بواسطة سلوى زكزك | يناير 21, 2019 | Cost of War, Reports, غير مصنف
أضواء زينة أعياد الميلاد تملأ فضاء الحي حيث يقع مشفى خاص ذائع الصيت في دمشق، وفي داخله أشجار ميلاد مزينة وعمال يتوافدون لتهنئة إدارة المشفى وتقبّل الهدايا، في أجواء احتفالية لا يعطلها حضور المرضى المتعبين مع أوجاعهم ومرافقيهم.
وقد شهدت المشافي الخاصة زيادة في عدد روادها بعد الحرب، العديد منهم لا يدفعون تكاليفها بنفسهم وإنما يتكلون على مساعدة الجمعيات الأهلية، إذ أصبح الاستطباب على حساب هذه الجمعيات الآن وضعاً طبيعياً ومكرراً، بعد أن كان سابقاً علامة نقص وإشارة لأن متلقي تلك المساعدة فقير وغير قادر على دفع نفقات علاجه بنفسه. وتشمل هذه المساعدات الطبية العلاج والعمليات الجراحية، وقيمة الوصفات الطبية، وخاصة للأدوية اليومية والاعتيادية التي توصف لعلاج أمراض كالقلب والسكري والأمراض العصبية وغيرها.
وأما أسباب تحول المساعدات الطبية المطلوبة من الجمعيات الخيرية أو من لجان الكنائس فأمر طبيعي ومتواتر فهي: بسبب عجز المشافي الحكومية عن تأمين خدمات العلاج للعدد الكبير من المرضى، ولانشغالها بمعالجة جرحى الجيش أو الحوادث الإسعافية الناجمة عن تفاصيل الحرب الدائرة، وثانياً بسبب الارتفاع المضاعف لتعرفة أي إجراء طبي، حتى لوكان يقتصر على شراء حبوب مسكنة لوجع الرأس أو مرهم خاص بترطيب الأنف.
وقد تضاعفت قيمة نفقات العلاج لأكثر من عشرة أضعاف، في ظل حالة فقر شبه عامة وعجز في القدرة الشرائية وفقدان السيولة. يضاف إلى ماسبق ازدياد الحاجة للخدمات الطبية، نظراً لازدياد الأمراض في ظل انعدام أسس الوقاية والحماية، وكثرة التعرض للأسباب الممرضة، ونقص الخدمات، وزيادة الشدات النفسية والخوف والتهجير والوحدة، وانعدام الأمن الشخصي والعام والغذائي والدوائي والوقائي.
ويبدو التعامل سهلاً وسلساً مع الحالات المرسلة أو المتكفلة من قبل الجمعيات، فطلبٌ محددٌ من المريض مؤكد برأي الطبيب المعالج، يليه موافقة، فتمرير للمحاسبة، ثم موعد وتنفيذ للمداخلة الطبية المطلوبة. لكن اللافت في مشهد المشفى هو الانفراط الواضح للعقد الاجتماعي لحالة المرافقة إلى المشافي، وفقاً للتقليد المتعارف عليه والثابت حضوراً وتعاملاً وتكيفاً.
رجلٌ مع زوجته التي قدمت للولادة، زوجة مع زوجها المقيم في جناح كبير للرجال الذين أجروا عمليات جراحية مختلفة، شاب لم يتجاوز الثالثة عشرة يسند جده العاجز عن تحريك ظهره، جارة مع جارتها العجوز المصابة بحالة ارتفاع بالسكر، صديقة مع إحدى الصديقات التي ستخضع لتنظير هضمي.
أما قبل الحرب، فقد كانت حالات الولادة تشهد حضور العائلة الكبيرة مع الأم المستقبلية ماعدا الزوج، أم الولاّدة وأم الزوج والشقيقة وشقيقة الزوج والعمة الأكبر و..، والزوج آخر القادمين كي لا يستمع لأنين زوجته وصراخها، وكي لا يرى تفاصيل الولادة التي تعتبر طقساً نسائياً خالصاً. اليوم شاب ثلاثيني برفقة زوجته الولاّدة، تتأبط ذراعه ويحمل حقيبة الطفل ومتاع زوجته وينتظران قدوم الطبيب الموّلد، يبدو أنهما غريبان عن المكان، أو أنهما من مدينة بعيدة، وربما بقي أهلهما في الريف البعيد، وتشتت أوصال العائلة ليسكن الزوجان هنا معاً بعيدين عن الجميع، بدافع العمل أو الالتحاق بخدمة محددة. فرض هذا الواقع أن يكون الزوج وحده معها، وربما قد قام ببعض التجارب المسبقة لكيفية تغسيل الطفل لوحده، وكيفية العناية به في أيامه الأولى حيث تكون الأم غير قادرة على ذلك، المهم أنهما حالة تخالف كل التقاليد العائلية التي كانت تحصل وقت الولادة.
تقول سيدة لأخرى قدمت مع زوجها “سيعيقك حجابك أثناء إجرائك لتنظير المعدة”، خاصة وأن حجابها مفروش على كامل صدرها ومثبت بدبابيس من الجهتين تشد على ذقنها ورقبتها، تتحفظ وتحافظ على صمتها. لكن الزوج يرد: “لا مشكلة، أصلاً أنا أعرف أن من سيجري التنظير هو طبيب،” ويكمل “أفترض أن خطراّ مسها وأسعفوها حتى دون حجاب، حينها لا ذنب لها، ولا ثمن تسدده جراء وضع إسعافي خاص.” ترتاح قسماتها وباللاشعور تبدأ بإزالة تلك الدبابيس الواخزة والمقيدة.
***
يطلب رجلٌ موجوع المساعدة من موظف في المشفى قائلاً له: “هات يدك أسندني” فمن يقوده هو حفيده البالغ ثلاثة عشر عاما فقط، وهو غير قادر على التحكم بجسد جده الضخم. دونما سؤال يتلو الرجل قصته: “الرجال إما في الجيش أو خارج البلاد” نسمع غصته النافرة من صدره. سيدة متقدمة في العمر تقول: “حسبنا حساب كل شيء في حياتنا إلا رحيل الرجال.”
في المشهد أيضاً شباب “هلاليون”، أي مجموعة إسعاف من طاقم الهلال الأحمر، يحملون النقالة الإسعافية متجهين نحو سيارتهم بعد أن قاموا بنقل سيدة متقدمة في العمر ووحيدة تعاني من ضيق حاد بالتنفس ومن فقدان جزئي للتوازن. تحتفظ العجوز برقم طوارئ الهلال الأحمر على جوالها، كما تمنحه الرقم واحد في ترتيب الأرقام الخاصة المدونة كميزة للاتصال المباشر السريع دون كتابة الأرقام في ذاكرة الهاتف الأرضي. وحيدة هي والإسعاف مشغول وسياراته قليلة العدد، لا تلبي الحاجة المتزايدة والفورية .
تسأل سيدة عن عنوان مخبر التشريح المرضي الذي كتبه الطبيب الجراح على ورقة خاصة، لتأخذ إليه العينة التشريحية لفحصها بعد استئصالها من قدم ابنتها، وتقول: “سأترك ابنتي لوحدها ريثما أذهب إلى المخبر وأعود”. فتتطوع سيدة بنقل العينة إلى المخبر، لكن الأم ترفض و تقول وبرجاء “إذا ممكن أن تبقي قريبة من ابنتي؟” مشيرة بيدها إلى غرفة الابنة، تودع السيدة المتطوعة للمساعدة بعينين دامعتين وترحل شبه راكضة.
كان يوماً عادياً في مشفى خاص، المرض عادي وكذلك الشفاء، والمال اللازم للإنفاق الطبي والجمعيات الخيرية والمدنية والمجتمعية. كل شيء عادي في الحرب، إلا الحرب ذاتها. فهي تقلب الأدوار بجذرية سريعة وقصيرة الأمد، تغيير كبير، لكنه كان يحتاج لزمن أطول في زمن مختلف.
هل نهلل للتغييرات؟ أم نقول إنّ الحرب قد مرت من هنا؟ أم نتلمس التغيير الحقيقي والمنطقي للوظائف الاجتماعية التي يفرضها المجتمع في ظل تغيرات بنيوية لا نملك ردها، المهم هو البناء على ما قد يتكثف ويتركز كتغير حقيقي، قد يقلب الأدوار، ولكنه قد يضعها على المسار الصحيح.
بواسطة Noha Alhasan | يناير 16, 2019 | Cost of War, Culture, غير مصنف
تغيرت حياة أبو عمر (٣٩عاما) من مدينة كفرنبل وانقلبت إلى أحسن حال بعد عثوره على أحد الكنوز الأثرية القريبة من مدينته، وذلك أثناء قيامه بالتنقيب عن الآثار في منطقة سرجيلا الأثرية،فبعد أن كان أبو عمر يعمل في تصليح الدراجات النارية، أصبح اليوم يمتلك الأراضي والعقارات. عن تجربته يقول أبو عمر: “تركت عملي في تصليح الدراجات بعد أن أصبح دخله لا يسمن ولايغني من جوع في ظل الغلاء الفاحش، و أصبحت أعمل في مهنة التنقيب عن الآثار، وقد شجعني على هذا العمل، عثور بعض أقاربي على تحف أثرية قيمة.“
واستغل تجار الحروب ما تمرّ به البلاد من خرابٍ وفوضى فضلا ًعن غياب الرادع الأمني، لتغدو المواقع الأثرية في المناطق الواقعة تحت سيطرة المعارضة، وخصوصا في إدلب وريفها، مسرحاً للتنقيب العشوائي غير المشروع. ونشطت حركة التنقيب والتجارة في مجال الآثار عقب خروج مدينة إدلب عن سيطرة القوات الحكوميةمنذ آذار/مارس ٢٠١٥، حيث شرع المئات في عمليات الحفر العشوائية بحثاً عن قطعٍ نادرةٍ ضمتها تربة المحافظة والتي شهدت نهضة حضارية خلال العصور الكلاسيكية (لاسيما خلال الفترة الرومانية والبيزنطية) والإسلامية.
إن عملية البحث عن الآثار ليست بالأمر السهل، وإن حالف الحظ أبو عمر أحد بالعثور على لقىً ثمينة غيرت حياته، إلا أنه يوجد في المقابل العديد ممن يبحثون عن الآثار منذ مدة ولم يجدوا شيئاً حتى الآن. كحال الشاب حسام (٢٠عاماً) من بلدة حيش، والذي عانى من البطالة بعدما اضطر لترك دراسته في الجامعة بسبب الأوضاع الأمنية، فراح ينقب عن الآثار، منذ شهور يصعد التلال ويجوب الوديان عله يوفق بالعثور على لقىً أثرية تمكنه من تأمين متطلبات الزواج على حد قوله. الأستاذ خالد السيد (٣٥عاما) خريج قسم الآثار ينتقد التنقيب عن الآثار بشدة قائلاً: “لم يترك لصوص الآثار في المحافظة وريفها زاويةً إلا ونقبوا فيها بحثاً عن القطع الأثرية، مستخدمين أجهزة كشف متطورة، فهم يتسابقون ويتصارعون على سلب تاريخ سوريا من أجل ملء جيوبهم.”
وعن أسعار بعض القطع الأثرية يحدثنا تاجر الآثار أحمد (٤٥عاما) من معرة النعمان قائلاً: “يتراوح سعر التماثيل الأثرية النادرة بين عشرة آلاف ومئة ألف دولار، أما أسعار العملات الرومانية فتتجاوز الألف دولار للقطعة الواحدة.“ ويقول أحد التجار بأنه باع إحدى القطع بمئة ألف دولار كونها نادرة جداً مشيراً إلى أن طريق التهريب كان يمر بلبنان، ولكن في الآونة الأخيرة شهد هذا الطريق تشديداً كبيراً، ما جعل الكثيرين يفضلون التهريب إلى تركيا، متجاوزين التدقيق العالي على المعابر.
هذا وقد طالت الآثار المدمرة للحرب في سوريا، الإرث الحضاري والتاريخي من متاحف وقلاع وتلال وأسواق ومدن منسية، إذ تعرضت الكثير من المواقع الأثرية للقصف العنيف والمتواصل من قبل الطيران الحربي التابع للنظام السوري وحلفائه، الأمر الذي أدى لهدم تلك العديد من المباني كلياً أو جزئياً وطمس معالمها الأثرية. محمد السعيد (٤٠ عاماً) من سكان قرية البارة الأثرية يتحدث بحزن عن قريته التي انقلبت بشكلٍ جذري عما كانت عليه سابقاً، وللبارة رصيد أثري يعود إلى العهود الرومانية والبيزنطية القديمة ومن بعدها العربية. يقول السعيد بغصة: “دمر القصف ما دمره من المباني الأثرية، أما ما بقي منها فقد شوه معالمه النازحون، حيث قصدت القرية عشرات العائلات النازحة وأسسوا فيها مسكناً لهم، وقاموا بتكسير حجارة تلك المباني وبنوا فيها حظائر للماشية من الجدران الإسمنتية.” كما أن جزءاً كبيراً من تلك المباني دُمّر إثر عمليات تجريب السلاح من قبل عناصر تابعة لفصائل عسكرية بحسب السعيد، فباتت الجدران القديمة مسرحا للتأكد من مدى صلاحية السلاح والذخيرة وفاعليتها، بعد ما كانت تلك المواقع سابقاً تحظى بأهمية كبيرة لدى السائحين الذين يتوافدون إليها من كل حدبٍ وصوبٍ. وتشكل آثار محافظة إدلب ثلث آثار سوريا حيث يبلغ عدد مواقعها الأثرية أكثر من ٧٦٠ موقعاً.
ونتيجة لهذه الفوضى العارمة والانتهاكات بحق الآثار، ظهر في إدلب نشطاء ومتطوعون أخذو على عاتقهم حماية مابقي من الآثار والحفاظ عليها، فبادروا بتأسيس مركز آثار إدلب. وحول الهدف من المركز وعمله تحدّث مؤسس المركز ومديره المختص بعلم الآثار الأستاذ أيمن النابو ( ٣عاماً) قائلاً: “تم تشكيل مركز آثار ادلب في النصف الثاني من عام ٢٠١٢ من أجل حماية آثار محافظة إدلب، من قبل عدد ٍمن الأكاديميين والمختصين في علم الآثار. وكان يقتصر العمل بدايةً على موضوع توثيق الانتهاكات ومن ثم تطور في السنوات الأخيرة ليشمل حماية القطع الأثرية التي تم جمعها من مناطق مختلفة والتي يبلغ عددها مايقارب الألفي قطعة أثرية، حيث يتم تغليف القطع بمادة (تايفك) التي تحميها من العوامل الجوية، بالإضافة لمادة الأكياس الفقاعية التي تحميها من الاصطدام والكسر نتيجة ظروف الحرب التي نعيشها.” كما أكد النابو أنه يتم أيضاً حماية اللوحات الفسيفسائية وترميم ما تعرض منها للأذى، ويختتم حديثه بأن المركز يسعى إلى توسيع النطاق الجغرافي لعمله ليمتد إلى ريف حلب وريف حماه الشمالي ريثما يتم إنشاء مراكز خاصة في كل محافظة. ويأمل العاملون في مجال الآثار توفر مناخ مناسب يسمح لهم بتقييم الأضرار وتوثيقها وترميم آثار هذا البلد العريقة والتي تعرضت لأضرارٍ جسيمة خلال سنوات الصراع.
بواسطة Abdullah Al Hassan | يناير 11, 2019 | Cost of War, Reports, غير مصنف
بعد دخول قوات ”غصن الزيتون“ مدينة عفرين وإعلان السيطرة عليها في ١٨ مارس/آذار ٢٠١٨، انضمت المدينة لسابقاتها من مدن جرابلس والباب واعزاز بالانتقال من سيطرة قوات وحدات حماية الشعب الكردي إلى فصائل المعارضة السورية الموالية والمدعومة من تركيا. مما يعني أن عملية “غصن الزيتون” هي مرحلة مُتممة لعملية ”درع الفرات“ التي امتدت من ٢٤ أغسطس/آب ٢٠١٦ وحتى ٢٩ مارس/آذار ٢٠١٧، والتي أدت إلى تقليص مناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطية ”قسد“ وانحسارها إلى غرب الفرات، أمام ظهور هيمنة تركية واضحة على تلك المناطق، فيما لا يزال مصير مدينتي ”تل رفعت“ و“منبج“ مجهولاً، فبعد إحكام السيطرة على عفرين، أصبحت المدينتان محور خطاب القيادة التركية وتوعّدها.
ومع وصول آلاف العائلات النازحة من الغوطة الشرقية إلى مدينة جرابلس، لوحظ نشاط واضح للحكومة المؤقتة التي تتخذ من مدينة غازي عينتاب التركية مقراً رئيساً لها، إضافة للمؤسسات التابعة لها في مدينة عفرين، وذلك لإدارة شؤون المدينة، إضافة إلى توطين مئات العائلات الواصلة من الغوطة الشرقية هناك، كما جرى اجتماع تأسيسي للمجلس المحلي لمدينة عفرين في مدينة غازي عنتاب.
وجرى هذا بعد أن غادر المدينة أكثر من نصف أهلها إبان دخول فصائل المعارضة السورية إليها، وترافق دخولهم هذا بحملة ”تعفيش“ وسرقة للممتلكات، لم يردعها وجود حواجز الشرطة العسكرية التابعة لفصائل المعارضة والتي وُضعت لمنع وضبط تلك التجاوزات.
ولرسم صورة أدق عن وضع مدينة عفرين وما حولها في المستقبل القريب، يمكننا إلقاء الضوء على مناطق سيطرة “درع الفرات”؛ داخل هذه المناطق، تنظم الحكومة التركية عمل المؤسسات العامة والقطاعات الخدمية في المدن الرئيسية: جرابلس والباب واعزاز، بالطريقة التي تراها مناسبة، بعيداً عن قرارات المؤسسات الثورية أو الحكومة المؤقتة.
فمن ناحية المؤسسات العامة، تقوم الحكومة التركية بتقديم الدعم اللوجستي والمادي لأهم المجالس المحلية وهي: جرابلس، الباب، اعزاز، الراعي، قباسين، بزاعة، أخترين، تركمان بارح ومارع، وذلك من خلال دفع رواتب موظفيها، إضافة إلى رواتب المعلمين والشرطة وموظفي المحاكم، والعاملين في قطاع الصحة ضمن مشافيها، وأئمة الجوامع والمدرسين والقائمين على المعاهد الشرعية.
كذلك تقوم الحكومة التركية بصيانة وترميم المؤسسات العامة والمدارس والبنى التحتية، وبناء المشافي، و تقدم مادة الطحين مجاناً، وتدعم قطاع الزراعة، وذلك يتم عبر المؤسسات الحكومية التركية، وبإشراف مباشر من ولاية ”كلّس“ جنوب تركيا.
وبالنسبة لقطاع الأمن العام، فهناك “شرطة حرة” تم تدريبها في مدينة مرسين التركية، في آذار/مارس ٢٠١٧ لتُخرّج ١٣٠٠ شرطي في الدفعة الأولى، تلتها ثلاث دفعات، في كل منها ٦٠٠ شرطي. تم توزيع العناصر المتخرجين في مناطق درع الفرات والإشراف المباشر على أقسامهم تتم من قبل ضباط أتراك وسوريين.
وتم تقسيم عمل الشرطة إلى مكاتب بحسب الاختصاص: شرطة مرور، شرطة مخافر، مخابرات، مكافحة الإرهاب، كما يوجد محكمتان مدنية وعسكرية، تابعتان للشرطة الحرة، ويقوم عليها قضاة سوريون، تم اعتمادهم من الحكومة التركية لتطبيق القوانين السورية قوانين الأصول، والقانون المدني والعقوبات بما لا يخالف أحكام الدستور السوري لعام ١٩٥٠. وقد اعترض على ذلك”مجلس القضاء الأعلى“ المُشكّل في ١٩ تموز/يوليلو ٢٠١٧ من اتفاق أهم المؤسسات القضائية المعارضة وهم الهيئة الإسلامية للقضاء، ومجلس القضاء الأعلى في حلب، ومجلس القضاء الأعلى في الغوطة الشرقية، ودار العدل في حوران، فقد اعتمد هذا المجلس على ”القانون العربي الموحد“ وتعديلاته كمرجعية قانونية يتم العمل بها في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام.
أما بالنسبة للصحة، فلقد أسست وزارة الصحة التركية العديد من المشافي التابعة لها داخل مناطق درع الفرات كالمشفى الأهلي في اعزاز، ومشفى جرابلس، ومشفى الحكمة في مدينة الباب، بالإضافة إلى العديد من النقاط الطبية والمشافي المدعومة من المنظمات الدولية المانحة، بينما يتم نقل الحالات الطبية المستعصية، والتي لا يتوفر لها علاج، إلى داخل الأراضي التركية.
قطاع التعليم، من جهته يتبع بشكل كامل لنظام التعليم التركي وبإشراف من مؤسسة ”وقف المعارف“ التركية وهي مؤسسة حكومية تتبع لرئاسة الوزراء، وظهرت كبديل لمدارس ”غولن“ المتهم بدعم محاولة الانقلاب في تركيا. إلا أن المنهاج السوري بقي نفسه مع التعديلات الأخيرة التي أجرتها وزارة التربية في الحكومة السورية في دمشق عام ٢٠١٧وتبنّته الحكومة المؤقتة، مع إدخال تعديلات طفيفة على المواد العلمية، وتعديلات وإضافات أخرى لحقت كتب التاريخ والقراءة والتربية الوطنية.
كما تم أيضاً إدخال اللغة التركية لـ٥ ساعات أسبوعياً على حساب تخفيض ساعات اللغة الإنكليزية، حيث يخضع المعلِّمون لدورة تأهيل تربوي إجبارية برعاية وزارة التعليم الوطني التركي، وذلك أسوة بالمدارس السورية الموجودة في تركيا. كذلك عيّنت رئاسة ”الشؤون الدينية التركية“ مجموعة من المُفتين لتنسيق أعمالها وتأهيل أئمّة سوريين في مناطق سيطرة درع الفرات، كما أشرفت على ترميم أكثر من ٦٠ مسجدًا، وبناء مساجد أخرى في المنطقة، بالإضافة إلى مدارس تعليم القرآن والمعاهد الشرعية بالتعاون مع رابطة العلماء السوريين.
بالنسبة للسجل المدني، بدأت أمانة السجل المدني منذ منتصف شباط/فبراير ٢٠١٨ بمنح وثائق رسمية من دفاتر عائلة وإخراجات قيد وشهادة ميلاد، إضافة إلى تسجيل وقائع الزواج والوفاة وغيرها، سواء للمواطنين المحليين أو النازحين دون تمييز، وذلك بعد أن قام مكتب الإحصاء بعملية إحصاء شاملة للمواطنين والنازحين، ووضع بيانات كاملة لتأسيس دائرة الأحوال المدنية في مراكز المدن الرئيسية، والتي باشرت بإصدار هويات تعريفية جديدة متوافقة مع النظام المعمول به في تركيا، حيث تكون باللغتين العربية والتركية، كما تحتوي على صورة الشخص وتحمل رقماً وطنياً وبصمة إلكترونية وشيفرة.
بما يتعلق بالاتصالات والانترنت، قامت الحكومة التركية بتقوية شبكة الاتّصالات التركية في الشمال السوري بالتزامن مع دخول قواتها إلى المنطقة، كما تم تشييد أبراج تغطية إضافية لتقوية شبكة الاتّصالات الخليوية التركية والانترنت المرافق لها.
وأغرقت مناطق درع الفرات وعفرين بالبضائع التركية، عبر معابر رسمية تم افتتاحها من جانب الحكومة التركية، وهي معبر جرابلس، ومعبر الراعي شمال مدينة الباب، ومعبر باب السلامة بالقرب من مدينة اعزاز، أضيف لها معبر في قرية حمام الحدودية التي تتبع لقضاء “قوملو” شرقي ولاية هاتاي لربطها مع عفرين، وبذلك تحولت مدن جرابلس والباب وعزاز وعفرين إلى مراكز تجارية كبيرة للبضائع التركية، كما شهدت المنطقة حركة بناء وإعمار كبيرة وواسعة، وأيضاً تم إنشاء مدينة صناعية كبيرة في مدينة الباب بالتعاون بين مجلس المدينة والحكومة التركية، وبمشاركة بعض الصناعيين المحليين.
يُذكر أن جميع العاملين في القطاعات والمؤسسات المدعومة من الحكومة التركية بالإضافة إلى الجنود الأتراك ومن هم بحكمهم من السوريين، يتلقون أجورهم من الحكومة التركية بالليرة التركية، ولتسهيل الحركة المالية تم افتتاح ثلاثة مراكز لمؤسسة البريد والبرق التركية “PTT” في كل من مدن الباب والراعي وجرابلس، بالإضافة إلى عشرات أجهزة الصراف الآلي المنتشرة في المنطقة.
وبشكل واضح يُرفع العلم التركي إلى جانب علم الثورة الأخضر في كل المؤسسات العامة والمخافر وأجهزة الأمن والمدارس والمشافي في مناطق درع الفرات، وكذلك الأمر بالنسبة لصور الرئيس التركي أردوغان، وليس من المستغرب أن تجد ذلك أيضاً في المحال التجارية وعلى الزجاج الخلفي للسيارات الخاصة، وغرافيتي على الحوائط والجدران تحت شعار ”التآخي لا حدود له“، كما تخرج بشكل يومي مسيرات مؤيدة للعمليات العسكرية التركية في الشمال السوري – بتحريك من الأمن العام، وبعض التجمعات الثورية المحلية – تحمل الأعلام التركية وتهتف للرئيس التركي وللثورة وللوطن.
بواسطة Sultan Jalaby | يناير 9, 2019 | Cost of War, غير مصنف
ترك أبو غازي ذو الأربعين عاماً والأب لأربعة أطفال خلفه في حي كرم الزيتون في حمص، بيتاً مؤلفاً من ثلاث غرف يكاد يكون كل ما ملكه يوماً في سوريا ليساق نحو اعتقال دام خمسة أعوام. “جدران عارية بثقوب كبيرة وسط شارع رمادي مهشم ومهجور”، هكذا وصف له بعض المعارف حال البيت بعد خروجه من المعتقل، وقد علم أيضاً أن زيارته له الآن تتطلب موافقة أمنية يصعب على أمثاله ممن عارضوا النظام الحصول عليها، وهو ما أكده تقرير هيومان رايتش واتش الصادر في أكتوبر/تشرين الأول الماضي. يقول أبو غازي “من ثلاثة أجيال من عائلتي لم يتبق لنا في سوريا سوى ابنة عم واحدة، الجميع بات خارج البلاد، لقد فعل النظام المستحيل لتهجيرنا، هل تصدق أنه سيعيد إعمار بيوتنا ويسمح لنا بالعودة بهذه بساطة؟”.
إعادة إعمار دون حل سياسي؟
وكانت حكومة النظام السوري أعلنت أنها خصصت ٥٠ مليار ليرة سورية لإعادة الاعمار، ضمن موازنة الدولة لعام ٢٠١٩، وذلك في سياق دعاياتها المكثفة لأن “الحرب انتهت و بدأ وقت إعادة الإعمار”. ويعادل المبلغ المذكور حوالي مئة مليون دولار أمريكي تقريباً، وهو نسبة لا تكاد تذكر من الرقم المقدر لتكاليف إعادة إعمار البلاد، والذي يتجاوز ٢٥٠ مليار دولار، وفق تصريح المبعوث الخاص السابق لسوريا ستيفان دي مستورا قبل نحو عام من الآن، وبالتالي فإن “إعادة الإعمار بالموارد الذاتية” التي تروج لها أوساط السلطة وإعلامها، دون تدفق أموال إعادة الاعمار، وتدخل الاستثمارات الخارجية، سوف يستغرق مئات الأعوام.
وبحسب الباحث والخبير الاقتصادي السوري سمير سعيفان فإن دراسة البنك الدولي الصادرة في آذار/مارس قدرت حجم الركام الناتج عن القصف في حلب وحدها بـ ١٤.٩مليون طن، وهي تحتاج لـ ٢٦ مليون كم تقطعها الشاحنات للتخلص من الركام، وتستغرق نحو ٦ سنوات، وستبلغ التكاليف مئات ملايين الدولارات.
“إذاً فالمبلغ المرصود في الموازنة لن يكفي لأكثر من إزالة جزء من ركام مدينة حلب، فما بالك ببقية المحافظات كحمص وحماه وإدلب ودير الزور ودرعا وريف دمشق، وعشرات المدن والبلدات السورية الأخرى المدمرة كلياً أو جزئياً، كل ما سبق بند واحد فقط بين مئات البنود الأخرى التي تتطلبها إعادة الإعمار” يقول سعيفان.
ويحدد سعيفان مصادر تمويل إعادة الإعمار نظريا بأربعة وهي: المنح والمساعدات من الدول الغنية كالخليج والاتحاد الأوروبي ومنظمات أممية، القروض التي يمكن أن تحصل عليها الدولة السورية من دول أو من مؤسسات دولية، الاستثمارات السورية وغير السورية، وأخيراً إعادة إطلاق عجلة الاقتصاد السوري مرة أخرى. مشيراً إلى أن “النوعين الأول والثاني من المصادر يصطدمان بتعثر الحل السياسي العادل، الذي تعده الدول الغربية وحلفاؤها شرطاً للمساهمة في إعادة الإعمار، في وقت يعاني حليفا النظام روسيا وإيران من عقوبات وأزمات اقتصادية ضاغطة تمنعهما من تقديم هكذا مساهمات، لو رغبوا في ذاك أصلاً”. وبرأي سعيفان فالاستثمار بدوره يتطلب أولاً إزالة العقوبات عن البلاد، ثم حداً أدنى من البنى التحتية والاستقرار والقدرة الشرائية في السوق المحلية، “وكلها عوامل غير متوفرة” بحسب تعبيره.
ولا مصلحة للغرب في تقديم مساعدات لروسيا وإنقاذها من ورطة إعادة إعمار سوريا، ومنحها فرصة لإعادة تدوير مكاسبها العسكرية سياسياً، وبالطبع لا يسعى الغرب إلى أن تنتهي أمواله المدفوعة لإعادة إعمار سوريا في جيوب المسؤولين عن تدميرها أو أن تساهم في إعادة إنتاج جملة الأسباب نفسها التي أدت لنشوب الصراع من الأصل.
العيش مع الدمار أم تجزئة إعادة الإعمار؟
وصل أبو غازي حديثاً إلى لبنان حيث عائلته، وجد عملاً في فرن للحلويات، ويتقاضى مرتباً بالكاد يكفي لدفع إيجار منزله وسد رمق أسرته، وفضيلة لبنان بالنسبة له هي عدم تعرضه للملاحقة والاعتقال مرة أخرى، لحين إيجاد فرصة للهجرة إلى بلد آخر. قد يجد أبو غازي فرصته وقد لا يفعل، لكن ماذا عن من بقوا في سوريا؟ دمرت الحرب ثلث المساكن في البلاد بشكل كلي أو جزئي، بالإضافة لنصف المرافق الصحية والتعليمية حسب تقرير للبنك الدولي صدر منتصف 2017، فهل يحكم عليهم بالعيش مع الدمار؟ الإجابة المرجحة هي نعم، مع تعذر إطلاق عملية إعادة إعمار على المستوى الوطني، لكن على المستوى المحلي الأمر بدأ يختلف، تركيا تنفذ مشاريع بنى تحتية وخدمات ضخمة في مدن الباب وجرابلس وغيرها من مناطق النفوذ التركي المرشحة للاتساع شمال البلاد. وكذلك السعودية والإمارات ودول غربية، أعلنت منحاً بحوالي مئتي مليون دولار لدعم استقرار المناطق المحررة من تنظيم الدولة في شمال شرق سوريا الخاضعة لسيطرة حزب الاتحاد الديمقراطي حتى الآن. على ذلك يبدو أن المناطق الأقل حظاً من الموارد هي مناطق سيطرة النظام، حيث الكتلة البشرية الأكبر وكتلة الدمار الأكبر.
قد يكون لأنشطة إعادة الإعمار المحلية تلك أثر إيجابي في تحسين شروط حياة بعض السوريين في المناطق المذكورة، لكنها على المدى المتوسط والبعيد قد تنتج بنى اقتصادية مختلفة ومنفصلة في سوريا. خاصة إذا طال الاستعصاء السياسي في البلاد أكثر، وحلت أنشطة إعادة الإعمار المحلية، وإن بشكل غير مقصود، مكان عملية إعادة الإعمار الواحدة المفترضة على المستوى الوطني.
هل يمكن استمرار الوضع القائم؟
يبدو الانتقال السياسي اليوم أبعد مما كان عليه في أي وقت مضى، مع استعادة النظام السوري قوته، فهل سينجح فعلاً حل الصراع من خلال سحق أحد أطرافه؟ يقول سمير سعيفان إن “مرحلة ما بعد الحرب سوف تكون أصعب وأخطر على النظام من مرحلة الحرب ذاتها، لأنه سيكون في مواجهة القواعد الاجتماعية التي دعمته والتي تطالبه الآن بالفرص وبتحسين حياتها، وبالنسبة للروس أيضاً، عدم إطلاق عملية لإعادة الإعمار سيجعل (نصرهم) في سوريا أسوأ من الهزيمة ذاتها”. ويقول محمد صبرا بشيء من التفاؤل “نحن ذاهبون نحو صيغة من الانتقال السياسي قد تنجح خلال سنة أو سنتين وقد تفشل، لا نعلم، لكن المؤكد هو أن المشهد بتركيبته الحالية لن يستمر طويلاً”.
وبينما نترقب تفاهمات الدول الإقليمية حول مستقبل سوريا، المزيد من السوريين يفقدون الأمل، أبو غازي يقول: “لقد تركت لهم البلاد ليفعلوا بها ما يشاؤون ولن أفكر بالعودة أبداً”، مُذكراً بأن الدمار في سوريا لم يقتصر على الاقتصاد والبنى التحتية، بل امتد ليكون دماراً بشرياً واجتماعياً، طال علاقة الفرد بموطنه والمفاهيم والقيم المؤسسة للدولة.
بواسطة الحسناء عدرا | يناير 9, 2019 | Cost of War, Culture, Reports
خرجت رزان (28 عاماً) من كنف مجموعة “القبيسيّات”، خلعت مانطوها الكحلي، مُبقيةً على حجاب الرأس رغماً عنها، ومع المانطو انتزعت “آخر انتماء دينيٍ أو طائفيٍ لتكتفي بالإنسانية وحدها كهوية أصيلة”، بحسب تعبيرها. وتعرف رزان عن نفسها بأنها “لا دينية أو لا أدرية، حيث لا أؤمن بالديانات السماوية جميعها، ولا أملك الأدلة الملموسة لوجود الله أو عدمه”. فقد أضرمت الحرب نار شكوك رزان حول العدالة الإلهية، تقول الشابة ” بدأت أتساءل عما إذا كان الله عادلاً، ولماذا يسمح بوقوع هذا الكم الهائل من الموت؟ وما الحكمة من وراء هذا الاختبار الشاق، سوى المزيد من البؤس والألم؟ ولماذا اختار لنا هذا المصير بينما هو قادر على تغييره؟”
وأعطت الحرب أيضاً فرصة لرزان لتكتشف الهوة الدينية بين ما تدعو له جماعة “القبيسات” التي تدّعي تمثيل الدين الصحيح، وبين المذاهب الدينية الآخرى، حيث فتح لها العمل التطوعي والمجتمعي الذي بدأته الشابة عام ٢٠١١ أبواباً جديدة لم تألفها.
تقول رزان “أتاح لي العمل التطوعي الفرصة لمقابلة أناس من مختلف المذاهب والأديان، ممن لم أكن أعرف بوجودهم، بسبب الخطاب الديني الأحادي لجماعة القبيسيات حينما كنت من المريدات لهن، فالجماعة متقوقعة على ذاتها وتحجب الرؤية عن الآخر. بالإضافة إلى أنني كنت أتساءل عن سبب هالة القدسية حول الشيخة، التي تتحول إلى وسيط إلهي بين الطالبات وربهن، مع ضرورة رضوخنا لتقديم فروض الطاعة العمياء لها والخوف من غضبها، عدا عن الصدّ الدائم لأي استفسار ديني يصدر مني، وتهديدي بالحرمان من مباركتها”.
إضافة للعمل التطوعي، شكلت النقاشات الدينية والرؤى المختلفة التي وفرتها وسائل التواصل الاجتماعي نقطة تحول لرزان نحو اللاتدين، “فقد سهل الإنترنت وغرف الدردشة عبر وسائل التواصل الاجتماعي التعرف على نماذج مختلفة من الأشخاص من كافة التوجهات والطوائف، وفتح الباب للنقاش أمام التفسيرات المتعددة للنص القرآني، وتقديم رؤى متنوعة عن بنية الكون ونشأته وتكوينه وتطوره” تشرح رزان.
أما منار (35 عاماً) الذي شبَ في حي القميرية أحد أحياء دمشق القديمة فقد أعلن إلحاده صراحة عام ٢٠١٤، قافزاً من ضفّة التدين الملتزم التي كان فيها، يقول منار: “أنا الآن لا أؤمن بوجود الله حتى يثبت العكس، و لم أصبح ملحداً بين ليلة وضحاها، إنما استغرق الأمر سنوات عديدة من البحث والقراءة، رافقها حوادث تراكمية وقعت خلال سنوات الحرب، إلى حين وُضعت أمامي معطيات ومعلومات قذفتني إلى عكس التيار الذي كنت أعوم فيه، إذ كنت ملتزماً دينياً شغوفاً، وكنت إقصائياً لا أتقبل اختلافات الآخرين الدينية وتفسيراتهم المغايرة لي، مؤمناً دوماً بصحة معتقداتي الدينية.”
شكل عام ٢٠٠٩ نقطة انعطاف لمنار نحو التشكيك في الدين، حيث وجد الشاب في غرف الحوار بين الأديان منفذاً لعرض أفكاره الدينية والتمترس خلف البراهين الدينية الجاهزة لمحاججة الآخر المختلف. يحكي منار كيف دخل في “مبارزة فكرية” مع فتاة سورية مسيحية مقيمة في أمريكا، “كانت غرف حوار الأديان فرصة لممارسة الدور التبشيري الإسلامي، فتعرفت على جميلة واستمر نقاشنا لمدة عامين، فكان كلانا يبذل قصارى جهده لإقناع الآخر بدينه وإشهار حججه الدينية إزاء مواضيع شائكة كالاختلاط والحجاب وتفاسير الآيات القرآنية، والعلاقات الجنسية قبل الزواج، ومقارنة القرآن الكريم بالإنجيل وإذ بها توجه لي سهام الأسئلة التشكيكية التي كانت تراودني وأقابلها بسوط النهي لئلا أتهم بالتعدي على الذات الإلهية، وأحياناً أجيب عليها بقوالب جاهزة دون براهين لأبدأ بعدها رحلة البحث عن الحقيقة.”
علاقة الحرب بالإلحاد
أما الحدث المفصلي الذي مهدّ لترك منار للدين والإيمان، فكان في شباط/فبراير عام ٢٠١٢ حينما استيقظ ليجد قرابة ألفي عنصر من جبهة النصرة يؤدون صلاة الفجر في الشارع، لتتوالى بعدها الخطب الدينية وفتاوى القتل والدعوات الجهادية والتكبيرات. يقول منار “على إثر ذلك قررت عائلتي الرحيل من الحي والنجاة بأرواحنا، وفي طريق الخروج تعرّضت سيارتنا لسبع رصاصات دون أن تسفر عن إصابات ونجونا بأعجوبة.” تزامنت هذه الحوادث المتراكمة مع تبحره في تاريخ الأديان والتاريخ، و نضجت وجبة شكوكه الدسمة على موقد الإسلاميين المتطرفين فبات يتساءل كيف يمكن لشخص يؤمن بالله ورسوله أن يدعو لقتل الآخر في آن معاً؟ أليس الله بقادرٍ على وضع حدٍ لهذه الحرب و إيقاف نزيف الدماء والأرواح التي زهقت ظلماً وبهتاناً؟
لم تكن الحرب سبباً أساسياً لتوجه محمد نحو (اللادينية ـ اللا أدرية) إلا أنها هيأت له الجو خلال السنة الثانية من اندلاعها للإفصاح عن اعتقاده القائل بأنه “لا يوجد دليل قاطع فيما يخص قضية وجود إله من عدمه” بحسب تعبيره. فالأمر بالنسبة لمحمد يعود إلى طبيعته التشكيكية، والغوص في المصادر التاريخية والعلمية واكتشاف حجم التعارض بين الدين و العلم، إذ يقول الشاب “العلم يقدم رؤية عميقة مدعومة بالأدلة الدامغة تجاه ظواهر جدلية كخلق الإنسان وعملية التطور وكروية الأرض وعمر الكون، في حين يقدمها الدين بطريقة عاطفية وبسيطة مكتفياً بنسبها إلى الله فقط دون براهين.”
يُصر محمد الذي يعمل في مجال التصوير والإخراج على ضرورة وضع تعريف دقيق لـ”الله” وتسميته بوضوح قبل أن يجيب على السؤال “هل تؤمن بالله أو لا؟” فباعتقاد الشاب أن هذا اللفظ اتخذ أشكالاً متطورة لدى العديد من الشعوب وصفات وتسميات متعددة عبر التاريخ، ما يرجح أن تعدد الآلهة هو فعل محض للشعوب موضحاً بنبرة احتجاجية “لايوجد إجماع عام وموحد حول الله فلكل دين سماوي أو أرضي إلهه. هذا التعدد في الآلهة في تاريخ الشعوب ينفي فكرة وجود تعريف موحد عن الله ويستدعي ضرورة توصيفه على نحو دقيق.” ويعقب قائلاً “باعتباري لا أؤمن بأي دين أو عقيدة ولأن العقيدة الإسلامية ترتكز على الإيمان بالله فهذا يجعلني تلقائياً شخصاً لا أؤمن بالإله الذي تعبده هذه الديانة.”
من جهته يرى باسيل أن الحرب ليست إلا مناخاً هيأ لتحرر بعض الشباب من الدين، بعد أن وجدوا فيها فرصة للتعبير عن رأيهم، ويقول” تسببت الحرب بخلق حالة من غياب الرقابة والمحاسبة الدينية والاجتماعية، فالأشخاص الميّالون نحو اللا دينية ولديهم الرغبة في التعبير عن رأيهم، وجدوا في الحرب فرصة سانحة للإفراج عن الأفكار المحظورة في مجتمع متدين، باعتبار أن الطاسة ضايعة،” مؤكداً أن الممارسات التي بدرت من التنظيمات الدينية المتشددة التي نشأت أثناء الحرب هي التي دفعت الشباب للابتعاد عن الدين.
كذلك كانت علاقة ياسر (32 عاماً) مع الأديان علاقة مشبوهة منذ المراهقة، إلا أن الحرب عززت هذه الشكوك لتضعها في دائرة اليقين، فيعرف الشاب عن نفسه بأنه لا يؤمن بالأديان لكنه يؤمن بوجود الخالق، ويوضح قائلاً “أرى أن الأديان الإبراهيمية ليست إلا من صنع البشر نتيجة التمايزات الطائفية في الدين الواحد، والتباينات الواضحة بين الأديان الثلاثة.” كرّس اتكاء الحرب على عكازة الدين لدى ياسر هذا المفهوم “فتجيير الدين في الصراعات السياسية -لما له من سلطة عليا في البلدان المتدينة- ساهم في ترسيخ القناعة القائلة بأن الأديان هي فعل ارتكبه البشر، فكيف نفسر حالة التجييش الديني والطائفي في الحرب وضلوع رجال الدين المتشددين في استقطاب المقاتلين والجهاديين من جميع أنحاء العالم بعد أن تمت أدلجتهم على الإرهاب والتكفير والقتل؟ ناهيك عن المفارقة الأزلية التي تحوم حول الدين فتراه يحرم الخمر على الأرض، في حين يبيحه بل ويبشر به في الجنة والأمر ينطبق على الجواري في الوقت الذي تعتبر العلاقة الجنسية بين الرجل والمرأة خارج إطار الزواج زنا.”
الأهل بين القبول على مضض والنبذ
ينتمي ياسر لمجتمع متدين ومحافظ، حيث كان جده من جهة والدته شيخاً قديراً في إحدى قرى مصياف التابعة لمحافظة حماه، ولذا حرص على عدم مضايقة أهله، وتفهم عدم تقبلهم لأفكاره الجديده، فاستمر بتأدية بعض الواجبات الأقرب إلى الاجتماعية منها إلى الدينية.
منار من جهته أخبر أسرته بأمر إلحاده، ولم تقطع علاقتها به، بل تقبلته “على مضض” كما يصف دون أن يتدخل أحدهما بالآخر، فيما تدعو أسرة محمد، المتدينة التي تنحدر من قدسيا، له بالهداية “والعودة إلى الصراط المستقيم”، ومازالت تجمع بينهم الزيارات العائلية والاتصالات بعد أن استقل عنهم.
إلا أن رزان تواجه خطر النبذ والقطيعة والرفض القاطع فيما لو عرفت أسرتها المحافظة المنحدرة من الصالحية، أنّ ابنتهم قد رفضت القيود الدينية وتفضل “عيش حياتها” وفق مفاهيمها الخاصة على أن تتحمل العواقب الوخيمة لمصارحتها، وتقول: “تناول مثل هذه النقاشات المشككة بالمسلمات الدينية في المنزل أمر مستبعد ومرفوض كلياً، وسيعرضني حتماً للكثير من الصراعات والمتاعب لذلك أتكتم عن رأيي وأحاول العيش وفق مفاهيمي الخاصة.” غير أن فسحة التعبير عن الآراء الدينية الحبيسة في المنزل يتم الإفراج عنها مع بعض الأصدقاء المنفتحين على الآخر “دون محاسبة أو صدامات عنيفة” كما تقول.
ربط الأخلاق بالدين فقط
“أول تهمة تلصق بي كملحد، هي أنني لن أمانع أن أمارس الجنس مع أمي أو شقيقتي، وهذا الأمر مرفوض كلياً وغير صحيح، فسواء كنت أؤمن بالله أو لا، فلن أفعل ذلك لاعتبارات جينية وأخلاقية وضعتها بنفسي لنفسي، وإن كان الدين وحده هو المصدر الوحيد للقيم الأخلاقية، كيف نفسر اغتصاب بعض الشيوخ للأطفال، واستغلالهم جنسياً للنساء، وتعدد العلاقات الجنسية للرجل المسلم المتزوج مع العلم أن دينه يسمح له بأربع زوجات؟” يقول منار.
أما بالنسبة لياسر فإنه يتفهم نظرة المجتمع له، عازياً السبب إلى أن الناس يرفضون بالفطرة كل من يناقش المسلمات الدينية أو يتجرأ على الخوض بها متخذين أحكاماً مسبقة عنه، وبناء عليه يرون في اللاتدين على أنه يمثل ممارسة مباحة لكل ما هو مشتهى مقموع بسوط الدين. فيما ترفض رزان فكرة احتكار الدين للمنظومة الأخلاقية بوصفه المنبع الوحيد للقيم، إنما هي المبادئ الخاصة التي يحددها الشخص لنفسه قائلة “لا يوجد رابط بين الدين والأخلاق، فأن تكون متديناً لا يجعل منك أبداً شخصاً أخلاقياً والعكس صحيح، فبالنسبة لي أتبع المبدأ القائل لا ضرر ولا ضرار كممارسة يومية في التعامل مع نفسي ومع الناس عامة “.
بواسطة Hadia Al Mansour | يناير 7, 2019 | Cost of War, غير مصنف
“مررت بفترة لم أذق فيها طعم النوم لخوفي من تعرض محلي للسرقة، فهو مصدر رزقي الوحيد، ومنذ عدّة شهور ونحن نسمع عن هذه الحوادث المتكررة من سرقات وخطف وقتل، إلا أنني اليوم أنام قرير العين” يقول وليد الخضر (39عاماً) وهو من أهالي مدينة أريحا، الذي أصبح يشعر بالأمان بعد تطوع عدد من شبان مدينته لحراستها ليلاً.
وتعاني مناطق سيطرة المعارضة في الشمال بشكل عام، وأريحا خاصة، من الانفلات الأمني وعمليات خطف وسرقة وقتل شبه يومية، مما دفع شباب وناشطي المدينة لإطلاق مبادرة تحت اسم “نبض أريحا” لتشكيل فرق حراسة لها، بهدف الحد من الجرائم الحاصلة.
عن الوضع قبل وبعد هذه المبادرة يقول الخضر “انتشرت الجرائم وعمت الفوضى وسط الحرب القائمة، ونتيجة ضعف الوجود الأمني في المنطقة، وتكررت حوادث السرقات والاغتيالات حتى أصبحنا لا نأمن على أنفسنا وأموالنا في دارنا، إلا أن الأمر أصبح أفضل بعد المبادرة الشبابية، فقد أعادوا لنا بعضاً من الأمان”.
أبو وسام (40عاماً) وهو مالك لمحل تجاري في المدينة أكد ما قاله الخضر، مشيداً بالمبادرة واعتبرها “خطوة إيجابية على طريق نشر بعض الأمن والأمان في المنطقة” ويرى أبو وسام أنه “يكفي للمجرم أو السارق أن يعلم بأن المدينة ليست سائبة، وأن هنالك من يسهرون الليل من أجل أمنها وأمانها، ليتراجع عما ينوي القيام به”.
ولم تؤثر “نبض أريحا” على حياة التجار فقط، وإنما على أهالي المدينة بشكل عام، فبالنسبة لأم وائل (39عاماً) أعطتها المبادرة الأمان لتتحرك بحرية أكبر، فهي تقول “كنا سابقاً نخشى الخروج ليلاً لأي سبب كان، نظراً لانعدام شعورنا بالأمان وسط حوادث الخطف والسرقة، لكننا اليوم بتنا نخرج ليلاً ونزور أقرباءنا وأصدقاءنا دون خوف”.
وعن أهداف “نبض أريحا” يتحدث منسقها الذي فضل عدم ذكر اسمه قائلاً “هدفنا تأمين الحراسة لمدينتنا، وضبط حالات السرقة والخطف قدر الإمكان، وذلك من خلال نقاط الحراسة المنتشرة في الشوارع الرئيسية والفرعية والأسواق”، وتبدأ مناوبات الحراسة بعد غروب الشمس لتنتهي بشروقها، ويقوم بهام الحراسة مئة شاب ممن يجدون صعوبة بإيجاد عمل، فالمبادرة، “فالمبادرة تهدف أيضاً لتأمين فرص عمل للمحتاجين إضافة لحماية المدينة” بحسب المنسق.
وتمكنت المبادرة حتى الآن من ضبط العديد من حالات السرقة، كما لعبت دوراً بالإيقاع بعصابات تحاول اختطاف المدنيين من أجل طلب فدية مالية، وافشال محاولاتهم.
أما تمويل المبادرة فهو ليس ثابتاً حتى الآن، إذ يتم جمعه عن طريق تبرعات من التجار وأصحاب المحال تتراوح بين ألف وألفي ليرة سورية من كل محل شهرياً.
وعن تبرعه يقول أبو وسام “أنا أؤيد دفع التجار لهذا التبرع، فكلنا مسؤولون ومعنيون بحفظ الأمن، ولا يجب أن يتنصل أحداً من واجباته”.
أحد المتطوعين في “نبض أريحا” سليمان الآغا (25عاماً) يتحدث عن دوافع انضمامه للمبادرة قائلاً “أشعر بالمسؤولية اتجاه مدينتي، فإن لم نساهم نحن الشباب بحمايتها والذود عنها من سيفعل ذلك؟، وخاصة مع تكرر الجرائم فيها وانتشار الفوضى، أهلنا لا يستطيعون تحمل المزيد من المعاناة وكان علينا أن نتصرف للحد منها”. ويروي الآغا إحدى السرقات التي ساهم بضبطها خلال مناوبته “كنا نتجول في شوارع المدينة حين سمعنا حركة في أحد المحلات المُعتمة، اتجهنا نحو المحل لنكتشف تسلل اللصوص داخله، فهاجمناهم وقبضنا عليهم جميعاً بمساعدة عناصر الشرطة الحرة”، وينوه الآغا أن هذه محاولات السرقة هذه تكررت وتم إفشال معظمها.
رئيس المجلس المحلي لمدينة أريحا أسامة جقمور (30عاماً) قال عن المبادرة “إنها تسعى لزيادة التكافل المجتمعي، وتخفف من نسبة البطالة، من خلال تسخير طاقات الشباب العاطلين عن العمل للحراسة الليلية في شوارع المدينة، ما ينشر الأمان للمارة والسكان ويحد من الفوضى المنتشرة”.
ويشير الجقمور إلى أن المجلس المحلي يحاول لفت الأنظار للمبادرة لتأمين دعم مالي ثابت لها يحميها ويضمن استمراريتها. مضيفاً “المبادرة لا تتبع لنا، إلا أن إحساسنا بواجبنا اتجاهها يدفعنا لعمل ما نستطيع لمسادعتها على الاستمرار وتأمين رواتب ثابتة لشباب المبادرة، ولو أن في المجلس المحلي موارد مالية لكنا أول من يتدخل في سبيل ذلك”.
وتعمل “نبض أريحا” باستقلالية، فهي لا تتبع للمجلس المحلي ولا لأي فصيل عسكري أو جهة أخرى، وإنما هي مبادرة مدنية أهلية حتى الآن، وتقوم المبادرة بالتنسيق مع الشرطة الحرة المتواجدة في المدينة من خلال جهاز لاسلكي موجود في نقاط الحرس، إذ يتم طلب دعمهم والمؤازرة في حال ملاحظة أي أمر مثير للشبهات.