“(إيم) تفهمني أكثر من بعض البشر، ترد لي المعاملة الحسنة بمثلها وتقدم لي حباً واخلاصاً غير مشروطين، لا تحقد ولا تكذب، تتواصل وتتفاعل معي دون أن تثرثر بأي كلام “، يقول سامي مداعباً شعر كلبته، التي يجد في علاقته معها السلام والعفوية فيما تحولت العلاقات الاجتماعية خلال سنوات الحرب لمعقدة مليئة بالتوتر والضغط النفسي.
يروي سامي “تعبت من الكلام والسجالات اليومية مع الآخرين، فالحرب جعلت معظم الأصدقاء متشابهين في سلوكهم وأحاديثهم، متعصبين لآرائهم ومملّين، عدا عن أن بعضهم تشوه نفسياً وبات يبثّ طاقاتٍ سلبية فيسلبني طاقتي، لذا بحثت عن صديقٍ مختلف في حياتي لم يصب بلوثة الحرب، لا يغضبني ولا يرهقني بثرثرته، فوجدته في كلبتي.”
وبينما أصبحت أيم جزءاً من حياة سامي وصديقةً لكثير من معارفه، تمكن كلب صغير اسمه سمسم من علاج سناء من اكتئاب حاد أصابها قبل ثلاث سنوات إثر وفاة عدد من أصدقائها المقربين وهجرة آخرين خارج سوريا إضافة للخوف والقلق.
تقول سناء “لم يتذمر (سمسم) من حالتي النفسية ومزاجي السيئ، كان يجثو قربي طوال الوقت وكأنه يواسيني ويمدني بالعاطفة والحب، كما أن صحبته تشعرني بشيء من الأمان والنقاء فأشيح بوجهي عن صورة الحرب وترتاح ذاكرتي من آلامها، فقد منحني ما عجز عنه بعض الأشخاص وبقي قربي طيلة السنوات الماضية بينما ودعني أغلب الأصدقاء.” تمارس سناء المشي مع كلبها وتمضي بصحبته أغلب وقتها الآن فهو “صديقُ مريح ومسل، يفهم طباعي وأمزجتي” بحسب تعبيرها.
أما أبو عمران، فوجد في قطته لوسي فرصةً لكسر قيود العزلة بعد أشهر من العيش وحيداً بصحبة زوجته المريضة التي لا تقوى على مغادرة فراشها. يقول أبو عمران “اجتاح الملل منزلنا منذ أبعدت الحرب أبنائنا الثلاثة عنا وشتّتت أقربائنا وأصدقائنا فخسرنا معظم علاقاتنا الاجتماعية، لكن لوسي خففت من وطأة الأمر إذ أدخلتنا في علاقات إنسانية جديدة ما كنا لنحظى بها لولا وجودها.” ويسرد أبو عمران ما جرى حينما زوج قطته لقط إحدى العائلات فأصبح بينهما علاقة وزيارات متبادلة، كما أهدى بعد ولادتها ثلاثة من صغارها لبعض الأشخاص الشغوفين بتربية القطط ليكسب أصدقاء جدد أيضاً. “وجودها أنقذنا من الصمت والروتين وأضفى الحركة والمرح والألفة على منزلنا الموحش” يؤكد أبو عمران.
حالة مختلفة يعيشها العم أبو أحمد، الذي استعان بالعصافير ليستحضر أجواء الطبيعة في منزله الجديد بمناطق العشوائيات في ضواحي دمشق، يقول أبو أحمد “منذ نزوحي من قريتي والمدينة تخنقني، فالسماء محجوبة خلف الكتل الاسمنتية، لا وجود للأشجار والمساحات الخضراء ولا يوجد في منزلي أية فسحة للزراعة، فلم أجد حلاً للتأقلم سوى بتربية الطيور، فمعها تمكنت من نسيان واقعي الجديد وعشت شيئاً من حياتي الريفية بروحها وألوانها.”
تعويض عن الأطفال
بالإضافة للوحدة والاكتئاب دفع عزوف العديد من العائلات السورية عن إنجاب الأطفال -خوفاً على مستقبلهم الغامض في الحرب والأوضاع الاقتصادية السيئة- لاقتناء الحيوانات الأليفة للتعويض، مثل شادي وزوجته اللذين وجدا في كلبهما (بيل) تعويضاً ما عن طفلهما الذي لم يأت بعد.
يقول شادي “منذ زواجنا عام ٢٠١٢ لم نعرف الاستقرار النفسي أو المادي، منعتنا الظروف الحالية من تحقيق حلمنا بإنجاب طفل يكسر رتابة أيامنا، إلا أننا ومنذ أحضرنا بيل إلى المنزل ونحن نعامله ونرعاه كطفلنا، ونعتني بصحته وغذائه، كما خصصنا له مكاناً للنوم بالقرب منا وأحضرنا له عشرات الألعاب، ثم بدأنا بتعليمه بعض آليات التواصل حتى بات يفهمنا من الإشارة وبعض الكلمات.” ويضيف شادي “ملأ بيل حياتنا بالفرح والنشاط وبتنا نشعر نحوه بكثيرٍ من الحب والعاطفة، فهو طفلنا البديل حالياً.”
وقد اعتاد أهالي بعض الأحياء الدمشقية على رؤية “زوجان يسيران بصحبة كلبهما المدلل” المتزين ببعض الحلي والإكسسوارات في رقبته وذيله في السنوات الأخيرة.
وإن بقي خيار الإنجاب ممكناً عند بعض الأزواج، إلا أنه أصعب كثيراً بالنسبة لكثيرٍ من النساء، بعد أن أصبح زواجهن أمراً صعباً ومعقداً، نتيجة تقلص أعداد الشباب في البلاد وعزوف معظم من بقي منهم عن الزواج، لذا كان خيار تربية الحيوانات الأليفة “هو التعويض الوحيد عند بعض النساء لتلبية نداء عاطفة الأمومة.” بحسب ما تقول حنان التي تربي كلباً ووبراً فرنسياً. قتل خطيب حنان بقذيفة قبل أشهرٍ من موعد الزواج، وعلى إثر صدمتها تلاشت لديها فكرة الارتباط مجدداً لتخسر فرصتها وحلمها بالإنجاب.
نجوى أيضاً لم تتزوج لكنها حاولت التعويض عن مشاعر أمومتها باحتضان أولاد أخيها إلى أن هاجر مع عائلته خارج البلاد، تروي نجوى “كان أبناء أخي يملؤون حياتي حيث يقضون معظم أوقاتهم في منزلي، لكن الحرب حرمتني منهم بعد حرماني من الأمومة، ولكي أنسى وجع فراقهم أحضرت قططهم الأربع إلى منزلي، أسميتها بأسمائهم، ومنحتها ألعابهم وجعلتها تنام في سريرٍ من أسرتهم، فهي عزائي الوحيد في غيابهم.”
ظاهرة وعلاج
ازداد إقبال السوريين على اقتناء الحيوانات الأليفة في الحرب أضعافاً مضاعفة، خاصة من قبل بعض الأزواج والنساء وكبار السن، ولم يعد الأمر محصوراً بالحيوانات المعتادة كالكلاب والقطط، فهناك من يقتني السلاحف والوبر الفرنسي وبعض أنواع الأرانب، إضافة للطيور المتنوعة والقردة صغيرة الحجم وغيرها.
ويعزو الطبيب النفسي غسان ذلك لتغيير الحرب لسلوك وأمزجة الكثير من الناس الذين باتوا يميلون إلى قلة الكلام والابتعاد عن بعض العلاقات الاجتماعية التي تذكرهم بآلامهم وخسائرهم وبمصير البلاد المجهول،. ويقول الدكتور غسان “لا تسلي الحيوانات الأليفة فقط، وإنما تربيتها تساعد في علاج أمراض القلق والاكتئاب والعزلة، إذا يجد بعض حاملي تلك الأمراض صعوبة في التواصل مع الأطباء النفسيين، فيعالجون أنفسهم فطرياً عبر تربية الحيوانات، فهي تتقبلهم بكل حالاتهم النفسية، كما أن انشغالهم بالعناية والاهتمام بها قد ينسيهم شيئاً من ضغوطهم ومشاكلهم النفسية، التي قد يذكرهم بها بعض من حولهم.”
كما يلجأ البعض إلى تربية الحيوانات كونها تعزز الثقة بالنفس والرضا عن الذات وتمنح الشخص بعض التوازن والأمان بحسب الدكتور غسان، فهي “تخفف من التوتر والانفعال الزائد وتساعد في تحسين المزاج، وبما أن الحيوان المنزلي يحتاج إلى المشي يومياً، فهو يساعد صاحبه على الخروج والحركة وممارسة النشاط الجسدي، وهو ما يحتاجه بعض المرضى” كما يقول. ويرى بذلك أن “معظم السوريين ممن يقتنون الحيوانات الأليفة يفعل ذلك ليستعيض بها عن مضادات الاكتئاب.”
“لا تعيدوني إلى وطني” يقول ملايين اللاجئين السوريين، ممن يرفضون العودة إلى بلدهم، أو يخافون إجبارهم عليها، وخاصة مع إصرار موسكو وسعيها لإقامة ما تسميه “بمراكز إيواء النازحين واللاجئين”، يترافق ذلك مع إحراز النظام السوري تقدما عسكريا كبيرا، واليأس من التوصل إلى أي حل سياسي. طرحت روسيا-في محاولة لتثبيت انتصارها وحلفائها في سوريا ورقة العودة خلال قمة “هلسنكي” الثنائية التي جمعت ولأول مرة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مع نظيره الأمريكي دونالد ترامب.
واستمرت المحاولات بعد “هلسنكي”، فموسكو تبذل كل ما بوسعها لحث الدول المستضيفة للاجئين على إعادتهم إلى سوريا، مما بات مصدر قلق للكثير من السوريين، خصوصاً مع تجاوب لبنان والأردن، وعزم كل من موسكو وباريس وبرلين وأنقرة على تشكيل تحالف جديد يضع نقاش إعادة اللاجئين السوريين كأولوية انطلاقه.
ورغم أن سوريا ترأست هذا العام قائمة الدول الأخطر في العالم وفق مؤشر السلام العالمي، إلا أن روسيا مازالت تكرر تصريحات الأمن والأمان المنتشرين في سوريا، وفق رؤيتها. فإلى أي وطن يطلبون من الناس العودة؟
المُهّجرون السوريون يكتبون قصائد الشوق والحنين لمدنهم وبلداتهم، مستذكرين أجمل ذكرياتهم فيها ولكن هل يكون السوري شاعرياً لهذه الدرجة ويخاطر بمستقبله لأجل حنينه؟
الناشطة مي الحمصي التي تعيش حالياً في ولاية غازي عينتاب على الحدود السورية التركية تقول: “أشتاق جداً لمدينتي حمص وأتمنى العودة لها، ولكن طالما النظام موجود، فالأمر مستحيل، لأن ذلك يخالف مبادئي الثورية، لماذا أعود لحكم الديكتاتور وأنا التي خرجت في المظاهرات ضده، مشينا خطوة كبيرة للأمام ولا نستطيع العودة؟” وتضيف الحمصي “النظام عزز الانقسام بين أبناء الشعب السوري، لا أعتقد أني أستطيع العيش أو التعامل مع أشخاص مؤيدين للنظام.”
وتوافقها بالرأي الصحفية السورية زينة إبراهيم التي تعيش أيضاً في تركيا، تقول إبراهيم “التجاوزات الحاصلة في سوريا عززت موضوع رفض العودة لدى الكثيرين وخاصة في ظل التغيير الديموغرافي الذي دخل باللعبة، فسكان المناطق الأصلية نزحوا وتم توطين أناس جدد.”
وتؤكد ابراهيم “لا أفكر بالعودة على الإطلاق، قبل أن يتم التوصل إلى حل نهائي للحرب السورية، في الوقت الحالي الأمان الجسدي غير موجود فمن الممكن أن يتم تهديد المواطن بالاعتقال أو القتل، كذلك الأمان المادي غير موجود بسبب انهيار الليرة السورية ما أثر بشكل سلبي على المعيشة، فضلاً عن ندرة فرص العمل.”
اختلفت الأولويات اليوم بالنسبة للاجئين، فبينما كان أغلبهم يحلم بالعودة، خلال السنوات الأولى من انطلاقة الثورة، غيّر الكثيرون رأيهم اليوم، ساهم بهذا الانتظار الطويل، والدمار والتعقيدات التي جعلت الحياة الطبيعية في سوريا شبه مستحيلة، فتحول حلم العودة في أذهان الكثيرين لكابوس.
مفتاح المنزل الذي نقله كثيرون في رحلة لجوئهم الصعبة مع أثمن ممتلكاتهم، بات رمزاً ليس إلا، يعلقه العديدون اليوم على أبواب خيبتهم، وخاصة بعدما شاهد معظمهم ركام بيوتهم، وتأكدوا بأم أعينهم عبر الفيديوهات المنتشرة على اليوتيوب ومواقع التواصل الاجتماعي، أن لا باب لهم هناك ولا بيت.
إذا أين سيقيم العائد إلى الوطن؟ غرفة مستأجرة قد تكلفه أكثر من مائة ألف ليرة سورية، فيما تبلغ قيمة راتبه الشهري ثلاثين ألف ليرة سورية، فإلى ماذا يعود؟
تعاني البلاد اليوم من أوضاع معيشية متدهورة، تفتقر إلى مقومات الحياة الأساسية من كهرباء وماء، بالإضافة إلى غلاء الأسعار وتدني متوسط دخل الفرد لحوالي ستين دولار شهرياً فقط، وذلك حسب تقارير عالمية أشارت أيضاً إلى أن القدرة الشرائية في سوريا شهدت انهياراً كارثياً، حيث وصلت العام الماضي إلى ١٤ بالمئة فقط.
حسام زكية الذي يعمل حالياً كمترجم في برلين قال إنّ موضوع العودة إلى سوريا غير مطروح ضمن خياراته في الوقت الحالي، لاسيما أنه قام بتأسيس شبكة تقوم بأعمال الترجمة من اللغة العربية إلى الألمانية، وهو مندمج بالمجتمع الجديد، أما إذا عاد إلى سوريا، في ظل استمرار النظام، فإنه مُعرّض للبطالة، والخطر في ظل عدم استقرار الأوضاع أمنياً، هذا فضلاً عن أن بيته الذي كان يقع في حي التضامن في دمشق، تعرّض للقصف، ونزح أغلب سكان الحي من المنطقة.
وأدى استمرار السطوة الأمنية على سوريا، لجعل التفكير في زيارتها حتى أمراً خطيراً على الكثير من الراغبين بذلك، فقوائم المطلوبين للفروع الأمنية والتي تُسرب للإنترنت تضم مئات الآلاف من الأسماء عدا عن قوائم المطلوبين لأداء الخدمة العسكرية.
أيمن مسلم الذي يعمل في مجال الإعلام في هولندا يقول إن “العودة أمر غير وارد حالياً بسبب الأوضاع الأمنية غير المستقرة، والأهم من ذلك لا يوجد ضامن حقيقي يؤكد عدم التعرّض للاعتقال حين العودة، خاصة مع تواجدي في أوروبا كصحفي منذ ما يزيد عن أربع سنوات، النظام لن يغض الطرف عن هذا الموضوع واحتمالية الاعتقال ستكون كبيرة.”
المعتقلة السابقة أميرة طيار والتي تعيش حالياً في ولاية قيصري التركية، تقول أيضاً أنها لا تفكر بالرجوع إلى سوريا “أبدا”، مضيفة “لم يتبق أحد من عائلتي، ابني شهيد تحت التعذيب، وزوجي كذلك الأمر، هل سأعود لوطن لم يتبق لي أحد به؟ كما أن النظام حاقد على جميع المعتقلين السابقين الذين يعارضونه الرأي، ولن يوفر الفرصة لاعتقالهم من جديد.”
يوافقها وائل المصري الذي يعمل في مجال الاتصالات خارج سوريا بقوله “الكل يعلم بأن نظام الأسد لا عهد له ولا ميثاق، وقد شهدنا حملات الاعتقالات التي شنّها على المناطق التي استعادها مستهدفاً الشبان الذين تم تسوية أوضاعهم وزجهم في المعتقلات.”
وأضاف المصري “إذن القبضة الأمنية ماتزال مستمرة، ولايزال النظام يهين الناس ويذلهم، فأي عاقل سيعود إلى بلد مدمر ومُنته اقتصاديًا وخدميًا؟ ومهما حاول النظام فبركة أن سوريا بخير فهذا غير حقيقي، وحتى الأن الأمم المتحدة لم تعلن أن سوريا منطقة آمنة.”
في هذا الوقت، تتصدر قصص نجاح السوريين في أوروبا اليوم عناوين أبرز وسائل الإعلام العالمية، ممن بدؤوا من الصفر وأسسوا مشاريعهم الخاصة بأرباح تعود عليهم بآلاف الدولارات، وتحولت بلدان اللجوء لأوطان بديلة.
تترقب عيناها وصول “الغنيمة” المالية في مستهل كل شهر، تنتظر قدومها وهي تمسك بيدها ورقة مجعدة مزدحمة بنفقات أساسيات العيش اليومي. تقول الشابة هند: “أنتظر بفارغ الصبر حلول أول كل شهر لتصلني حوالة مالية بقيمة ٤٠ ديناراً (أي ما يعادل ٦٤ ألف ليرة سورية) من شقيقتي التي تقطن في الكويت.” وفي الوقت الذي لا يشكل فيه هذا المبلغ إلا حوالى ٣% فقط من دخل الشقيقة المغتربة الشهري، يعد هذا المبلغ ثروة في يد الأخرى التي اختارت البقاء في سوريا.
تضيف هند “إن الحوالة لا تسبب ضائقة مالية لشقيقتي، بل هي فراطة مقابل دخلها الشهري، لكنها مصدر حيوي ووحيد بالنسبة لي، خاصة أنني بدون عمل وليس لدي أي مصدر دخل آخر، فهذه النقود تنقذني من الغرق في الديون وتجيرني من ذل السؤال ومنة الناس.”
تتوجه هند بعد قبض الحوالة فوراً للدويلعة لدفع أجار منزلها والتخلص من صاحبه المرابط أمامه للحصول على الأجار. تروي هند: “فور حصولي على الحوالة أقتطع ٣٠ ألف ليرة سورية لأجار منزلي حتى لا أعرض نفسي لمصير الطرد ناهيك عن مزاج المؤجر الجشع برفع الأجرة أسوة بأسعار المنازل الأخرى.”
أما عن بقية مكونات قائمة المشتريات، فتشطب منها هند أية مطالب توحي بالترف أو الرفاهية منها ارتياد المطاعم والمقاهي والمسابح لتقتصر على قسائم شراء الطعام من الرز والبرغل والمعكرونة وإتباع حمية شبه نباتية، فهي تقتصر فعلياً على كفاف اليوم، بالإضافة إلى مصاريف المواصلات وتكاليف الجامعة، “وأحيانا عند الضرورة، أرتاد معهداً لتدريس اللغة الإنكليزية”، تشير هند.
فهل تشمل إحصائيات السوريين الذين يعيشون تحت خط الفقر هند التي تعيش على الحوالة؟
يُعرّف خط الفقر بأنه أدنى مستوى من الدخل يحتاجه المرء ليتمكن من توفير مستوى معيشة ملائم في بلد ما. ويتمثل هذا الخط بالعجز عن تأمين المتطلبات الدنيا للعيش من حيث المأكل والمشرب والملبس والرعاية الصحية. ووفقاً لهذا التعريف يتصدر السوريين من ذوي الدخل المحدود خط الفقر فهم يحتاجون لثلاثة أضعاف معدل مرتبهم الهزيل الذي لايتجاوز (١٠٠ دولار ـ ٤٥ ألف ليرة سورية) لتغطية المدفوعات، خاصة في ظل حرب كشرت عن أنياب الفقر والبطالة والغلاء الفاحش والنزوح والتهجير القسري.
دفعت الحرب وما نتج عنها من إمعان في التفقير العديد من محدودي الدخل للبحث عن مصدر دخل ثان يقيهم شر العوز، ووجد أغلبهم هذا المصدر في الفتات الذي يرسله لهم الأقرباء المغتربون، اللاجئون منهم والمهاجرون، فأصبحت حوالاتهم الدورية المصدر شبه رسمي لدخل ذويهم، ومعيلاً أساسياً لمساعدتهم على تحمل نفقات الحياة التي باتت مكلفة جداً.
أما ماهر، اسم مستعار، فيعيش ببحبوحة بالنسبة لشاب عاطل عن العمل، إذ يعتاش من عرق جبين شقيقيه اللاجئين في هولندا وألمانيا فيتناوب الأخيران على اقتطاع حفنات من النقود التي تمنحها حكوماتهما لتأمين مصروف الشاب المقيم في الحسكة.
يقول ماهر: “تصلني حوالة مالية كل شهر، حوالى ٢٠٠ يورو أي مايقارب ١١٠ آلاف ليرة سورية، أنفقها على مصروفي الشخصي والدخان وفاتورة الخليوي، وشراء الملابس والأهم من ذلك أنني حققت حلمي في صنع فيلم قصير بإمكانيات متواضعة بعد توفير جزء من الحوالة على مدار عدة أشهر وادخارها من أجل استئجار الكاميرا ومعداتها اللازمة.” وبالإضافة لتأمين مستلزمات الحياة اليومية، قد تتحول الحوالة أحيانا لمدخرات تؤمن المستقبل ويحتمي بها صاحبها من نوائب الدهر.
يقول ماهر:” والدتي تشتري بعض الحلى والليرات الذهبية بالحوالة المخصصة لها من شقيقي الثالث في تركيا، لتحتفظ بها كمدخرات يمكن الاعتماد عليها في وجه غدرات الزمان.”
كما يمكن أن تتخذ الحوالة دور “الملاك المخلص”، يقول محمد الذي عمل بتركيا وفضل عدم ذكر كنيته: “أرسلت لشقيقي مبلغاً وفيراً كنت أدخره خلال سنوات عملي هنا، ليسد نفقات علاجه من سرطان الدم خاصة أن تكاليفه باهظة جداَ ولا يمكن أبداً الانتظار في طوابير المستشفيات الحكومية داخل سوريا والتي تستغرق وقتا طويلاً إن حالفه الحظ.”
المعونة المالية التي تصل عائلة أحمد المصري على شكل حوالة، تشكل شريان حياة للراتب التقاعدي الذي يلفظ أنفاسه الأخيرة في الأسبوع الأول من الشهر، يقول أحمد الذي يعمل في مجال السياحة التجميلية في إسطنبول:
“يشكل مبلغ ١٠٠ دولار قرابة ١٠% من دخلي، لكنه يعد مصدراً حيوياً لعائلتي، إذ يصرف على الطعام والشراب ويمكنهم من العيش بكرامة لاسيما أن راتب والدي التقاعدي الذي لا يتجاوز ٤٠ ألف ليرة سورية لا يصمد إلا لعدة أيام.” ويتابع أحمد “ناهيك عن نفقات إضافية طارئة كالعلاج والتحاليل والصور الشعاعية المكلفة، فمنذ فترة علمت أن والدي يعاني من آلام مبرحة في الأسنان أفقدته قدرته على تناول الطعام منذ شهر ولا يستطيع تكبد مصاريف العلاج فأرسلت له على الفور حوالة إضافية لتكاليف العلاج.”
صديق أحمد أيضاً الذي فضل عدم ذكر اسمه ساعد بحوالته المالية التي يرسلها لدفع أجار منزلين في حلب من إرساء هدنة لفض النزاع بين زوجته ووالدته وفصلهما في منزلين مختلفين، يقول الشاب: “وصلت المشاكل بين زوجتي وأمي إلى طريق مسدود، ولكي لا أخسر إحداهما استأجرت لكل منهما شقة لتعيش بمفردها، برقبتي ثلاثة بيوت مع بيتي في تركيا.”
أما أكثم، اللاجئ في هولندا، فأخذ على عاتقه مسؤولية دفع أقساط المدرسة الخاصة لشقيقته، يقول أكثم: “أرسل لأمي ٢٠٠ يورو كل شهرين تدخرهما من أجل أقساط المدرسة الخاصة لشقيقتي الصغرى بعد أن صنفت من الأوائل في سورية”، إضافة لتكاليف أخته، تكفّل الشاب بعمته بعد أن فقدت زوجها في الحرب وأصبحت تعيش على راتبه التقاعدي وحصص المعونات القليلة.
في ضوء كل هذا، هل يرغب السوريون الذين اختاروا البقاء في سوريا فعلاً بعودة أشقائهم وأبنائهم إلى الوطن بعدما أًصبحت حوالاتهم ستر نجاة تحميهم من الغرق في العوز والفقر؟
أكد حاكم مصرف سوريا المركزي، دريد درغام، أن المركزي قادر على خفض سعر صرف العملة الأمريكية لتصل إلى ٢٠٠ ليرة، وذلك من نحو ٤٥٠ ليرة للدولار حاليًا في الأسواق، وذلك خلال حديثه لأعضاء غرفة تجارة حلب، بحسب ما تناقلته العديد من المواقع المحسوبة على النظام، منهابزنس تو بزنس سورية، لاحقاً فسر درغام سبب عدم التخفيض بقوله “لن أسمح لهؤلاء بمضاعفة القوة المالية الضاربة لديهم مرتين، ومهما كبر عددهم أم صغر، ولا يجوز لأغنياء الحرب الذين بات يملك أحدهم ١٠٠ مليون ليرة أن أمنحه هدية ١٠٠ مليون ليرة أخرى بقرار منّا.”
إذًا يحاول حاكم مصرف سوريا المركزي مكافحة الفساد بالآلة العسكرية، التي سبق لها وأن ابتزّت ونهبت جسد الدولة بالسياسات النقدية، متجاوزًا دور بقية المؤسسات المعنيّة بأمر أمراء الحرب؛ لكن هل يستطيع حقًّا درغام تخفيض الدولار إلى ٢٠٠ ليرة؟ للإجابة عن هذا السؤال سوف نناقش الأمر من وجهة نظر نقدية واقتصادية بحتة.
تكلفة تخفيض سعر الدولار إلى ٢٠٠ ليرة
بحسب المسح النقدي المنشور على موقع البنك المركزي لعام ٢٠١١، فإنّ نسب النقد المصدّر – أي المستخدم في التداول بين الناس- تقدّر بـ ٦٦٤ مليار ليرة، وحملة النقود هؤلاء سوف يعمدون إلى تحويل جزء من السيولة إلى دولار للادّخار، معتمدين على ذات السلوك قبل عام ٢٠١١، تاركين باقي السيولة لقضاء الحاجات اليومية والعمل. سنعتمد على رقم الادّخار بالدولار ببيّنة قريبة من البنك المركزي؛ كونه أكثر من يجيد تحديد النسب بين العملة الوطنية والأجنبية، ففي ذات الإحصائية قدّر الاحتياطي من العملة الأجنبية (م٢) والتي تعني النقد والودائع تحت الطلب (م١)، إضافة إلى ودائع لأجَلْ بـ ٢٧.٦%، أي ٦٦٤ مليارًا. *٢٧.٦%=١٨٣ مليار دولار إذا هو الهدف الذي يسعى حاملو النقود للوصول إليه، وبما أنّ سعر الدولار ٢٠٠ ليرة حسب المركزي؛ فإنّ الناتج ٣.٣٢٠ مليارًا، أي ثلاثة مليارات وثلاثمئة وعشرون مليون دولار، والمركزي حسب آخر إحصائيات البنك الدولي لديه ٧٠٠ مليون، وهي تغطّي فقط دورة نقدية تُقدَّر بثلاثة أشهر، ولو أضفنا إليها مليار دولار حجم الائتمان الإيراني، متجاهلين أنّ هذا الائتمان ليس سيولةً نقدية، هذا يقود لاستنتاج أن المركزي لن يستطيع تغطية الهدف الذي يريد الوصول إليه.
التسعير الاسمي
هناك من يعتقد أنّ المركزي كونه جزءاً من النظام، وكون أحد أساليب تسعير الدولار في سورية – في ظل حكم الأسد- تتم من خلال قوة الدولة، أي بفرض تسعيرة إدارية، فإنّه سوف يلجأ إليها، لكن هذا الأمر غير ممكن الآن؛ لعدة أسباب:
١- المعابر الحدودية خارج سيطرة النظام؛ وبالتالي فإنّ إحكام القبضة على التجارة -التي هي أهمّ مستهلك للدولار- يقبع خارج سيطرة النظام.
٢- توقّف الصناعة والزراعة، وهما اللتان تُنتِجان الدولار؛ وبالتالي لايمكن للمركزي تعويض أيّ دولار ينفقه في السوق، لتخفيض سعره.
٣- ضريبة الانتصار، فمع سيطرة النظام على مناطق المعارضة، ستتوقَّف تلك الجزر التي كانت تتلقى مساعدات مالية دولية ضخمة؛ للبقاء على قيد الحياة، والتي كانت مورد المركزي الرئيس للدولار، وخاصة أنّ جزر المعارضة كانت مضطرة للتعامل مع النظام لأجل تأمين المواد الغذائية التي كانت تُباع بأراقام خرافية، والتي كانت في النهاية تصبُّ في البنك المركزي. أي أنّ خيار التسعير الإداري في هذه الظروف غير فعّال في تسعير الدولار.
التحويلات الخارجية
تقدر التحويلات الخارجية بِـ ٦.٥مليون دولار يوميًّا، أيْ ٢.٣٧ مليار دولار سنويًّا، وهذا الرقم يساعد في الوصول إلى الهدف، لكن إذا تمعَّنّا في تركيبة الدول التي تُحوَّل منها النقود إلى سورية نجد أنّها مناوئة لنظام “الأسد”، وأنّها وضعت قيودًا كثيرة على التحويلات، وخاصة بعد سقوط مناطق المعارضة. وهذه الدول تُجرِّم التعامل مع النظام؛ بسبب العقوبات الاقتصادية، كما أنّ الكثير من السكان الذي يتلقّون المساعدت قد انتقلوا إلى مناطق خارج سيطرة النظام، وهذه المناطق بدأت تجرِّم التعامل مع النظام، كما حدث في إدلب، وريف حماة، من منع إدخال المواد التجارية من مناطق النظام -حسب المنشور الصادر من حكومة المؤقتة للمعارضة- وبالتالي فإنّ هذا الخيار يتوجب إعادة تقييمه كمساهم لتخفيض سعر الدولار؛ لعدم القدرة على تنفيذه على أرض الواقع.
إشكاليات التسعير
فرضياً، إذا نجح النظام في تسعير الدولار بِـ ٢٠٠ ليرة إداريًّا؛ لتلافي دفعه ٣.٣٢٠ مليار دولار التي تكلمنا عنها آنفًا، فإنّ هذا يعني إعادة تسعير جميع المنتجات على أساس سعر الدولار الجديد، وهنا تكون الخسارة الأولى، أما الخسارة الثانية هي أنّ التجّار بحاجة دولار تعويضي لشراء السلع، تعويضًا على ما تم بيعه، إضافة إلى زيادة الطلب مع تحسُّن مستوى الدولار.
ولو افترضنا أنّ نسبة ارتفاع الطلب تقابل نصف نسبة التحسُّن في سعر الدولار، فإنّنا نتكلم عن مليار دولار، وهي في معظمها غير مستردة؛ لعدم وجود تصدير من ناحية، وبسبب إنهاء تواجد جزر المعارضة وصعوبات التحويل من ناحية ثانية، وهنا سيبدأ التضخم المتوحش الذي سيلتهم ما تبقى من الاقتصاد السوري؛ بسبب التحسًّن بالليرة السورية بشكلٍ كبير، ودفعة واحدة.
كما أنّ هناك مشكلة أخرى تكمن في الموازنة العامة للدولة – بشقّيها: الإنفاقي، والاستثماري- فإنّ تحسُّن الليرة السورية يجعلها ملزمة بإنفاق الموازنة كلها، مما يعني طلب مزيد من الدولارات؛ كون كل شي في سورية الآن مستورداً، وخاصة الإنفاق الاستثماريّ. وبما أنّنا نتكلم عن الإنفاق الاستثماري فإنّ تحسُّن سعر صرف الليرة سيدفع الناس إلى الاستثمار في العقارات، والبنيان الذي يشهد ارتفاعًا، أو افتتاح مشاريع تجارية، وصناعية، وكلّها تحتاج إلى دولارات كثيرة قبل الإنتاج، فهل المركزي يملك تلك الدولارات؟!
الأسد يشتري الليرة السورية
فيما لو أنّ الأسد ورجالاته الاقتصاديين هم من طرحوا سعر صرف الدولار وفق خطّة أمنية لا تسمح للمواطن بالادّخار، فإن المشكلة تبقى في سعر السلع؛ لأنّه ليس من المعقول أن ينخفض سعر الدولار في السوق بينما تُسعَّر البضائع والمواد على أساس السعر قبل التخفيض!
حتّى الذهب، سينعكس عليه هذا الأمر، وينخفض سعره؛ كونه مقيَّماً بالدولار؛ وبالتالي سيزيد الطلب عليه، ونحن لا ننسى أنّ الناس في مناطق المعارضة تملك كمية ضخمة من الأموال، وأنّها سوف تتجه إلى الذهب، والعقارات.
كل هذه العوامل توصلنا في النتيجة إلى أن طرح دريد ضرغام ليس واقعيًّا، على العكس، إن له أثرًا تدميريًّا؛ فهو يُفقِد الثقة في مؤسسة تُعتبر أحد المعايير التي يلجأ إليها المستثمرون لتقييم عملية إعادة إعمار سورية. وهو يحاول الإيحاء للتجار أنّ البنك المركزي يملك احتياطياً كبيراً، يملك حرية التصرف فيه، معيدًا سيرة فساده السابق في المصرف التجاري، وقضية تمويل معامل الخيط وغيره لشركاته على حساب تجّار آخرين.
تترقب مدينة إدلب هجوماً عسكرياً واسعاً تسعى القوات الحكومية شنه لاستعادة المدينة وإنهاء سيطرة فصائل المعارضة السورية المسلحة على هذه المنطقة. ومن الجانب الآخر تتأهب قوات سورية الديمقراطية لسد الحدود مع إدلب من جهة عفرين تمهيداً لتحرير المدينة الكردية من الجيش التركي ومسلحي المعارضة المدعومة من أنقرة.
المشهد السوري يتجه إلى سيناريو أفغنة سورية واستنزاف القوى المتناحرة والفصائل المتقاتلة على الأرض السورية وعجز حكومة دمشق عن حل أزمة البلاد. نظام جديد للإدارة الذاتية الكردية، الهدف الذي يجهد الكرد تحقيقه في شمال سورية، والذي طرحه وفد مجلس سورية الديمقراطية “الجناح السياسي” لقسد خلال زيارته الثانية إلى دمشق. الزيارات تأتي في إطار إلقاء الضوء على الجهود التي تبذلها الإدارة الذاتية، لفتح قنوات جديدة مع الحكومة وضمان الوصول إلى اتفاق يحفظ لهم الحكم الذاتي على الأرض السورية.
صالون سوريا إعداد وتعليق: لامار أركندي تصوير ومونتاج: جوان تحلو
تُنسج خيوط الذاكرة من المكان ومنحنيات تكوّنه، وتحضر سيرورة خلقه في كل رسمٍ وكل باب. وتشكل جدرانه المجبولة برائحة الجوع أولى الدعامات في القاموس البشري، ومنها تنبثق غريزة البقاء ومبدأ الاستقرار المعيشي.
ترسم هذا الاستقرار جارتنا أم محمد الخياطة، بحديثها المستقى من ذاكرتها المقفلة: “أترين هذا الدرج المبلط بالرخام الأبيض؟ لقد استهلك عيني ومفاصل جسدي كلها، كنت أجلس على ماكينة السينجر أشهراً بحالها كي ألبي طلبات الزبائن”، وتضيف أم محمد “كانت أكثر المواسم خيراً تلك المتزامنة مع قدوم المدرسة وازدياد الطلب على الصداري والبدلات، هذا البيت الذي نحتسي به قهوتنا الآن كان غرفة فقيرة ومنتفعاتها، فزوجي موظف في مؤسسات الدولة وراتبه لوحده لن يبني جداراً واحداً اضافياً.”
وعن عملها تحكي “كنت أرى التصاميم من المجلات وأطبقها على أزياء قديمة فقدت تناغمها مع الحاضر، هذا البيت أكل من جسدي، فتلك الأيام أجبرت كلينا على نقل البحص والرمل فيما استكمل العمال الفقراء عملية إعماره، لحظتها بدأت الحياة، فلقد أصبح لنا منزلٌ يحتضن عائلتنا، وكل ما هو خارج هذه الجدران لا يهم، لدينا أرضٌ تلتحم بفراش ننام عليه لنستفيق مسورين بأعمدة وجدران تُجلي الخوف منا.”
أنجبت نزعة الإنسان الأولى فكرة الملجأ- -المأوى، وجرى تحقيق وتطوير هذا الشرط بالتزامن مع ارتفاع سوية الوعي البشري وتزايد وتيرة الإدراك لحجم المخاطر التي تحيق به، والأدوات المبتكرة التي كُرست لحمايته وخلق المكان الذي يؤمن له خاصية البقاء. يعي معظم السوريين جيداً رمزية المنزل، وحاجتهم للظفر ببقعة صغيرة تلمهم وتجمع قلوبهم تحت سقفٍ واحد، غير آبهين بأبعاده أو بنمط بنائه.
لم يكن المنزل حلماً سهل التحقق للسوريين، كثير منهم لم يهنؤوا بالاستقرار النفسي والجسدي المجسد بهيكل منزل، فأسعار المنازل فُصلّت على مقاس أولياء النعمة، ومن ليس منهم، يحصل على المنزل إما عبر التوريث أو بقضاء عمره مسدداً القروض السكنية عبر مضخات الجمعيات ذات السياسات الفاسدة، فالمنزل الذي يتم التسجّيل عليه، قد يأخذ من عمرك ثلاثة أرباعه إلى أن تُتسلّم مفاتيحه أخيراً.
ويلجأ الغالبية العظمى لهذه الجمعيات بسبب الدخل المتدني للسوريين، فهو أقل من أن يشتري غسالة أو براد أو غيرها من ضروريات الحياة، فكيف لعائلة أن تُبنى بهيكليتها الأولى دون هندسة تنظم لها شؤون الحياة ومتطلباتها؟ وكيف للإنسان العيش في ظل حياةٍ تسلبهُ كل طموحاته وجهوده وتختزلها بمسمى واحد هو المنزل؟
عالج السوريون معضلتهم هذه بطرق عدة، منها تقسيم منزل العائلة الواحدة لبيوت صغيرة تأوي أبناءها الذين بدؤوا بتشكيل عائلتهم الجديدة، وستعاد هندسة المنزل وفق تقسيمات حديثة تضمن استقلالية العائلة المنبثقة من جديد، إلا أن كل جدران وهندسات العالم لن تتمكن من منع حدوث “الشربكات” العائلية وما ينتج عنها من الشروخ الاجتماعية.
أما الأحياء الشعبية، فستتبع سياسة تحويل الطابق العلوي (السطح) إلى منزل مستقل، يتولى من يسكنه مسؤولية تغطية تكاليف إعماره والتي تسرقه بالمطلق. استطاع ابن جيراننا أن يُنشئ منزلاً صغيراً من هذا النموذج بعد أيام طوال أمضاها وهو يؤجل تعليق شهاداته إلى أن ينتهي من جدار بيته الجديد المبني على سطح دارهم.
كذلك جسد نظام الاستئجار الحل الأكثر شيوعاً وانتشاراً، يتم اللجوء إليه من إدراك الكثيرين بأن هذه الحياة وثلاث حيوات أخرى لن تمنحهم صك امتلاك المنزل. يبدأ الزواج بعملية البحث عنه، وتتعلق به مشاكل اجتماعية قوامها مؤسسة الأسرة وإيجاد حلول منصفة لها، فمثلاً نسبة كبيرة من النساء اللواتي يرغبن بالانفصال عن أزواجهن يتعثّرن بفكرة المنزل؛ فالعودة مجدداً إلى جلباب ووصاية العائلة يجعل من خيار البقاء وتحويل حياتهن إلى جحيم أفضل الموجود.
يلعب المنزل دورا حاسماً في قرار ترك أم شام لزوجها، فهي لا تعير أية أهمية لنظرة المجتمع لها في حال تحقق الانفصال، إلا أن المنزل هو العثرة. تقول أم شام: “شخص واحد أفضل من عشرة يتحكمون بمصيري ويومياتي الحياتية، جل ما أطمح له غرفة صغيرة لابنتي تستطيع الاستقلال فيها عن باقي أفراد المنزل، وغرفة لها باب تمكنني من متابعة حياتي دون سماع كلمة من هنا وهناك.”
امتلاك منزلٍ يضم أرشيف العائلات ونواة تشكلها الصحي معضلة لنسبة كبيرة من السوريين، بدءاً من الخزانة التي تشكّل بيت أسرار المنزل برفوفها المتدرجة تباعاً ودورها كمخزون ثمين لأهم الأشياء. ففيها تُخبأ ألبومات الصور المؤرشفة لتاريخ العائلة منذ أول لقاء بين الأم والأب، يزخرف خلفيات صورها تأريخٌ دقيق للحدث مع بضع كلمات دافئة، إلى مكان النوم والفراش، علاقة الأم بمطبخها، انتهاءً بالحمام الذي لا يستطيع أياً كان أن يستحم خارج منزله أو أن يقضي حاجته أيضاً.
مدارات نفسية خاصة تشبك جل أبناء المنزل الواحد مع جدرانه، ولهذا شغل المنزل سلم الأولويات في تقوية وتمكين العلاقات الاجتماعية وزيادة الألفة بين أفراد المجتمع، فلا وجود لمجتمع سوي من دون عائلة متماسكة تمتلك أدنى الشروط في سلم الحياة وهو عامل الأمان والاستقرار.
ولهذا نجني ما نجنيه من تفكك اجتماعي وتصدعات طفت على السطح الآن؛ فالعائلة فقدت أبسط مكنوناتها الطبيعية والصحية وجل أفرادها منصرفون للبحث عن مقومات حياتهم وقيمتهم في بلاد حاكمتهم على أنهم غرباء. فما معنى أن تدفع آجار بيتك وأنت ضمن الحدود المرسومة لبلدك ولا سند لك ينجيك من براثن المكاتب العقارية ومافياتها؟ وما هو تأثير التقرحات التي سيصاب بها أب كل أسرة لا يقوَ على جمع شتات عائلته خلف بابٍ صغير؟ وكيف للاستقرار النفسي أن يزور العائلات وهي محرومة من أرضية ثابتة تحفظ لها وجودها ومستقبلها؟
سويت معظم المدن السورية أرضاً وشُرد أبناؤها ولم يبق من العائلات السورية الكاملة في هذا البلد إلا القلة القليلة، شكل النازحون داخل سوريا -والذين تخطى عددهم الـ ٧.٦- مليون إشكالية كبرى باعتبار أنّهم يعيشون في ظروف معيشية صعبة وفي مواقع يصعب الوصول إليها، وشكلّت معاناتهم أرضية خصبة لسماسرة العقارات حيث ارتفعت الإيجارات أكثر من ٣٠٠٪ منذ بداية ٢٠١١، وأُجرّت العقارات غير الصالحة للعيش، كما تحولت البيوت غير الجاهزة “على العظم” لوجهة للكثيرين، وتم رفع أجرتها لاحقاً بعد ما عاينوه من سلوك ساكنيها وما جلبوه من حياة جديدة، من العناية بالنباتات المنزلية والورود على شرفاتها المتفسخة، وفرش نوافذها بالأقمشة الملونة، فقد بدأ المستأجرون يُضفون عليها بعضاً من ملامح المنزل الغائب أملاً بأن تمكّنهم من استعادة بعضاً من رموز الأمان والحماية التي أفقدتهم إياها سنوات الحرب. أُجرّت أيضاً عيادات أطباء الأسنان، الصيدليات، محلات السمانة، وصالونات الحلاقة، لعائلات بأكملها تكدست فوق بعضها البعض.
بقي العديد من النازحين يقتات على حلم عودته إلى منزله الدافئ حيث كان يقود زمام الحياة، إلا أنه عاد من حلمه بحجر من جدار أو نعلة باب ليقنع بها نفسه باستحالة عودة كل ما كان، وأصيب بعضهم حتى بنوبات قلبية لدى عودة مدنهم والسماح لهم بالذهاب ومعاينة منازلهم.
لا يُقارن هذا كله بمأساة لاجئي الخيام، الذين فقدوا إحساسهم بالانتماء والطمأنينة؛ فكيف بإمكان قطعة قماش أن تستر حياة كاملة في فسحة لا يتجاوز امتدادها جسد إنسان؟ هناك حيث الخصوصية والاستقلالية مفقودة، والأطفال يزجون في المحظورات نتيجة شعورهم بالنقص؛ فالخيام منصوبة في مناطق آهلة بمنازل تُقفل ليلاً وتطفأ أنوارها مع احتضان كل طفل لوسادته وغطائه الدافئ في جو أسري. أما هذه المساحات المقفرة فمملوءة بروائح امتهان كرامة الإنسان فدور الرجل تقلص ليصبح متواكلاً ينتظر معونته الشحيحة، ويعمل ضمن النطاق المسموح به. والأمر مطابقٌ أيضاً لأطفال أجبرتهم الحياة على العيش في الحدائق العامة ومرافقها المشاع، يمارسون يومياتهم على مرأى الجميع، كذلك فعلت بعض العائلات، لا مؤجر هنا ولا جدران تُدفع كثمن لإقامتهم بين تقسيماتها، اعتاد هؤلاء أمطار الشتاء وحرارة الصيف، لا مكان لديهم للاختباء، فالمساحة مفتوحة للمارة ومفصولة عنهم بسياج معدني بات يشكل حاجزاً لا يلتقي به الخارج والداخل إلا بعيون تترجم جوف كل منهما.