الصراع في سورية وآفاق الحل

الصراع في سورية وآفاق الحل

تؤكد السنة الثامنة للصراع في سوريا مع نهايتها أن لا حلاً عسكرياً لهذا الصراع، فرغم التحولات الميدانية الكبيرة بين المساحات التي تسيطر عليها قوات النظام والقوى المناهضة له، إلا أن الواقع الفعلي ما زال حافلاً بالكثير من القنابل الموقوتة، التي لا يستطيع أي طرف التحكم بها فهي مرهونة فقط بالتطورات السياسية والعسكرية.

فعلى سبيل المثال، راهنت تركيا والدول الضامنة على إمكانية قضاء القوى العسكرية غير المصنفة إرهابية على “النصرة” وحلفائها، وذلك من خلال الاقتتال الداخلي في إدلب ومحيطها، لكن تطورات المعارك الأخيرة فاجأتهم بأن الغلبة كانت للنصرة، واستناداً لتجارب التعامل السابقة مع “القاعدة” ومن يشبهها يبدو واضحاً أن من يخلق الغول أو يرعاه غير قادر على التحكم به.

أما “داعش” فما تزال تحتفظ بالكثير من “الخلايا النائمة” مع بقاء مقومات وجودها، وما تزال المعركة مع “بقاياها” تخلط الأوراق السياسية وتقلب التحالفات الدولية، فها هي تركيا تبحث عن تنسيق روسي-تركي-إيراني أكبر على حساب تحالفاتها السابقة مع أمريكا.

ومن جهة أخرى لا يستطيع النظام (كمنظومة حوكمية متكاملة) الآن، لأسباب ذاتية وموضوعية، استعادة جميع الأراضي السورية، وفي الوقت نفسه ينتظر مؤيدوه منه أن يقوم باستحقاقات كبيرة بأسرع وقت، وذلك بعد أن انتشر “وهم الانتصار” الذي روج له النظام نفسه. فمن تلبية الاحتياجات الأساسية للمعيشة (كالكهرباء، والغاز، والصحة، والتعليم ..) إلى محاربة الفساد وصولا إلى إعادة الإعمار، كلها قضايا لا تحتمل التأجيل، خاصة مع حالة الاحتقان الموجودة في الشارع السوري بسبب التجاذبات السياسية والاجتماعية المتداخلة، والتي دللت عليها المواقف المتشنجة التي ظهرت خلال مناقشات قضية مرسوم وزارة الأوقاف، وقضية الأطفال فاقدي الآباء.

إذا، ماتزال الأزمة السورية قائمة وإن بأشكال مختلفة عن السابق، وبميزان قوى جديد غير قادر على الحسم، ولكنه من المحتمل أن يسمح بانطلاق عملية تفاوضية جديدة، تقوم على اقتناع وطني وإقليمي ودولي بأن استمرار الحال على ما هو عليه أمر مستحيل، خاصة أن الواقع الجيوسياسي لسوريا يفرض تحركا دائما للمرجل السوري، وغالبا ما يكون بأيد غير سورية. فماذا لو تابع الإسرائيليون الحديث عن مصير الجولان السوري المحتل، مستفيدين من الضعف السوري، ومن وجود إدارة أمريكية بعيدة عن المنطق السياسي وقادرة على أن تلحق ملف الجولان بما تسميه بـ”صفقة القرن”؟!

وربما يبدو للبعض أن هذا المستوى من الاقتناع الوطني والإقليمي غير موجود حتى الآن، إلا أن هندسة العملية التفاوضية يمكن أن تقوم على فرضية أن الجميع سيكونون رابحين فيما لو بدأت هذه العملية الآن، وأن هذه العملية لن تكون زلزالا على أحد، بل يمكن البدء بها بإجراءات بسيطة من كل طرف، ستشكل تراكماً نوعياً يمكنه أن يحدث فرقاً في الصورة الكلية لهذا النزاع القاتل، مع مراعاة تنوع القوى الإقليمية والدولية الفاعلة في سوريا.

على سبيل المثال، هل يمكن استغلال هذه اللحظات التراجيدية من حياة عشرات آلاف اللاجئات واللاجئين السوريين الرازحين تحت رحمة العواصف الثلجية للتوجه إلى كل المعنيين بمجموعة طلبات؟

 من النظام السوري:

  1. إصدار مرسوم عفو عام عن جميع من هم خارج البلد، مع البدء باللاجئين/ات في لبنان.
  2. إصدار مرسوم بتأجيل إداري لمدة عام واحد لجميع الشباب المطلوبين للخدمة الإجبارية.
  3. افتتاح مراكز إيواء داخل سوريا بأقصى سرعة حتى يعود اللاجئون واللاجئات الذين يعيشون في ظروف قاسية وهم مطمئنون/ات.
  4. تهيئة المراكز الحدودية باللوجستيات المطلوبة لتسهيل عودة اللاجئين واللاجئات.
  5. منح أبناء السوريات المتزوجات من غير سوريين إقامة دائمة ريثما يصدر تعديل لقانون الجنسية السوري بما يمنح المرأة السورية الحق في منح جنسيتها لأطفالها.
  6. البدء بطرح قوانين جديدة لحرية التجمع وفقا للشروط الحداثية.

من جامعة الدول العربية:

  1. تحويل أجندة اجتماع القمة الاقتصادية الاجتماعية إلى أجندة عملية لإعادة إعمار سوريا.
  2. الدعوة إلى مؤتمر وطني سوري في مقر جامعة الدول العربية في القاهرة يشارك فيه ممثلون/ات عن جميع السوريات والسوريين، بمن فيهم ممثلون/ات عن مجلس سوريا الديمقراطي، وممثلون/ات عن الدول المعنية بالقضية السورية، والمبعوث الخاص إلى سوريا وبعثته وممثلون/ات عن الاتحاد الأوروبي؛
  3. الإعلان في هذا المؤتمر عن تشكيل اللجنة الدستورية وفق تصور الأمم المتحدة (50 نظام و50 معارضة و50 مستقلون وممثلو وممثلات المجتمع المدني).
  4. إنشاء صندوق مالي لإعادة إعمار سوريا تتشارك في إدارته جامعة الدول العربية والحكومة السورية وممثلون/ات عن المعارضة وممثلون/ات عن المجتمع المدني.

من الاتحاد الأوروبي:

  1. الإعلان بشكل واضح عن ان أهداف الاتحاد الأوروبي تتمثل بدعم الشعب السوري حيثما كان بدلا من دعم المعارضة أو دعم النظام.
  2. البدء بحوار، كاتحاد أوروبي وليس كدول مختلفة، مع النظام السوري من أجل “انفراج ديمقراطي” في سوريا، بحيث يتضمن البرنامج خطوات مطلوبة من النظام السوري (مثلا الكشف عن مصير المعتقلات والمعتقلين والمختفين/ات قسرا) مقابل خطوات تشجيعية من الاتحاد الأوروبي.
  3. الربط بين مجتمعات اللجوء في أوروبا، خاصة من ذوي وذوات الكفاءات، وبين عملية إعادة الإعمار في سوريا

من الدول صاحبة العلاقة:

  1. عقد مؤتمر برئاسة الأمين العام للأمم المتحدة وبدور فاعل للمبعوث الخاص إلى سورية لكل الدول التي لها قوى عسكرية على الأرض السورية.
  2. رسم خريطة لتقاطع المصالح بين هذه الدول من جهة ومصالح الشعب السوري من جهة ثانية.
  3. الاتفاق على جدول زمني لوقف النزاع المسلح وتحقيق الانتقال الديمقراطي في سوريا.

قد يعتقد الكثيرون أن الوقت ما زال مبكراً على مثل هذه الأفكار، إلا أن الوقت سيبقى مناسباً دائما لطرح أفكار ترمي إلى الوقوف بوجه موت ما يزال يهدد حيوات الكثير من السوريات والسوريين، خاصة أن المستقبل ما زال مفتوحا على الكثير من المفاجآت، العديد منها قد يخيب ظن الكثيرين.

آخر صيحات التكنولوجيا في سوريا … مشروع “السرقة” الذكية

آخر صيحات التكنولوجيا في سوريا … مشروع “السرقة” الذكية

لم يوفر المسؤولون في الحكومة السورية جهداً لتمرير مشاريع وقوانين تساعدهم بالاتجار بقوت المواطنين، رغم ما يعيشونه من آثار الحرب ودمار للبنى التحتية ووضعاً اقتصادياً متردياً.

أما أحدث تلك المشاريع المبتكرة فهو “البطاقة الذكية”، التي تنفذها شركة “تكامل” الخاصة، وعبرها تستطيع الأسرة السورية الحصول على حاجاتها من المشتقات النفطية “مازوت- بنزين وقريبا الغاز”، إلا أن هذه البطاقة تحتاج لإثبات بطاقة شخصية للإصدار في الوقت الذي فقد فيه آلاف السوريين أوراقهم الثبوتية بسبب الحرب والنزوح، الأمر الذي جعلهم يواجهون صعوبة كبيرة في إصدار هذه “البطاقة الذكية”.

ومنذ الأيام الأولى لتطبيق هذا المشروع بدا أنه يسير نحو الفشل، البعض وصف المشروع على وسائل التواصل الاجتماعي بأنه “ميت قبل ولادته”، خاصة في ظل افتقار سوريا للتجهيزات التي تسهل عمليات إطلاق مشروع البطاقة الذكية.

في الأيام الأولى لاستصدار البطاقة الذكية في دمشق توجه أهالي المدينة إلى مراكز شركة “تكامل” للتسجيل على البطاقة ليتمكنوا من الحصول على الخدمات بالسعر المدعوم حكومياً وعليه شهدت المراكز المستحدثة لأجل هذا الغرض ازدحاماً كبيراً.

يقول وسيم الذي حاول التقديم عليها “قطعت مسافة طويلة من جرمانا إلى مركز المدينة  لإصدار بطاقة ذكية، لكن اكتشفت حجم الغباء حينما وجهتني المسؤولة هناك لانتظار ساعات طويلة حتى تأخذ بياناتي، لكنني لم أتمكن من الانتظار لارتباطي بعمل خاص، وعندما توجهت لإحدى محطات الوقود لتعبئة سيارتي بالبنزين، أخبرني العامل بالمحطة بأن عدم امتلاكي للبطاقة سيضطرني لشراء البنزين بسعر أعلى من السعر المحدد من قبل الدولة”، ويتابع وسيم قائلاً “هنا أيقنت أن مخصصات البطاقة الذكية لن تكون كافية لحجم استهلاكي الشهري من البنزين، وبالتالي فإن هذه الآلية هي تشريع لرفع سعر لتر البنزين بمعرفة الحكومة، بحجة أن البطاقة الذكية محددة بسقف مخصصات يتناسب مع نوع الآلية التي يستخدمها كل فرد”.

وفي أحد مراكز الانتظار كان أسامة ينتظر دوره ليسجل على البطاقة بعد أن فشل سابقاً بالحصول عليها نتيجة الازدحام الكبير من المتقدمين، إلا أن لم يستطع أن ينتظر أكثر لتقل أعدادهم فالبحث عن المازوت والبنزين والغاز بالسوق السوداء أصبح هماً إضافياً، يقول أسامة: “في ظل وجود تجار الأزمات لن تنفع البطاقة الذكية في تأمين مستلزمات المواطن، لأن من صممها لم يضع في حسبانه آلية الحصول عليها بطريقة تحفظ كرامة المواطن وحقه بالحصول على أدنى متطلبات العيش”.

ولا يختلف حال أهالي العاصمة ومعاناتهم في الحصول على البطاقة الذكية عن حال أهالي بقية المدن، تقول ميادة المقيمة في مدينة حمص “من غير المنطقي تطبيق هذا المشروع في ظل عدم توفر المواد من بنزين ومازوت وغاز، فموارد البلد أصبحت شحيحة جداً” متسائلة “ما الفائدة من امتلاك بطاقة، رصيدها صفر؟!”.

وترى ميادة بأنه من الصعب الوثوق بمشاريع الحكومة وخططها المستقبلية، مازال العديد من السوريين ينتظرون حافلة تقلهم إلى أعمالهم أو تعيدهم إلى منازلهم، ويقف آخرون أمام الأفران بانتظار الحصول على ربطة خبز، وأمام مستودعات الغاز للحصول على جرة غاز وصل سعرها إلى حوالي 8000 ليرة سورية بالسوق السوداء.

المشهد ذاته يتكرر الآن أمام محطات الوقود، حيث يتجمع المئات لتعبئة خزاناتهم بالمازوت، وبلغ سعر لتر المازوت الحر 350 ليرة سورية.

من جهته يقول فداء “اعتدنا خلال سنوات الحرب على أزمات الغاز والبنزين والمازوت، وكنا على يقين أننا نعيش حرباً قاسية، لكننا تفاءلنا في مطلع العام الماضي 2018 بتصريحات المسؤولين الذين منحونا وعوداً كاذبة ووهمية بأن الوضع المعيشي سيتحسن، وكان مشروع البطاقة الذكية بارقة أمل على هذا التحسن، لكن اكتشفت من خلال تجربتي بأن هذه البطاقة تساعد على السرقة أكثر وبطريقة علنية”، ويروي فداء تجربته الشخصية عندما ذهب لملئ خزان سيارته بالوقود قائلاً “أكتشف تلاعب الكازية بالكمية التي حصلت عليها دون رقيب أو حسيب وبطريقة ذكية، حيث طلبت تعبئة (8)ليتر بنزين من محطة  وقود بطرطوس بموجب البطاقة الذكية فوصلت رسالة بأن الكمية المعبأة هي (50)ليتراً”.

التكنلوجيا السورية

تأخر دخول الإنترنت إلى سوريا قياساً بغيرها من الدول، وحتى عام 1999 لم يكن يسمح للسوريين بالاشتراك بالإنترنت، غير أن بعض مؤسسات الدولة كان لها اتصال بالإنترنت منذ عام 1997، وكان من أهم أعمالها على الإنترنت تدريب الكوادر التقنية على مراقبة واكتشاف وحجب المواقع غير المرغوبة والتي تتعارض مع سياسة الحكومة، واستمر استخدام الإنترنت لغاية مطلع عام 2000 مقتصراً على بعض المؤسسات.

ورغم تأخر سوريا عالمياً عن دخول عصر التقنية والتكنولوجيا، إلا أن ذلك لم يمنعها من السعي لإدخال وسائل تقنية تواكب تطورات العصر الراهن، لكن التوجه الأخير للدولة لإنشاء حكومة الكترونية واستخدام التقنيات الحديثة، جعل السوريين يتذمرون من سوء تنفيذ كل ما أدخلته من تقنيات عصرية هدفها خدمة السوريين.

البداية كانت عبر إدخال فكرة الصرافات الآلية لتسليم الرواتب للمواطنين عوضاً عما كان يعرف بالمحاسب أو ” المعتمد المالي”، ومنذ ذلك الحين والمواطن السوري يعيش معاناة دائمة نهاية كل شهر لاستلام راتبه الذي لا يتجاوز الـ 60 دولاراً، والسبب لايتعلق بقيمة الراتب، وإنما بالأعطال الدائمة والمتكررة للصرافات الآلية، ورغم الانتقادات الدائمة لعمل هذه الصرافات، إلا أن معضلة إصلاح أعطالها لم تحل ـوالحجة “العقوبات الاقتصادية تمنع استيراد قطع لإعادة تأهيل وصيانة الصرافات”.

إلا أن فشل الحكومة في حل هذه المعضلة، لم يمنعها من ابتكار وسائل رفاهية لخدمة المواطن، حيث بدأت الحكومة خلال السنوات الماضية فكرة “مركز خدمة المواطن” وهدفه توفير الجهد والوقت على المواطن في حال رغب بإصدار أوراق ثبوتية للالتحاق بعمل أو خدمة عسكرية أو سفر وغير ذلك، ورغم أهمية هذا المركز إلا أن انقطاع الشبكة العنكبوتية الدائم جعل الانتظار “سيد الموقف” في غالبية الأحيان، عدا عن مظاهر الفساد التي وجدت طريقها في الشبكة العنكبوتية من خلال إصدار أوراق ثبوتية بشكل مخالف للقانون أو تبعاً للمحسوبيات والواسطة، وتلقي الرشاوى لتعجيل إصدار الأوراق.

 ورغم هذا الفشل، ما تزال الحكومة مصرة على الاستمرار بتجربة التقنيات الحديثة والمعاصرة متجاهلة جميع الشكاوى والانتقادات التي تواجهها عقب كل اختراع تدخله إلى حياة المواطنين.

الانتحار السوري أكبر من إشاعة

الانتحار السوري أكبر من إشاعة

يسهب السوريون في وصف حالات الانتحار لا في ذكرها فحسب، شنق نفسه،  تناولت علبة حبوب كاملة ، توقف قلبها بعدما شربت سم الفئران، قطع أوردة يده، أطلق رصاصة على حبيبته ثم أطلق الطلقة الثانية على رأسه في توصيف لحالة قتل متبوعة بعملية انتحار لحبيب تركته حبيبته فقتلها وانتحر!

وأثارت حادثة انتحار امرأة سورية في مخيم الركبان على الحدود الأردنية، ضجة كبيرة في الأوساط السورية الشعبية وفي الإعلام وخاصة في مواقع التواصل الاجتماعي.

وكانت الأم ذات الثمانية والعشرين عاما أضرمت النار في خيمتها بسبب الجوع، وعجزها عن تأمين لقمة طعام لأبنائها الثلاثة لثلاثة أيام متتالية، حيث احترقت خيمتها بالكامل وتم نقلها إلى المشفى مع ابنها الرضيع وهما بحالة حرجة، كما أصيب  ولداها الآخران بحروق أيضا لكن وضعهما الصحي مستقر.

العديد من الحوادث الأخرى عرفت طريقها لأحاديث السوريين اليومية، مصورة وغير معلنة،  كفيديو من حماة يظهر فيه رجل في  حوالي العقد السادس من عمره وقد تناول  عددا غير معروف من الحبوب الدوائية، وهو يحاول رمي نفسه في نهر العاصي، وفيديو لشابين من السويداء يودعان رفاقهما وأصدقاءهما قبل أن يتوجها إلى حديقة “الفيحاء” ليفجرا نفسيهما بقنبلة يدوية.

وفي فيديو آخر تظهر امرأة متزوجة تهرب من تهديد زوجا بقتلها، وتعمد لرمي نفسها من نافذة الطابق الثالث في أحد أحياء مدينة حلب، لتقضي على الفور فيما بقي زوجها طليقا، أما ما يقال في حق الزوجة فهما روايتان: هي تستحق القتل فعلا وإلا لما قامت بالهرب منه أصلا أو لما تجرأ زوجها على تهديدها بالقتل علنا، أو سيقولون إنها غبية، هدرت حياتها مجانا بسقطتها تلك و بالتالي خسارة حياتها مسؤوليتها وحدها.

وعادة يرافق محاولات الانتحار حالة من التكتم الشديد تصل للإنكار من قبل ذوي المنتحر، لكن الآن تغير الأمر، فلم يعد العدد الكبير هو وجه التميز الوحيد، بل الاستعداد الطوعي -وأحيانا دون تردد- بعرض تجربة الانتحار من قبل الشخص نفسه،  تقول س وهي طبيبة مشهورة، بأنها  فكرت بالانتحار بصورة جدية لأربع مرات متتالية، لكنها لم تقدم عليه حفاظاً على مشاعر عائلتها وخاصة أبنائها، لكن لماذا؟ خاصة كطبيبة ناجحة ومعروفة.

يُرجع عدد من الأطباء النفسانيين والأخصائيين الاجتماعين انتشار حالات الانتحار إلى تردي الثقة بالنفس وبالغد، وإلى نتائج الصدمات المتتالية على البنية النفسية للسوريين الذين عانوا من أهوال النزاع المسلح ومن الفقر والتشرد والتهجير من بيوتهم ومناطقهم وفقدان الممتلكات و العمل، إضافة لإنفاق كافة المدخرات -إن توفرت- وتضاؤل القيمة الشرائية لليرة في مواجهة ارتفاع حاد في سعر الدولار، وبالتالي في سعر المواد الأساسية واللازمة لتأمين الحد الأدنى من البقاء وخاصة الأدوية والمواد الغذائية وبدل إيجارات المساكن البديلة. هذا عدا عن الصدمات المتتالية  الناجمة عن فقد الأحبة  وخاصة أفراد العائلة وخسارة المعيلين اقتصاديا أو تغييبهم، وجهل حقيقة أوضاع المفقودين وإن كانوا أحياء أو ميتين.

كما يربط العديد من الاختصاصيين في الطب النفسي والعلاج السلوكي بين ارتفاع حالات الانتحار وتناول الأدوية المهدئة والأدوية المضادة للاكتئاب وحبوب المنومات، والتي يشهد استعمالها تزايدا غير مسبوق وغير منضبط.

وتشهد العديد من المناطق السورية حالات بيع لهذه الأدوية  دونما وصفة طبية مبنية على تشخيص طبي مختص، وبهذا يعاني متعاطوها من آثارها الجانبية بالغة الخطورة أهمها التعود والتسبب بهشاشة الجهاز العصبي وبالتالي عدم القدرة على ضبط النفس والسيطرة على ردود الفعل والانفعالات العصبية والنفسية التي تتأزم جراء ضغط ما، أو لغياب المادة الدوائية  تلك لأسباب عديدة قد يكون الفقر أهمها، هذا عدا عن الأعراض الجانبية التي تنشأ كرد فعل كيميائي في الجسم جراء استخدام الأدوية المضادة للاكتئاب، خاصة ما قد تتسبب بتعزيز الميل للانتحار الذي يكاد أن يكون بنيويا في حالات بعض المرضى. وجراء تزايد تعاطي كل هذه الأنواع من الأدوية، بات من الطبيعي أن تجد شابا مرميا على طرف الطريق وهو شبه مشلول الحركة، ساكن وخامد ، لا يتفاعل مع المحيط الخارجي، يحدق في المارة بحدقة جامدة في محجر العين أو متوسعة بشدة ، أو  أن تجد مريضا يكلم نفسه أو يثور غضبا ولا يهدأ إلا بعد ضرب أحدهم أو كسر شيء ما، لينخرط بعدها في نوبة بكاء مريرة تحرق القلوب وتضاعف حجم الخسارات.

وهنا لابد من الإشارة إلى أن عدد الأطباء النفسانيين الباقين في سوريا قليل جدا، ويقدر البعض أن النسبة قد تصل لتكون طبيباً واحداً لكل مائة ألف شخص، وهو ما يصعب التحقق منه.

ويمكن ملاحظة أن السمة العامة لحالات الانتحار هو تأكيدها من قبل الكثيرين، وإن لم تذكر رسميا، أو تسجل في إحصائيات منهجية لزوم الدراسة التحليلية والكمية للوصول للعدد الحقيقي والأسباب المباشرة وغير المباشرة.

ولا يتردد السوريون في  رواية سرديات الانتحار السوري، الأخطر أنهم يعتبرونها نتاجاً طبيعياً للحرب، وماذا لو كانت فعلا كذلك؟ أين الرقم الحقيقي ؟ وأين وسائل الحماية ؟ ومن ينصف الضحايا؟ من ينصف ذويهم من تهمة الجنون أو العقوق أو الخروج عن الأعراف، أو الضعف البشري أو العجز؟ ويمنع توسع قوائم السرد بأسماء جديدة تتحول لمجرد أرقام وقصص  مكررة بشفهية غير مجدية، تُتبع أحيانا بعبارة “يا حرام” ! أو “عجهنم فورا” ، كونه خالف أمر الله وهدر حياة لا يملكها هو أساسا.

طلبات التجنيد تلاحق السورين من جديد

طلبات التجنيد تلاحق السورين من جديد

أدى إعلان الحكومة السورية عن مرسوم العفو رقم ١٨ والمتعلق بالمتخلفين عن خدمة العلم الصادر بتاريخ 9/10/2018، لانتشار شائعات في الشارع السوري حول تضمنه لبند شطب أسماء كل من استدعي للاحتياط ولم يلتحق، إضافة لإلغاء كافة قوائم الاحتياط الصادرة سابقاً. وبقيت هذه الإشاعات بين نفيٍ وتأكيد، إلى أن صدر تعميم يُنهي الجدل، ويؤكد شطب كافة دعوات الاحتياط السابقة وإيقاف الدعوات الجديدة.

وتقدر أعداد المطلوبين للخدمة الاحتياطية فقط بنحو 800 ألف مطلوب، إلا أن جهات غير حكومية تقول أنّ الأعداد تفوق ذلك بكثير.

صورة (١) عن التعميم الصادر لشطب كافة الاحتياطيين نقلاً عن صفحة الإعلامي رضا الباشا

أثار هذا التصريح الرسمي ارتياحاً بين العديد من السوريين المتأثرين بخدمة العلم، وبدا لهم وكأنه إذعانٌ ببداية مرحلة ما بعد الحرب، إلا أنّ الشكوك بقيت تساور الكثيرين حول مصداقية العفو، وتحولت مواقع التواصل الاجتماعي إلى منصات للأخبار المتضاربة، ولتداول تجارب الأشخاص المتأثرين بالقرار، فمنهم من كان يؤكد أنه تنقل بحرية دون أن توفقه الحواجز بعد أن كان يخشى الاقتراب منها، ونقل تأكيدات من شعبة التجنيد بصحة العفو وشطب الأسماء. في حين وردت في المقابل العديد من التعليقات من أشخاص نفوا كل ذلك، مؤكدين أن لا شيء تغير على أرض الواقع، ومازالت الحواجز الأمنية توقف الشباب وتسوقهم للخدمة الإلزامية.

في الفترة نفسها، انتقلت معركة التصريحات والتحليلات إلى القنوات الإعلامية، سواءٌ المحسوبة على النظام أو المعارضة، فبُثّت تقارير وندوات على قنوات معارضة كالأورينت وتلفزيون سوريا حول الموضوع مشيرة إلى أنه عبارة عن فخ تستخدمه السلطة للإيقاع بالشباب وخداعهم بغية أخذهم للجيش، وبأنّ النظام لا يمكن أن يؤتمن، ولا يمكن الوثوق بما يصدر عنه، مستشهدين بما يجري في مناطق المصالحات، والتي كان بند التجنيد وخدمة الشباب من الملفات التي تم الاتفاق والتفاوض عليها مسبقا، إلا أن الاعتقالات والمداهمات استمرت، وذهبت الوعود السابقة أدراج الريح.

في الطرف الآخر، أجرت القنوات الرسمية وشبه الرسمية ندواتٍ حول الموضوع، كالحوار الذي أجرته قناة دمشق الآن مع مدير شعبة التجنيد العامة وقاضي الفرد لتوضيح شطب الاحتياط، حيث أوضح المشاركون بنود العفو وأكدوا “إلغاء الدعوات السابقة”، دون إسقاط “واجب أداء الخدمة الاحتياطية”، مشيرين إلى أنّ البلد اليوم تعيش “آخر انتصاراتها”.

ولم تفلح كل التأكيدات المعلنة والرسمية في تبديد حالة الشك والخوف وعدم الثقة بالقرارات والتعميمات الحكومية، فبعد أن تصاعدت الآمال والأحلام بحياة جديدة، وملأت التهاني صفحات وبيوت الشباب الذين سيشملهم العفو، والذين قضت الحرب على أهم سنوات عمرهم في ظل واقع معيشي كارثي على الجميع، عاد كابوس الخدمة ليطاردهم من جديد. فما هي إلا أيام قليلة لا تتجاوز العشرة حتى تفاجأ الجميع بعودة طلبات الاحتياط جميعها، لتقوَض القرارات السابقة الصادرة، دون أن يكون هناك أي تصريح رسمي من الحكومة حول ذلك.

عمار شاب في الخامسة والثلاثين من عمره، اضطر في السنوات السابقة للعمل في الورشات وأعمال البناء رغم توفر فرص للعمل له في البرازيل حيث يقيم أقاربه، إلا انه لم يستطع السفر بحكم كونه متخلفاً عن الخدمة الاحتياطية، وما أن صدر قرار العفو حتى ذهب عمار لتجديد جواز سفره والمباشرة بإجراءات السفر، يروي عمار ما حدث معه: “كنت من أكثر المشككين بالعفو وبقيت حتى اللحظة الأخيرة وأنا غير مصدق، وأكثر ما أثار قلقي وخوفي أن تتعرقل أوراقي وأفقد حماسي ولهفتي للسفر، ذهبت لدائرة الهجرة و كان الازدحام غير مسبوق، وكأنّ الجميع يرغب بمغادرة البلد على وجه السرعة، أعطوني موعداً لاستلام جواز السفر بعد أسبوع بعد أن أنهيت تقديم جميع الأوراق المطلوبة. ومن ضمنها كفالة مالية لإذن السفر تقدر بخمسين ألف ليرة، عدا عن باقي التكاليف بحيث يقدر مجموعها بسبعين ألف ليرة. وأخيراً تواصلت مع أقاربي وأخبرتهم أنني قادم، وبدأنا نتصور كيف ستكون الأمور في البرازيل، عشت ما يشبه الأحلام وأحسست بنفسي وكأنني أودع المكان هنا وبأنني قد أصبحت هناك فعلاً”.

إلا أن فرحة عمار لم تطل، فبعد أسبوع فقط سمع خبر عودة طلبات الإحتياط، وعن هذا يقول “في البداية لم أصدق أو بالأحرى لم أود أن أصدق، استلمت الجواز ولكن موظف الهجرة أخبرني بأنه لم يعد ينفعني بشيء. وبأنني لن أستطيع مغادرة البلد وحتى الكفالة المالية لا يمكنني استرجاعها، وقال لي ساخراً بنبرة لا تخلو من شماتة: عندما تنتهي من الخدمة تعود إليك الكفالة، الدولة لا يضيع عندها شيء.” يعاني عمار اليوم من اضطرابات نفسية عنيفة، أدت به إلى الانعزال عن محيطه بعد أن خسر “ترف الحلم بغد أفضل وسدّت كل الطرق في وجهه” بحسب تعبيره.

العديد من الشبان يعانون يومياً كما عمار من التحديات التي تفرضها قرارات كهذه، سواءٌ من ناحية حرية التنقل والحركة والعمل أو من ناحية الإحباطات الكبيرة، والانكسارات النفسية التي أصابتهم بعدما تأملوا بتغيير واقعهم وحياتهم.

ولم يصدر أي تصريح أو توضيح من أي جهة حكومية لما جرى بل بالعكس قوبلت كل الأصوات المطالبة بالتفسير بتجاهلٍ كامل، وزاد عليها توسيع طلبات الاحتياط إلى فئات عمرية تعتبر خارج نطاق السن القانوني المحدد للخدمة.

خرجت العديد من التفسيرات لما جرى، إلا أنها بقيت في دائرة التحليل والتكهن، يعتبر مثلاً محمود (40عاماً) وهو صاحب محل لبيع الملابس “بأن المرسوم ثم القرار، فخ نصبته الحكومة للإيقاع بالمطلوبين، وخصوصاً أن قسماً ليس بالقليل منهم كانوا خارج البلد في دول الجوار (لبنان بالأخص)”، ويتوقع محمود ” بأنّ قرار العفو صدر لإعفاء فئة محددة من أبناء المسؤولين والأغنياء، وتسهيل خروجهم بشكل رسمي وقانوني من البلد. “

بينما يرى أيمن (55سنة) مدرس لغة عربية بأنّ ما جرى “عبارة عن تصارع تيارين نقيضين داخل الحكومة نفسها، فصدور العفو وشطب أسماء الاحتياط جاء نتيجة الضغوطات الخارجية الكبيرة على الحكومة السورية لسنّ قوانين جديدة بخصوص أكثر من ملف، وعلى رأسها ملف الخدمة والمتخلفين عنها، إلا أنّ ما يحدث على أرض الواقع نقيض لذلك تماماً، ويتم وفقاً لتعليمات غير رسمية بحيث يبقى العفو حبراً على ورق، فمسألة الخدمة بالجيش لا يمكن أن تفرّط بها الحكومة بهذه السهولة، وخصوصا أن الحرب في سوريا لا تزال قائمة رغم اختلافها عما مضى.”

ليوسف وهو صحفي (45 سنة ) رأيٌ آخر، حيث يرى بأنّ القرار كان خاطئاً منذ البداية وأنّ الحكومة تراجعت عنه وإن لم يكن بشكل رسمي، ويوضح يوسف “الانتقادات الشديدة وحالة الاستياء التي عمت داخل المؤسسة العسكرية كانت غير مسبوقة، وكادت أن تشكل أزمة حقيقية في صفوف الجيش، الأمر الذي دفع الحكومة للتراجع الفوري عن القرار، فإعفاء المتخلفين عن الاحتياط ليس عادلاً في ظل بقاء الجنود في الجيش دون تسريح، وأغلبهم لديه خدمة طويلة قد تتجاوز سبع سنوات، فكيف يكون العفو عمن لم يلتحق ونسيان الموجودين داخل الجيش، وهم الأولى بالتسريح أولاً!”.

وبالفعل فقد انتشرت كثير من الدعوات، وأنشئت أيضا صفحات على الفيس بوك للمطالبة بالتسريح الفوري للمجندين أو بإلغاء القرار، كونه غير عادل ومجحقفاً بحق من لايزال في الخدمة.

و بين مرحبٍ ورافضٍ للقرار، يبقى موضوع الخدمة والقرارات المتناقضة حوله قضية مربكة تؤرق حياة السوريين وتتحكم بمصائرهم.

علاقة السوريين واللبنانيين بين المبالغات والحقائق

علاقة السوريين واللبنانيين بين المبالغات والحقائق

يمثل أحد المراكز التجارية التابع لبلدية الجديدة في العاصمة بيروت، نموذجاً حياً عن طبيعة العلاقات التي تشكلت بين السوريين واللبنانيين بعد عام ٢٠١١. فعلى الرغم من أن غرف المركز مخصصة لتكون مَحَالاً تجارية، بيد أن ذلك لم يمنع المسؤولين عنه من مخالفة القانون، وتأجيرها كغرف سكنية، يشكل السوريون الفارّون من الحرب العدد الأكبر من مستأجريها، إضافة إلى اللبنانيين والعراقيين والبنغلاديشيين والأثيوبيين. ويتراوح سعر إيجار الغرفة الواحدة بين 200 إلى 400 دولار، الأمر الذي جعل كثيراً من اللبنانيين، باستثناء أصحاب العقارات، يلومون السوريين على ارتفاع سعر الإيجارات عشرة أضعاف، عما كانت عليه قبل مجيئهم.

لا يتذمر اللبنانيون وحدهم من هذا الوضع، بل دائماً ما يشتكي السوريون من غلاء المعيشة في لبنان، إضافة لما يصفونه بـ”سوء المعاملة” التي يتلقونها في الدولة الجارة. فعندما داهمت دورية تابعة للبلدية المركز التجاري لإخراج الأجانب منه ومن بينهم السوريين، تبين أن القصة كما يرويها سامر أحد السوريين المقيمين في المركز، “لم تكن ممارسة عنصرية موجهة ضد السوريين، بل كانت ابتزازاً مادياً لحث المُقتدر منهم، على دفع مبلغ من المال مقابل البقاء في المركز، لكونهم يشغلونه بطريقة غير قانونية”.

وعن معاملة اللبنانيين للسوريين يؤكد حسين، الحاصل على إجازة في الحقوق، والذي يعمل في إحدى ورشات التكييف المركزي في الدكوانة، على أن القصص التي يتداولها السوريون عن سوء معاملة اللبنانيين لهم، تحدث تبعاً للمنطقة التي يقطنون فيها. ففي بداية لجوء حسين للبنان عام ٢٠١٦ هرباً من الخدمة العسكرية الإلزامية في سورية، استأجر حسين منزلاً في الضاحية الجنوبية، نظراً لانخفاض الإيجارات فيها، لكنه تعرض للعديد من المضايقات، و بعض السكان كانوا يقولون له: “نحن نرسل أولادنا للدفاع عن بلدكم، وأنتم السوريون تقيمون في بلدنا، ولا تفعلون شيئاً سوى الأكل والنوم”، مما جعله ينتقل إلى منطقة الدكوانة هرباً من الإجراءات الأمنية المشددة في الضاحية.

وبلغت ذروة المضايقات التي يتعرض لها السوريون في لبنان الفترة بين عامي 2012 و2015، وترى مروى عثمان، الأستاذة الجامعية من سكان الضاحية الجنوبية، أن لها أساساً طبقياً مضيفة “السوري المتعلم والمقتدر مادياً لم يكن يتعرض للمضايقات كما هو حال الفقير القادم من الأرياف السورية”. فيما يرى البعض أن اللبنانيين ينتقمون منهم، بسبب الانتهاكات التي ارتكبها النظام السوري بحقهم بين عامي 1976 و2005.

وفي أحيان أخرى اتخذت علاقات السوريين واللبنانيين شكلاً آخر أطاح بكل ما قيل وكُتب في هذا السياق، فكان مطعم “رواق” في منطقة مار مخايل، نموذجاً عن الشراكة اللبنانية السورية، التي لم تأبه بكل التصاريح السياسية فيما يخص الوجود السوري في لبنان، واللافتات التي عُلّقت في بعض المناطق اللبنانية، لمنع السوريين من التجول في ساعات الليل المتأخرة، كما ساندت بعض الجمعيات اللبنانية، اللاجئين السوريين الذين يعيشون في المخيمات، خاصة في الظروف المناخية الصعبة، فالاعتبارات الإنسانية والعلاقات الاجتماعية والمصالح العملية قد يكون لها قول آخر، عندما تنشب الخلافات بين سياسيّ وزعماء الدول في الحروب والأزمات، وهذا ما يعيه السوريون واللبنانيون جيداً، لكن يبقى دخول السوري إلى مختلف ميادين العمل في لبنان، الغصة الموجعة التي لا تزال تؤرق اللبنانيين إلى الآن.

العلاقة التاريخية

لا يكفي الترابط الجغرافي بين سوريا ولبنان، وحده للتعبير عن عمق العلاقات بين السوريين واللبنانيين، فبعد فصل لبنان عن سوريا، أو ما كان يُعرف سابقاً ببلاد الشام، على يد الفرنسيين، بمرسوم أصدره المفوض السامي آنذاك هنري غورو عام ١٩٢٠، ظلت علاقات التنسيق قائمة بين البلدين في المجالات كافة: السياسية والعسكرية والاقتصادية، كما بقي النسيج الاجتماعي مترابطاً حتى يومنا هذا، من خلال الزواج المتبادل وعلاقات القُربى بين الطرفين.

و اعتاد اللبنانيون فيما مضى التغني بجولاتهم السياحية إلى سوريا، والتي لم تكن تكلفهم حينها أكثر من مئة دولار، أي ما يعادل خمسة آلاف ليرة سورية، وشراء البضائع من أسواقها الشعبية بأسعار رخيصة بالنسبة لهم، لبيعها في الأسواق اللبنانية، ولطالما اعتبر السوريون لبنان منبعاً لحرية الرأي والثقافة في البلدان العربية، وافتخروا بشراء ماركات المنتجات الأجنبية منه، التي لم تكن متوفرة حينها في سوريا. بيد أن هذه العلاقات لم تكن وردية في جميع أحوالها، فقد شابتها العديد من الأحداث، كالعلاقات السياسية الشائكة المبنية على دعم بعض الأحزاب في لبنان للنظام السوري، ومناهضة بعضهم الآخر له، ومن جهة أخرى. كذلك اعتبر العديد من اللبنانيين وجود النظام السوري لتسعة وعشرين عاماً في لبنان، تدخلاً مباشراً في الشؤون اللبنانية.  وجعلت أحداث عام ٢٠١١ في سوريا العلاقات بين اللبنانيين والسوريين، تتأرجح بين ما وصفه السوريون “بالعنصرية اللبناينة”، وبين شعور اللبنانيين أنهم يحملون عبئاً، يفوق قدرات بلدهم المنهك بالانقسامات السياسية وتردي الحالة الاقتصادية.

تجاوزات للقوانين اللبنانية بالجملة

إثر اندلاع الحرب في سوريا على لبنان من نواحي عديدة وخاصة الاقتصادية وسوق العمل، وانتشرت تصريحات لبعض المسؤولين اللبنانيين يحملّون فيها السوريين عبء الانهيار الاقتصادي في لبنان، وهذا ما أكد عليه جبران باسيل وزير الخارجية في تموز/يوليو الفائت  2018، مع العلم أن أزمات كثيرة كانت ولا زالت موجودة في لبنان، “أولها فساد السياسيين” برأي الدكتور إسكندر كفوري رئيس تحرير مجلة فوستوك إنفيست، “والهدر العام وعدم وضع خطط مجدية للاقتصاد اللبناني، لكن اللجوء السوري قد تسبب بمضاعفات كبيرة في هذا الشأن” بحسب تعبيره”.

وتقوم المفوضية السامية لشؤون اللاجئين بالتنسيق مع الجمعيات التي تقدم المساعدات، وتتكفل بالتغطية الطبية للاجئين، الذين وصلت أعدادهم إلى ما يزيد عن 950 ألف لاجئ، “إضافة إلى تقديم مبالغ مالية للاجئين الأكثر حاجة من أجل تحسين أوضاعهم المعيشية” كما تقول هبة فارس مسؤولة العلاقات الخارجية في مكتب البقاع، “، فضلاً عن مناشدة الحكومة اللبنانية للمجتمع الدولي للحصول على مبلغ 2.68 مليار دولار لتأمين المساعدات للاجئين والاستثمار في البنية التحتية في لبنان، حسب بيان الأمم المتحدة الصادر في شباط/فبراير 2018.

 إلا أن ذلك لم يخفف من وتيرة القصص التي رويت عن استحواذ السوري على مجالات مختلفة من العمل، لا تقتصر على ما سمح به قانون العمل اللبناني، من مزاولة مهن البناء والنظافة والزراعة، التي يتجنب اللبناني العمل فيها، بل تعداه إلى مهن أخرى كفتح عيادات طبية دون رخص قانونية، كما حدث في المركز التجاري في بلدية الجديدة، حيث عَمَد أحد الاطباء اللبنانيين إلى تأجير عيادته لأحد الأطباء السوريين.

يعلل السوريون مخالفتهم قوانين العمل لأسباب عدّة، منها أن بعضهم دخل لبنان بطريقة غير شرعية ويعملون بأجور منخفضة، وآخرون يرتبط مصيرهم بأرباب العمل اللبنانيين، الذين يتهرب بعضهم من دفع الضرائب المترتبة عليهم، كما هو الحال مع تمام عبدالله القادم من مدينة درعا، والذي يعمل في صالون للحلاقة النسائية في برج حمود، حيث تعذر عليه استصدار رخصة عمل لعجزه عن إتمام الأوراق المطلوبة، فمكان عمله غير مرخص أصولاً.

وتنعكس التجاوزات التي تحدث في سوق العمل اللبناني، سلباً على إجراءات الإقامة، إذ لا يمكن للسوريين استصدار الإقامة ما لم يحصلوا على إجازة العمل، الأمر الذي جعل غالبية السوريين يقيمون في لبنان بإقامات منتهية الصلاحية، باستثناء البعض ممن يتوفر لديهم كفيل شخصي، ويتمتعون بالقدرة المالية على دفع مبلغ يصل إلى 1000 دولار سنوياً، ينقسم إلى 200 دولار رسم تجديد الإقامة، ويذهب باقي المبلغ للكفيل اللبناني.

لا بديل عن العودة

بعد أن أثبتت الجهات المعنية في لبنان عجزها عن وضع حد لكل المخالفات والتجاوزات المرتكبة، يخلص السوريون واللبنانيون إلى نتيجة واحدة لحل هذا الوضع المأزوم للطرفين، وهو عودة اللاجئين. وقد تكررت مطالبات الرئيس ميشيل عون بعودة اللاجئين وعدم السماح بتوطينهم في لبنان، وبعد أن استبشر بعض السوريين خيراً بقرار العفو الذي أصدره الرئيس السوري بشار الأسد في تشرين الأول/أكتوبر 2018، وبدؤوا بحزم أمتعهم للعودة، تراجعوا ولم تكتمل فرحتهم كما يقول محمد البالغ اثنين وثلاثين عاماً، والقادم من حي الوعر في مدينة حمص. يقول محمد “كنت أهم بالعودة وقد عزمت أمري لولا الأخبار التي سمعتها عن استصدار لوائح جديدة لخدمة الاحتياط”.

ويرى العديد من السوريين ألا بديل عن العودة إلى بلادهم، لأن سنوات الانتظار التي قضوها في لبنان لم تعد عليهم بالنفع الكثير من الناحية الاقتصادية تحديداً، فهم لا يستطيعون أن يؤمنوا مستقبلاً لهم في ظل الغلاء المعيشي الفادح في لبنان، كما أن بعضهم يفتقدون إلى الشعور بالأمان، بسبب تشابه الأسماء الذي يحدث في بعض الأحيان، مع أسماء عناصر الفصائل المسلحة، التي تسللت إلى لبنان، وهذا ما حدث مع حسين علي، الذي أوقفته الجهات المختصة لتشابه اسمه مع إسم أحد عناصر تنظيم داعش. أما بالنسبة للبنانيين فهم يشعرون أنهم يدفعون ثمن أزمات لم يكونوا سبباً فيها، ويحملون في كل مرة ما فوق طاقة بلدهم الصغير جغرافياً على الاحتمال.

طب الأعشاب بديلاً عن ضعف الكوادر الطبية ونقص الأدوية

طب الأعشاب بديلاً عن ضعف الكوادر الطبية ونقص الأدوية

تعاني الثلاثينية هدى من بكاء طفلها الرضيع المتواصل، والذي لم تستطع معرفة سببه حتى اللحظة، رغم عرضه على معظم أطباء المنطقة. فكل منهم أرجع سبب بكاء الطفل لمرض معين يختلف عن الآخر وصف له دواءً لم يشفه من علتّه الحقيقة التي ماتزال مجهولة للآن.

تصف هدى ما تعاني منه مع رضيعها قائلة “في البداية قصدت طبيباً مختصاً بأمراض الأطفال، فعلل بكاء الطفل لوجود التهاب في أذنيه، إلا أن مضاد الالتهاب الذي وصفه لي لم يشف صغيري، فقصدت طبياً مختصاً بأمراض الأذن والأنف والحنجرة، والذي أكد بدوره بأن ابني لا يعاني من أي التهاب بأذنيه”، طبيب آخر عزا البكاء المستمر لنمو أسنان الطفل، الذي راح ينقص وزنه ويفقد شهيته.

ويشكو العديد من المرضى المصابين بأمراض في مناطق سيطرة المعارضة السورية من قلة الأطباء والأخصائيين، لاسيما الاختصاصات النادرة كالأوعية والقلبية والصدرية، وذلك بسبب وفاة بعض الأطباء بعد استهداف المشافي من قبل طيران نظام الأسد وحلفائه، وهجرة الآخرين أو نزوحهم مما تسبب بنقص كبير في الكفاءات الطبية.

كذلك يعاني أهالي إدلب من ضعف الكوادر الطبية بشكل عام، كالتمريض. تروي لمياء العمر (٣٧ عاماً) ما واجهها من قلة خبرة الممرضات في مشفى الأطفال وتقول “اضطررت لإدخال طفلي البالغ من العمر خمسة أشهر إلى المشفى بسبب مرض التهاب أمعاء مزمن أصابه، وأصبح ابني على على إثره عرضة للجفاف، ولذا توجب إعطاء الطفل سيروم وريدي، إلا أن الممرضات لم يستطعن إيجاد وريد الطفل”، وتتابع بحزن “خرجت الممرضات من غرفة الإسعاف معلنات عجزهن، بعد أن غرزوا الإبر في كل قطعة من جسد طفلي، فساءت حالته واختفى صوته من البكاء الشديد، الناجم عن ألم الإبر من جهة ومرضه الأساسي من جهة أخرى”.

وأدى غياب الخريجين والدارسين إضافة للواسطات والمحسوبيات لتوظيف كوادر غير مؤهلة في المشافي لا يملكون أية خبرات، مما أدى في كثير من الأحيان إلى بطء العمل الإسعافي، والارتباك في الأزمات وضياع الوقت والجهد. كذلك يشكو العديد من مراجعي المشافي والمراكز الطبية، من الطريقة الفوقية التي تتعامل فيها الكوادر الطبية مع المرضى والمراجعين، وهو “ما أفقد عدداً من المشافي صبغتها الإنسانية” بحسب وصفهم.

الطبيب حسام طعمة (٤٨عاماً) بدوره يعتبر أن الوضع الصحي في إدلب وريفها ضعف جداً بسبب النقص في الاختصاصات وضعف التنسيق بين المراكز الطبية،  بالإضافة لنقص بعض الأدوية،  مبيناً أن المشاكل التي تواجه القطاع الطبي هي قلة الخبرات بالدرجة الأولى، إذ أن أغلب المشافي مجهزة لاستقبال حالات معينة كالجراحة العامة والعظمية ، و٩٠ بالمائة من المشافي تحوي على هذين الاختصاصين فقط،  في حين تندر فيها بقية الاختصاصات كالهضمية والوعائية والعصبية.

ونظراً لقلة الاختصاصات والخبرات، وتحكيم المحسوبيات، ونقص الأدوية الهامة مثل الألبومين والبروتين والأنسولين، فقد اتجه معظم الأهالي للاعتماد على طب الأعشاب البديل الأكثر انتشارا والأقل تكلفة. علي شردوب (٣٥ عاما) من معرة النعمان وهو أب لستة أبناء يقول “في فصل الشتاء يقل العمل وتكثر الأمراض، وأسعار الأدوية في الصيدليات مرتفعة  لا تتناسب مع دخلنا المحدود، لذلك لجأت لطب الأعشاب لأداوي أولادي من الأنفلونزا والسعال والالتهابات وغيرها من الأمراض”. من جهتها الأربعينية أمية علوان تثق جداً بما أسمته الطب الشعبي لأنه “إن لم ينفع المريض فلن يضره ” بحسب وصفها، ورغم أنها لم تصب بمرض خطير، إلا أنها ترى أن وصفات الأعشاب “دائما تنجح وهي مفيدة للزكام والروماتيزم وآلام الأذن والعين و الرأس”.

لكن الطبيب حاتم عطا يعارض ما تقوله أمية، ويقول إن اعتبار الأعشاب “لا تضر إن لم تنفع” هو خطأ شائع، ويقول “يمكن أن يفوق ضرر بعض الأعشاب الأدوية الكيميائية، ولهذا فلا يجب التقليل من خطورة الاستعمالات الخاطئة للأعشاب وغيرها، لأنها قد تؤدي إلى مضاعفات لا يمكن تداركها، والمسؤولية في ذلك تقع على المريض أحيانا لأنه لا يتابع وصايا الطبيب كما ينبغي من حيث اتباع المقادير المحددة في أوقاتها المحددة، أو على عاتق الطبيب الذي لايعرف شيئا عن خصائص بعض النباتات ورغم ذلك فهو يصفها للمرضى الذين وثقوا به”. وهذا ما حدث مع الحاجة صبحية التي ازدادت حالتها الصحية سوءاً بعد تناولها لنبتة الدفلة، التي وصفت لها كعلاج مخفض لمستوى السكر في الدم، فكان أن عادت لاستخدام الأدوية الكيميائية والتي لم تكن متوفرة مما استدعى جلبها من تركيا وبمبلغ كبير .

بينما تؤيد سعاد الحسن طب الأعشاب وبحماس كبير كونها استفادت منه في علاج مرضها الجلدي، والذي عجزت عن علاجه كافة الوصفات والأدوية الكيميائية، تقول الحسن” بعد يأسي من الشفاء لجأت وكحل أخير لأحد العطارين، والذي وصف لي خلطة أعشاب شفيت على إثرها تماما، رغم أن مدة العلاج طالت قليلا، ولكنني تخلصت من آثار المرض، وعدت بفضل طب الأعشاب لحياتي الطبيعية بعد أن كنت منزوية ومحرجة من مرضي، ولذا فطب الأعشاب برأيي هو الأجدى”.

ويرى الطبيب العطا أن من واجب كل من يدخل ميدان طب الأعشاب أن يكون دقيقا في حفظ النباتات ومعرفتها بأسمائها العلمية، وكيفية تناولها ودواعي استعمالها، و”إلا فإنه سوف يقع في أخطاء قد تؤدي إلى موت المريض وفي ذلك مسؤولية عظيمة” بحسب تعبيره.