”.

تذكر إيمان مرسال: “لا يحدث الهالك عشوائياً أو بسبب الاهمال كما نتوقع في الحياة، بل بناء على رأي خبير يفرّق بين الملفات المجمّدة التي تشغل حيزاً مكانياً دون أن يزورها أو يضيف إليها أحد، وبين الملفات “المفتوحة” على امكانيات في المستقبل. هذا يعني أن الأرشيف المؤسساتي الذي يحتاج نظاماً لخلقه والحفاظ على استمراريته واستخدامه، قد يصبح عبثاً، مما يستدعي نظاماً إضافياً لتدميره. الايديولوجيا التي تقف خلف تأسيس الأرشيف هي نفسها ما تقرر تدميره. الأرشيف هو عمل الحضارة، رغبة في الحفاظ على التجاور والتعدد والتناقضات باعتبارها معاً ذاكرة جمعية، لكنه أيضاً لا يمكن أن يكون إلا انعكاساً لوعي ثقافة ما بذاكرتها، في لحظات الانحطاط العابرة، تتضاءل أهمية الذاكرة، يأتي خبير ليقيّم ما هو مهم وما هو تافه من موقعه في هذه اللحظة المنحطة.”(13)

تكررت المجزرة ثانية بحق عنايات عندما نُشرت روايتها “الحب والصمت” سنة (1967)، بعد انتحارها بأربع سنوات، حيث تشير مرسال إلى تلاعب بنهاية الرواية من قبل مؤسسة “الدار القومية للنشر” بما يتماشى مع الأحداث السياسية خلال تلك الفترة الزمنية، ضاربين بعرض الحائط جهد وأحاسيس عنايات ومستغلين فكرة رحيلها الأخير.

بينما الأكثر خطورة من كل ما سبق يكمن في امتلاك جرأة حذف بقايا وأشياء خاصة بأشخاص نعرفهم حق المعرفة والعمل على نسفها من الوجود، نقنع أنفسنا بأننا نمتلك أحقية اتلاف ممتلكاتهم الخاصة، نبقي على ما يتناسب مع قيمنا وأفكارنا، نزيل منها كل تلك الأشياء التي بإمكانها أن تؤثر على سمعتنا وتقاليدنا.

ففي نفس الرحلة لم تجد إيمان من أثر عنايات سوى بضع رسائل ويوميات تحمل مقاطع مجردة وجودية محلّقة، لا خوف منها، لتتحول مع الزمن هذه الأوراق إلى وثائق معتمدة عن شخص عنايات حسب تعبير إيمان..

“كانت الأوراق القليلة التي نجت نقاطاً منزوعة من نص حياة. فلقد حدث طمس لشخص عنايات الحقيقي، لعدم انسجامه مع من يحيطون بها، ظلت فقط السيرة الطيبة التي يريدون لها أن تبقى. أعيد تأويل قصة حياة شخص “انتحر” منذ أكثر من خمسين عاماً وأصبح التأويل هو القصة الحقيقية. إنهم لا يكذبون عندما يخفون ما يعرفونه لأن ما يعرفونه مؤلم ويجب إزاحته”(14)

كل ما ذكر ينضوي تحت خانة “الأدلجة”، سَوق الذاكرة بما يتناسب مع فكر وأيديولوجيا السلطة الحاكمة في كل عصر وزمان، فكل هذا الاستسهال والتراخي الذي يسيطر على أوساطنا العلمية والثقافية وحتى الاجتماعية فيما يخص قتل شخص أو معلم منشؤه ايديولوجيا الفكر المسيطر، والتحدي الأكبر بهذا الخصوص يكمن في تكوين وعي وهوية حقيقية، فالهوية والذاكرة مرتبطتان بشكل وثيق، وبوجود الهوية تتحرر الذاكرة وتشكل ممرات منفتحة لا تحكمها ايديولوجيا أو انتماء وإنما تنفتح أبواب الحرية في التعبير والرأي.

تشاركت كل من إيمان مرسال ورندا شعث في كتابيهما موضوعاً في غاية الأهمية، عندما أمعنت كلتاهما في رسم خارطة للعديد من الشوارع التي أزيلت منها نقاط علام مهمة، إلى جانب أنهما حددتا الشوارع التي تغيرت اسماؤها تبعاً لحيثيات المرحلة، والعمل على استحضار بعض العمائر التي أزيلت وبني على أنقاضها ما يعاصر المرحلة وتحولاتها، فلقد استعانت ايمان بهيئة المساحة ليكون بمقدورها التعرف على ملامح تلك الأماكن، في حين لجأت رندا شعث إلى مخزونها من الذكريات التي أمدتها بصور وأشخاص الأزمنة الفائتة.

فشارع الحرية بات يكنى بـ “شارع عبد الناصر”، و”سينما بيروت” أصبحت متجراً للأدوات المنزلية، بينما ضُربت جدران “سينما فاتن حمامة” بالمطارق وانتزعت أبوابها، وكذلك الأمر بالنسبة لـ”سينما أمباشي” في أشرفية لبنان.. اجتثاث كامل لكل أثر حافظ لذاكرة المرحلة، والقائمة في هذا الخصوص تطول.

لم يَعد يُراد للمدن المركزية ذات التّاريخ المغرق في القدم أن تستمر في أداء دورها الذي لطالما كانت رائدةً فيه، فعمليات تجريدها من صلاحياتها وسلبها تراثها الغني مثّل الموضوع الأهم لهذه المرحلة. خاصة وأنّ أهمية هذه المدن ووضعها الاستراتيجي محكوم بالحالة السياسية من جهة والاقتصادية من جهة أخرى. وتبعاً للتحولات العاصفة التي يعيشها عالمنا اليوم، بات التعامل مع العمارة القديمة مزنراً بأطر الزيف والتصنع، هناك توجّه لحرق جمالية بنيانها، وجهد مركز على صبّها في قوالب جامدة من شأنها قتل كل مبادرة حيوية تجعل منها أبنية مرنة تستوعب تحديثات المرحلة وتوظفها عضوياً.

كل ما يحيط بنا يصب في خدمة الرأسمالية العالمية التي تغلغلت إلى أساسات الهندسة المعمارية، ونمت لتَعُم ساحات المعمورة، فالتضحية بالهوية من أجل العولمة أفسدت القيم والثقافات التقليدية التي داوم عليها البشر لآلاف السنين. وكل هذا الانفصال الذي باتت تعيشه المدن التاريخية من حيث الانشقاق عن محيطها الحيوي يرتكز بشكل رئيسي على انتحال سمات العمارة الحداثوية البعيدة كل البعد عن المناخ الطبيعي لكلٍ منها، وما نتج عنه من تسطيح للتاريخ الحقيقي لكل منطقة ومسح تحولاتها المفصلية، حتى بتنا لا نعرف عن تاريخ تلك المدن إلا ما وصَلَ إلينا من كتبِ وأخبار الرّحّالة. ندرس تحولات مساكننا، كسائنا، مشروباتنا، العادات واليوميات السائدة حينها من خلال ما ترجمته أعينهم. والأخطر من كل ما تم ذكره يتركز في طور البحث عن آثارنا المدفونة في طبقات ترب هذه المناطق والتي ينزاح مؤشر احداثياتها حيث الخزائن المتحفية الموزعة في جميع أصقاع العالم، تُنفى إليها لتبقى حبيسة تلك العوالم الغريبة، بعيدة عن نسيجها المادي.

ما أشبه هندسة تلك الخزائن بعمارة منازلنا اليوم، التي جرى استيرادها فبتنا نعيش بداخلها غرباء عن محيطنا وعن أنفسنا أيضاً، يفصلنا حاجز بلوري عن العالم الخارجي، بشكل مطابق لحياة تلك القطع التي تعيش في زمن لم تعد تنتمي إليه.

يُنشر هذا التقرير بالتعاون مع جدلية.

الهوامش

1- ارنولد هاوزر. الفن والمجتمع عبر التاريخ، ج1، ت: د. فؤاد زكريا، دار الوفاء، الاسكندرية، ط1، 2005، ص16.

2- صهيب ياسين. قصر أندراوس التاريخي..124 عاماً من حكايا الرعب والسياسة والتاريخ، العين الإخبارية- أغسطس 2021.

3- الحزب الجماهيري قبل ثورة 23 يوليو التي أنهت عهد الملكية، نشأت فكرة الحزب في العهد الملكي وبالتحديد أحداث 1919، ومنذ عشرينات القرن العشرين كانت أغلب الحكومات المتعاقبة على حكم مصر- قبل الثورة- يشكلها حزب الوفد، إلا أنه قد حل إلى جانب العديد من الأحزاب السياسة المصرية بعد قيام الثورة في العام 1953، ليسدل الستار على تجربة التعددية الحزبية المصرية، إلا أنه عاد لينشط ثانية في عهد الرئيس أنور السادات.

4- أو ما يسمى بـ(جبانة المماليك): حوت هذه المنطقة الممتدة من قلعة الجبل إلى العباسية شرق القاهرة على أقدم القباب الضريحية الباقية في عمارة مصر الاسلامية، حيث يرجح بأن تاريخ بعض قبابها يعود إلى ماقبل الفاطميين، أما معظمها فيعود إلى العصر الفاطمي (العمارة والزخرفة في العصر المملوكي- غالب المير غالب- الهيئة العامة السورية للكتاب، ص189)، وظفت القرافة في العهد المملوكي كميدان للتدريب، إلا أنها لاحقاً لفتت أنظار سلاطين المماليك الذين باشروا ببناء قصورهم التي ألحقوا كل منها بمسجد ومدرسة.

5- محمود عبد الرحمن. (الآثار والتراث في مصر: بين الاهمال والاهتمام)، المفكرة القانونية، يوليو 2021.

6- رفعة الجادرجي. في سببية وجدلية العمارة، مركز دراسات الوحدة العربية، ص44.

7- نسبة للمعماري شارل إدوار جانِّريه الملقب بـ(لوكوروبوزييه): هو من المعمارين الحداثويين الأوائل، أخذ لوكوربوزييه في تصاميمه وكتاباته ما تخيّله من احتمالات كامنة في المصنع والآلة وعصر السيارة ثم حشدهما نحو مستقبل طوباوي. يذكر ديفيد هارفي بأن العمارة التي سادت خلال هذه الفترة أنتجت صوراً راقية من القوة والتفوق لكل من الشركات والحكومة المهتمة بهذه السمعة، بينما أنتجت هذه الحكومات نفسها مشاريع سكن حداثي للطبقة العاملة التي أصبحت من جهة ثانية رمزاً للاستلاب والظروف غير الانسانية. سادت خلال هذه الفترة الأنماط المعمارية أحادية المعيار أو ذات الخط المعماري المتشابه.

8- ديفيد هارفي. حالة ما بعد الحداثة “بحث في أصول التغيير الثقافي”، ت: د. محمد شّيا، مركز دراسات الوحدة العربية، ط1، 2005، ص 94.

9- موريس هالبفاكس. الذاكرة الجمعية، ت: نسرين الزهر، بيت المواطن للنشر والتوزيع، بيروت 2016، ص166.

10- رندا شعث. جبل الرمل، دار الكرمة للنشر، القاهرة 2020، ص136

11- إيمان مرسال. في أثر عنايات الزيات، الكتب خان للنشر والتوزيع، ط1، القاهرة، 2019، ص10.

12- المرجع السابق ص12.

13- المرجع السابق ص196.

14- المرجع السابق ص203.