دمشق وحلم السكن المستحيل

دمشق وحلم السكن المستحيل

بعدما كانت مسألة امتلاك بيت في مدينة دمشق وريفها بالنسبة لذوي الدخل المحدود والمتوسط، قبل سنوات الحرب أشبه بحلم يمكن تحقيقه بعد سنوات من العناء، بات الأمر حاليا مستحيلا وصعب المنال، مع الارتفاع الجنوني لأسعار العقارات، بعد دمار ملايين المنازل خلال سنوات الحرب، ونزوح أكثر من ربع سكان البلاد.

في نيسان 2009 وضع تقرير “نيوأوفس سبيس ريبوربت” الدولي  الذي يحدد المدن العشر الأكثر غلاء في أسعار المحال التجارية والمكاتب مدينة دمشق في مصاف أكثر ١٠ مدن غلاء في أسعار العقارات التجارية عالميا.

التقرير ذكر حينها، أن “مدينة دمشق احتلت المرتبة الثامنة في أسعار العقارات التجارية عالميا”، مشيرا إلى أن “سعر المتر المربع في دمشق يصل إلى ٩٧٩ يورو وسطيا” بما يعادل ٦٥ ألف ليرة سورية (اليورو كان حينها يساوي نحو ٦٥ ليرة) .

هونغ كونغ وفق التقرير، احتلت المرتبة الأولى بين المدن الأكثر غلاء بأسعار العقارات التجارية بسعر ١٧٤٣ يورو للمتر المربع تلاها طوكيو بـ ١٦٤٩ للمتر المربع ومن ثم لندن بـ ١٤٠٣ يورو، وأتت  موسكو بالمرتبة الرابعة، ثم مدينة دبي، وبعدها بومباي، بينما شغلت باريس المرتبة السابعة لتحتل دمشق المرتبة الثامنة وسنغافورة التاسعة بعدها، ثم نيويورك المرتبة العاشرة.

خلال تلك الفترة كان سعر منزل مساحته ١٠٠ متر مربع في مدينة دمشق ما بين أربعة إلى خمسة ملايين ليرة (الدولار حينها كان يساوي نحو ٥٠ ليرة)، بينما في مناطق العشوئيات المحيطة بالمدينة  كان ما بين مليون ونصف ومليونين، أي ما يوازي أجر الموظف السوري ( ٣٠ ألف ليرة مرتب الموظف شهريا) مدة  ستة أعوام.

العديد من ذوي الدخل المحدود في تلك الفترة كانوا يقضون ١٥ إلى ٢٠ عاما من التقشف والعيش على الكفاف حتى يتمكنوا في النهاية من شراء منزل في عشوائيات محيط العاصمة  والتي توصف بأحزمة الفقر السرطانية.

الأغلى عالميا

بيد أن الحرب وما دمرته من منازل وما أفرزته من مناطق آمنة أو شبه آمنة، زاد من ارتفاع الأسعار، لتغدو أسعار المساكن في سورية، قياساً بين العرض والدخول، هي الأغلى عالمياً  وربما دونما منازع.

في إحصائية أصدرتها “الاسكوا” مؤخرا،  يتبين أن عدد المنازل المهدمة في سورية بلغ ٢.٥ مليون منزل، منها ٣١٥ ألف منزل تعرض للدمار الكامل، مع دمار البنية التحتية كالمياه والكهرباء والصرف الصحي، و ٣٠٠ ألف منزل تعرض للتدمير الجزئي.

الدراسة تذكر، أن محافظة حلب تصدرت المحافظات الأكثر تضرراً من جهة دمار المنازل بتدمير حوالي نصف منازلها، ويُقدر عددها بـ ٤٢٤ ألف منزل مدمر كلياً أو جزئياً، تلتها ريف دمشق بتدمير نصف منازلها أيضا وتُقدر بـ ٣٠٣ آلاف منزل، ثم حمص بتدمير حوالي ٢٠٠ ألف منزل، فإدلب بتدمير حوالي ١٥٦ ألف منزل، فدرعا بتدمير حوالي ١٠٥ آلاف منزل، من ثم دير الزور بتدمير حوالي ٨٢ ألف منزل، تلتها حماة بتدمير حوالي ٧٨ ألف منزل، ومن ثم الرقة بتدمير حوالي ٥٩ ألف منزل،  فاللاذقية بتدمير حوالي ٥٧ ألف منزل، فالحسكة بتدمير حوالي ٥٦ ألف منزل، من ثم دمشق بتدمير حوالي ٣٧ ألف منزل، وتلتها طرطوس بتدمير حوالي ١٢ ألف منزل، ومن ثم السويداء بتدمير حوالي ٥ آلاف منزل، وأخيراً القنيطرة بتدمير حوالي ٩٠٠ منزل.

مع تهدم تلك المنازل شهدت سورية حركة نزوح كبيرة، وأشارت الدراسة نفسها إلى أن ما يقرب من ٧ مليون شخص تأثروا بالدمار، وأنّ ٣ ملايين شخص اضطروا للنزوح، وفقد مليون مواطن ممتلكاتهم بشكل كامل وسط توقعات بارتفاع هذه الأرقام مع استمرار المعارك.

اندفاع النازحين إلى مناطق سيطرة النظام بسبب تمتعها بالأمان مقارنة بالمناطق التي تسيطر عليها المعارضة، أدى إلى ارتفاع أسعار العقارات فيها بشكل تدريجي خصوصا مدينة دمشق، التي وصل عدد السكان فيها إلى ما يقارب ثمانية ملايين شخص بعد أن كان نحو أربعة ملايين قبل الحرب.

شقة المليار

يصل سعر منزل مساحته ١٠٠ متر مربع في أحياء وسط دمشق المنظمة مثل “أبو رمانة” و”المالكي” اليوم نحو ٤٠٠ إلى ٥٠٠ مليون ليرة، بعد أن كان قبل الحرب نحو ٥٠ مليون، وفي المزة غرب العاصمة إلى أكثر من ١٥٠ مليون بعد أن كان  ما بين ٢٠ إلى ٢٥ مليون، بينما في منطقة “الزاهرة” جنوب العاصمة نحو ٥٠ مليون بعد أن كان خمسة ملايين.

صفحات العقارات المحلية على مواقع التواصل الاجتماعي، التي تعرض إعلانات عن شقق يريد أصحابها بيعها في مناطق مختلفة من العاصمة، تعتبر اليوم المؤشر الأبرز على أسعار العقارات في العاصمة دمشق ومحيطها.

بعض الإعلانات على تلك الصفحات تثير جنون السوريين، إذ بلغ سعر شقة معروضة للبيع ٩٩٠ مليون ليرة سورية في منطقة المالكي، وأخرى في مشروع دمر ٥٠٠ مليون ليرة.

خبراء في مجال العقارات يعزون لـ “صالون سورية” أسباب  القفزات الخيالية في أسعار العقارات إلى “العجز الحاد في المعروض” و”التراجع الكبير في سعر العملة السورية أمام العملات الأجنبية”، فالدولار اليوم يبلغ سعره  نحو ٤٥٠ ليرة بعد أن كان أقل من ٥٠ ليرة قبل الحرب.

هؤلاء الخبراء، يوضحون أن الغلاء الذي طال كافة مستلزمات الحياة، ومنها مواد البناء أدى إلى ارتفاع تكاليف إكساء المنازل إلى أرقام فلكية، ويبينون أن تكلفة إكساء شقة من ١٠٠ متر مربع  كسوة عادية تقارب ما يزيد على ٧ ملايين ليرة.

يصل  سعر طن الإسمنت حاليا من مصدره نحو ٥٠ ألف ليرة بعد أن كان لا يتجاوز أربعة آلاف، وطن الحديد المسلح ٣٠٠ ألف ليرة بعد أن كان لا يتجاوز ٢٥ ألف، بينما تبلغ تكلفة سيارة الرمل سعة ١٠ أمتار نحو ٨٠ ألف ليرة سورية بعد أن كانت ٥ ألاف ، على حين وصل سعر بلوك البناء إلى ١٥٠ ليرة للقطعة الواحدة.

وبينما وصل سعر السيراميك المصنع محلياً والمنخفض الجودة  إلى ٣٠٠٠ ليرة، والمستورد ٨٠٠٠ ليرة كالمصري والإيراني، وما يقارب ١٥،٠٠٠ ليرة للسيراميك الإماراتي، يبلغ سعر متر الرخام المحلي ٢٠،٠٠٠ ليرة، والمستورد ٥٠،٠٠٠ ليرة، على حين يصل سعر الباب الخشبي إلى مايقارب الـ ٢٠٠ ألف ليرة بشكل وسطي. كما أن تركيب المطابخ الخشبية الحديثة أصبح يكلف أكثر من ٦٠٠ ألف ليرة وتزداد التكلفة تبعاً لنوع الخشب والمساحة المطلوبة، بينما يبلغ وسطي سعر الباب الألمنيوم ٥٠،٠٠٠ ليرة دون أجور التركيب، وسعر النوافذ الألمنيوم نحو ٦٠،٠٠٠ ليرة للنافذة الواحدة.

التملك للحرامية

أب لثلاثة أولاد في العقد الخامس من عمره يعمل موظفاً في إحدى الشركات الخاصة، بعد أن دمر القصف منزله في ريف العاصمة الغربي، نزح إلى مدينة دمشق، ويسكن حالياعند أحد أقاربه، يعتبر أن حيازة منزل في سنوات ما قبل الحرب كان بمثابة حلم لكن يمكن تحقيقه بعد سنوات من العمل. ويتابع، “أما الآن فالأمر بات حلماً لا يمكن تحقيقه في ظل الأسعار الرائجة. مرتب الموظف مدى الحياة  لا يمكن أن يكفي لثمن بيت بأسعار اليوم. التملك لم يعد لنا وإنما لهم”، في إشارة إلى الكثير من الأشخاص ممن استغلوا الحرب الدائرة في البلاد لتكوين ثروات ضخمة بطرق غير مشروعة (السرقة، التعفيش، الخطف…).

ورغم التراجع الكبير الذي حصل في سعر صرف الليرة السورية أمام العملات الأجنبية، إلا أن مرتبات الموظفين الشهرية بقيت على حالها، لا تتجاوز ٤٠ ألف ليرة للدرجة الأولى (أقل من ١٠٠ دولار اميركي).

الارتفاع غير المسبوق في أسعار العقارات بأحياء وسط العاصمة المنظمة، أدى إلى توجه النازحين إلى مناطق السكن العشوائي المحيطة بالعاصمة مثل “نهر عيشة” و”الدحاديل” و”دف الشوك” و”التضامن” والقزاز” التي تضاعفت الأسعار فيها أضعافاً مضاعفة، ذلك أن سعر منزل فيها مساحته ١٠٠ متر مربع يصل إلى أكثر من 20 مليون ليرة بعد أن كان لا يتجاوز مليون قبل الحرب.

ازدهار العشوائيات

هذه الحال كان لها أثر كبير في ازدهار عدد من هذه المناطق العشوائية لتشهد حركة عمرانية متزايدة باطراد خلال السنوات الأخيرة رغم أنه لا يتوفر فيها كثير من شروط الحياة الصحية والطبيعية والمرافق الأساسية.

في عام ٢٠٠٧ قدرت أرقام المكتب المركزي للإحصاء في سوريا نسبة السكن العشوائي في البلاد بـ٥٠%، مع إقامة ما يقارب ٤٥% من سكان دمشق في منازل عشوائية ومناطق مخالفات، بينما أشارت إحصائيات برنامج الأمم المتحدة للمستوطنات البشرية إلى توسع هذه المناطق بنسبة ٢٢٠% بين العامين ١٩٩٤ و٢٠١٠.

أما خلال الأعوام السبعة الماضية، ومع استمرار نيران الحرب في محيط العاصمة، فتتحدث تقارير سورية رسمية، كان آخرها الشهر الماضي، عن “ازدياد حالات مخالفات البناء في كافة مناطق العشوائيات بدمشق، وذلك يعود لارتفاع أسعار العقارات النظامية والإيجارات التي تضاعفت عشرات المرات.

ولم يمنع صدور مرسوم تشريعي عام ٢٠١٢ يقضي “بإزالة الأبنية المخالفة مهما كان موقعها ونوعها، وفرض غرامة مالية وعقوبة بالسجن تصل إلى سنة على كل من تثبت مسؤوليته عن المخالفة” من الاستمرار بتشييد المنازل العشوائية وبناء طوابق إضافية فوق المنازل الموجودة، في دليل على غياب سلطة القانون وسيادة الرشوة والمحسوبيات، مع عجز السلطات عن قمعها أو ملاحقتها.

مصادر في “هيئة التخطيط والتعاون الدولي” التابعة للحكومة قدرت الشهر الجاري بحسب وسائل إعلام محلية، أن عدد الوحدات السكنية المخالفة، التي بنيت خلال سنوات السبع الماضية بسوريا، قاربت المليون وحدة سكنية، أي بمعدل ١٠٥ آلاف وحدة سنوياً.

وتفتقر هذه الوحدات السكنية لأدنى معايير السلامة والأمان، كونها بنيت على عجالة بقصد التجارة والربح وسط حالة من الفوضى والانفلات الأمني الذي تشهده العاصمة دمشق مع غياب سلطة القانون، مما سمح لمالكي الأراضي ببناء منازل أو إضافة طوابق جديدة.

ولا يبدو أن الحكومة السورية تمتلك أي خطة لاستيعاب مئات آلاف النازحين الوافدين للعاصمة من المناطق المنكوبة في أنحاء البلاد، أو تخفيف وطأة ارتفاع الأسعار، تبقى مناطق السكن العشوائي التي لا تتوفر فيها كثير من شروط الحياة الصحية والطبيعية والمرافق الأساسية الملاذ الوحيد لمن ضاقت بهم سبل العيش وعجزوا عن تأمين مساكن لائقة في أحياء العاصمة النظامية.

منازل أشبه بقبور

وسيم أب لثلاثة أولاد يتحدث عن معاناته المريرة في البحث عن منزل بعد نزوحه من محافظة درعا إلى العاصمة دمشق وتنقله في السكن عند أقاربه إلى أن استقر به الأمر بشراء منزل لا تتجاوز مساحته ٣٥ مترا (غرفة ومطبخ وحمام وموزع صغير) بسعر ستة ملايين ليرة في منطقة القزاز العشوائية شرق العاصمة. ويوضح أن كامل المبلغ  استدانه من عدد من أقاربه الذين يعملون في بلدان أوروبية ودول الخليج كون مرتبه الشهري حاليا يكاد لا يكفيه ثمن الخبر والطعام، ويقول:  هو “أشبه بقبر ولكن هكذا أفضل”، ويضيف: “تجار العقارات خلال الازمة أظهروا كل جشعهم.  تعاملوا معنا على مبدأ أحسنوا الذبح!”

جشع المؤجرين

وفي ظل الركود الحاصل في عمليات البيع والشراء للمنازل بسبب ارتفاع أسعارها، ازدهرت عمليات تأجير المنازل بشكل غير مسبوق،  وتضاعفت الأسعار في الكثير من المناطق إلى أكثر من ٢٠ ضعفا، لدرجة أنه يتعذر وجود منازل للإستئجار في عدد من المناطق.استئجار منزل في العاصمة دمشق بات مهمة صعبة للغاية، وكثيرة التكاليف على المواطن السوري، فعملية استئجار شقة ليست بالأمر السهل مادياً ولناحية الإجراءات الإدارية، حيث تحتاج عند رغبتك في استئجار شقة معينة، أن تحصل على موافقة أمنية، وهي غالباً ما يتم دفع رشى للحصول عليها، وتتدرج بحسب المنطقة من ٢٥ الى ١٠٠ الف ليرة.

في الأحياء النظامية مثل “أبو رمانة”  يصل بدل إيجار الشقة الشهري نحو ٣٠٠ ألف ليرة سورية بعد أن كان يقارب ٢٥  ألفاً قبل الحرب، على حين يطلب أصحاب شقق في “المالكي” بدل إيجار شهر يصل إلى حوالي نصف مليون ليرة، بينما تكون الأسعار أقل نوعاً ما في منطقة الميدان حيث يصل بدل الاستئجار الشهري للشقة إلى ما بين ١٥٠ إلى ٢٠٠ ألف ليرة بعد أن كان نحو ٥ آلاف، على حين يبلغ أجار الشقة في مناطق المخالفات ما بين ٧٥ الى ١٠٠ ألف ليرة بعد أن كان لا يتجاوز ٣ آلاف.

العديد من أصحاب المنازل في مناطق سيطرة النظام، وفي ظل انعدام فرص العمل واستفحال البطالة توجه إلى الاستثمار في تأجير المنازل خصوصاً وأن المردود المادي للإيجار مرتفع، مقارنة مع باقي المهن الأخرى، وباتوا يشترطون ألا تتجاوز المدة الزمنية للعقد ثلاثة أشهر، من أجل رفع قيمة بدل الإيجار الشهرية كلما تم تنظيم عقد جديد، كما باتوا يشترطون دفع أبدال الإيجار عن الأشهر الثلاثة دفعة واحدة سلفاً بمجرد تنظيم العقد.

وبما أن العقد يعتبر منتهياً بمجرد انقضاء مدته الزمنية، يعمد الكثير من أصحاب الشقق السكنية إلى الطلب من المستأجر الإخلاء إذا لم يتوفر معه مبلغ بدل الإيجار عن ثلاثة أشهر جديدة.

ويقول  أحدهم ممن يمتلكون  ثلاث شقق في حي نهر عيشة غرب العاصمة لـ”صالون سورية”: “هي موردنا  الوحيد ونريد أن نعيش نحن وأبناؤنا.”

في المقابل، يعتبر أحد النازحين ويعمل بائع خضار في أحد أسواق جنوب العاصمة، أن الرحمة فقدت من قلوب الناس، “ولم يعد هؤلاء (أصحاب الشقق السكنية) يراعون حتى آباءهم فالطمع والاستغلال والجشع عشعش في قلوبهم وعقولهم.”

تبخر أمل العودة

الكثير من النازحين توسم خيرا لناحية انخفاض أسعار العقارات وأبدال إيجارات المنازل مع استعادة جيش النظام وحلفائه السيطرة على العديد من المناطق والسماح بعودة بعض الأهالي إلى أحيائهم، لكن سرعان ما خاب أملهم بذلك نتيجة الدمار الكبير الذي طال منازلهم وعدم إمكانية السكن فيها إلا بعد عمليات ترميم تحتاج إلى مبالغ كبيرة جدا غير متوفرة لديهم.

وفي المناطق التي سمح النظام للأهالي بالعودة إلى منازلهم فيها بعد أن استعاد السيطرة عليها، فوجئ هؤلاء الأهالي بخلو المنازل والمحال التجارية من أي أثاث ومقتنيات، حتى إن بعض المنازل بدت كأنها قيد الإنشاء وتحتاج إلى عملية إكساء شاملة، إثر سرقة الأبواب والنوافذ وخلاطات المياه والمفاتيح والأسلاك الكهربائية، وحتى”المراحيض الإفرنجية.”

ومنذ بدء الحرب في البلاد قبل نحو سبع سنوات شهدت أسعار المواد الغذائية والخضراوات ومختلف السلع المنزلية في عموم البلاد، ارتفاعاً تدريجياً، ووصلت إلى حد غير مسبوق، بسبب انخفاض مستوى سعر صرف الليرة أمام العملات الأجنبية، وتضاعفت غالبية الأسعار عشر مرات عما كانت عليه قبل الحرب.

وانعكس ذلك سلباً على الحالة المعيشية للمواطنين، مع بقاء سقف المعاشات الشهرية للموظفين على ما هو عليه، على حين يقدر اقتصاديون حاجة الأسرة المؤلفة من خمسة أفراد حالياً إلى ٨٠٠ دولار شهرياً لتستطيع مواصلة حياتها بشكل وسطي.

وكشفت دراسة أعدها في أيار ٢٠١٦ “مركز الرأي السوري للاستطلاع والدراسات”، وهو مركز موال للحكومة، عن أن نسبة السوريين الذين يعيشون تحت خط الفقر تصل إلى ٨٧ في المائة، وفقاً لمعيار البنك الدولي.

ويقدر أخصائيون، أن عمليات ترميم بسيطة لمنزل مساحتها نحو ١٠٠ متر مربع وتقتصر على إعادة تركيب أبواب ونوافذ وتمديدات كهربائية وصحية تصل تكلفتها إلى أكثر من خمسة آلاف دولار أميركي.

أم لأربع فتيات نزحت من الغوطة الشرقية وتسكن حاليا في أحد أحياء جنوب العاصمة قالت لـ”صالون سورية” بعد أن ذهبت وشاهدت منزلها الذي طاله دمار شبه كامل: “لا مجال للعودة ولا بخمس سنوات فالمنزل يحتاج الى إعادة بناء ولا يتوفر لدينا المال اللازم لذلك. يبدو أنهم  لا يريدون لنا أن نرتاح وأن نبقى تحت وطأة استغلال المؤجرين وتهديداتهم.”

أحد السماسرة العقاريين يعتبر في حديث لـ”صالون سوريا”، أن استعادة السيطرة على العديد من المناطق من قبل جيش النظام  لن تؤثر على أسعار العقارات كون ارتفاع أسعارها مرتبطاً بسعر الدولار وهذا الأخير “ما زال سعره على حاله”، لكنه رأى أن الأمر قد يؤدي إلى تراجع بسيط مع مرور الوقت في أسعار إيجارات المنازل خصوصا أن هناك مناطق تمت استعادتها باتفاقات تسوية ولم يحصل فيها دمار كبير.

عن ذاكرة المونديال في سورية

عن ذاكرة المونديال في سورية

لمونديال كأس العالم ذاكرة خصبة عند أغلب الشعوب، تكتظ بذكريات أحداثٍ فريدةٍ وحكاياتٍ شاسعةٍ وتفاصيل قصصٍ ملوَّنة ومفرحة واكبت مشاهدة تلك الشعوب للمونديالات التي عايشتها. قد تتشابه ذاكرة السوريين مع سواها ولكنها تختلف بعض الشيء، فكثيرٌ ما تقتحمها ذكريات أخرى تعيدهم إلى وقائع وأحداث مؤلمة ومريرة عاشوها في مراحل مختلفة من حياتهم، إذ قلما تخلو ذكريات مونديالٍ من استحضار بعض المنغصات والمصاعب والمتاعب التي واكبت أحداث الاحتفال به.

2002 مونديال الفقر والتسكع

كنا طلبة جامعيين، وكمعظم الشباب في سورية يحاصرنا شبح البطالة وانعدام فرص العمل، نحصل على قوت يومنا بشق الأنفس وبالكاد نتدبر أجور المواصلات، أن تملك عملاً في ذلك الوقت هو أمرٌ نادرٌ يجعلك من المحظوظين. كنت حينها أسكن غرفةً متواضعةً تحولت إلى فندقٍ للأصدقاء الغارقين في مستنقع العوز والحاجة، الضياع والخوف من الغد المجهول، في رحلة بحثهم عن فرَجٍ ومأوىً ما.

أطلَّ مونديال كأس العالم في ظروفٍ ماديةٍ ومعنويةٍ يرثى لها، طالت جميع الأصدقاء، إنه العرس العالمي الذي نعشقه وننتظره، ولكن كيف سنشارك فيه، أينَ سنحضره وكيف؟ لم تعد حقوق البث آنذاك متاحة للجميع كحال ما سبق مونديال 2002، فقد احتكرتها المحطات الرياضية المأجورة، ما الحل إذاً؟ إما أن نرتاد المقاهي التي اشترت خدمة قناة الجزيرة الرياضية أو أن نشترك بخدمة تلك القناة وهما خياران بعيدا المنال، يحتاج كلٌّ منهما إلى مبالغ كبيرة لا يمكننا جمعها مهما تعاونّا.

تنبعث أصوات المباريات من المقاهي والمنتزهات والشوارع، تستنفر آذاننا، تمتلئ أعيننا بالشغف لرؤية شاشات العرض، تتقافز أرواحنا نحو الأصوات، ولكن فقر الحال كان يلجم رغباتنا، فأمثالنا يحتاجون معجزةً ماليةً للاحتفال برياضةٍ عُرفت تاريخياً بأنها “رياضة الفقراء”، إذ أن حضور مباراةٍ في أرخصِ مقهى يكلِّف آنذاك ما بين مائة وخمسين ومئتين ليرة( ٣ أو ٤ دولارات) وهو مبلغ كان يؤمن لنا طعام يومين أو ثلاثة. احتال بعض الأصدقاء على الأمر وعملوا كندلاءَ وعمال مطبخٍ في بعض المقاهي لتتسنى لهم فرصة متابعة المونديال.

أسمينا ذلك المونديال “مونديال التسكع”، قاومنا الواقع وتحدينا الفقر والظروف القاهرة لنقتنص أي فرصةٍ لمتابعة أحداث المباريات، فنجحنا في مشاهدة معظمها وقوفاً على الأقدام، بالنّظر خلسةً من الشوارع الى شاشات المقاهي، أو باستراق النظر من بعيدٍ إلى شاشات العرض الكبيرة في بعض المنتزهات.  

لقد كان مونديالاً درامياً مؤثراً مع مشاهد تجمهُر مئات الفقراء خلف أسوار المقاهي والمنتزهات ليحظوا بشيءٍ من المتعة الممزوجة بطعم الألم. إنه شعبٌ يستحق الحياة لكنه لا يعيشها إلا بدفع أثمانٍ باهظة وبتقديم تضحياتٍ كبيرة. أذكر أن بعض الأصدقاء تابعوا معظم المباريات من خلف سور حديقة معرض دمشق الدولي القديم، وكان لي نصيبٌ من تلك المشاهدات التي ستحفر في الذاكرة مع رائحة التبغ الرخيص وطعم الشاي البارد.

ولعل النور الحقيقي الوحيد في ذلك المونديال قد انبلج في مباريات الدوري النهائي، بعد أن تمكنتُ وصديقي من استدانة بعض نقودٍ أدخلتنا إلى المقهى كفاتحين مختالين بالانتصار. كان عرساً حقيقياً، أن تحتفل بعد تعبٍ ومشقة، وأنت مسترخٍ على كرسيك، تشرب قهوتك بنشوة، وتسترق لحظات من فرحٍ عالمي، في بلادٍ الفرح فيها مدفوع الثمن والثمن في الغالب معدوم.

2010 مونديال الاحتفال الأخير

لم يتغير وضعنا الاقتصادي كثيراً عن السنوات الماضية، وظروف العمل والسكن والاستقرار على حالها. لكن القدر ابتسم لنا في ذلك المونديال، نعم، إنها نعمة الأصدقاء، زاد حياتنا وبلسم جراحنا. وهبتنا السماء هديةً ثمينة، فصديقنا الذي استثمر مقهىً، بعد جمع المال من أقاربه وأخوته المغتربين، قدم لنا دعوةً مفتوحةً وشبه مجانية لمتابعة المونديال، فبرأيه الرّبح هو لمّة الأصدقاء على الفرح والمودة، وهكذا جعل من مقهاه بيتاً حميمياً دافئاً وحضناً للمحبة وملتقى للتواصل والبهجة.  

كنا ثلّةً من عشرين شخصاً، نرتاد المكان بشكلٍ شبه يومي، وسط أجواء من الألفة والمرح والفكاهة وبعض المناكفات. تتوزع الأعلام على الطاولات، تتزيَّن الوجوه بالرسوم، تلتف الرؤوس والمعاصم بأعلام الفرق المفضلة، تعلو الهتافات والضحكات الرنانة، وتدور الرهانات على الفرق التي ستفوز، هكذا تُعاش أجواء المونديال حقاً وهكذا يكون تفاعل الجمهور. إنه عرسٌ للفرح والجمال في مكانٍ يُشعرك بالاطمئنان والدفء، ويذكرك بالوجه الجميل لدمشق الحنونة العطوفة ويكشف الضوء الناصع للسوريين الذين يتقنون الحياة ويخلقون لها كرنفالات ساحرة.

لم تكن أحداث المونديال هي مصدر فرحنا الوحيد، الفرح الحقيقي كان يأتي من روح المكان العابق بالحياة ومن نبض الأصدقاء ومهرجان الحب الذي نصنعه معاً. لقد كنا عائلة واحدة، نتقاسم ما نملك من نقود وسجائر، نتنقل بين طاولاتنا ليتواصل الكل مع الكل. أطباق طعام شهية، حضرت من المنازل إلى المقهى ليتناولها الجميع، زجاجات خمرٍ فاخرة، كانت مخبئة لمناسباتٍ خاصةٍ، فحضرت إلى طاولاتنا لنشرب نخب تناغمنا الفريد.

تفاصيلٌ وذكرياتٌ لا يمكن حصرها من مونديالٍ بقي حتى اليوم المونديال الأجمل في حياتي، وربما كانت الحياة كريمة معنا في ذلك الحين، بل يبدو أنها أهدتنا حصصنا من الفرح سلفاً، لأنها كانت تعلم أن مونديال 2010 سيكون الأخير لنا معاً، لذا كان كرمها ذاك ومحبتها تلك نوعاً من الشفقة، إذ ستبخل علينا فيما بعد بكل شيء وستعاقبنا في قادم الأيام فتفرق شملنا وتلقي بكل منا إلى مصيرٍ تراجيدي مؤلمٍ، بين معتقل ومفقود، مهاجر ولاجئ، نازح ومحاصر. فقد أصبحت البلاد ملعباً تخاض فيه مباريات كثيرة في مونديالٍ سياسيٍ دموي، ويتحول الجمهور إلى كراتٍ تتقاذفها الأقدام المتصارعة كلٌ حسب مرمى مصالحه.

2014 مونديال الكهرباء

أصوات الحرب تدوي وخارطة المعارك تتسع لتلتهم مساحاتٍ جديدة من حياتنا، معظم أصدقاء المونديال السابق تفرقوا في أصقاع الأرض هرباً من الرعب والموت، أملأ فراغ غيابهم بحضور قِلّةٍ من الأصدقاء الجدد، نقاوم معاً قبح الحرب وسطوتها. حسناً، سأتابع هذا المونديال بصحبة ثلاثة منهم، جمعنا عشق الكرة وحب الحياة.

قبل أيامٍ من انطلاقة المونديال، بدأ الشغف والحماس يدخلان قلوبَنا لينسيانا مرارة الواقع وجحيم الحرب والقذائف. قرّرنا أن ندير ظهورنا للقذائف ونحتفل بالحدث الرياضي العالمي رغم أنف الموت. وكأنَّ قانون الجذب الذي يتحدّثون عنه في علوم الطّاقة أضحى حقيقة، فها هو القدر يقدّم لنا مفاجأةً مدهشة (قناة”هوا” الأرضية التي تنقل المونديال مجاناً)، بإمكاننا الآن متابعته باسترخاءٍ في بيوتنا ضمن أجوائنا الاحتفالية، ولا حاجة لارتياد المقاهي وتحمل أعباء تكاليفها التي تضاعفت عن السنوات الماضية.

خرجنا من نفق الحرب قليلاً وحلَّقنا مع أفراح شعوب العالم لنتذكر أننا بشر على قيد الحياة، دخلنا أجواء المونديال بكل ما أوتينا من لهفةٍ وإشراق، ولكن مزاج الحرب المتقلب أزعجه ذلك، فما إن بدأت أحداث المباريات الأولى حتى قتل أفراحنا وأجهض حماسنا، وهذه المرة عبر سلاح الكهرباء، التي عادت إلى الانقطاع شبه المستمر بحجة التقنين، لتحضر ساعتين وتغيب أربعاً.

ولأن سقف أحلامنا منخفضٌ جداً، واسينا أنفسنا بأننا محظوظون لأن خطة التقنين تختلف من حيٍ لآخر؛ فبدأنا نتتبَّع ساعتي حضور الكهرباء من مكان إلى آخر، لنحضر الشوط الأول في حيٍ والشوط الثاني في حيٍ آخر، وأحياناً نضطر إلى نقل التلفاز معنا إلى بعض البيوت. لكن سياسة التقنين صارت تتغير على نحوٍ مفاجئٍ لتعرقل خطتنا وتُضيِّع وجهتنا، فنركض كالعدائين لنبدل أماكننا لاهثين خلف الفرح المسروق. وفي حالاتٍ كثيرة كنا لا نوفق في متابعة مبارياتٍ كاملة حين لا يلتقي موعد نقلها مع موعد الكهرباء فنتمكن من حضور شوطٍ واحدٍ، وأحياناً يخذلنا مزاج الكهرباء في الربع الأخير من المباراة فنهرع الى أقرب مقهى أو نتطفل على الشاشات التي يمكن استراق النظر اليها من الشارع لمتابعة اللحظات الأخيرة من مباراةٍ حاسمة.

لقد خضنا مباراة طويلة وشاقة مع الكهرباء التي أتقنت فن المراوغة وتعمدت قهرنا واستفزازنا واللعب بأعصابنا، فحتى خلال ساعتي حضورها، كانت غالباً وبشكلٍ متكرر تنقطع لدقائق ثم تعود، لتضيع علينا مشاهدة هجمةٍ كرويةٍ حاسمة أو هدفٍ جميل، فتعلو صيحات الشتائم والتذمر بدل صيحات الفرح والتفاعل، ليبقى السؤال المؤلم والمعذِّب يلح كل يوم، لماذا لم يرتب موعد الكهرباء مع موعد المباريات؟

ربما لفتح الباب أمام تجار الحرب الذين وجدوا خلال المونديال سوقاً مربحة لتسويق مولدات الكهرباء، التي كان شراؤها حكراً على الأثرياء وميسوري الحال، بينما وقف الفقراء خارج المعادلة، إذ لا يحق لهم أن يفرحوا ويحتفلوا، وربما نسي بعضهم المونديال أصلاً بعد أن غرقوا في زحمة حياتهم اليومية المضنية، فلا وقت لديهم لتشغيل التلفازات التي توقفت عن العمل في تلك المرحلة لأن ساعات الكهرباء الشحيحة لا يمكن إضاعتها في أمورٍ صارت من الترف والكماليات، ثمة أمور كهربائية أساسية أهم وألح من تشغيل التلفاز، كتشغيل الغسالة والمكنسة والمكواة والفرن وغيرهم. كما أن بعض أرباب الأسر قد نسوا شكل التلفاز وهم يركضون خلف تأمين لقمة العيش، وخاصة أصحاب الحرف والمهن التي تحتاج إلى وجود الكهرباء، إذ باتوا يرتبون أعمالهم وفقاً لأهوائها التي تتحكم في مواعيد نومهم وزياراتهم وأفراحهم.

لقد خاض السوريون في ذلك العام مونديالاً خاصاً كان خصمهم فيه هو الحرب وأبناؤها: الموت والخوف، الكهرباء ومأساة الواقع اليومي وما شابه. ولو أن العالم كان عادلاً وإنسانياً لمنحهم لقب الفوز على الواقع وقدم لهم كأس الحياة.

2018 مونديال الفقد والوحدة

الكهرباء متوفرة إلى حدٍ ما والمونديال منقول على بعض القنوات الأرضية. لكن بريقه قد خفت في عيون الكثيرين، الحماس بردَ والفرح تعب في قلوب أغلب متابعيه، لقد أرهقتنا سنوات الحرب، وقتلت أشياء جميلة في أرواحنا، فلا يكاد بيت في سورية يخلو من جرح أوغصة أو مأساة. تابع معظم السوريين المونديال في بيوتهم، شلَّت الحرب والظروف الاقتصادية المتردية شغفهم ورغبتهم بالتنزه والاحتفال وانطفأ وهج الاحتفال الكروي في المقاهي والمنتزهات التي كانت فيما مضى وجها للتفاعل ومهرجاناً للفرح.

بالنّسبة للشباب المدمنين على متابعة الفعاليات الكروية في المقاهي، فقد انكفأ معظمهم عن إدمانهم هذا وصاروا يرونه بعين الخوف والريبة، فالمقاهي المكتظة، عادةً، بالشبان، تحوّلت في المرحلة الأخيرة إلى مصيدةٍ للإيقاع بالمطلوبين للخدمة العسكرية الإلزامية والاحتياطية، وتسليمهم كصيدٍ سهلٍ للدوريات الأمنية ليتم سحبهم الى المعارك من أماكن جلوسهم أو أثناء خروجهم من الأبواب. فضّل أغلب أولئك الشّباب ملازمةَ بيوتهم مرغمين ليشاهدوا المباريات دون شغفٍ أو حماس.

تابعتُ أغلب مباريات هذا المونديال وحيداً في منزلي. لم أزر أي مقهى، فجميع المقاهي ستغدو كئيبة وموحشة بدون أصدقاء المونديالات السابقة الذين لم يبق أحد منهم في دمشق. ومن تبقى من أصدقاء في الداخل يجمعني بهم عشق الكرة كانوا مبعثرين في البلاد، سجناء مدنهم وقراهم أو حتى حاراتهم وبيوتهم، تقطعت سبل اللقاء بيننا لأسبابٍ شتى من بينها الانشغال في هموم الحياة اليومية والخوف من القادم وصعوبة التنقل بسبب رهاب عبور الحواجز وأيضاً بسبب انعدام آفاق الفرح وتعطل طاقات الحياة.

لقد كانت متعة مشاهدة هذا المونديال منقوصة بل ومؤلمة، تكشف حجم الفراغ الذي خلَّفه الأصدقاء. كل مشاهدة تفتح لي جرحاً وتستنهض ذكرى أصدقاء غائبين. أصوات المعلقين، أداء اللاعبين، كل تفصيل يُذكرني بهم، وبطقوسٍ ومواقف كانت تجمعنا في سابق الأيام. فِرَقٌ تذكرني بمن غادروا البلاد مرغمين وبآخرين مفقودين أو معتقلين منذ سنوات، مبارياتٌ تذكرني بأصدقاء اقتيدوا من الحواجز إلى الخدمة العسكرية ليخوضوا مونديال المعارك على الجبهات وبآخرين ماتوا جراء القذائف وبطش الحرب. أسمع أصواتهم بقربي وهتافاتهم وضحكاتهم. أشاهد التلفاز وأتصفح الفيسبوك في ذات الوقت لأتمكن من التفاعل مع الأحياء منهم، اللعنة على القدر والمسافة، لقد أصبح التفاعل الكترونياً والفرح مصطنعاً ومعلَّباً، وتحولت مهرجاناتنا واحتفالاتنا الواقعية النابضة بالروح والحياة إلى مجرد كلماتٍ وتعابير متكلفة ومقتضبة، ننثرها عبر منصات التواصل الاجتماعي، تحمل عبارات الشوق والتمني وأدعية اللقاء والابتهال لمونديال 2022 علّه يكون مونديال اللقاء والاحتفال بالفرج.

مقاهي دمشق: بين رماة النرد والإنترنت وسجادات الصلاة

مقاهي دمشق: بين رماة النرد والإنترنت وسجادات الصلاة

لقطة عامة على مقاهي دمشق، تخبرنا ماذا فعلت الحرب بأبرز مظاهر الحياة الاجتماعية والثقافية في العاصمة السورية، فما إن انقضت السنة السابعة من الحرب؛ حتى تدفقت أموال أمرائها لتمارس سياسة القضم والهضم لقطاعات واسعة من مرافق المدينة، والتي يبدو أنها ذاهبة في تغييرات أساسية على طابعها العمراني العام.

ليست المقاهي هي المظهر الوحيد في قياس نبض المدينة التي تصعد اليوم الدرجة الثامنة من سلّم الحرب، بل هي المرافق العامة التي تنقرض شيئاً فشيئاً لتتحول بين ليلةٍ وضحاها إلى مطاعم يرتادها أثرياء الحرب وصبيتها. جولة قصيرة بين الأحياء الرئيسية لدمشق، سوف تُظهر حجم السطو على أرصفة بكاملها لحساب مطاعم الخمس نجوم التي باتت تعبيراً عن تبييض الأموال وهدرها على ملذات أبناء وبنات النفوذ وسواهم ممن موّلتهم الحرب بنفسها، معممةً ثقافة المطعم، ثقافة الآكل والمأكول كصياغة مباشرة لشكل الحياة العامة.

شيئاً فشيئاً تكتظ طاولات وكراسي وسيارات فارهة إلى جانبها على أرصفة حي (أبي رمانة) و(أتوستراد المزة) و(المالكي) حيث تنتشر هنا أكثر مقاهي ومطاعم لا نحتاج القول إلى أنها حكر على أصحاب الثروات الذين تصل فاتورة أقل حساب فيها إلى ما يقارب (50 ألف ليرة سورية- ما يعادل 100 دولار أمريكي).

لقد كشرت الحرب عن مطاعمها ومقاهيها مبدلةً من شكل المقهى القديم، ومطعم العائلة المنحدرة من الطبقة الوسطى، لتمسي هذه الأماكن ذات الواجهات البلورية الفاخرة عنواناً لفروق طبقية حادة داخل المجتمع السوري الذي يتراوح متوسط دخل الفرد فيه بين (70 إلى 85 دولاراً أمريكياً) راتب موظف من الفئة الأولى والذي لا يكفي لتناول وجبة غذاء لمرة واحدة في مقاهي ومطاعم الحرب.

معادلة زادت الأغنياء غنى والفقراء فقراً، ليتم نفي العديد من أصحاب الدخل المحدود إلى مقاهي ومطاعم الفقراء التي ما يزال البعض منها يقاوم للبقاء على خارطة الخدمات التي يقدمها لزواره، فمن مقهى الروضة في شارع العابد نحو مقهى الكمال الصيفي والهافانا، وصولاً إلى مقهى الحجاز في شارع النصر، يجلس ما تبقى من جمهور المثقفين الذين بالكاد يدفعون ثمن فنجان قهوة وعبوة ماء صغيرة لقاء ارتيادهم لهذه الأماكن التي على الأقل ما زال بعضها يحتفظ بشكل المقهى القديم، بعيداً عن شاشات البلازما الضخمة المنصوبة في جهات المقهى الأربع، إما لنقل مباريات الدوري الأوروبي أو كأس العالم، أو لمشاهدة مسلسلات البيئة الشامية ذات الطرح الرجعي والمتخلف، حيث تعلو أصوات سحب الخناجر هنا أو يرتفع صوت المعلق الرياضي التونسي عصام الشوالي هناك، ليعلن هزيمة الأرجنتين والبرازيل واللطم على حظوظ الفرق العربية في كأس العالم بروسيا 2018.

لا رأفة بزوار المقهى الذين وجدوا أنفسهم خارج أجواء المقهى الجديد، والذي طرد من جنته جميع من لا ينتمون إلى التشكيلة الكروية الجديدة، فالمقهى في دمشق لم يعد مكاناً للقاء أو تبادل الأحاديث، أو لعب الشطرنج، بل تحول إلى حلبة جديدة من حلبات التصفيق والزعيق الممزوج بأغانٍ هابطة مفتوحة شاشاتها المنصوبة في كل الأرجاء على قنوات الفيديو كليب العربي، ومسلسلات الهيبة والخيانة الزوجية.

في هذا الجحيم المطبق يبدو من الصعب العثور على مكان محايد، وبعيد عن لوثة الكرة ونجوم المسلسلات وراقصات الفيديو كليب، بعيد عن فسحة لفنجان قهوة هادئ وحديث نميمة بين أصدقاء الكتب والثقافة والمسرح، خلا عن وجود مساحات لا بأس بها في هذه المقاهي لعرض القنوات الدينية الراديكالية، أو بث نشرات الأخبار الدموية على مدار الساعة، لتصبح الموسيقى –إن وجدت- نوعاً من الضجيج العام، ولتصبح كراسي المقهى منصات للتعذيب وتصديع الرؤوس بكل ما هو سطحي وتافه ومبتذل.

الشكل المعمم اليوم للمقهى الحداثي هو وجود ( Wi- Fi) أو (WIRELESS) خدمة الشبكة التي يطلبها (الزبون) ما إن يدخل المقهى كي يشبك مع شبكة الإنترنت، وهكذا يقضى الأمر، وما عليكَ سوى الدخول إلى أي مقهى من هذا النوع في دمشق، وهي النوعية الطاغية في المدينة، حتى تتأكد من أن الجميع رؤوسهم منحنية فوق هواتفهم النقالة، ينشطون على مواقع التواصل الاجتماعي، دون حتى أن ينظروا ولو لمرة بمن يقابلونه على طاولة المقهى التي يجلسون إليها.

النرجيلة والهواتف المحمولة قطعتها (كلمة المرور)- (PASSWORD) لتحيل زوار هذه المقاهي إلى ما يشبه تماثيل صامتة لا تتكلم مع بعضها البعض إلا شذراً. نوعية جديدة من مرتادي المقاهي حيث (التواصل الاجتماعي) هنا هو اللا تواصل، فلا أحاديث يمكن إثارتها ولا نقاشات ثقافية أو اجتماعية أو سواها.

الجميع هنا مشغول بقطاف شجر (اللايكات) و(الكومنتات)- الإعجابات والتعليقات في سديم الموقع الأزرق- (فايس بوك) ليتحول المقهى إلى مجرد نقطة لقاء عابرة بين أشخاص بالكاد ينظرون إلى وجوه بعضهم البعض. وحتى ولو نظروا فهم منومون مغناطيسياً تحت سطوة هواتفهم التي أحالتهم وفق الدراسات الجديدة في عالم الميديا إلى (قبيلة منحنيي الرؤوس) أكبر قبيلة في العالم اليوم تنحني رؤوسها على شاشات هواتفها المحمولة.

مفارقات بالجملة يمكن رصدها اليوم في مقاهي ومطاعم دمشق التي أمست المكان الأكثر تميزاً لالتقاط الصور، كي يقوم أصحابها بنشرها مباشرةً على  الفيس بوك، حيث يستغرق وقت التقاط الصور ونشرها على موقع (زكربرغ) ثلاثة أرباع الوقت في مقهى من مقاهي حي (المالكي) المنتشرة بكثرة بالقرب من حديقة الجاحظ، أو ما يصطلح عليه بــ (دوار المطاعم). هكذا يمكن النظر إلى فريقين من مرتادي المطاعم والمقاهي في عاصمة البلاد: الفريق الأول ما يزال يعتصم بأماكن نادرة من طقوس التواصل الاجتماعي، وهم يتوزعون عادةً على مقاهي من مثل:(البرازيل)- تحول ثلثا المقهى إلى بنك بيمو السعودي الفرنسي- و(الروضة) و(الكمال) و(الهافانا) و(قهوة مزبوطة) و(الشرق الأوسط) و (قهوة المتحف الوطني) و(العجمي) بينما يتوزع الفريق الثاني على مقاهي (آب تاون) و(الجميني) و(الكوخ) و(البوليفار) إضافةً لمقاهي ومطاعم (أتوستراد المزة) على سبيل المثال لا الحصر.

انقراض القراءة

طبعاً لا نستطيع القول أن مقاهي الفريق الأول صافية من لوثة التصفح الإلكتروني لمواقع التواصل الاجتماعي، فهذه المقاهي أيضاً حاولت الجمع بين ميزات المقهى القديم بطاولات النرد وخلوات بعض المثقفين والفنانين، فيما اختفت الجرائد الورقية من أيدي زوار الفريقين، إلا ما ندر. يقول فاضل الكواكبي الناقد السينمائي معلقاً على ذلك: ” يكاد الناس يستغربون مظهري الخارجي وأنا أتأبط جرائد (تشرين) و(الثورة) و(الأيام) و(البناء) و(البعث) أو مجلات (الحياة السينمائية) و(الموسيقية) و(المسرحية)، مصطحباً إياها معي إلى طاولات المقاهي التي أرتادها، فلقد آثرتُ أن أبقى على عاداتي القديمة في قراءة الجريدة وقهوتي السادة على طاولة المقهى، عادات ورثتها عن مقاهي حلب الرائعة، والتي اليوم لا أجدها عند مرتادي المقاهي بدمشق، إلا ما ندر.”

كلام (الكواكبي) يحيل إلى انقراض عادات القراءة التقليدية، كما يشير إلى قطيعة شبه كاملة مع أشكال التلقي القديمة. ظاهرة عززها منع الحكومة السورية لدخول جرائد (السفير) -قبل أن تحتجب- و(الأخبار) و(الحياة) إلى البلاد. المنع الذي ترك الجرائد الرسمية الملاذ الأخير لقراء الصحافة الورقية؛ ساهم هو الآخر في عزوف العديد من هذا الجمهور عن اقتناء الجريدة، ليذكرنا ذلك بما كتبه يوماً المفكر السوري الراحل (بوعلي ياسين-1942- 2000) في كتابه (شمسات شباطية) عندما قال: “أجمل شيء في الجرائد السورية أن قراءتها لا تستغرق أكثر من خمس دقائق!”

عبارة صاحب (عين الزهور- سيرة ضاحكة) تكشف بعضاً من التغييرات الدراماتيكية على شكل المقهى في دمشق، والذي على بؤسه الحالي، وتغير زواره، إلا أنه يشي بالكثير من العلامات التي تجدر قراءتها وفق الواقع المتفاقم في طرد الزوار القدماء، أو القلة القليلة منهم الذين آثروا البقاء داخل البلاد، متمسكين بآخر كراسي الخيزران وطاولات الرخام في مقاهيهم المعتادة، فعلى مدى سنوات طويلة تمكن تجار حي الصالحية من إقفال العديد من حانات ومطاعم المثقفين والفنانين التي تحولت في معظمها إلى مستودعات أحذية ومطاعم شاورما وبنوك.

هكذا على التوالي اختفى مطعم (الريس) واختفت معه طاولة برهان بخاري كنديم مزمن على طاولات عامرة في حانات (فريدي) و (القنديل) و( العمال) عامرةً بأغنيات ومواويل كل من ناظم الغزالي وإياس خضر وحسين نعمة ورياض أحمد.

يسرد الشاعر خليل درويش قصته مع رفاق العمر في مقاهي وحانات دمشق التي اختفت اليوم: “هناك عند ساحة المحافظة وعلى طاولة في مطعم (الريس) كنا نجتمع طوال عشرين عاماً، أنا وبرهان بخاري، ولؤي عيادة، وطارق حريب، ومحمد جومر، وأبو عدنان داغستاني، ومحمد بخاري الموريتاني وعاشق الشام الأول، و طبعاً حبيب قلبي  الراحل عادل حديدي. ظرفاء كانت لا تستوي الجلسة بدونهم. هؤلاء اللماحون أنقياء القلوب، ماتوا جميعهم مكتئبين أو حزانى من حربٍ منعتهم من مغادرة منازلهم نحو طاولاتهم في حانات باب توما و(بارات) باب شرقي.”

كنا قد أرسينا تقليداً لتلك الطاولة- يوضح: ” كان كلما مات واحدٌ من ركاب قارب الأحزان هذا، نأتي في اليوم التالي لنشعل شمعةً ونصبُّ كأساً له قبالة كرسيه الفارغ، ثم نشرب بصحته حتى الصباح! اليوم لم يتبقَ سواي على متن مركب الأحزان هذا.”

حيّ الكفار

إقصاء المثقفين والفنانين والظرفاء عن وسط العاصمة ليس أمراً طارئاً على الحياة الاجتماعية في دمشق، فالحكاية تأخذ مديات واسعة من التهميش القسري، وتحت ضغط من بعض الغلاة الذين يعتبرون (شرب الكحول حرام في الشرع) مما أدى إلى نزوح العديد منهم إلى أماكن مهجورة وفرتها الحرب مرةً، وطاردتهم فيها مرات.

على الأقل هذا ما دفع العديد من هؤلاء للجوء إلى بارات باب شرقي وباب توما، ساخرين من هذه الطائفية في تحديد مواقع سهراتهم: “ثمة من يريد أن يقول لنا إذا أردتم أن تشربوا وتسكروا عليكم بالذهاب إلى (حي الكفار)”- يقول فنان تشكيلي رفض ذكر اسمه ويضيف: “المدينة لا يمكن أن تكون مقتصرة فقط على أسياخ الشاورما ومرقة الفول، لا يمكن أن تعيش بلا مكتبات وحانات ومسارح وصالات سينما، لا أراها اليوم إلا تذبل وتضمحل تحت وقع ما تريده وزارة الأوقاف ودار الإفتاء، ليتدخل أحد ويوقف هذا الخواء المرعب.”

آخر حكواتي في دمشق

الكرسي العالي الذي يتوسط مقهى النوفرة الدمشقي بات شاغراً اليوم بعد موت (أبو شادي) آخر حكواتي في دمشق؛ فمنذ رحيله قبل أربع سنوات، أصبح أعرق مقاهي العاصمة السورية يستقبل زواره دون سماعهم سيَر عنترة وعبلة وأبي زيد الهلالي، إلا أن ذلك لم يمنع المخرج المسرحي سامر عمران في عرضه (نبوءة) من اختيار (مقهى الشام القديمة) المواجه مباشرةً لمقهى (النوفرة) ليكون مكاناً بديلاً لعرضه المسرحي، في تحدٍ فني لافت لرجال احتكروا مهمة السرد لقرون طويلة؛ متناولاً سنوات الحرب في بلاده عبر توريةٍ ذكية، كان أسند فيها (عمران) دور الحكواتي الغائب للممثلة ربا الحلبي؛ لتسرد الفنانة الشابة هذه المرة حكاية من نوعٍ آخر؛ مبتعدةً عن قرقرة ماء النراجيل، وجمر أدخنتها، وصيحات أنصار الزير ودياب الغانم. الحكواتية الشابة تلت نبوءاتها المتعددة دامجةً بين التمثيل والترتيل والغناء، مفتتحةً بمقطعٍ مؤثر من نص (ملحمة السراب) لسعد الله ونوس، ليكون هذا العرض بمثابة تغيير لوظائف وطبيعة المقهى الشعبي، ومحاولة لخلق فضاء ثقافي منه، كما حدث عام 2008 مع فعالية (مقهى الذاكرة) الذي أطلقته احتفالية دمشق عاصمة للثقافة العربية عام 2008.

كان ذلك قبل اندلاع الأحداث الدامية في سورية، حيث استضاف هذا النادي في (مقهى الروضة) العديد من الشخصيات والرواة الشعبيين، في تواصل اجتماعي دأب إلى تغيير شكل المقهى القديم، من مجرد ملتقى يومي لتزجية الوقت، إلى ما يشبه منتدى ثقافي وسياسي.

ظاهرة لم تستمر طويلاً، فما لبثت أن اختفت مع انقضاء عام الاحتفالية، ليعود المكان إلى صيحات شلل (الشدّة) وتطاير أوراق اللعب، لاسيما من شريحة ممثلي التلفزيون الذين ما يزال من بقي منهم يحافظ على بطولات (التريكس) و(الطرنيب) و(الشتائم) قريباً من سجادات الصلاة المفروشة بين طاولات المقهى الذي يجاور مبنى البرلمان السوري!

طباعة عملة سورية جديدة: الجدل والتحديّات

طباعة عملة سورية جديدة: الجدل والتحديّات

خرجت تسريبات كثيرة حول نية الحكومة السورية طباعة عملة جديدة تلبيةً لمتطلبات السوق، رغم ما يعانيه هذا السوق من تضخم ركودي كبير غير مصرح عن حجمه بأرقام حقيقية.

فحسب صحيفة الوطن (9 أيار 2018)  فقد تم إعداد مشروع قانون أحيل إلى مجلس الشعب ويسمح بإصدار أوراق نقدية من فئة الليرة وحتى خمسة آلاف ليرة سورية، في حين صرّحت مصادر وزارية عن اقتراب طرح مسكوكات معدنية من فئة الـ 50 ليرة وكان د. دريد ضرغام، حاكم مصرف سورية المركزي، قد صرح سابقاً على صفحته الشخصية على الفيس بوك حول دراسة سيناريوهات سك وتصنيع قطعة معدنية من فئة خمسين ليرة.

ويقدم أنصار طرح فئة الخمسة آلاف والخمسين ليرة تحليلاته الخاصة حول أهمية وجهة نظره النقدية والاقتصادية، لذا كان من المهم تسليط الضوء على وجهة النظر الإقتصادية حول قدرة الحكومة على طباعة أو صك أيٍّ من هذه الفئات النقدية وماهي السيناريوهات المتوفرة للنظام السوري.

العملة من فئة 5000 هي عملة تم التخطيط لطباعتها منذ منتصف 2008 عندما كان د. أديب ميالة حاكما للمصرف المركزي مدفوعاً من سياسات التخطيط الاقتصادية-الاستراتيجية للدولة بهدف إيجاد دولارٍ محلي يجعل من أي مستثمرٍ يرغب بدخول السوق السورية الواعدة  قبل اندلاع الانتفاضة السورية والحرب التي تلتها، وذلك من خلال تحويل مبالغ الاستثمار من العملات الاجنبية إلى الفئة الجديدة والتي كانت قيمتها آنذاك تعادل فئة 100 دولار مستفيدين من قانون منع التعامل بالعملات الأجنبية.

لكن نتيجةً لاندلاع الثورة وإحجام المطابع الأوروبية (النمسا) عن طباعة الفئات النقدية الورقية السورية، لجأ مصرف سورية المركزي عام 2012 إلى المطابع الروسية التي قامت بطباعة الكمية التي تحتاجها الحكومة السورية لتلبية سوق الصرف والتي تمّ ضخها على مراحل حسب ما تقتضيه ضرورات تمويل آلة الحرب. فقد كان المصرف المركزي يتحكم بسوق الصرف بعيداً عن دوره المهني النقدي وذلك  لتوفير الأوراق النقدية اللازمة لدفع رواتب الموظفين في مؤسسات الدولة والذين سيق جزءٌ كبيرٌ منهم الى خدمة العلم، بالإضافة إلى دفع رواتب المنخرطين في ميليشيات جيش الدفاع الوطني، وتلبية احتياجات السوق بالسيولة المالية دون أن ننسى أنّ هذه الدور كان يمثل أحد الجوانب الاقتصادية للحرب على معارضي النظام السوري.

لكن بعد التدخل الروسي المباشر بالملف السوري بكل قضاياه منذ العام 2015، عزفت المطابع الروسية عن تلبية احتياجات البنك المركزي السوري وخاصةً مع انتهاء مناطق خفض التصعيد التي كانت قبلة التدفقات النقدية من العملات الأجنبية عن طريق الإغاثات الدولية، الأمر الذي أجبر المصرف المركزي بالتلويح للشارع التجاري عبر وسائل الإعلام عن نيته إصدار فئة الـ 5000  تلافياً لأزمة السيولة التي بدأت تتعمق في السوق معتمداً على المخزون القديم المطبوع.

فمع خروج الآلاف من المهجرين من مناطقهم مصطحبين معهم أموالهم التي أفقد السوق جزءاً كبيراً من السيولة النقدية، إضافة إلى صعوبة التبادلات التجارية بين المناطق الخاضعة لسيطرة النظام والمعارضة بسبب نقاط المراقبة الدولية، الأمر الذي جعل السيولة النقدية في موقفٍ حرج، ذلك لأن النظام يحتاج لأموالٍ تلبي النفقات الجارية من رواتب وأجور وسلع وبات مضطراً للعمل على خفض الأسعار كضريبةٍ لإعلان الإنتصار أمام المؤيدين المنهكين من الحرب والغلاء. وكل ذلك يتم بالتوازي مع منع التعامل بالدولار داخلياً ومترافقاً مع إصدار تشريعات إعادة الإعمار التي بدأت تصدر بشكل مراسيم وهو ما يعني الحاجة الى سيولة مضاعفة، مما دفع النظام الى محاولة تسريب مشروعه القديم للأفق.

لكن الوضع اليوم قد تغير فالـ 5000 ليرة لم تعد تساوي 100 $ محلياً، وهي غير مقنعة للمستثمرين كما أن حجم الإصدار من هذه الفئة محدود ويعتمد على الكمية المطبوعة عام 2012 مما يجعل أثرها على السوق إعلامياً لا أكثر وسيقود نتيجةً لمحدوديته الى العرقلة التجارية ثم  الضغط على السلع.

إضافة إلى ما سبق فإن ترويج هذه الفئة سيكون عبر رواتب الموظفين  التي سيشكل 6 أوراق من فئة الـ 5000 ليرة راتب موظفٍ بالمتوسط، وبالتالي فإنّ وجود هذه الفئة مع نقص السيولة المطبوعة بالسوق يجعل هذا المواطن يشتري سلعاً لا يحتاجها بسبب عدم وجود الفكة مما يعني طلباً على السلع الاساسية ذات قابلية التخزين، ومع زيادة الطلب وصعوبة الاستيراد نتيجة العقوبات الدولية من جهة وانخفاض الاحتياطي الأجنبي لدى البنك المركزي من جهةٍ أخرى فإنّ ذلك كله سيتسبب بتفاقم التضخم الركودي.

وعلى ضوء ما سبق، نجد أن نشر هذه الفئة لن يكون له أي تأثير على السيولة النقدية إنما ستعمل بشكل معاكس من خلال الضغط على السلع مدفوعاً بالجانب النفسي مما يقود الى ارتفاعها واحتكارها.

أما الداعين لطباعة الفئات النقدية الصغيرة فهم يرون أنّ استخدام فئة الـ 5000 ليرة هو تعميق للمشكلة ويساهم في تفاقمها. فكان خيارهم هو الصك النقدي من فئة 50 ليرة والسبب في ذلك كونها معدنية فإنها لا تحتاج الى إجراءات أمان عالية وتكلفة طباعتها أرخص بالمقارنة مع العملة الورقية، وهي ممكنة حسب جريدة الوحدة الصادرة 4 حزيران 2018، في كل من الصين والهند وكوريا الديمقراطية لكنها ستعتمد على خليط معدني من الحديد والألمنيوم.

ومن وجهة نظر اقتصادية لهذه الفئة من العملة السورية مساوئ عدة نذكر منها:

  1. الوزن الثقيل للفئة الواحدة بسبب استخدام الحديد والمنيوم، مما سيجعل الأفراد غير راغبين باستخدامها في تعاملاتهم اليومية.

  2. قابلة للتآكل والتشوه نتيجة الإحتكاك وتعرضها للمؤثرات الجوية كالماء والهواء والتعرق وذلك بسبب استخدام الألمنيوم في صناعتها.

  3. تتحدد قيمة العملة  من قوة النظام الاقتصادية، فإذا ما تم استخدام معدن الفضة او نيكل فإن تكلفتها الاقتصادية تكون أعلى، إلاّ أنّ المتداولين للعملة يثقون بالنظام الاقتصادي أكثر. أما في الحالة الراهنة فإن المعدن المستخدم هو معدن رخيص الثمن في سورية، وهنا تكمن المشكلة إذ أن النقود لم تعد قيمتها مرتبطة بالوضع الاقتصادي للبلد بل بالوضع العسكري الذي يفرض على المتداولين التعامل بها.

  4. قيمتها منخفضة لدرجة أنه لا يمكن استخدامها في أي عملية شرائية ذات ثمن كبير ولو على مستوى الحاجات اليومية الأساسية.

حتى لو قرر مصرف سورية المركزي طباعة هذه الفئة فلن يكون قادراً بسبب ارتفاع تكاليف الطباعة الاجمالية، لأن قانون طباعة العملات من حيث الجانب النفسي يشير الى أن العملة المطبوعة حديثاً سوف تنسق الطبعات القديمة من التداول، وهنا لابد من الاشارة إلى أن عدد القطع النقدية من فئة 50 ليرة حتى عام 2010 بلغت 2748 مليون قطعة حسب المجموعة الاحصائية السورية 2010، ونتيجة العقوبات الاقتصادية فإنّ تكلفة طباعة وحدة الواحدة تتراوح بين 25/ 35 سنت (كل دولار أمريكي يعادل مئة سنت) حسب أوراق بحثية مسربة من البنك المركزي، كما أن جريدة الثورة بعددها 29-6-2018 ذكرت أن كلفة الورقة الواحدة تتجاوزالمرة والنصف من قيمتها المطبوعة أي تتراوح قيمة الاستبدال الكلية بحدود 687 مليون دولار بالحد الأدنى وهي تكلفة مرتفعة لا يملكها النظام.

أخيراً القانون الاقتصادي يقول أن العملة القوية تطرد الضعيفة من التداول، ففي حين أنّ النظام مضطر للبحث عن حلول لطباعة المزيد من العملات الورقية من فئة 1000 و2000 فإن طباعة العملة النقدية من فئة 50 ليرة لن يكون له أي دور بسبب التضخم المتزايد.

إذاً لن يكون بوسع النظام الاستفادة من أثر طباعة 50 ليرة على حركة الاقتصاد وتلبية حاجة المواطنين للعملة بغرض عمليات التبادل اليومية.

لذا أعتقد أن النظام سيسلك الطريق الصعب في ضوء هذه الوقائع وسيعمد الى طباعة 100 و 200 معدنية وسيكون المواطنون مجبرين على التعامل بها مما سيدفعهم، ولا سيما التجار، إلى إيجاد وسائل أخرى للتبادل كالمقايضة أو استخدام العملات الذهبية. أما على صعيد الاستثمار فان الدلورة (تحويل العملة المحلية إلى دولار) ستكون هي الطريق والخيار الوحيد للنظام او أي حكومة مستقبلية تتولى إعادة الإعمار ريثما يتم ترتيب الوضع الاقتصادي من جديد إن كانت الحكومة مهتمة بذلك.

“وادي الفرات بعد سقوط “الدولة الإسلامية

“وادي الفرات بعد سقوط “الدولة الإسلامية

نهر الفرات هو الشريان الحيوي الأهم في سوريا، يدخل أراضيها من مدينة جرابلس في الشمال السوري عند الحدود التركية ويخرج من مدينة البوكمال عند الحدود العراقية. يبلغ طول القطاع السوري من هذا النهر 680 كم. يعتبر القطاع السوري من وادي الفرات مهد الزراعة في العالم، ووجدت أقدم آثار لها في تل أبي هريرة المغمور. ترجع تسمية النهر إلى كلمة “فرت” في الآرامية القديمة، وتعني الخصب والنمو.

أقيم على نهر الفرات ٣٤ سداً ٢٢ منها في تركيا و٧ في العراق و٥ في سوريا. أهم السدود السورية سد الثورة والمعروف بسد الفرات، يقع في محافظة الرقة ويحتجز خلفه بحيرة ضخمة تجمع حوالي ١١.٦ مليار متر مكعب من المياه العذبة. يعتبر قطاع وادي الفرات الواقع بين “بحيرة الأسد” ومدينة البوكمال منطقة قاحلة لا يمكن فيها الزراعة دون ري، بسبب معدل الهطول المطري المنخفض الذي لايتجاوز عادة ٢٥٠ ملم/سنة.

بلغ عدد سكان محافظتي دير الزور والرقة بحسب آخر إحصاء رسمي عام ٢٠١١ حوالي ٢ مليون نسمة، وانخفض لاحقاً بسبب الحرب. بحسب آخر إحصاء للحكومة السورية الصادر عام ٢٠٠٤ يعمل القسم الأكبر من سكان هاتين المحافظتين في الزراعة ويشكلون ٤٦% و٤٣% من عدد السكان على التوالي، طبعاً لايشمل هذا الإحصاء موظفي الحكومة الذين يعملون أيضاً بشكل جزئي في الزراعة.

قضايا المياه خلال حكم البعث

خلال حقبة الحكومات البعثية فرضت وزارة الري في سوريا ضبطاً واسعاً لموارد المياه، وتم توفيرها بشكل مجاني وفق جداول زمنية مرتبطة بمساحة الأرض ونوع المنتج، وبشكل غير مباشر بمصالحية العلاقة بين موظفي الحكومة وأبناء العشائر في تلك المنطقة.

وعلى النمط الاشتراكي، فرضت الحكومات المتعاقبة قيوداً صارمة على خطط الإنتاج الزراعية عبر برامج إلزامية لزراعة محاصيل بعينها هي غالباً القطن والحبوب والشمندر. وأشرفت بشكل لايخلو من البيروقراطية المركزية على الدورة الاقتصادية لهذه المحاصيل، بدءاً من توزيع البذور وحتى تسويق المنتج.

خلال السنوات العشر التي سبقت الحرب السورية تدهورت بشكل متسارع الأوضاع المعيشية والاقتصادية لأبناء وادي الفرات، تآكلت الأراضي الزراعية نتيجة النمو السكاني، فيما بقيت خطط الإنتاج وتوسيع الأراضي المروية في الوادي تعاني من ضعف التمويل، بسبب السياسات الاقتصادية للحكومة المركزية في دمشق، التي ركزت استثماراتها في المدن الكبيرة والسوق السياحي والريعي.

وكما في جميع قطاعات الدولة السورية دخل الفساد بنية الاقتصاد الزراعي، هكذا مثلاً عبر الرشوة تضاعفت عدد الآبار غير النظامية للري ما سبب لاحقاً بتضرر الحوامل المائية للوادي بشكل كبير.

عقب أحداث الحسكة عام ٢٠٠٤ استمر النهج السلبي للدولة وتمنهجت السياسات الزراعية عنصرياً ضد الكرد. ففي الوقت التي كانت تقدم التسهيلات غير القانونية لأبناء العشائر في وادي الفرات، مثل السماح بعمليات الضخ غير القانوني، تم تخفيض المساحات المروية في محافظة الحسكة والقامشلي للكرد السوريين.

بعد حرب تموز وخروج الجيش السوري من لبنان، ومع تحسن العلاقة بين النظام السوري والاتحاد الأوروبي، والتي توجت بزيارة للرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي لدمشق في أيلول من عام ٢٠٠٨ دخل الشرق السوري نقطة اللاعودة عندما تبنى النظام السوري مسار (إصلاح) اقتصادي جديد سُمي وقتها اقتصاد السوق الاجتماعي طرحه نائب رئيس مجلس الوزراء للشؤون الاقتصادية السابق عبدالله الدردري، وتبناه الرئيس السوري شخصياً، وهو لم يكن في الحقيقة سوى شكل آخر أكثر وحشية من أشكال السياسات الاقتصادية التحريرية.

خلال هذا (الإصلاح) الجديد تم تخفيض الدعم عن الديزل وزاد سعره ثلاثة أضعاف، ما جعل عمليات الري للأفراد في الوادي مكلفة للغاية، كما تم فرض إجراءات إدارية تم بموجبها تقييد استهلاك المياه في الزراعة، ونتيجة انتشار الفساد فشلت هذه الإجراءات فشلاً ذريعاً، وأصبحت إجراءات تقييد الاستهلاك مطبّقة فقط على أولئك المزارعين الذين ليست لهم قدرة على دفع الرشوة أو ليسوا من وجهاء العشائر.

في الإطار العام وككل المجالات الاقتصادية وقَعَت وزارة الري تحت وطأة الفساد الممنهج وسوء الإدارة، فبينما زادت الخدمات اللوجستية للمدراء ورؤساء الأفرع والأقسام من سيارات ورحلات خارجية وأجهزة حواسيب وغيرها، غاب البحث العلمي وتطوير الكوادر المتخصصة عن متطلبات النشاط الزراعي، وغابت معها خطط واقعية للتطوير. شبكة الري في وادي الفرات المنشأة بمعظمها منذ ستينات وسبعينات القرن الماضي تُسبِب هدراً كبيراً للمياه، ولا يسمح تصميمها الكلاسيكي باستخدام أساليب الري الحديثة. إن أنظمة الري الحديثة مُكلفة، وعزوف الدولة عن تأمينها للمزارعين دفعهم إلى الاستثمار في حفر الآبار أو الاستمرار في استخدام جر المياه التقليدي، وبدلاً من التمويل في تطوير شبكات الري ذهبت الاستثمارات الحكومية إلى قطاع الخدمات العقارية والسياحية.

بين عامي ٢٠٠٧ و٢٠١٠ تعرض الشرق الأوسط عموماً وسوريا خصوصاً لموجة جفاف وصفتها الأمم المتحدة بأنها الأسوأ خلال العقود الأربعة الماضية، بحلول عام ٢٠١٠، أدت هذه الموجة إلى تآكل مساحات واسعة من الأراضي البعلية والمروية على حد سواء، ولأول مرة منذ منتصف تسعينات القرن الماضي اضطرت سوريا لاستيراد القمح، وأُجبر مايقرب من مليون مزارع وعائلاتهم على ترك أراضيهم والهجرة إلى أطراف المدن (العشوائيات) التي تفتقر إلى الكثير من الخدمات.

شكّل السكان النازحون في هذه العشوائيات متضمنين ١،٢ إلى ١،٥ مليون عراقي حوالي ٢٠% من سكان المدن في سوريا، بتعداد يقارب ١٣،٨ مليون (إحصائية عام ٢٠١٠) مقابل ٨،٩ مليون عام ٢٠٠٢ أي بزيادة حوالى ٥٠%. هنا “لا يمكن للمرء أن يفهم الانتفاضات التي تشتعل في المنطقة العربية أو حتى الحلول التي يعرضونها للخروج من مشكلاتهم من دون أن يأخذ الضغوط البيئية والمناخية والسكانية في الاعتبار” كما يقول الباحث توماس فريدمان.

هكذا نتيجة للسياسات الحكومية الفاشلة والعوامل الطبيعية أضحى وادي الفرات جاهزاً لتقبل أي تغييرات سياسية أو أمنية كأحد السبل للخروج من الأوضاع الصعبة التي يعيشها، وشاءت الأقدار أن يكون البديل أسوأ مما كان، وهو حكم تنظيم الدولة الإسلامية.

وادي الفرات تحت حكم تنظيم “الدولة الإسلامية”

خلال عام ٢٠١٤ سيطر تنظيم “الدولة الإسلامية” على البادية السورية ووادي الفرات بسرعة كبيرة، وأسس عاصمة لدولته في مدينة الرقة، ومارس نظام حكم تقليدياً بيروقراطياً قاسياً. خلال فترة حكمه القصيرة أنشأ وزارة للزراعة، مهمة هذه الوزارة تحديد نوع المحصول الذي يجب زراعته، تحديد برامج الري وغيرها من المسائل الحقلية، في أداء لم يختلف كثيراً عن الأداء البيروقراطي لوزارتي الري والزراعة السابقتين في حكم البعث.

ونتيجة لقيام “الدولة الإسلامية” على مبدأ الحرب، بقيت هذه الوزارة مُهمَلة، وتدهورت الخدمات الزراعية ونُظم الري بشكل كبير. ونتيجة نقص الخبرة لدى موظفي “الدولة الإسلامية” فُتح الباب على مصراعيه لحفر الآبار الذي دمر بشكل كبير الحوامل المائية في الوادي. وبسبب تضرر شبكات الطرق وانعدام الأمن عليها لم يعد يتوفر الوقود اللازم لعمل المضخات وأصبح تأمين الأسمدة والبذور الجيدة صعباً للغاية، ما أدى الى تراجع كبير في الإنتاج.

وأدت المعارك العنيفة على امتداد وادي الفرات إلى استخدام أطراف الصراع للمياه مرات عدة كسلاح ضد الخصم. في العام الماضي عمدت حملة “غضب الفرات” التابعة لـ”قوات سوريا الديمقراطية” في حربها ضد “الدولة الإسلامية” إلى إغراق الأجزاء الشمالية الغربية من مدينة الرقة عبر فتح الماء بشكل عشوائي من قناة البليخ، وهي قناة رّي رئيسية تقع إلى الشمال من سد الفرات، وأدت الى تضرر مساحات واسعة من الأراضي الزراعية، ومواسم القمح والشعير فيها.

كما أدت الفوضى العامة في البلاد إلى إطلاق يد تركيا على مياه نهر الفرات، ولم تعد تأبه للقوانين الدولية، وبدأت بتخفيض حصص المياه لكل من العراق وسوريا، ففي فبراير شباط ٢٠١٨ خفضت أنقرة معدل الدفق المائي لنهر الفرات إلى ٣٢١ درجة (مايعادل ٤٥٠ متراً مكعباً/ثانية)، وهددت بشكل جدي إمدادات مياه الشرب لحوالي ٢ مليون نسمة من سكان محافظة حلب، وسط صمت من قبل الحكومة السورية وسكوت غير مبرر.

منذ عام ٢٠١٦ زاد نشاط التحركات العسكرية في شرق سوريا من قبل كل من “التحالف الدولي لضرب داعش” والقوات الكردية من جهة، والجيش السوري وحلفائه بمساعدة الطيران الروسي من جهة أخرى للقضاء على وجود تنظيم “الدولة الإسلامية” في المنطقة. وفعلاً  تقدم الجيش السوري نحو مدينتي البوكمال ودير الزور، في حين تقدمت “قوات سوريا الديمقراطية” المدعومة من الولايات المتحدة من الشمال باتجاه الرقة وحوض الخابور.

مستقبل وادي الفرات

تآكلت “الدولة الإسلامية” ولم يبق من المساحة التي شغلتها أكثر من ٣%. هذا العام أصبح وادي الفرات كاملاً تقريباً بيد الجيش السوري والقوات الكردية. لقد حان الوقت للتفكير بالقضايا البيئية والاقتصادية-الزراعية لمنطقة حوض الفرات التي من شأنها أن تؤسس لتنمية مستدامة، واستقرار اجتماعي. تعرضت المنطقة نتيجة الحروب لتدهور بيئي وزراعي واسع النطاق. وبغض النظر عن المسؤول، فإن النظام الذي سيحكم دمشق ستكون عليه مسؤوليات كبرى في هذا الشأن، أهمها على الإطلاق موضوع وفرة المياه المرتبطة بشكل أو بآخر بديناميات إقليمية سياسية وقانونية دولية، أيضاً اقتصادية واستثمارية وأخرى تقنية وبحثية.

لم تستطع الحكومات السورية في زمن الاستقرار التعامل مع موجة الجفاف السابقة ٢٠٠٧-٢٠١٠، فما هو الوضع إذا ضربت موجة جديدة من الجفاف الأراضي السورية في الوقت الحالي، حيث دمرت الحرب السورية معظم البنية التحتية في وادي الفرات؟

حقيقة لا تحتمل الشك، مياه الفرات آخذة بالتضاؤل بسبب تناقص الإيرادات المائية من تركيا، وتناقص المعدل العام المطري. هذه مشكلة هي ليست وليدة اليوم ولا الأمس، الحلول في الوضع الراهن تكاد تكون معدومة، بينما الواقع الزراعي نحو الأسوأ.

حوض الفرات هو مصدر معظم ثروات سوريا وكان سلة غذائها واستقرارها الاقتصادي. إن ماخلفه حكم “الدولة الإسلامية” كذلك السياسات الفاشلة للحكومات البعثية جعلت وادي الفرات في وضع اقتصادي واجتماعي مأساوي. الآن بعد سقوط “الدولة الإسلامية” وعودة الحياة تدريجياً، يترتب على الدولة السورية مهمات صعبة لأنها ستواجه سلسلة من المشاكل المعقدة: محدودية الموارد المائية، أنظمة الري المتهالكة، العدالة في توزيع الثروة المائية، أساليب الزراعة البدائية، إعادة توطين مهجري الحرب، متابعة تطبيق القوانين الدولية المتعلقة بالمياه النهرية بعدما أصبحت تمثل فتيلاً يهدد بظهور صراعات محلية وإقليمية مستقبلية.

الأهم من كل ذلك هي التعبيرات السياسية التي يمكن أن تقود مرحلة إعادة الاستقرار في الوادي، إذ لا يمكن مواجهة معضلات الوادي العميقة في ظل حكم نظام بيروقراطي وممنهج بالفساد كالذي كان ومازال موجوداً في دمشق.

فحوى هذا المقال موجه للنخب السياسية والحزبية للقوتين العسكريتين الأساسيتين في وادي الفرات: “قوات سوريا الديمقراطية” والجيش السوري، هو أن لا تتحاربا ابداً من أجل السيطرة على وادٍ قد يشهد في أي وقت كارثة بيئية وإنسانية جديدة. لابد وأن تتعاون هاتان القوتان على إعادة صياغة للعقد السياسي بين مكونات المجتمع المحلي، والمضي في تكريس الاستقرار في وادي الفرات بدلاً من تدميره.

أخيراً لايمكننا إلا أن نسأل نفس السؤال الذي سأله جو روم، مدير موقع (Climate Progress) سابقاً: “من الذي سيمد يد المساعدة في المستقبل لدولة مثل سوريا عندما تدمرها موجة الجفاف التالية، بينما نعيش في عالم يظهر فيه كل فرد كما لو كان يتعامل مع الإعصار ساندي؟” سؤال كنت أتمنى أن أسمع له جواباً عند أحدٍ من النخب السياسية في سوريا قبل أن أكتب هذه السطور.

تسول الأطفال وإرث الحرب السورية

تسول الأطفال وإرث الحرب السورية

لكل منا  حصته من إرث الحرب، أو بالأحرى فواتير باهظة دفعها ومايزال يدفعها السوريون نقداً على موائد الحرب الطاحنة، فأضحت حياتهم ترزح تحت هدير طاحونتها التي لا ينقطع دورانها.

شبان في ريعان العمر دفعوا حياتهم كفاتورة فورية لاتقبل التسديد على دفعات. وهناك من أودع أكثر من سبع  سنوات من عمره كسلفة في خزينتها منتظراً حدوث أعجوبة؛ في حين يسدد الأطفال القسط الأكبر من هذه الفاتورة لاسيما أولئك الذين يعيشون على هامش شوارع الحياة.

أطفال تصادف تسجيلهم في دفتر نفوس بلادهم وقد فتكت بهم أنياب الحرب  والقوانين المهملة، فتجار الحرب من جهة وأقصى أنواع الاستغلال الإنساني والاجتماعي من جهة ثانية. ولا يمكن أن ننسى تقصير الجهات المعنية، فيما تقف لوحدها المبادرات الفردية ذات الإمكانيات المادية واللوجستية المتواضعة في وجه هذه الظاهرة السلبية التي كرستها سنوات الحرب،  كمشروع “سيار” الذي شق طريقه عام 2014 عبر فرق جوالة متطوعة تجول شوارع دمشق وبعض المحافظات السورية بحثاّ عن الأطفال المتسولين مستهدفاً أماكن تواجدهم في حدائق السبكي والمدفع في الشعلان وأخرى في المزة لإيوائهم لمدة ساعتين فقط أسبوعياً في أحد المراكز الثقافية.

الحرب كرست ظاهرة تسول الأطفال في المدن الأكثر أمناً

يتلقى مشروع “سيار” التبرعات العينية عبر نشر إعلانات على صفحته الفيسبوك عما يحتاجه الأطفال من قرطاسية وألوان وورق مقوى ولوازم أخرى. وتقول لمى النحاس إحدى مؤسسي المشروع : “يستهدف سيار  ظاهرة تسول الأطفال بشقيه التقليدي والمقنّع إذ يركز على هذه الفئة المنبوذة والمعرضة للانتهاك الجسدي والتعنيف النفسي محاولاً لفت الأنظار إلى حقوقهم واحتياجاتهم المهدورة، خاصة أن أعدادهم  تفاقمت خلال سنوات الحرب السورية إثر نزوح وتهجير مئات العائلات من دير الزور وحمص وحلب والسويداء ودرعا وإدلب وريف دمشق وتوجههم إلى المدن الأكثر أمناً نسبياً كمدينة دمشق أو الساحل السوري كاللاذقية وطرطوس، كما أن أعدادهم مرشحة للارتفاع.”

وتشير النحاس إلى أن محو الأمية يشكل الحصة الأكبر من المشروع، فيما يوزع الوقت المتبقي على الأنشطة الفنية وحلقات توعية حول ضرورة تقدير وحماية أجسادهم وصونها من أي انتهاك جسدي ونفسي والعمل على إعادة تشكيل نظرتهم حيال أجسادهم واحترامها على نحو إيجابي وذلك عبر الحكواتي والقصاص واستخدام دمى العرائس.

لا يقتصر تسول الأطفال فقط على بسط أيديهم واستجداء المال والتماس كرم المارة بل يتنكر على هيئة بائع ورود وعلكة ومسح السيارات الذي يندرج تحت التسول المقنع وفقاً للنحاس التي تضيف: “كثيراً ما يستتر خلف هذه الظاهرة التي تكرست خلال الحرب مخاوف وأخطار تعرض هؤلاء المتشردين إلى الخطف والإتجار بهم وبيع أعضائهم واستدراجهم إلى أفخاخ الإدمان والاستغلال الجنسي مقابل حفنة من النقود.”

الأطفال المتسولون ماكينة بشرية تضخ الأموال لذويهم

الأمية هي القاسم المشترك لهؤلاء الأطفال فالكثير منهم لم يرتد المدارس أبداً وتترواح أعمارهم بين سنة وثمانية أعوام أي أنهم من عمر الحرب السورية.

أما البعض الآخر فهم أكبر سناً ( 10ـ 12) عاماً لكنهم توقفوا عن الالتحاق بالمدرسة منذ اندلاع الحرب نتيجة ظروف التهجير والنزوح حيناً، أو لأن أهاليهم وجدوا في أطفالهم ماكينة بشرية تدر عليهم الأموال حسب النحاس التي تتابع قائلة: “تصل غلة الطفلة/الطفل الواحد إلى سبعة آلاف ليرة سورية يومياً كمعدل وسطي أي (٢١٠،٠٠٠) شهريا، أما إذا حالفه الحظ ونال كرم المارة فتصل إلى تسعة آلاف ليرة في اليوم الواحد أي مايعادل (٢٧٠،٠٠٠) في الشهر الواحد هذا إذا كان طفل واحد فقط من العائلة نفسها يعمل في التسول فكلما ازداد عدد الأخوة في العمل التسولي ارتفع دخل عائلته التي تدفعه وتجبره على العمل وتحصيل الأموال لتسديد أجار الفندق الشعبي في البحصة لذلك لا يمكن أن توقف العائلة مصدر رزقها خاصة في ظل انتشار البطالة وصعوبة إيجاد عمل.”

“التسول” مهنة عن أبٍ وجد كالقرباط والنَوَرْ

تلفت النحاس إلى نوع قديم العهد من التسول الذي يورث عن الأجداد والآباء ليتحول إلى كار وأولئك الفئة يطلق عليهم “القرباط” أو مايعرف بـ “النور” بينما يطلق عليهم “الغجر” كتسمية عالمية وأكثر ما يميزهم أنهم ورثوا التسول عن آبائهم وأجدادهم إثر ترحالهم الدائم فيمتهنون التسول كأي عمل آخر يدر عليهم بالأموال ولا ينظرون إليه على أنه تسول وشحذ للعواطف والأموال.

وتعزي النحاس سبب توريث الأطفال “كار” التسول من هذه الفئة العرقية (القرباط) القادمين من ريف حماه وحلب وريف دمشق كونهم غير مسجلين (كعادتهم في ذلك)  في السجلات الرسمية للحكومة السورية فهم مكتومو القيد وكثيرٌ منهم يتخذ من هذه النقطة ذريعة لتعدد الزيجات والطلاقات الكثيرة خاصة وأنهم يتزوجون في عمر مبكر دون السن القانوني للزواج وبذلك يتجنبون المساءلة القانونية كونهم بالأساس غير موجودين أصلا في السجلات الحكومية.

وتلفت النحاس النظر إلى  وجود حالات زواج وطلاق عديدة في أعمار مبكرة جداً لطفل (١٤ عاماً) تزوج  للمرة الثانية بعد أن طلق الأولى، وحالة أخرى لفتاة (١٥ عاماً) مع رضيعتها.

استغلال جنسي

للطفل المتسول خصوصية تتطلب معاملة خاصة لاستيعابه وآلية للوصول إليه لمنحه الثقة ليتمكن من البوح والتعبير عن ذاته وما يتعرض له من إساءة سواء من الشارع أو المنزل.

تقول المشرفة على العلاج النفسي عبر الفن  سامية النحاس أنها تمكنت عبر تحليل رسوم إحدى الطفلات المتسولات (٩ أعوام) من معرفة أنها تعرضت للتحرش الجنسي من قبل امرأة وذلك لتهيئتها نفسياً لاحقاً لتقبل سلوكيات مشابهة في حال طلب منها خدمة جنسية مقابل المال، مضيفة “طفلة أخرى (١٠ أعوام) يعاشرها والدها جنسياً بعد حفلة سكر فيما والدتها لا تحرك ساكناً.”

عرض أجسادهم الغضة على المارة مقابل المال أمرٌ شائع بين الأطفال المتسولين خاصة الفتيات، تعقب النحاس بقولها “أحد الشبان المتطوعين في  سيار أخبرنا أن طفلة ذات تسع سنوات عرضت عليه خدماتها الجنسية المحدودة بعد أن كشفت عن صدرها أمامه مقابل ٢٠٠ ليرة سورية، كما أنها عرضت عليه شقيقتها الكبرى إن لم تنل إعجابه.

وتؤكد النحاس أن هؤلاء  الأطفال تفتح لهم أبواب الدعارة بسهولة إن لم يتم إيواؤهم في مراكز إعادة تأهيل تقوم على رعايتهم الجسدية والنفسية.

طالبت النحاس وزارة الشؤون الاجتماعية والجهات المعنية بتوفير مراكز إعادة تأهيل للأطفال المشردين بنظام مدرسة داخلية يتلقون فيها الخدمات التعليمية والصحية والمهارات اليدوية ليوظفونها في المستقبل كحرفة تساعدهم في تأمين رزقهم بدل التسول.

وقالت إن “الخيمة التي تقدمها المراكز الثقافية لمدة ساعتين أسبوعياً لا تكفي أبدا لانتشالهم من دائرة التسول والخوف من الوقوع في أفخاخ الدعارة وأن يكونوا نهباً لتجار الأعضاء البشرية.” معربةً عن أملها بإحداث مراكز لإعادة تأهيلهم بدل أن يساقوا إلى الإحداثية حيث ينخرطون هناك مع  المجرمين.

غياب التمويل والمقر حجرتا عثرة أمام “سيار”

تشير النحاس إلى أن عوائق العمل أمام “سيار” تتمثل بـ “عدم امتلاك مقر ثابت وكيان مستقل وهذا حجرة العثرة الأساسية في طريقنا، فيما نعمل حالياً للحصول على رخصة وتحويلنا إلى مؤسسة ذات شكل قانوني الأمر الذي يمكننا من استقطاب تبرعات مالية وعينية من جمعيات ومنظمات دولية خاصة أن الأخيرة تنسق فقط  مع وزارة الشؤون الاجتماعية.”

وتضيف أن “سيار” يطمح لتأسيس مقر إيواء أساسي مجهز بكافة الخدمات التعليمية والصحية والنفسية واللوجستية للأطفال المتسولين وضمان عدم خروجهم إلى الشارع والتسول من جديد وصولاً إلى تأمين مشروع صغير لهم يكسبون لقمة عيشتهم بالتنسيق مع جمعيات ممولة لمشاريعهم.  

يعد التمويل العائق الثاني أمام “سيار” فوفقاً للنحاس “جميع المتطوعين يعملون بدون أجر ولغاية اللحظة لم نتلق أي تمويل من أي جهة، لاسيما أن أغلب الأطفال يعانون من أمراض جلدية وعينية وتسوس في الأسنان تتطلب أجوراً للأطباء إلا إذا تطوعوا بالعمل.”

وأضافت أن وزارة الشؤون الاجتماعية تكتفي حالياً فقط بالدعم المعنوي وتقديم التسهيلات لإقامة الفعاليات والاحتفاليات الاجتماعية، أما فيما يتعلق بالملابس فتتم عبر الأفراد وتسليمها للأطفال مباشرة أو عبر الجمعيات الأهلية بالتعاون مع وزارة الشؤون الاجتماعية.

تؤكد المتطوعة رنا غزالة أن جلسات التوعية التي قام بها “سيار” تركت آثارها على الأطفال، إذ ترك عدد منهم التسول واستبدلوه بأعمال بسيطة كصبي أركيلة أو توصيل، قائلة “أنه بالرغم أن هذا الأمر يندرج تحت عمالة الأطفال لكن يبقى أفضل حالاً من التسول شرط أن لا يشكل عملهم خطراً على صحتهم.”

غالبا ما ينتحل أطفال الشوارع أسماء حركية حتى يخفون معلوماتهم الشخصية خوفاً من الوقوع في قبضة الشرطة وفق تأكيدات غزالة.

وتشير المتطوعة الشابة إلى نوعين من الأطفال اللذان يتصدران المشهد التسولي منهم من ورثوا هذه المهنة وموجودون قبل اندلاع الحرب السورية، ومنهم من ظهر خلال الحرب واضطرتهم ظروفهم للنزوح إلى مناطق أكثر أمناً حيث اضطهدوا وأرغموا على التسول من قبل ذويهم أو أقربائهم كالعم والخال في حال غياب الوالدين، بالإضافة إلى أطفال خطفوا في المناطق الساخنة بعد أن فقدوا ذويهم في الحرب سواء بالموت أو الاختفاء وأجبروا على العمل في شبكة تسول يرأسها مُشغل يوفر لهم السكن والطعام والشراب مقابل المال.

تضيف المتطوعة رنا غزالة أن العديد من هؤلاء الأطفال يتعرضون للإغراءات المادية مقابل تقديم خدماتهم الجنسية وكثيرا ما يتم استدراجهم إلى دائرة إدمان المخدرات لضمان خضوعهم للمُشغل وبقائهم تحت سيطرته والاستمرار في استغلالهم ماديا عبر التسول. وتشير إلى أن بعض المشغلين يتمتعون بنفوذ واسع يمكنهم الخروج من السجن بكفالة مالية  كـ (فهد) الرجل السبعيني الذي ألقي القبض عليه على خلفية خطفه أطفال في درعا وإحضارهم إلى دمشق لإجبار قسم منهم على التسول ولبيع القسم الثاني لكن أفرج عنه لاحقاً لعدم توفر الدلائل الكافية لإدانته وفقاً لغزالة.

أطفال في مهب الحرب

تخرج بديعة حصيان (١٠ أعوام) إلى العمل منذ الصباح الباكر لمسح السيارات في منطقة الشعلان وسط دمشق لتعود مساء إلى منزلها في مساكن برزة، الخوف هو ما منع الطفلة من الإقرار أن والدها هو صاحب البناية، مدعية أنه يعمل في سوق الهال مقابل راتب ٦٠ ألف ليرة سورية شهرياً، وأنها تعمل بملء إرادتها دون أية ضغوط من والدها وتحتفظ بالنقود التي تجمعها يومياً في حصالة لديها من أجل شراء الملابس والألعاب.

الأمر الذي نفته تماما غزالة مؤكدة أن والدة الطفلة أقرت سابقا أن التسول مهنتها ومهنة أطفالها وأن أجار البناية التي يملكها زوجها لا يغطي مصروف العائلة الكبيرة ولا يسد الأفواه المفتوحة، وأن “المردود المالي وراء الشحاذة كبير جداً فكيف لنا أن  نهجره” حسب قول الوالدة نقلا عن غزالة.

بديعة التي تعتلي جبهتها ندبة إثر ضرب والدها المبرح لها أنكرت ذلك بشدة، معزية السبب إلى سقوطها من على الأرجوحة عندما كانت تلعب مع إحدى  شقيقتها في حمص. أما (هلا) شقيقة بديعة التي كانت تتردد إلى “سيار” بين الحين والآخر هربت من والدها واحتمت بسقف جامع “بدر” في الروضة خوفاً من بطشه وجوره غير أنه طاردها وتمكن من العثور عليها وإعادتها إلى التسول.

لا تفكر بديعة بالالتحاق بالمدرسة التي لم ترتدها مطلقاً فبرأيها أن المدرسة مكان لتعلم السباب والشتائم، فيما  تكتفي حاليا بالمجيء إلى “سيار” مرة أسبوعياً للرسم والتلوين وصنع بعض الأشغال اليدوية البسيطة.

يقول مصطفى علام (١٤ عاماً): “تركت المدرسة منذ الصف السادس عقب وفاة والدي لأسباب طبيعية في دير الزور منذ ستة سنوات.”

يقضي الطفل حوالي ١٢ ساعة يومياً في مسح  السيارات وأحيانا ببيع الورود والعلكة وقد عمل سابقاً في غسل أدراج الأبنية مقابل أجر مادي  ليعيل أخوته ووالدته التي تعمل في الخياطة بين الفينة والأخرى.

يظهر مصطفى (الطفل الذي يتردد إلى “سيار”) رغبته في إكمال تعليمه وعودته إلى مقاعد الدراسة حيث يقول “بهالأيام مابتفيد إلا المدرسة.” منذ شهرين وبالرغم من وصوله إلى الصف السادس ما يزال ضعيفاً بالقراءة والكتابة، الأمر الذي يحاول تجاوزه من خلال الساعات القليلة التي يقضيها هنا.

كل ما يجمعه الطفل من مسح السيارات يودعه عند والدته التي تدفعه أجار المنزل القابع في الدويلعة والذي يبلغ ٣٥ ألفاً شهرياً مع أخذ القليل منه لتسديد ثمن الدخان وسندويشة فلافل أو بطاطا يتناولها خلال يوم عمل شاق، كما تساعد المعونات المقدمة من الهلال الأحمر والمنظمات الدولية في سد جوع أخوته.

أحياناً يفر مصطفى هارباً من الحملات التي تشنها دوريات الشرطة لكن غالباً ما ينتهي الأمر بتركهم وشأنهم شريطة عدم إزعاج المارة، قائلاً  “وفي بعض الأحيان يمنعوننا من العمل وذلك حسب مزاج الشرطي ومرونته.”

عقوبة التسول في القانون السوري

عرف القانون السوري المتسول في مادته ٥٩٦ من قانون العقوبات السوري الصادر بالمرسوم التشريعي رقم ١٤٨ لعام ١٩٤٩ بأنه من كانت له موارد رزق أو كان يستطيع الحصول على موارد بالعمل واستجدى لمنفعته الخاصة الإحسان العام في أي مكان كان إما صراحة أو تحت ستار أعمال تجارية ويعاقب بالسجن مع التشغيل لمدة شهر على الأقل وستة أشهر على الأكثر ويمكن فضلاً عن ذلك أن يوضع في دار للتشغيل في حال تكرار فعل التسول.

يوضح المحامي (ق ـ ش) أن جرم التسول يشكل جنحة بالنسبة لمرتكبيه من البالغين، فيما يكون بمثابة مخالفة بالنسبة للأطفال دون سن العشرة أعوام إذ يتم تسليمه إلى وليه وذلك بقرار من المحكمة، فقد نص قانون الأحداث الجانحين رقم ١٨ لعام ١٩٧٤في المادة الثانية المعدلة  بالمرسوم التشريعي رقم ٥٢ لعام ٢٠٠٣ بأنه لا يلاحق جزائياً الحدث الذي لم يتم العاشرة من عمره حين ارتكاب الفعل فتكون العبرة هنا هي تاريخ ارتكاب الفعل وليس المثول أمام القضاء، بينما يودع من بلغ العاشرة من العمر ولم يتم الثامنة عشر في مراكز توقيف ومعاهد إصلاحية خاصة بهم لمدة لا تتعدى الشهر، مؤكداً على ضرورة فرزهم في أجنحة خاصة بجرم التسول وفصلهم عن الأرذال والمتهمين بالسرقة والنشل.

ثمة حالة تراخي وتسيب أشار إليها المحامي فيما يتعلق بعقاب والد الطفل لإهمال رعاية طفله وإجباره على التسول وتسربه من المدرسة الأمر الذي يتعارض كلياً مع حقوق حماية الطفل الذي يكفل حقه بالتعليم والعيش الكريم والسلامة النفسية والبدنية، مشيراً إلى وجود حالات خارجة عن القانون كقيام بعض مشغلي شبكات التسول بدفع رشاوي لإخلاء سبيلهم دون الخوض بالمزيد من التفاصيل.

وفي حال لم يكن  بين ذوي الحدث من هو أهل لتربيته أمكن وضعه لدى مؤسسة أو طرف صالح لتربية الحدث وعلى مراقب السلوك أن يراقب تربية الحدث وأن يقدم للقائمين على تربيته الإرشادات اللازمة، فيما يحكم بوضع الحدث في معهد إصلاح الأحداث لمدة لا تقل عن ستة أشهر إذا تبين للمحكمة إن حالة الحدث تستدعي ذلك.