الوظائف الحكومية: الرمد أفضل من العمى

الوظائف الحكومية: الرمد أفضل من العمى

“كان راتبي قبل الحرب١٠ آلاف ليرة سورية، أي ما يعادل وقتها ٢٠٠ دولار، كنت أدفع منها ٣ آلاف أجاراً لغرفتي، وأعيش بالباقي على مستوىً جيد، اليوم راتبي ٤٠ ألف ليرة أي ٥٠ دولار تقريباً، وهو لا يكفي لدفع بدل الإيجار والمواصلات، حتى أنني مضطر للعمل بعد الدوام لأتمكن فقط من الأكل والشرب. لا أدري كيف تستطيع العائلات أن تتدبر أمورها في ظل هذه الظروف!” يقول محمد، وهو موظف في الثلاثينات من عمره يعمل كمراقبٍ فني في مؤسسة حكومية.

ورغم انخفاض رواتب القطاع العام وصعوبة الأوضاع الاقتصادية بالإضافة لتدني القدرة الشرائية لليرة السورية، مازال العديد من السوريين يقبلون على مسابقات التقدم للوظائف الحكومية، ومن يرى أعداد المتقدمين لإحدى مسابقات التوظيف لا يمكن أن يصدق أنّ الناس تتدافع من أجل راتبٍ زهيدٍ.

يتحدث رائد عن تجربته بعد دراسته الجامعية ويقول: “تخرجت من الجامعة كمهندس ميكانيك، وحاولت خلال عامٍ كاملٍ أن أجد عملاً لي ولكن دون جدوى، فالمصانع والمعامل التي كانت فيما مضى تشكل فرصة جيدة لنا أقفلت أبوابها ولم يبق منها إلا القليل، عدا عن أنّ دول الخليج التي كان تؤمن فرص عملٍ جيدة قبل سنوات الحرب قد منعت سفر السوريين إليها. لذا لم يبق أمامي من طريق سوى الوظيفة الحكومية والتي على الرغم من كل مساوئها تبقى أفضل من البقاء بلا عمل.”

ويتعامل السوريون مع الوظيفة الحكومية على نحوٍ لايخلو من التناقض والتباين، فبعضهم يرفضها لأسباب سياسية، أو لأخرى تتعلق غالباً بمقدار الراتب الشهري  والذي يعتبر متدنياً جداً، وخصوصاً في السنوات التي تلت اندلاع الصراع حيث انهارت العملة بشكلٍ كبيرٍ، مما جعل الرواتب مثار سخريةٍ لدى الكثير من الناس حيث يعلق البعض أنّ راتبهم لا يكفي حتى لشراء حذاء.

فيما يعتبر البعض الآخر الوظيفة الحكومية حلماً يسعى لتحقيقه بعد تفاقم حدّة الفقر وتقلص عدد فرص العمل مع خسارة العديد من المنشآت والمصانع والقوى العاملة والخبرات جراء سنوات الحرب الطويلة، جعل هذا من البطالة أزمةً متفشيةً، تدفع الشباب للإقبال على الوظائف الحكومية باعتبارها مصدر دخلٍ شهري ثابت. كذلك تقدم الوظائف الحكومية ميّزات لعل أهمها المعاش التقاعدي، الذي يراه الكثيرون “سلاحاً لمواجهة الشيخوخة وغدر الزمان” على حد وصف أبو أحمد.

ويروي أبو أحمد “تطوعت في الجيش أواخر ستينيات القرن الماضي برتبة ضابط، وكان معاشي وقتها ٤٠٠ ليرة (ما يعادل ألف دولار حينها)، وشكل تطوعي في الجيش نقلة نوعية في اقتصاد العائلة التي كانت تعمل بالزراعة طيلة العام دون أن تتمكن من ادخار أي شيء. تنازلت عن حصتي من الأرض لأخوتي ظناً مني أن الراتب سيكفيني لأعيش حياة كريمة جيدة، ولكن بعد كل تلك السنوات لا أملك شيئاً سوى راتبي التقاعدي لأعتاش منه.”

ولم تعد الوظائف الحكومية حلماً فقط عند البعض، بل أصبحت تتدخل بشروط الزواج، كإعلان طريف نشر رائد على صفحته على الفيس بوك منشوراً كتب فيه: “مطلوب عروس، لا يهم العمر والمواصفات، شرط أن تكون موظفة ولم تأخذ قرضاً من الدولة.” وفي الحقيقة تغيرت الأولويات عند العديد من الشباب السوريين وأصبحوا يفضلون الزواج من نساء موظفات تساعدهم في تحمل مصاريف الأسرة. يذكر شادي كيف تغير موقفه من عمل زوجته قبل وبعد الحرب فيقول “قبل الحرب كان عملي في ورشة النجارة جيداً، ويكفيني لأعيش حياة مستقرة، لم يكن هناك حاجة لعمل زوجتي خارج المنزل وخصوصاً بعد أن أنجبنا طفلين حيث أمضت وقتها في العناية بهما وبشؤون المنزل. ولكن في ظل الظروف المعيشية القاسية التي تمر بها البلاد، أصبح من الضروري أن تعمل زوجتي لنستطيع تأمين مصاريفنا المتزايدة وخصوصاً بعد أن أصبح أطفالنا في المدارس وزادت متطلباتهم وحاجياتهم”، ويضيف شادي “لم أكن متحمساً فيما مضى لعمل زوجتي، وبالذات في الوظائف الحكومية، لما فيها من صعوبة في التوفيق بينها وبين رعاية الأطفال عدا عن السمعة السيئة للدوائر الحكومية وما فيها من فساد ومحسوبيات ومشاكل بين الموظفين، لكننا اليوم نسعى لإيجاد وظيفة حكومية لها، فرغم تدني الراتب إلا أنه سيشكل دعماً جيداً لعائلتنا.”   

لم تغّير الحرب وجهة نظر شادي فحسب، وإنما غيّرت أيضاً النظرة الاجتماعية للوظيفة بشكل عام. فقبل الحرب كان الموظفون يُعتبرون ضمن الفئات الفقيرة بين شرائح المجتمع، ممن لا يمتلكون أعمالاً خاصة أو أملاكاً شخصية، في الوقت الذي كان فيه أصحاب المحلات البسيطة يربحون في اليوم ما يعادل راتب شهر كامل للموظف. وبعد أن كانت الوظيفة الحكومية تُصنف في أدنى السلم الاجتماعي والمهني قبل سنوات الحرب، اختلفت المعادلة بشكل كبير بعدها وبات الراتب المضمون في نهاية كل شهر ميزة ممتازة في ظل تفاقم الفقر والبطالة، مما عزز من مكانة الموظف اجتماعياً. فلم يعد يُنظر له بوصفه ذاك الساذج أو عديم الطموح بسبب اختياره الوظيفة الحكومية بدلاً من الأعمال الحرة، بل أصبح محظوظاً وحكيماً في خياراته.

اليوم ومع وجود أكثر من مليون موظف، لا تزال الوظيفة الحكومية بالنسبة للعديد من السوريين مجرّد بطالةً مقنعة، فما الجدوى من أن تهدر قدراتك ووقتك في عملٍ لا فائدة منه ولايُطور أو يستثمر خياراتك، ولا يمكن الاعتماد عليه لبناء حياة كريمة، ولكن مع الظروف الجديدة والوقائع التي فرضتها الحرب تغيرت المقاييس والقواعد، فصحيح أنّ الرواتب لا تُسمن، إلا أنها هذه المرة  تغني عن الجوع.

نصيب السوريين من المعبر

نصيب السوريين من المعبر

ترافقت الحرب العسكرية في سوريا مع أخرى اقتصادية شملت العقوبات الاقتصادية الدولية المصرفية والتجارية، وإغلاق المعابر الحدودية مع دول الجوار، وانعكست على السوريين على عدة أصعدة كتسليم الحوالات المالية بالعملة المحلية حصراً ومنع تداول الدولار سواء للبيع أو الشراء. وأدى إغلاق المعابر الحدودية إلى ضرر اقتصادي كبير على سوريا، كما شكلت تلك المعابر عاملاً بارزاً في ميزان الحرب السورية، من ناحية تأمين السلاح، ونزوح السوريين إلى دول الجوار، وإدخال المساعدات الإنسانية إلى سوريا.

ومن المعابر التي تربط سوريا مع تركيا معبر كسب في محافظة اللاذقية، معبر باب الهوى في محافظة ادلب، معبر جرابلس ومعبر باب السلامة في منطقة اعزاز في محافظة حلب، معبر تل ابيض شمال محافظة الرقة، ومعبر راس العين ومعبر نصيبين ومعبر عين ديوار في محافظة الحسكة. في حين تربط سوريا مع لبنان خمسة معابر وهي: جديدة يابوس، والدبوسية، وجوسية، وتلكلخ والعريضة في طرطوس. أما المعابر التي تربطها مع العراق فهي: معبر اليعربية في محافظة الحسكة ومعبر البوكمال في محافظة دير الزور ومعبر التنف جنوب دير الزور. كما لدى سوريا مع الأردن معبران هما: معبر نصيب الحدودي الذي يسمى جابر من الجهة الأردنية في محافظة درعا، ومعبر الجمرك القديم في درعا (الرمثا).

ومع انحسار مظاهر الاقتتال العسكري على الأراضي السورية، بدأت بعض المعابر تفتح أبوابها مع سوريا، أولها معبر نصيب الحدودي بين سوريا والأردن. وكانت قوات المعارضة سيطرت على هذا المعبر في نيسان/أبريل عام ٢٠١٥، لتستعيده قوات النظام بدعم روسي في ٧ تموز/يوليو هذا العام، مما شكل متنفساُ جديداً للحياة الاقتصادية بين سوريا والأردن نظراً لأهمية المعبر، الذي يصنف بأنه من أهم وأبرز المعابر الحدودية في الشرق الأوسط. ونص اتفاق فتح المعبر على أن يكون عمل الحدود بكلا الدولتين من الساعة الثامنة صباحاً حتى الرابعة مساءً، ويسمح للمواطن الأردني بدخول سوريا بسيارته الخاصة أو كمسافر عادي.  ويسمح للأردني المقيم في سوريا بالدخول للأردن عبر المركز الحدودي، كما يسمح للسوري المقيم بالأردن أو دولة ثالثة بالسفر لسوريا عبر المركز الحدودي. أما بالنسبة للسوري القادم للأردن من سوريا، فيسمح له بالدخول بعد حصوله على موافقة أمنية مسبقة، مثلما يسمح للسوري القادم للأردن ترانزيت بالمرور، على أن يكون حاصلاً على إقامة او تأشيرة دخول للدولة المسافر إليها او القادم منها.

يصف رائد حمود مهندس معماري من محافظة درعا معاناته خلال السنوات الماضية بمغادرة سوريا عبر معبر نصيب قائلاً: “فشلت محاولاتي خلال سنوات الحرب لدخول الأردن بشكل نظامي، فالعوائق كانت كبيرة، ومع إعادة افتتاح المعبر تفاءلت بأن تعود الأوضاع إلى ما كانت عليه قبل الحرب، لكن الاتفاق كان واضحاً بأن إعادة افتتاح المعبر لا نصيب لنا فيه، حيث لم يتضمن الاتفاق عودة العلاقات السياسية، وبالتالي يحتاج سفر السوريين لموافقات أمنية تحتاج الكثير من الوقت لإصدارها”.

ويسمح للسوري الحاصل على بطاقة مستثمر بالدخول، بدون موافقة مسبقة ويسمح له بإدخال سيارته الخاصة، كما يسمح لسائقي السيارات السورية العمومي بالدخول للأردن لنقل المسافرين دون موافقة مسبقة. وبالنسبة لحركة الشحن، يسمح للشحن الأردني بالدخول لسوريا حسب الاتفاقية الأردنية -السورية، كذلك يجيز الاتفاق للشحن السوري القادم للأردن بالدخول، بعد اتخاذ إجراءات التفتيش المطبقة.

يقول مازن علوان الذي يعمل بالتجارة: “منذ اليوم الأول لافتتاح المعبر، دخلت عدة شاحنات أردنية إلى سوريا، قامت بنقل البضائع إلى الأردن، واتجهت إلى السعودية محملة بالمواد والسلع الغذائية والحمضيات وبمواد تنظيف والكيماويات، وهذا العمل التجاري يشكل متنفساُ للتجار السوريين الذين عانوا من الحصار خلال الحرب، حيث أصاب البضائع والمنتجات السورية حالة كساد، تسببت بخسائر اقتصادية جمة دفع ثمنها التجار السوريون”.

أهمية المعبر للاقتصاد السوري

شكل إغلاق المعبر ضربة قوية لاقتصاد سوريا حيث قدرت خسائر إغلاقه بحوالى ١٠-١٥ مليون دولار يومياً، وبحسب البيانات الرسمية المتعلقة بالحركة التجارية للمعبر، قدر عدد الشاحنات التي غادرت سورية إلى الأردن خلال عام ٢٠١٠- عدا شاحنات الترانزيت- نحو ٤٤٢٥ شاحنة، فيما سجلت الصادرات السورية في العام نفسه ١١٠٠ مليون طن بقيمة قاربت ٣٥ مليار ليرة، ووصل حجم المستوردات ١١٤١ مليون طن بقيمة ٤٧ مليار ليرة. أي أن قيمة المبادلات التجارية للمعبر قاربت ملياري دولار وفقاً لسعر الصرف المعمول به في عام ٢٠١٠ الذي كان يعادل قرابة ٥٠ ليرة سورية. أما في عام ٢٠١٤ حتى تاريخ إغلاق المعبر في نهاية شهر آذار/مارس عام ٢٠١٥ فقد انخفض حجم الصادرات إلى ٣٤٠ ألف طن بقيمة ٢٧ مليار ليرة سورية، أي إلى الثلث تقريباً عن عام ٢٠١٠، كما هبط حجم الواردات إلى ٤٦٠ ألف طن بقيمة ٧٨ مليار ليرة، علما أن سعر صرف الدولار أصبح يعادل ٣٠٠ ليرة.

أما عن حركة المسافرين، فوصل عدد المسافرين عبره إلى سورية في فصل الصيف إلى ١٥ ألف مسافر يومياً من السوريين القادمين بقصد الزيارة ومن الخليجيين والأردنيين بقصد السياحة في سورية، إضافة إلى عبور حوالي ٤ آلاف تكسي تعمل بتحميل ونقل الخضار والفواكه وغيرها من سورية إلى الأردن. وللمعبر قيمة مضافة تتمثل بوجوده قرب المنطقة الحرة السورية-الأردنية المشتركة، والتي تشكل منطقة تجارية وصناعية للشراكة بين الحكومتين وهي تضم عشرات المعامل ومعارض السيارات ومكاتب لخدمة العابرين، ويتم تنزيل البضائع في المنطقة الحرة لإعادة تصديرها للعراق والأردن والخليج.

من الناحية اللوجستية، أدى إغلاق المعبر للبحث عن طرق بديلة لتصدير المنتج السوري عبر البحر والجو، مما حمل الاقتصاد السوري كلفاً مادية باهظة إضافة للوقت، حيث يستغرق طريق البحر لنقل الصادرات إلى الأردن عبر مرفأ اللاذقية وطرابلس اللبنانية إلى العقبة ثم عمان قرابة ٤٠ يوماً، أما النقل جواً فإن الوقت المقدر لوصول السلع إلى الأردن بعد المرور من بيروت يقدر بقرابة ٤ أيام، في حين يستغرق النقل يوماً واحداً من خلال معبر نصيب. وبشكل عام أدت الحرب لتناقص الصادرات السورية لدول العالم بنسبة ٧١٪ عام ٢٠١٢، من ٨ مليارات دولار إلى نحو ٢ مليار دولار، وبعد إغلاق المعبر عام ٢٠١٥ زاد الإنخفاض من مليار دولار إلى نحو ٨٤٣ مليون دولار، لتصبح ٦٨٦ مليون فقط عام ٢٠١٧. واتسم الميزان التجاري بالعجز كسمة عامة طوال الأعوام الماضية، نتيجة لانخفاض حجم الصادرات والواردات عمّا كانت عليه قبل عام ٢٠١١ وبلغ الميزان التجاري حده الأدنى في عام ٢٠١٦ لحوالي ٤ مليارات دولار.

الوضع المعيشي بعد المعبر

اعتبر بعض السوريين إعادة فتح المعبر خطوة نحو التعافي الاقتصادي، فيما رأى آخرون أنه رصيد جديد من المال يضاف لحسابات التجار الذين أثقلوا كاهل المواطن السوري برفع الأسعار خلال سنوات الحرب. يرى سعد عتمة الطالب في كلية الاقتصاد بجامعة دمشق بأن إعادة فتح معبر نصيب الحدودي “خطوة اقتصادية جيدة للبلدين، لكن الفائدة الأولى هي للتجار ورجال الأعمال الذين سيتمكنون من تصدير بضائعهم وتوريد احتياجاتهم، في حين أن المواطن السوري لن يشعر بالفرق ولن ينعم بفوائد هذا الانفتاح”، ويضيف عتمة “على العكس، مع مضي الوقت ستعاود الأسعار ارتفاعها، نتيجة تصدير البضائع السورية إلى الأسواق العربية عبر الأردن، مما سيساهم بانخفاض القدرة الشرائية لليرة السورية”.

أما سناء ملحم المحامية والناشطة بالعمل الإنساني فوقع خبر إعادة فتح المعبر عليها “كالصاعقة” بحسب وصفها، وتشرح السبب بقولها “إعادة افتتاح المعبر لن يحسن من الوضع المعيشي والإنساني للسوريين المتواجدين في مخيم الركبان، والذي يعد مأساة وكارثة إنسانية لا يمكن السكوت عنها، لا قيمة ولا منفعة لأي اتفاق اقتصادي مع أي دولة، طالما هناك سوري يعاني الجوع والفقر والمرض والبرد في مخيم تابع لدولة لا تملك أدنى مقاييس الإنسانية بحق من لجؤوا إليها”، وتتساءل ملحم “هل يعقل أن يدخل الأردني دون فيزا بعكس دخول السوري إلى الأردن؟ لذلك لا بد أن يكون القرار السياسي في خدمة المصالح الاقتصادية وليس العكس”.

ويرى عمر الرفاعي وهو سائق شاحنة، بأن المعبر مكسب للأردنيين على حساب السوريين، فالكثير من الأردنيين يتبضعون احتياجاتهم من سوريا بأسعار منخفضة مقارنة بأسعار السلع في الأردن، فيما لا يستطيع السوريون شراء احتياجاتهم الأساسية بسبب الغلاء الفاحش والأجور المنخفضة التي يتقاضونها مقارنة بالموظف الأردني. على سبيل المثال راتب الموظف الأردني حوالي ٦٧٠ دولار شهرياً، في حين أن متوسط دخل الموظف السوري ٧٠-٨٠ دولاراً فقط. ويضيف الرفاعي ” إن مشهد تواجد رجال الأعمال برعاية رجل الأعمال السوري محمد حمشو أمين سر غرفة تجارة دمشق، يؤكد أن مكاسب إعادة افتتاح المعبر تعرف طريقها إلى جيوب وأرصدة تجار الأزمات، ولن يكسب المواطن السوري منها سوى المزيد من الفقر والغلاء”.

من جهة ثانية، حاول النظام السوري امتصاص غضب السوريين، والتبرير بأن إعادة افتتاح معبر نصيب الحدودي يعد حدثاً مهماً يوازي بأهميته إعادة سيطرته العسكرية على أي منطقة، وهذا ما قامت بترويجه وسائل الإعلام السورية المحلية بتغطيتها، كما وجه النظام السوري رسالة عبر موقع الكتروني يعمل لحسابه بضرورة معاقبة من يتحدث عن الجانب السلبي لقرار إعادة افتتاح المعبر، وتصنيفه ضمن خانة التخوين.

التعليم في  الرقة بعد طرد “داعش” منها

التعليم في الرقة بعد طرد “داعش” منها

في مدرسة عمر بن عبد العزيز بشارع النور غربي مدينة الرقة، يجلس تلاميذ تتراوح أعمارهم بين ٧ سنوات و١٥ سنة في الفصل الدراسي نفسه، بعد أن فتحت مدرستهم أبوابها أخيراً الشهر الجاري بجهود محلية من قبل متطوعي منظمة شباب أوكسجين. وأطلقت المنظمة مبادرة “التعليم لا يؤجل” بالمشاركة مع منظمات مدنية محلية، وبتنسيق مع لجنة التربية والتعليم في مجلس الرقة المدني لتحول بناءً مهجوراً تتكدس داخله أكوام من الأنقاض والركام خلال شهرين لمدرسة تستقبل طلاب المرحلة الأساسية.

وبعد تنظيفها وإصلاحها بمساعدة أهالي الحي، عاد التلاميذ إليها مجدداً يجلسون على مقاعد قديمة وصف دراسي لا باب فيه أو شباك إلا أن بناء المدرسة كان بحالة جيدة.  والتحق ٥٠٠ طالب بدوامهم المدرسي في السادس عشر من الشهر الجاري، عند إعلان لجنة التربية والتعليم بداية العام الدراسي الجديد، وذلك بعد أن حُرم أطفال الرقة من إكمال تحصيلهم العلمي أثناء سيطرة مقاتلي تنظيم داعش على مدينتهم بين يناير/كانون الأول ٢٠١٤ وأكتوبر/تشرين الأول ٢٠١٧حيث تم طردهم من قبل قوات سورية الديمقراطية المدعومة من التحالف الدولي.  

تلاميذ يتحدون ظروف الحرب

يدخل الطفل سليمان – ١٠ أعوام- لأول مرة في حياته للفصل المدرسي ويجلس على المقعد الدراسي مبتسماً، ويقول سليمان المتحدر من مدينة الرقة “كنت أحلم بأن أجلس قرب تلميذ على مقعد، وأحمل كتبي المدرسية وأكتب اسمي عليها.”

أما الطفلة سعاد- ١٢ عاماً-  والتي حُرمت من التعليم طوال السنوات الماضية، فجلست في المقعد الأمامي قرب طالبتين، ورغم ضيق المكان بدت علامات السعادة على وجهها لتقول: “هذا بيتي الثاني، فالحرب حرمتنا منه، وأنا أرغب بأن أصبح طبيبة في المستقبل لمعالجة المرضى.”

ولم يخفِ والد سليمان، محمود (٤٢ سنة)، خشيته على مستقبل ابنه بعدما دخلت الحرب عامها الثامن، ووصف حماسه للعودة للمدرسة قائلاً: “عادةً كان ابني يسهر معنا لوقت متأخر، لكن ما إن عرف بافتتاح المدرسة حتى نام الساعة ٩ مساء، واستيقظ مع بزوغ الفجر بنشاط وحماس.”

بينما أعربت والدة الطفلة سعاد وتدعى جواهر (٣٨ سنة) عن فرحتها بعودة ابنتها لإكمال تحصيلها العليمي قائلة: “أشعر بفرحة كبيرة كنت محرومة منها لسنوات، مشاهدة ابنتي تلبس زي المدرسة وتذهب برفقة صديقاتها إلى المدرسة لا تقدر بثمن.”

وحول داعش -خلال سيطرته على المدينة- المدارس والمجمعات التربوية الى مقرات عسكرية أو سجون سرية، من بينها مدرسة عمر بن عبد العزيز والتي تعرضت لشظايا غارة جوية أدت الى تدمير جزئي في بناء المدرسة بحسب ما يروي سكان الرقة.

ولإعادة المدارس لسابق عهدها قامت منظمة شباب أوكسجين بترميم المدرسة وتنظيفها بدعم مادي من برنامج “إنجاز” الممول من الولايات المتحدة الأميركية، ورغم أن المدارس ليست جاهزة تماماً فهي مازالت تعاني من نقص في اللوازم التعليمية، وغياب دورات المياه ونقص في المقاعد الدراسية، إلا أن الطلاب يتحدون هذه الصعوبات ويلتزمون بالذهاب للمدرسة يومياً.

وعن تعويض سنوات الدراسة الفائتة للطلاب المتأخرين عن المدرسة يقول مدير المدرسة عيد المحمد (٥٤ سنة) “إن لجنة التربية والتعليم المؤلفة من أخصائيين تربويين، تقوم بإجراء سبر معلومات للطالب، ويتم تحديد المستوى بحسب هذه الاختبارات، ليوضع في الصف المناسب لعمره، نظراً لتوقف العملية التربوية لأربع دورات متتالية”، منوهاً الى توافد الأهالي لتسجيل أبنائهم وسط فرحة وسعادة. ويضيف: “المدرسة افتتحت بعد انقطاع طويل، ولم يتمكن بعد عدد من الأهالي العائدين حديثاً من تسجيل أبنائهم.”

وتقع مدينة الرقة على الضفة الشرقية لنهر الفرات، تبلغ مساحتها نحو ٢٧ ألف كيلومتر مربع، كان يسكنها قبل ٢٠١١ نحو ١٠٠ ألف نسمة، ومنذ بداية الشهر الجاري وبعد عودة ثلث سكان المدينة هناك ١٢٥ ألف طالب مسجلون في قيود لجنة التربية والتعليم في الرقة؛ ارتاد نحو ١٠٠ ألف طالب منهم الصفوف الدراسية وجلسوا على مقاعدهم في ثاني أسبوع من العام الدراسي الجديد.

وأعربت جواهر (٤٣ سنة) من سكان حي الرميلة، عن سعادتها لرؤية ابنها أحمد البالغ من العمر (١٣ سنة) وهو يحمل حقيبته الدراسية مرة ثانية، ويذهب مع أصدقائه الى مدرسة عمر البحتري كل صباح، وتقول: “أحمد وأصدقاؤه كانوا يمضون معظم الوقت في ألعاب الحرب وتشكيل مجموعات مسلحة ويصنعون الحواجز العسكرية من أعواد الخشب”، مضيفةً: “كانت هذه الألعاب شغلهم الشاغل سابقاً، أما اليوم فيواظب أحمد على المدرسة وعند المساء يقوم بمراجعة وظائفه وينام مبكراً.”

الدمار، أبرز التحديات

“وافتتحت اللجنة ٢٨١ مدرسة في الرقة وبلداتها، منها ١٨ داخل المدينة يداوم فيها اليوم حوالي ٣٠ ألف طالب في ثاني أسبوع من العام الدراسي” كما يقول التربوي علي الشنان رئيس لجنة التربية والتعليم بمجلس الرقة المدني. ومجلس الرقة المدني هو المجلس المحلي المعني بإدارة شؤون المدينة بالتنسيق مع قوات سورية الديمقراطية والتحالف الدولي.

وكانت مديرية التربية والتعليم في الحكومة السورية قد رفضت الاعتراف بالمدارس في الرقة بعد سيطرة قوات سورية الديمقراطية على مدينة الرقة في أكتوبر/تشرين الثاني العام الفائت، كما ترفض الاعتراف بالمدارس الخارجة عن سيطرة القوات النظامية الموالية للأسد وبذلك لم ترسل إليها أية لوازم تعليمية،

كما امتنعت عن إرسال الكتب والمناهج المقررة، إلا أن منظمة “اليونيسيف” التابعة للأمم المتحدة، ساعدت في فتح عدد من المدارس وقدمت الكتب والمقررات المدرسية، كما دعمت بعض المنظمات المدنية مالياً لتقوم بأعمال الصيانة والتنظيف.

وعن المنهاج المعتمد في مدارس الرقة، ذكر الشنان إنه المنهاج الحكومي الصادر عن مديرية التربية في دمشق، مشدداً: “قمنا بحذف كل الدروس التي تمجد الأشخاص والأحزاب، والتي تدعو إلى التطرف الديني”، في إشارة إلى دروس مادة القومية والتاريخ في المرحلتين الإعدادية والثانوية، التي تمجد الرئيس السوري السابق حافظ الأسد، وابنه بشار الأسد وحزب البعث الحاكم.

وأكد الشنان عدم حصول لجنة التربية والتعليم ومجلس الرقة المدني على أي دعم من الحكومة السورية لإعادة افتتاح المدارس وعودة الطلاب إلى مقاعدهم الدراسية، قائلاً: “لا يوجد أي تنسيق بيننا وبين وزارة التربية في حكومة النظام، مجلس الرقة وبالتنسيق مع مجلس سورية الديمقراطية وبدعم من التحالف الدولي تولى مهمة إعادة طلاب الرقة لمقاعدهم الدراسية.”

وبحسب رئيس لجنة التربية والتعليم، تم تفعيل جميع صفوف مرحلة التعليم الأساسي من الأول للصف الخامس، إلى جانب تفعيل مرحلة التعليم الإعدادية والتي ستبدأ بداية شهر نوفمبر/ تشرين الثاني . وانتهت اللجنة من ترميم وتنظيف ست مدارس ثانوية بالتعاون مع منظمات مدنية، لكن العمل مايزال جارياً لاستقبال الطلاب وتسجيلهم في المرحلة الثانوية.

وعن أبرز التحديات التي تواجه العملية التربوية في الرقة، ذكر الشنان بأنها تنحصر في حجم الدمار الذي تعرضت له المدارس جراء العمليات القتالية الدائرة في محيطها، وقال: “يضاف لها نقص تجهيزات المدارس وغياب دورات المياه، ونقص الأبواب والنوافذ كل هذه الأمور تشكل معوقات وتحديات نحاول جاهدين إصلاحها وتجاوزها.”

“التعليم لا يؤجل”

أطلقت منظمة “شباب أوكسجين” بالتعاون مع منظمات مدنية محلية، مبادرة “التعليم لا يؤجل”، للمساهمة في عمليات ترميم وتنظيف مدارس الرقة وريفها، وقال بشار الكراف مدير المنظمة: “بعد الإعلان عن العام الدراسي الجديد، وجدنا إقبالاً كبيراً من الأهالي لتسجيل أبنائهم، وبما أننا نعلم أن معظم المدارس نالها الخراب والدمار، قررنا المبادرة للمساهمة في عمليات التنظيف.” وقد تضررت معظم مدراس الرقة إما جزئياً أو تدمرت تدميراً كاملاً  لتخرج من الخدمة نهائياً، كما انتشرت فيها الألغام ومخلفات الحرب التي لم تنفجر.

وأشار الكراف إلى تعاون إدارة المدرسة والكادر التدريسي والأهالي الذين شكلوا فرق تنظيف للمساعدة في أعمال النظافة والترميم، وقد بلغ عدد الطلاب المستفيدين من مبادرة “التعليم لا يؤجل” سبعة آلاف طالب بحسب الكراف، وتضع المنظمات المدنية العاملة في المبادرة خطة ليصل العدد إلى عشرة آلاف طالب.

وإلى جانب منظمة “شباب أوكسجين”؛ تلقت منظمة “وفاق” الدعم من برنامج “إنجاز”، وافتتحت مدرسة في مخيم عين عيسى للنازحين، و مدرسة مزرعة حطين والأسدية بريف الرقة، كما تولت منظمة “نما لتشجيع ودعم التطور الديمقراطي” مهمة تنظيف مدرستي السلام والكواكبي للتعليم الأساسي داخل الرقة بجهود فردية من قبل متطوعي المنظمة. وكذلك شاركت منظمة “رؤية” وجمعية “نساء للسلام،” ومنظمة “نداء”، ومنظمة “وقاية”، وجهات مدينة محلية أخرى من الرقة في المبادرة، في تنظيف ١٢ مدرسة موزعة في داخل أحياء الرقة وإزالة الأنقاض والركام منها.

وفي المناطق التي دُمّرت مدارسها بالكامل تم تحويل بعض المنازل لمدارس كما يروي سعدون (٤٥ سنة) الذي يسكن في حي الدرعية غربي مدينة الرقة، “لم يبق من مدرسة المنطقة سوى الأطلال، لذا قام مجلس الرقة ولجنة التربية باستئجار ثلاثة منازل، وحولوها لمدرسة أخذت تستقبل الطلاب في ثلاثة أفواج، دوام صباحي وثاني عند فترة الظهر وآخر مسائي نظراً لكثرة الأعداد.”

وتقول هند محمد مديرة جمعية نساء للسلام في حديث لـصالون سورية أن عدد المستفيدين “بلغ ١٢٠٠ تلميذ والحملة تتم بالتعاون والتنسيق مع منظمات مدنية من جهة، ولجنة التربية والتعليم بمجلس الرقة المدني من جهة ثانية.”

وبدأت حملة “التعليم لا يؤجل” مع بداية العام الدراسي الجديد، وأطلقت المنظمات المدنية هاشتاغ على مواقع التواصل الاجتماعي تحت اسم #بمشاركتنا-مدارسنا- أجمل .

مدارس بألوان الفرات

بدورها، أكدت ميادة الشيخ إبراهيم الرئيسة المشتركة للجنة التربية والتعليم في مجلس الرقة المحلي، أن اللجنة نجحت في افتتاح ١٨ مدرسة من أصل ٣٢ داخل أحياء الرقة، وقالت في حديثها لـ”صالون سورية” بأن: “أعمال النظافة تمت بالتنسيق مع فرق إزالة الألغام، نجحنا بافتتاح المدارس بعد تأمينها وترميمها وتنظيفها، وعادت للخدمة وتستقبل الطلاب من جديد.”

ولفتت الشيخ إبراهيم إلى أن لجنة التربية قامت بافتتاح ١٢ مركزاً تدريبياً لتأهيل الكادر التدريسي، “الكادر خضع لدورات تأهيل للتعرف على كيفية تدريس الوسائل والطرائق الحديثة في العملية التربوية، ومواجهة التحديات والعقبات بعد ٣ سنوات من حكم تنظيم داعش” كما تقول.

وتروي المدرسة وفاء (٣٧ سنة) كيف قام عناصر داعش بتغيير ألوان المدارس وكسوها بالسواد، وقالت: “أول خطوة يجب إعادة طلاء المدارس بألوان فاتحة وزاهية تعكس روح أهالي الرقّة الحقيقيّة.” و بقيت المعلمة وفاء المتحدرة من الرقة، تدرّس في مدارس المدينة قرابة ١٠ سنوات، قبل نزوحها صيف العام الماضي وعودتها بعد انتهاء العمليات القتالية.

واليوم بدأت وفاء دوامها في مدرسة البحتري في حي الرميلة، كما تعمل إلى جانب الكادر التدريسي على تهيئة نفسها لكيفية التعامل مع الطلاّب الذين عاشوا في ظلّ حكم (داعش)، وتقول “التوحّش والإجرام كانا سمتي حكم داعش وأثرا على جيل الأطفال، سأعمل بكلّ طاقاتي لاستيعاب هذا الجيل، وتغيير سلوكه نحو الأفضل، لأن أفكارهم هدامة.”

القبر حلم ثمين لسكان دمشق

القبر حلم ثمين لسكان دمشق

خرج محمد من مكتب دفن الموتى متأبطاً قبراً فارغاً لنفسه، “كخطوة استباقية يباغت فيها الموت في بلاد تقدم الموت مجاناً وبسخاء كبير” يقول  ضاحكاً، ثم يضيف: “حجزت قبراً لي في نجها بمبلغ ٢٥٠٠ ليرة كرسم تخصيص، فأبواب الموت مفتوحة على مصراعيها في هذا البلد، وإن تأخر أجلي قد يسبقني إليه أحد أشقائي.” ويعتبر محمد نفسه “محظوظاً” لأنه حصل على قبره قبل إصدار محافظة دمشق  قرار منع شراء قبور فارغة وبيعها إلا للأقارب، وجاء هذا القرار على خلفية ضبط بعض حراس المقابر يبيعون القبور بصورة غير شرعية.

إلا أن هذا “الحظ” لم يحالف أيهم، الذي يعبر عن سخطه من قرار منع  الاستضافة بعد أن تفاجأ بعدم السماح له بدفن خالة والده في مدفن العائلة بتربة المزة.

يقول أيهم: “منذ وفاة عمي في الثمانينات لم يفتح قبره، وعندما أردنا دفن خالته في نفس القبر، أخبرني مكتب دفن الموتى بأنه لم يعد يسمح بذلك”،   مبرراً السبب بسعي محافظة لجني الملايين من الأموال من بيع قبور جديدة في المزة والمعضمية وجديدة عرطوز، ويعقب الشاب بسخرية: “سعر القبر في تربة المزة  يقارب ٣ ملايين ليرة، بهذا المبلغ استطيع قضاء إجازة في جزر المالديف بدل من صرفها على حفرة.”

أما الشابة رشا التي فُجعت بوفاة والدتها أمس إثر عملية قثطرة فاشلة فلم تكد تصحو من مصيبتها لتبدأ بالحسابات والتكاليف، تقول: “أودعت أمي في قبر جدي لكن يجب علي ترميمه مجدداً، لم أكن متأهبة لهذه المصيبة لا معنوياً ولامادياً، دفعت ٢٠ ألفاً كرسوم دفن في مكتب دفن الموتى و ٧٠ ألفاً أخرى للكفن والسيارة وغسل الميت و٢٠٠ ألف لشاهدة القبر وأجرة حفار، أما الرخام فلم أحسب حسابه بعد، ناهيك عن أجور الضيافة والعزاء.”

الموت المُكلف

قبل عام ٢٠١١ كانت الطقوس الدينية المتعلقة بدفن الموتى ومراسيم العزاء -للمسلمين والمسيحيين- تتم بأقل كلفة، وكانوا أكثر قدرة على تحمل نفقاتها الشاملة، إلا أنها غدت بعد هذا العام أكثر إيلاماً و “ترفاً” يصعب على الفقراء والطبقة الاجتماعية المتوسطة تحمل تكاليفه، في المقابل أصبحت تجارة الموت المربحة في دمشق في أيدي الأغنياء وحديثي النعمة.

وهذا ما جعل العديدين يطمحون للموت بصفة مجهول كما أسامة، ويبرر رغبته هذه بقوله: “أصبح الموت مكلفاً للغاية، والأسعار خيالية لا يقبلها العقل، فسعر حفرة في مقبرة الدحداح يصل إلى ٤ ملايين فيما كانت لا تتجاوز ربع هذا المبلغ قبل سنوات الحرب، لذلك يبدو من الأفضل أن تسجل وفاة السوري كمجهول حتى تضطر الحكومة لدفنه.”

ويكلف بناء طابق ثان مبالغ كبيرة أيضاً، فرسوم تعمير الطابق الثاني  في الدحداح مثلاً مع كلفة تغيير الشاهدة يكلف ٢٤٩،٠٠٠ ألف ليرة عدا عن تكلفة الرخام التي تهبط وتصعد على إيقاع الدولار حسب بلد الصنع ومساحة القبر.

تشتكي كاميليا أيضاً من أن أسعار إجراءات إتمام مراسيم الجنازة في دمشق تضاعفت عشر مرات عما كانت عليه قبل نشوب الحرب، فتكلفة  “الأخذ بالخاطر” وحجز صالة العزاء لمدة ساعتين لا تقل عن ٢٥ ألف ليرة سورية، إضافة لنفقة تقديم القهوة المرة التي تصل إلى ١٠ آلاف ليرة، بينما كانت تكلفة الاثنين معاً لا تتجاوز ١٠ آلاف قبل ثماني سنوات.

اضطر العديد من محدودي الدخل في دمشق للتقنين في نفقات الطعام التي تقدم على روح الفقيد واتباع سياسة “النخب الثاني” لناحية جودة الوجبات المقدمة، تعقب كاميليا على هذا بالقول: “ارتفاع أسعار اللحوم دفعنا إلى اختيار أقل الوجبات تكلفة، فأغلب العائلات هنا أصبحت تختار وجبة الصفيحة في لقمة الرحمة بمجالس العزاء للتقليل من المصاريف، فسعر كيلو لحم العجل ٨ آلاف ليرة سورية.” ارتفاع الأسعار أيضاً طال تكلفة أجرة سيارة دفن الموتى التي تصل لحوالي ٢٠٠ ألف ليرة في حال كانت الوجهة قريبة من العاصمة مثل بلودان ومعلولا وصيدنايا وترتفع بازدياد المسافة فيما كانت قبل سنوات الحرب بأسعار رمزية وأحياناً عملاً خيرياً بدون مقابل مادي.

حتى تكلفة حجز الكنسية للصلاة على روح الميت ارتفعت، تشرح كاميليا: “قبل عام ٢٠١١ كان حجز الكنيسة مجانا أما الآن فهو يكلف أكثر من ٥ آلاف ليرة لما تتطلب من إنارة ومايترتب عليها من فواتير كهرباء.”

يضاف لهذا أسعار القبور التي ارتفعت بارتفاع أسعار الأراضي وتجاوز سعر بعضها خمسة ملايين ليرة، عدا عن جشع بعض أصحاب العقارات  واستغلالهم حاجة الناس في ظل تصاعد معدل الوفيات التي سببتها الحرب.

سماسرة القبور

حاول بعض حراس المقابر بيع القبور لتجارة مربحة تدر عليهم الأموال، إذ يرصدون القبر لفترة طويلة، يتأكدون من انقطاع الزيارات عنه وهجر أهل الفقيد له بفعل السفر خارج البلاد أو الوفاة، ليبيعوه مرة أخرى بعد طمس معالمه وإزاحة رفات الميت الأول، كما يعيدون تعميره ليشتريه ذوو الميت الثاني على أنه  مدفن جديد ويتم تسوية الأمر بين الطرفين.

يشرح جمال حيلة أخرى يلجأ إليها السماسرة: “عندما يقدم بعض الأشخاص ممن يملكون قبراً واسعاً طلباً إلى مكتب دفن الموتى لبناء طابق ثان، يمكن لهم وبالتواطؤ مع حارس المقبرة-الذي توكل إليه مهمة الموافقة بعد معاينته صلاحية التربة ومدى توفر شروط البناء أن يبيعوا الطابق الثاني  بالسعر النظامي التابع للمقبرة بمبلغ لا يقل عن مليوني ليرة.”

قبور خمس نجوم

أما بعض سكان دمشق الأغنياء فيسبغون على موتاهم سمة الثراء كامتداد لحياة الرفاهية التي عاشوها، فيبذخون على المظهر الخارجي للقبر  مستخدمين رخاماً مستورداً تصل تكلفته مليون ليرة.

عامل الرخام أبو إبراهيم يروي كيف تتم العملية قائلاً: “أستلم القبر مغطى بالإسمنت ثم أباشر برسم الزخارف والنقوش عليه بإيعاز من أهل المتوفي بعد اختيارهم للرسوم المناسبة، يصل المتر الواحد للرخام -نخب ثاني- إلى ٢٣ ألفاً، بينما الإيطالي فحوالي ٤٠ ألفاً وكلما شغل القبر مساحة كبيرة ازدادت تكلفة الرخام.” ويضيف أبو إبراهيم: “جاءني في إحدى المرات رجل ثري فقد ابنه الوحيد في حادث سيارة، ودفع حوالي مليون ليرة لقبره الذي شغل مساحة ١٠ أمتار واستغرق عمله مني قرابة شهر.” كذلك يستغل بعض الأثرياء وحديثي النعمة حوادث الوفيات لاستعراض  ترفهم وبذخهم للتباهي أمام العامة.

و تبدي التوابيت أيضاً الفروقات الاجتماعية، أحد أصحاب محل التوابيت في الدويلعة والذي فضل عدم ذكر اسمه  يقول: ” تبدأ أسعار التوابيت من ٣٠ ألف لغاية ٤٠٠ ألف ليرة، يمكن أن تتم إضافة الزخرفات على حوافها وتختلف نوعية الخشب المستخدم، ففي الوقت الذي لايملك الناس ثمن النعش، أشاهد آخرين يدفعون مئات الألوف للصندوق الخشبي كبرستيج، فكلما كان النعش مشغولاً بعناية أكثر ومحفوراً بالرسومات ازداد سعره، علماً أن جميعها ستفنى بعد سنوات قليلة.”

للفقراء مرقد نجها

تعد مقبرة نجها قبلة الفقراء لدفن موتاهم، فهي الأكثر رأفة بجيوبهم  مقارنة بمقابر العاصمة، فسعر القبر الجديد فيها حوالي ٧٥ ألف، إضافة لرسم تثبيت القبر ويصل إلى ٥ آلاف ليرة.

يقول سائق تكسي في دمشق إن “دفع ٧٥ ألف خير من ٤ ملايين ثمناً لقبر، إلا أن هذا المبلغ نفسه كبير بالنسبة لدخلي المتوسط كسائق تاكسي والذي لايتجاوز ١٠٠ ألف ليرة  شهرياً، خاصة إن وقعت محنة الوفاة في توقيت أكون غير مستعد لهذه النفقات.”

ولهذا تحولت مقبرة نجها في ريف دمشق –والتي يطلق عليها البعض تسمية  الغرباء- إلى مرقد لآلاف الموتى ممن لم ينعموا بملكية قبر لهم في ظل ازدحام مقابر العاصمة وانخفاض قدرتها الاستيعابية.

يعقب رجل  ستيني فضل عدم ذكر اسمه: “يحق  لكل مواطن أن يودع في مرقده الأخير وينبغي على الحكومة أن تكفل له هذا الحق، وكنتيجة للحرب وازدياد الوفيات والتزاحم الكبير للحصول على القبور أصبحت مقبرة نجها مرقداً للسوريين القادمين من المحافظات السورية كحمص وحماه والحسكة واللاذقية وحلب وإدلب والذين استقروا في العاصمة منذ عقدين وأكثر ووافتهم المنية هنا.” كذلك يمكن للفقير المُعدم أن يحظى بقبر مجاني في مقبرة نجها شريطة حيازة ورقة إثبات فقر حال من مختار المنطقة التي يقطنها.

رحلة المصاغ السورية من السلم نحو الحرب

رحلة المصاغ السورية من السلم نحو الحرب

في أواخر الألفية الثانية قايضت السوريات مصاغهن مقابل فرص عمل ورزق لأزواجهن وأبنائهن ولهن في حالات محدودة، فانتشرت في الشوارع أسراب من الحافلات الصغيرة الضيقة المعدة لنقل الركاب، دفعت ثمن العديد منها النساء من مصاغهن حتى انتشرت مقولة “أصبح ذهب السوريات كله في محلات الصاغة.”

ويعتبر المصاغ وخاصة الذهبي منه موضوعاً حياتياً عند العديد من السوريات، يعشن على أمل الظفر به، فهو كنزٌ من المال مخبأ في أيديهن وأعناقهن، وشرط لإتمام الزواج، وعلامة غنى وبحبوحة، و إشارات تترجم إلى: كل هذا لي، أو كل هذا كان مهري، أو أنني لم أخرج من الدنيا إلا بما يلمع في يدي من ذهب.

أتذكر ذاك الصباح، يوم سقطت قذيفة في بيت جارتي العازبة الستينية، كانت مدماة الوجه وشبه غائبة عن الوعي وهي تصرخ بي :الأساور!! تأمرني بأن أنزع أساورها الأربعة من يدها اليمنى وأخبئهم خوفاً من سرقتهم في المشفى أو موتهم معها.

فالحرب نشرت هستيريا تخبئة كل المصاغ حتى المحابس الزوجية، ونتج عن هذه الهستيريا فقدان المزيد من المصاغ بدلاً من حمايتها من اللصوص، فمن خبأت مصاغها في المدفأة أو في قماش الكنبة أو في الفرن أو الغسالة فقدته مع فقدان هذه الأدوات، وكأنها تهدي اللصوص أثاث بيتها مع جنى العمر، فلم يتخيل أحد أن عمليات “التعفيش” أي السرقة ستطال حتى محابس الزواج  وملاعق الطعام وعكازات العجزة وأغطية كراسي التواليت.

في الحرب أيضاً تخلت النساء طوعاً عن المصاغ، لتغطية تكاليف رحلات الأبناء والرجال لترتيب حياة جديدة بعد فقدان البيت والعمل وموارد الدخل. كذلك وافقت العرائس الجديدات على اقتناء أنواع أرخص سعراً من الذهب كالبرازيلي أو الروسي، واضطرت العديدات منهن حتى للقبول بإسوارة “زردة” من حديد مصبوغ بالأصفر ومنقوشة بنقوش جميلة كي لا تشعر بالنقص.

وازدهرت على هامش الحرب تجارة الذهب “الفالصو” كما يسمونه في اللغة الشعبية، ونما سوق آخر لشراء المصاغ الذهبية الحقيقية من المحتاجين بأبخس الأثمان، لأن الصاغة توقفوا حتى عن الشراء لنقص السيولة ولتذبذب الأسعار بصورة دراماتيكية ما بين صعود مفاجئ وكبير وما بين هبوط مدمر.

تسببت هذه التغيرات بخلق حالة من الكساد في سوق الذهب، وأجبرت المضطرات على بيع ذهبهن لسيدات مقتنصات للفرص، يملكن أموالاً يرغبن بمقايضتها بالذهب خوفاً من هبوط  قيمة أموالهن أو أن أموال “التعفيش” وتجارة الحرب صبت بين أيديهن وأردن تبديلها بسلعة أبقى وأكثر سهولة في الاقتناء.

في محل مشهور للصاغة في ساحة جورج خوري، الذي يسكنه ميسورو الحال، وتمتلك النساء القاطنات سياراتهن الخاصة ومصاغهن المشترى للزينة – لا لتوفير الأموال وادخارها- توافدت خلال خمس دقائق ثلاث سيدات، لبيع محابس الزواج، تذرعت الأولى والخجل يغمرها بأنها زوجة صائغ سابق خسر كل مالديه و المحبس لوالدتها المتوفاة وهي تريد بيعه لإكساء قبرها بالرخام المكلف، أما الثانية فقدمته للصائغ دونما مقدمات، وزنه، أعلن لها عن قيمته، هزت رأسها بالإيجاب، قبضت المبلغ الضئيل ومضت وعيناها متسمرتان في الفراغ، أما الثالثة فقالت إنه ضاق على إصبعها والموضة الآن هي الذهب الأبيض وبالتالي ستضع في إصبعها محبسها الماسي حسب ادعائها.

ورغم تردي سوق الذهب، إلا أن حركة البيع جعلته يحافظ على قوته، وخاصة لمن استطاع البقاء على قيد العمل من الصاغة، لكن البيع انحرف انحرافاً عميقاً من وفرة بيع المصاغ والطلب على الأحدث والأجمل وتبديله، إلى اقتصاره على الأونصات أو الليرات الذهبية لأنها أضمن اقتصادياً ولا تكلّف مقتنيها بدفع قيمة الشغل ( أي كلفة الصياغة) كمبلغ إضافي.

ويتركز هدف الأونصات أو الليرات على الادخار وتحويل الفائض من تجارة الحرب والتعفيش أو بيع العقارات إلى قوة رأس مال صافي وقابل للتدوير دونما خسارات تذكر خاصة بعد حالة الثبات النسبي لسعر الذهب.

ويُلاحظ الآن تغير ملفت، وهو الحضور الكثيف عند محال بيع الذهب في بعض المناطق، وأصبحت العديد من النساء يشترين ويرتدين الذهب ليبان علناً ويلفت الأنظار، لا ليحفظ فقط. وفي المقابل أيضا هناك حضور كثيف وإقبال أكثر كثافة على المجوهرات التقليدية التي شهد سوقها كساداً في السنوات الماضية، وأعلن بعض الصاغة عن عروض توفيرية ورخص على تلك المجوهرات، كعرض ثلاثة قطع بألف ليرة مثلاً، أو القطعة بخمسمائة ذهب روسي ومكتوب عليه مكفول!

يبرر أحد باعة الذهب هذه الظاهرة إلى أن عائلات مهاجرة ترسل لذويها مبالغ بالعملة الأجنبية لتشتري لها ذهباً، مضيفاً “الذهب عنا أحلى وأرخص.” كما أن بعض النساء يتلقين أموالاً محددة من أبنائهن لشراء الهدايا للزوجات الأجنبيات أو للأطفال حديثي الولادة وخاصة المصاحف وآية الكرسي والصلبان وصور القديسين. بالمُحصلة لا انتعاش يذكر في سوق الذهب، ولا اكتفاء يلحظ أو يشي بوفرة طارئة أو استقرار، هو تكيف مع الوضع الحالي.

و سوق المجوهرات التقليدية مبهر، يحتال باستنساخ كافة نقوش الحلي الذهبية، يخفف البائع من سطوة الخسارات في حال التلف السريع للحلية التقليدية قائلاً “ادهنيها بطلاء الأظافر كي لا يتغير لونها! البسيها فوق كنزة بقبة عالية كي لا تسبب لك التحسس، لا تقربيها من البارفان أو الصابون، لتحافظ على لمعانها!”

كل شيء يبان بنقيضه، والحياة تؤكد خساراتها -على حضور النساء -وحيواتهن بحلي قصيرة العمر، مثلها تماماً، وما كان زوادة  للأفراح أو للأحزان الطارئة، التهمته الحرب بشراهة، وما تفتقده الأيدي والأصابع والأعناق ظل باهتاً ومخففاً لما تفتقده المشاعر والأحاسيس والأجساد وخاصة العيون والقلوب.

ملثمون ينشرون الجريمة في ريف إدلب …من يوقفهم؟

ملثمون ينشرون الجريمة في ريف إدلب …من يوقفهم؟

نجا أحمد الشعراوي وهو في الـ٢٦ من عمره  بأعجوبة من محاولة سرقة وقتل على الطريق الواصل بين سرمدا وريف إدلب الجنوبي. إذ هاجتمه عصابة من الملثمين محاولين إيقافه وسرقة سيارته، إلا أنهم لاذوا بالفرار عندما فاجأهم بإطلاق النار نحوهم.

يروي أحمد تفاصيل الحادثة قائلاً “أتوجه كل فترة إلى مدينة سرمدا للحصول على بعض البضائع لمحلي التجاري الواقع في مدينة كفرنبل، ولحرصي على سلامة بضائعي الثمينة والمكلفة مالياً، وتحسباً لأي طارئ، أحمل معي سلاحي أينما ذهبت وخاصة في ظل الانفلات الأمني الحاصل”، ويصف الشعراوي كيف أوقفته مجموعة من المسلحين في أحد الطرق الفرعية وطلبوا منه مغادرة سيارته (فان) ويتراوح سعرها بين ٧ و ١٠  آلاف دولار أمريكي ، فتظاهر بأنه على وشك الخروج حين باغتهم بإطلاق النار عليهم ما دفعهم للفرار بعد إصابة أحدهم .

يحمد أحمد الله أنه نجا من تلك المحاولة وإلا “لا شك سيكون مصيري مجهولاً كالكثيرين الذين تعرضوا لذات الحادثة” بحسب تعبيره.

قصص عديدة كقصة أحمد أصبحت تُسمع في ريف إدلب، إذ ازدادت جرائم القتل والخطف والسرقة تزامناً مع انتشار ظاهرة اللثام والملثمين بين الناس، مما يسمح لهم بارتكاب التجاوزات دون أن يتسنى لأحد رؤية وجوههم أو التعرف على شخصيتهم.

وإن كان أحمد قد نجا من محاولة السرقة غير أن الحاج حسين العمر (٥٠عاماً) لم يفلح في ذلك، فقد قامت عصابة مجهولة في منتصف شهر أبريل/نيسان ٢٠١٨ بسلب سيارته و بداخلها ٦ كيلو غرام من الذهب. عن تفاصيل الحادثة أوضح العمر بأن العصابة الملثمة أوقفته على الطريق الواصل بين بلدة معر تمصرين وقرية حر بنوش الواقعة في ريف إدلب الشمالي، وقامت بسرقة سيارته تحت تهديد السلاح، “كمية الذهب المسروقة كلها مصاغة ومخصصة للعرض في واجهة محلي التجاري، وبهذه السرقة خسرت كل ما أملك وأصبحت على هاوية الإفلاس” يقول الحاج حسين .

ولا تقتصر جرائم الملثمين على السرقة فحسب، وإنما يقومون أيضاً بالخطف بغرض طلب الفدية، وتكررت تلك الحوادث وازدادت بشكل كبير في الآونة الأخيرة حتى وصلت للخطف من المنزل.

فقد قام ملثمون بخطف الشاب عمران الحسنى وهو طالب جامعي من بيته ومن بين أهله، اعتقد الأهل حينها بأن الخاطفين يتبعون لتنظيم هيئة تحرير الشام (المعروف سابقاً بالنصرة) والذي غالبا ما يعتقل المدنيين بتلك الطريقة، لكن ذوي الشاب تفاجؤوا فيما بعد بأنهم مخطئون حين بدأ الخاطفون بالتفاوض مع الأهل، حيث طلبوا فدية قدرها ٢٥ ألف دولار، وأمام عجز أهله عن تأمين الفدية، قامت العصابة بقتل الشاب ورمي جثته على حافة أحد الطرق المؤدية إلى قريته.

ولم ينج حتى مسلحو المعارضة من جرائم العصابات، كما حدث في قرية تلمنس بريف إدلب الشرقي، ففي تمام الساعة الحادية عشرة ليلاً  بداية عام ٢٠١٨ قام سبعة عناصر ملثمين بمداهمة مكتب قائد اللواء الخامس في جيش إدلب الحر، ولم يكن في المكتب آنذاك سوى قائد اللواء وابنه. ترجل الملثمون من سيارتهم وهي طراز هونداي، وداهموا المكتب وقاموا بتكبيل الطفل وجره للسيارة، في حين كان والد الطفل يحاول إنقاذه، وعندما أثار الصراخ انتباه ساكني الحي وتوجهوا نحو المكتب هرب المهاجمون تاركين أحد عناصرهم الذي أصيب بعد أن أطلق والد الطفل عليه النار. وأشارات التحقيقات مع العنصر المصاب إلى أنه وعصابته ينتمون إلى تنظيم ما يسمى “حراس الدين” معترفاً بأن العملية كان هدفها الخطف وطلب الفدية.

لم يتوان الملثمون أيضاً عن تنفيذ عمليات تصفية طالت قياديين في الجيش الحر بل ومدنيين عزلاً وأطفالاً ونساءً، حيث تعرضت إدلب المدينة لعشرات التفجيرات التي راح ضحيتها عوائل بأكملها.

الشاب صبحي الراشد راح ضحية أحد تلك التفجيرات قبل حلول عيد الفطر بأيام قليلة، وذلك بعد انفجار عبوة ناسفة أمام المكان الذي كان يجتمع فيه مع أصدقائه من الشبان. يقول صديقه حسام متأثراً بما حدث لصبحي: “صبحي شاب طيب وخلوق، وليس له انتماء لأي فصيل أو حركة أو تنظيم، ومع ذلك فهو لم يسلم من غدر المجرمين وخفافيش الليل الذين همهم زرع الفتنة والرعب والإرهاب في كل مكان.”

الحاجة أم سامر (٥٥عاماً) شهدت إحدى جرائم الاغتيال هذه حيث تم إطلاق النار على شابين من قبل مجموعة ملثمين مسلحين، يستقلون سيارة بيك آب على الطريق المؤدي لمدينة جسر الشغور. تروي أم سامر التي كانت تقف على شرفة منزلها كيف كان الشابان على دراجة نارية حين باغتهما المسلحون بإطلاق النار عليهما واللوذ بالفرار، مما أدى لمقتل أحد الشبان فيما نقل الآخر إلى المشفى.

تقول الحاجة أم سامر “لم نعد نأمن على أنفسنا، فقد أصبح المجرمون في كل مكان وهم لا يتوانون عن قتل أي شخص لأهداف دنيئة متعددة”، وتتساءل ” إلى متى سيستمر هذا الانفلات الأمني؟”

الحقوقي نزير العوض (٣٢عاما )  يرى أن ما وصلت إليه الأوضاع الأمنية في المناطق المحررة يستدعي “التحرك السريع لفرض الأمن، والقضاء على المجرمين الذين راحوا يصولون ويجولون متخفين بلثامهم” متسائلا عن سبب وضع عناصر بعض الفصائل اللثام وكأنهم يشجعون على كل تلك الانتهاكات، “فلو أن ظاهرة اللثام انتهت لدى الفصائل المتشددة كالنصرة، ربما كان من الصعب على الملثمين المجرمين الاستمرار بأفعالهم تلك فأمرهم سيكون مكشوفاً لدى الجميع فيما سيشل تحركاتهم ، ويردعهم عن ممارسة أفعالهم” ويختم العوض بانتقاده للفصائل التي تتجاهل ما يجري “وكأن الأمر لا يعنيهم.”  

من جهته أفاد القيادي في الجيش الحر أبو البراء (٤٢عاماً) بأنه تم العثور على عدة ألغام مزروعة على أطراف بلدة الهبيط الواقعة في ريف إدلب الجنوبي مهيئة للانفجار حيث تم تفكيك وتفجير بعضها، وأشار إلى حالات الاغتيالات التي كثرت في الآونة الأخيرة في إدلب وريفها ومنها العثور على جثتين مجهولتي الهوية بين بلدتي معصران بابيلا وذلك بقتلهما ورميهما في الأراضي الزراعية، بالإضافة للعثور على جثة أخرى في قرية الزعلانة وأخرى على طريق البارة كفرنبل وغيرها من الجرائم.

ويقول أبو البراء إنهم لا يزالوا يجهلون من يقوم بتلك التصفيات والجرائم “فمعظم الجرائم تتم في المناطق الحراجية أو الطرق الفرعية التي تخلو من وجود حواجز أمنية، وهو ما يجعل الكشف عن طبيعة تلك الجرائم أمراً بالغ الصعوبة، وخاصة في ظل ما تمر بها البلاد من فوضى” بحسب قوله.

من جهة أخرى قامت القوة الأمنية التابعة لهيئة تحرير الشام بإعدام أربعة أشخاص في مدينة إدلب علناً بعد أن قالت عنهم بأنهم متورطون بعمليات التفجير والاغتيالات بحق عسكريين ومدنيين، كما استطاعت جبهة ثوار سراقب التابعة للجيش الحر إلقاء القبض على عصابة سرقة في مدينة سراقب جنوبي شرقي محافظة إدلب بتاريخ ٢٠ إبريل/نيسان ٢٠١٨. علما أن  معظم الفصائل الثورية المسلحة تمتنع عن توجيه الاتهام إلى أي جهة معينة خشية إثارة بلبلة في المنطقة، قد تتطور إلى اشتباكات بين الفصائل.

وفي محاولة مدنية لمحاربة ظاهرة اللثام والحد منها أطلق ناشطون حملة “اللثام ليس منا” بغية الإشارة إلى وجود هذه الظاهرة الخطيرة وتحذير الأهالي من عواقبها.

المنسق العام للحملة ملهم سمير (٣٠عاماً) يقول لصالون سوريا “انطلقت الحملة في كل من محافظتي حلب وإدلب نتيجة تكرار حالات الخطف والقتل والسرقة التي يمارسها الملثمون مستغلين ضعف العامل الأمني وفوضى الحرب القائمة” ويبين سمير بأن هدف الحملة هو القضاء على ظاهرة اللثام والتي تساعد أصحابها على ارتكاب الجرائم والانتهاكات بكل سهولة.

وقد تضمنت الحملة ندوات توعوية وتوزيع بروشورات وملصقات في الأماكن الحيوية والعامة.

ورغم التفاعل الكبير مع الحملة من قبل الأهالي والمدنيين إلا أنها غير كافية للقضاء على هذه الظاهرة التي تستوجب سلطة وقوة تعمل على الحد منها، غير أن هذه السلطة غائبة حالياً في ظل ازدياد عدد الفصائل وتعدد قياداتها وتناحرها في المنطقة.