لا ينفصل واقع التعليم عن الحُطام السوريّ العام، ولكنه الأعظم خطراً والأكثر دواماً في آثار الحرب المُدمّرة فالحرب ستنتهي عاجلا أم آجلاً، لكن آثارها ونتائجها الكارثية ستظهر لعقود قادمة كما يحصل دوماً في كل الحروب التي تمزق المجتمع والدولة.
تبدو صورة الأطفال السوريين في بعض المدارس قاسية، التفاوت بين مستوى المعيشة الذي فرضه النزاع السوري واضح بين نازح أو “وافد” وبين ابن المنطقة نفسها. لم تعد الصورة موحدة للطلاب السوريين فلكل منهم منهاجه ولكل منهم لباسه ولكل منهم بيئته ولغته الخاصة، فالأطفال النازحون المنقطعون عن المرحلة التعليمية كان لهم منهاجهم الخاص الذي فرضته وزارة التربية السورية بالتعاون مع منظمة الأمم المتحدة التي تُعنى في شأن الطفولة العالمية “اليونيسيف” وجمعيات أهلية وهو ما يسمى برنامج التعليم الذاتي “الفئة ب” ضمن حملة هدفها إعادة الأطفال الأُميين والمُتسربين، الذين تتراوح أعمارهم بين 8 و15 سنة، إلى مقاعد الدراسة. يعتمد المنهاج “ب”على تكثيف منهاج سنة دراسية كاملة بفصل دراسي واحد، حيث يتم اختيار المعلومات الأساسية التي يجب على التلميذ تعلّمها ليتمكّن من متابعة دراسته، ويخضع بعدها لامتحانات نهائية ليلتحق ببرنامج “الفئة أ” الموجود أساساً.
و في المدارس حيث يجتمع أبناء المنطقة الواحدة كما اعتاد السوريون فقد اختلف الوضع تماماً بعد الحرب حيث ضاعت الهوية السورية بعد أن جمعهم اللباس الواحد والمناهج الواحدة، وأصبح لكل منهم منهاجه ولباسه ولهجته الخاصة. لو أخذنا عينة من أطفال سورية، في مدينة طرطوس على سبيل المثال، تلك المدينة الهادئة التي ظلت بعيدة عن أجواء الصراع الدائر في سورية اكتظت بعدد كبير من النازحين من حلب ودير الزور وغيرها من المحافظات السورية التي تعاني ويلات الحرب، والتحق أطفالهم بمدارس المدينة وهنا غابت الشعارات عن اللُحمة الوطنية والتآخي والتعايش، فلا شيء جمعهم سوى المكان الذي فُرض عليهم أن يكونوا فيه.
تقول إحدى المعلمات: “قبل الأزمة كان يمكن القول إن عدد الطلاب مقبول لكن اليوم وبعد الأعداد الكبيرة التي أتت إلى هذه المحافظة أصبح هناك اكتظاظ سكاني خطير في المحافظة وعدد طلاب كبير يفوق 70 إلى 60 طالباً في الصف الواحد مما يؤثر على مستوى الفهم والإدراك والمعلومات التي يمكن إيصالها للطلاب.”
وأضافت “إن وجود الأطفال الوافدين الفقراء مع الأطفال أولاد البيئة والذين تتوفر لهم ظروفٌ جيدة نوعاً، زاد الوضع سوءاً للطرفين، فالطفل الفقير المُعدم الذي لا تتوفر له أدنى مقومات الحياة ويعيش في خيمة لا تستر أكثر مما تكشف كيف له أن يتماشى مع أطفال أفضل منه دراسياً واجتماعياً وبيئياً.”
وأشارت المعلمة إلى نقطة اعتبرتها مهمة جداً ألا وهي نشاطات اليونسيف أو منظمة الهلال الأحمر المخصصة لهؤلاء الطلاب والتي تكون عبارة عن درس رياضة وتقديم هدايا لهم وغالباً ما تكون عبارة عن جوارب، مشيرةً إلى أن مجرد خروجهم من الصف لوحدهم وتقديم هذه النشاطات لهم دون الأطفال الآخرين يبين للعلن أنهم وافدون منبوذون. وبحسب المعلمة فإنّ هؤلاء بحاجة إلى مدارس خاصة لمحو أميتهم ومساعدتهم نفسياً واجتماعياً للانخراط في هذه البيئة. وأردفت قائلة لا نستغرب أن يصبحوا خلية ناقمة على الدولة في الأيام القادمة لأنهم يعيشون في تشرد وفقر وبعد الدوام أغلبهم مضطر للعمل في أماكن لا تناسب أعمارهم.
الأكاديمي السوري خلدون النبواني يقول: “الإحصائيات تشير إلى أرقام مرعبة بالنسبة لعدد الأطفال المحرومين من حقهم في التعليم سواءً من النازحين داخلياً في سوريا أو اللاجئين في دول الجوار والعديد من دول العالم، ولا يتوقف الأمر على حرمانهم من التعليم وإنما يتداعى في آثار الانحرافات الأخلاقية والسلوكية التي يعيشها من وجد نفسه منهم يقفز فجأة من طفل في مدرسة إلى عوالم الجريمة والقتل والسرقة والتسوّل”. وفيما يخص الآثار المترتبة على هذا الجيل أوضح النبواني أنه قد يتجلى ذلك في الآثار النفسية التي سرقت الأطفال من نومهم ليصحوا على أصوت الطائرات الهادرة والبراميل المتفجرة وأصوات الرصاص والسيوف والحقد ويشهدوا بأم أعينهم دمار بيوتهم وقتل أهاليهم وأقربائهم ورحيلهم المفاجئ عن بيوتهم.
وتأكيداً على ما ذكرناه بالنسبة للأطفال الذين نزحوا داخلياً في سوريا وانضموا إلى مدارس سورية أُخرى أفاد النبواني: “قد لا يكون انتقال التلميذ من مجتمعٍ ضيق لآخر عاملاً سلبياً بالضرورة بما يتضمن ذلك تغيير البيئة والرفاق والمدرسين واللهجة، بل على العكس كان يمكن أن يكون عامل غنى وثراء وتجربة جديدة لولا أن المجتمع السوريّ الآن يتغذى بالحقد وكراهية الآخر، أي كراهية السوري الآخر.”
معظم التلاميذ ولدوا في أتون الحرب أو ابتدأ وعيهم يتفتح في جحيمها وبالتالي تكون تجربة الانتقال هنا تجربة مليئة بالمصاعب النفسية القاسية جداً على الطفل.
وبحسب النبواني الطفل هنا لا ينتقل إلى وسط آخر سويّ قد يندمج معه بسرعة وإنما هو سيسمع ويرى أنه الغريب غير المرغوب فيه في المكان الجديد الذي اضطر إلى النزوح إليه مع ما تبقى من عائلته. سيواجه هذا الطفل دون شك بعدوانية “صاحب المكان” الذي سيفرض عليه قوانينه ويستهزأ باختلافه المتمثل خاصة في اللهجة ومكان السكن.
وعند الحديث مع أخصائي في علم الاجتماع في جامعة دمشق فضل عدم الكشف عن اسمه فإنّ واقع تعليم الأطفال في سورية وأثره على البلد مؤلم جداً ولا يمكن الحديث عنه بحسب تعبيره. كان الأجدى ان نسلط الضوء على هذه الكارثة الإنسانية التي ستحل بسورية فقبل بناء الحجر وجب بناء الإنسان وبحسب اليونسيف 45% من أطفال سورية خارج نطاق التعليم، جيل بأكمله أميّ لا يعلم شيئاً كيف له أن ينهض ببلد مدمر كلياً.
وبحسب تصريح صحفي لوزير التربية السوري هزوان الوز فإنّ: “الأضرار التي لحقت بالقطاع التربوي خلال سنوات الحرب كانت حوالي /8000/ مدرسة منها /1000/ مدرسة تحتاج إلى هدم وإعادة بناء إلى جانب تدمير العديد من الآليات والوسائل والتجهيزات التعليمية، وتحويل بعض المدارس إلى مراكز إيواء للمهجرين.”
و لم يتسن لنا معرفة النسب الحقيقية للمدارس المدمرة وعدد الأطفال خارج نطاق التعليم لرفض مصدر في وزارة التربية السورية التصريح عن ذلك، وكذلك المكتب المركزي للإحصاء في دمشق كانت إجابته أن ليس لديه معلومات حول ذلك. يبقى التعليم في سوريا القطاع الذي يفتقر أكثر إلى التمويل، على الرغم من الجهود المبذولة لتوفير دراسة غير منقطعة للأطفال السوريين، وكل هذا لا يمكن أن يشفى منه هذا الجيل الذي شهد الكارثة. سيدوم أثر ذلك طويلاً كندبة في الروح إن لم يتم إيجاد حلول ناجعة في المتابعة النفسية والتربوية، وغير ذلك سنلاحظ آثار الدمار في نفوس الأطفال وما يترتب عليها من عواقب قد يكون هذا الجيل نافذة مضيئة للمستقبل اذا استدركت الحكومة السورية معالجته وتعليمه أوقد يكون نقمة وحجر عثرة في وجها.
بقوام نحيل هزيل يقف “أحمد محمد” خلف بسطته البسيطة على الجسر الرئيسي لمدينة القامشلي، يُفرغ كراتين الجوارب ويرتبها بجانب بعضها وبشكل متدرج كل منها على حدة حسب التسعيرة المختلفة لكل صنف منها.
يعمل أحمد البالغ من العمر ستة عشر عاماً حوالي ١٣ ساعة يومياً ليؤمن قوت عائلته بعد عودة والده الذي كان يعمل موظفاً حكوميا في الرقة وفراره منها بعد سيطرة تنظيم داعش عليها في 12/ كانون الثاني/ 2014.
يقول أحمد: “أجبرت على ترك مقاعد الدراسة بعد عودة والدي وفقدانه لوظيفته وارتفاع الأسعار الجنونية فاقت طاقته لاسيما وأننا عائلة كبيرة مؤلفة من ٩ أشخاص، فكان لابد من حل سريع ينقذ عائلتي من الفقر والعوز، والحمد لله البسطة الصغيرة هذه تؤمن لنا يومياً حوالي ٩٠٠٠ ليرة سورية ما يعادل ٢٠ دولاراً.”
يعتبر “حسن جميل” الوقوف خلف بسطة لساعات طويلة نعمة بالمقارنة مع تنقله لساعات طويلة تحت أشعة الشمس الحارقة صيفاً والبرد القارص شتاءً بين سرافيس كراج “نوروز” على الجسر الثاني للمدينة باحثاً عن مشترين لعلب المحارم. ومن جهة أخرى نزح جميل البالغ من العمر أربعة عشر ربيعاً من مدينة حلب إلى مدينة القامشلي مع أخيه “صبري” ووالدته وأخته الصغرى “قمر” بعد مقتل والدهم في غارة جوية على حي “إبراهيم هنانو” والتي دمرت أغلب البيوت وقتلت العشرات منهم. يقول جميل عن تجربته: “كان والدي يحلم أن أصبح محامياً في المستقبل لكن ظروف الحرب القاسية أخذت والدي ودمرت بيتنا وحتى أحلامنا.”
بين الحاجة والمخاطر
تعتبر ليلى سعيد، اسم مستعار لأم لأربعة أطفال وزوجة لرجل مقعد في كرسي متحرك، الأسباب الاقتصادية السيئة أهم المسببات لعمالة الأطفال سواءً أكانت هذه الأوضاع الاقتصادية ضمن الدولة أو في نطاق العائلة والتي تفرض على الكثير من العائلات دفع أطفالهم للعمل في سن صغيرة مقابل النقود القليلة التي يجنونها والتي تساعد في معيشة العائلة. ويعمل ابن ليلى القاصر في تصليح السيارات بيومية لا تتجاوز ١٥٠٠ ليرة سورية ما يعادل 3 دولارات تقريباً. تقول ليلى أن مشكلة عمالة الأطفال لا تقتصر فقط على حرمان الطفل من حقه في ممارسة الأمور التي يفعلها أقرانه في العمر؛ بل يزيد الأمر وطأة ليصل إلى تعنيف الطفل العامل.
بينما تعتقد أم سمير، أرملة وربة منزل، أن: “عمالة الأطفال ليست غريبة على مجتمعنا فرؤية طفل يعمل في ورشة تصليح سيارات، أو بائع متجول في الشوارع لم يعد يشعرنا ذلك بانكسار قلوبنا لرؤية هذا المنظر.” وتصف الأرملة الثلاثينية عمل الأطفال في تلك السن الصغيرة بأنه إيجابي ويساعد على بناء شخصيتهم مبكراً ويُمكنهم من تحمل المسؤولية.
نظام طاهر
انهيار الصحة الجسدية
الكثير من الاتفاقيات الدولية وقوانين حماية حقوق الطفل في العالم تُجرم الاستغلال الاقتصادي للأطفال، لما لهذه الظاهرة من آثار سلبية يصفها نظام طاهر اختصاصي طب الأطفال بالكارثية على صحتهم لأنهم أكثر عرضة لاختلال الوظائف الحيوية، ومعدل النمو، وتوازن الأجهزة المختلفة في الجسم. ويضيف طاهر: “يتأثّر الطفل صحياً من ناحية القوّة والتناسق العضوي، والسمع والبصر بسبب الكدمات والجروح وصعوبة التنفس والنزيف، ويتعرض الطفل المشتغل لكثير من المخاطر الصحية وأمراض المهنة وحوادث العمل كضعف الإبصار أو عاهات بالعمود الفقري والأطراف.”
ويحذر طاهر من عمل الأطفال في الكيماويات بالورش ومجالات التصنيع الذي يصاحب العمل به استخدام الأحماض والقلويات والمذيبات العضوية والمنظفات ومواد الصباغة والدباغة، وما ينتج عن هذه المواد من التهابات جلدية وحروق وأمراض عضوية أخرى، خاصة بالنسبة للدم والجهاز العصبي والجهاز الدوري كما أن بعض هذه المواد تسبب السرطانات. كما يتعرض الأطفال لأخطار أخرى تتمثل في الكيماويات ذات التأثير السام مثل الرصاص، ومركبات الكلور العضوي ومالها من أضرار شديدة على المعرضين لهذه المواد، كما تحدث هذه المواد خطورة شديدة على الجهاز العصبي و النفسي كما أن بعضها يؤدي إلى الإدمان.
الآثار النفسية للظاهرة
يتأثر الطفل نفسياً وعاطفياً بعمله في السن المبكرة، حيث أنه يكون أكثر عرضة للاكتئاب وحدوث الشيخوخة المبكرة، حسبما يؤكد أخصائي الأمراض النفسية والعصبية (ماجد فهيم) مشيراً إلى أن قلة التواصل العائلي والاجتماعي للطفل يؤثران سلباً على نفسيته فيجعلانه أكثر عنفاً وانطوائية وقد يتجه الكثير منهم لارتكاب الجرائم.
ويردف: “علينا أن نعي خطورة عمالة الأطفال، والابتعاد عن تشجيع استمرار هذه الظاهرة من خلال عدم استخدام الأطفال كعاملين أو خادمين بأي طريقة، كذلك يجب ردعهم عن العمل كبائعين جوالين، أو متسولين فهذا يؤدي إلى انتشار الجرائم والجهل والعنف في المجتمع، وهذا يؤدي بدوره إلى بناء مجتمع مريض.”
أشار محمد علي عثمان أخصائي الصحة النفسية والتنمية البشرية في مركز سمارت للصحة النفسية إلى أن الواقع الذي تعيشه البلاد وظروف الحرب التي أجبرت الأسر السورية ذوي الدخل المحدود على تشغيل أطفالها لتحسين وضعها المادي وتأمين مصادر دخل إضافية مضحيةً بصحتهم ونموهم وبراءتهم ومعرضةً إياهم لصنوف شتى من العنف لدرجة الاعتداء والتحرش الجنسي أحياناً.
ونوه عثمان الى أن قرابة ٦٣٠ ألف طفل يعملون ضمن شروط غير إنسانية، ليشكلوا ما نسبته 3% من إجمالي قوة العمل السورية وفق الدراسة التي أعدها المكتب المركزي للإحصاء بالتعاون مع جامعة دمشق ومعهد فافو النرويجي ومكتب اليونيسيف في دمشق، وأكدت الدراسة أنه يقدر عدد الأطفال العاملين في سورية من الفئة العمرية ١٠ -١٧ عاماً بحوالي ٦٢١ ألف طفل.
وليدة حسن
الحلول
انتشرت في السنوات الأخيرة ظاهرة عمالة الأطفال في مدن ومناطق إقليم الجزيرة. وترجح وليدة حسن الرئيسة المشتركة لمكتب حقوق الإنسان في الإدارة الذاتية الديمقراطية في شمال سورية (روجآفا) أسباب هذه الظاهرة للظروف الراهنة التي تمّر بها المنطقة. ووفقاً لحسن فأبرز هذه الأسباب الفقر الذي تعانيه أغلب الأسر، أو وفاة معيل العائلة الذي يدفع الطفل للعمل من أجل مساعدة أسرته مادياً. ولتدارك هذه الكارثة تشير حسن إلى خطة عمل وضعها مكتب حقوق الإنسان بالتنسيق مع هيئة المرأة قائلة: “نشرنا برشورات تضمنت بعض القوانين المتعلقة بمنع عمالة الأطفال والإنذار بعقوبة السجن تصل إلى ثلاث سنوات إلى جانب فرض غرامة مالية على ولي أمر الأطفال العاملين وكذلك أرباب عملهم تراوحت بين (400000/500000) ليرة سورية وتضاعف في حال تكرارها، وقد تصل العقوبة إلى السجن المؤبد حسب المادة (19) الخاص بقانون المرأة والطفل لكل من يتاجر بالأطفال، وتشمل الاستغلال الجنسي والمتاجرة بالأعضاء، ولتلافي هذه المشكلة يجب العمل على عودة الأطفال إلى مدارسهم.”
وبينت وليدة أن البرشورات وزعت على عوائل الأطفال وأرباب العمل في منطقة الصناعة في مدينة القامشلي وفي الأسواق والأماكن العامة وكل ذلك كان لإدراك مدى خطورة هذه الظاهرة ونتائجها السلبية على كافة شرائح المجتمع إضافة إلى تبني خطة تشغيل فرد من عائلة الطفل العامل في إحدى مؤسسات الإدارة أو تأمين العمل لفرد واحد مقابل إفساح المجال للطفل للعودة إلى مقاعد المدرسة لإتمام دراسته.
رغم وجود القوانين الدولية والحكومية إلا أن كل هذه الجهود المجتمعة عجزت أن تجد حلاً لهذه الكارثة الإنسانية التي خلفت وستخلف أجيالاً من الأطفال يقبعون في مستنقع الجهل والتخلف بما فيه من الأمراض الجسدية والنفسية والاجتماعية وبالتالي خسارة جيل كامل من أبناء الوطن وترك شرخ وفجوة عمرية وسكانية واقتصادية يصعب ردمها وردم نتائجها الخطيرة على مستقبل النمو الاقتصادي والسكاني في الوطن.
أثار إصدار الرئيس السوري بشار الأسد للقانون 10، المتعلق بإحداث منطقة تنظيمية أو أكثر ضمن المخطط التنظيمي العام للوحدات الإدارية، استهجاناً واسعاً، كونه تزامن مع سيطرة النظام على الغوطة الشرقية، بعد إخلائها من المعارضين. وقبله صدرت عدة مراسيم عقارية تفوقه خطورة، ويمكن اعتباره ناظماً لها، ومكملاً، كونه يشمل كامل الأراضي السورية.
القانون سيوفر إطاراً رسمياً لإحالة ملكية الأراضي إلى الحكومة السورية، التي تتمتع بسلطة منح العقود وإعادة الإعمار والتطوير لشركات أو مستثمرين، مجهولي الجنسية، وتعويض المواطنين على شكل حصص في المناطق التنظيمية.
قد يكون صدور مراسيم بإحداث مناطق تنظيمية أمراً طبيعياً في بلد لا يشهد حرباً ونزوحاً جماعياً، وصراعات بين احتلالات متعددة، لكن النظام السوري يستغل غياب أكثر من ثمانية ملايين من السوريين المهجّرين في الخارج، وأغلبهم في تركيا وألمانيا، وهم من سكان المناطق التي دمّرها النظام، وهي التي ستستهدفها المراسيم التي تحدَّث عنها القانون 10، ومنهم مطلوبون للنظام، ومنهم مغيبون في السجون، وبالتالي هم محرومون من تسيير المعاملات في مؤسسات الدولة؛ حيث أعطى القانون مدة لا تزيد عن الشهرين لتثبيت الملكية، وهي غير كافية للمقيمين في الخارج، حيث تتطلب إجراءات الوكالة وقتاً طويلاً لتصديقها من السفارات والقنصليات، وكلفة مالية أيضاً، وسط تعقيدات مقصودة تفرضها الأجهزة الأمنية على تصديق الوكالات الخارجية.
في تركيا لا يمكن عمل الوكالة دون امتلاك الموكِّل جواز سفر، وتكاليف الوكالة تبلغ 150 ليرة تركية/ 36 دولار لحجز موعد لدى القنصلية السورية، بالإضافة إلى رسومٍ تصل إلى 125 دولاراً. أما استخراج جواز السفر لدى القنصلية فيكلف 425 دولاراً ويحتاج 3 أشهر، وإذا كان مستعجَلاً فيصدر خلال شهر واحد بكلفة 925 دولاراً، هذا لمن تجاوز عمره ال42 سنة! أما إذا كان عمر صاحب العلاقة بين 18-42 سنة فيتطلب منه إحضار دفتر خدمة العلم، أو شهادة تأدية الخدمة في حال إنهائها. وفي حال كان صاحب العلاقة مطلوباً فيمكنه عمل الطلب، لكن لا ضمانات لقبولها لدى الحكومة السورية في دمشق. وإجراء معاملة تسوية الوضع تتطلب موعداً مع القنصلية بقيمة 150 ليرة تركية/ 36 دولاراً، وانتظار الموافقة تتراوح بين 3-6 أشهر(1).
يتوجب على مالك العقارات المقيم في تركيا دفع كل تلك المبالغ لمحاولة تثبيت ملكيته لعقاره، وقد يعود الرد بالرفض. لكن هذه المبالغ بالنظر للعدد الكبير للاجئين، ستشكل مبالغ مهمة ستعود إلى خزينة حكومة النظام، وبالتالي قد تشكل لوحدها هدفاً يسهم في إنقاذ الوضع المتآكل لاقتصاد النظام، والذي باتت العائدات الضريبية المتزايدة باستمرار تشكّل مورده الأساسي. إن أي عملية بيع أو توكيل أو إثبات ملكية أو تسجيل العقار في مديرية المالية يحتاج إلى براءة ذمة مالية للمالك، وهي تشمل كل ما عليه من فواتير أو مخالفات سير أو ضرائب لم يقم بتسديدها.
وفي ألمانيا لا يستطيع اللاجئ السوري دخول السفارة السورية، لأنه سيُعدُّ بنظر الحكومة الألمانية غير مطلوب للنظام، وبالتالي قد يتوجب عليه العودة (2). وحسب المجلس النرويجي للاجئين فإن 70 بالمئة من اللاجئين يفتقرون إلى وثائق التعريف الأساسية.
المشكلة في القانون 10 ليست في توقيته فقط، بل في تفاصيله أيضاً. يمكن وصف القانون بأنه فوقي، فالمخططات التنظيمية تُفرض من السلطات العليا، عبر اقتراح وزارة الإدارة المحلية والبيئة في الحكومة المعينة من قبل الرئيس، حسب المادة الأولى منه (3)، ولا دور للمجالس المحلية فيه أو مديريات الخدمات الفنية وقراراتها المتعلقة بأسس التخطيط العمراني. وهذا بعكس ما كان معمولاً به سابقاً؛ فقد كان المجلس المحلي المنتخب من الأهالي، باعتباره أعلى سلطة، هو من يقوم باقتراح تعديل مخطط تنظيمي للمنطقة، وغالباً بسبب الحاجة إلى توسيعها. وكان يُعرض المخطط على أهالي المنطقة للاطلاع عليه، ويتاح لهم تقديم اعتراضاتهم للجنة مؤلفة من 11 عضواً من عدة وزارات وإدارات لدراسة الطعون؛ والقانون لم يلحظ هذه اللجنة كليةً. وبالتالي هو ليس في مصلحة السكان، وسيتضرر منه المؤيدون أيضاً.
المادة 22/12 من القانون تحوّل المالكين الأصليين المستقلين في السجل العقاري إلى مالكين لحصص سهمية تنظيمية شائعة؛ و حسب المادة 29/17، عليه إما التخصص بمقاسم، أو أن يكون جزءاً من شركة مساهمة بصفة شريك على الشيوع، وفي حال الرفض تقوم الوحدة الإدارية، ببيع أسهمه في المزاد العلني، والمستفيد طبعاً سيكون شركات مختصة اعتبارية، مجهولة حتى الآن.
القانون تعامل مع الملكية على أساس الملكية الثابتة في السجل العقاري (4)، والواقع أن الكثير من الأملاك، تقع في مناطق المخالفات، حيث تراكَمَ تقاعس الحكومة لسنوات عن تنظيمها عقارياً، ولا تتعدى الوثائق الموجودة لدى المالكين عقوداً شخصية أو إيصالات اشتراك بالكهرباء والماء، أو وثيقة “وضع يد”، ما يصعّب عملية إثبات الملكية.
المادة 21/11 من القانون تتيح اقتطاع ملكيات خاصة من أجل المنفعة العامة دون تعويض مالي، وهذا مخالف للدستور السوري الذي ينصّ على تعويض مالي عادل في حال انتزاع ملكيات فردية للمصلحة العامة (5).
المرسوم 66 لعام 2012 كان يستهدف منطقتي بساتين الرازي وتنظيم كفرسوسة، ضمن ما سمّيَ “ماروتا ستي”، وتتحدث الحكومة عن مشروع مشابه في بابا عمرو بحمص، وفي حلب الشرقية. أما داريا، التي لم يُسمح بتاتاً بعودة السكان إليها، فالاقتراحات تقول بمشاريع أبراج، وبضمها إلى محافظة دمشق. في حين أن الترجيحات في مجلس محافظة دمشق تقترح أنّ عمليات تجهيز مدخل العاصمة ستبدأ بالقابون وحي تشرين (6).
هذا القانون وما سبقه من مراسيم يفتح الأبواب أمام اللصوص، ممن دعموا النظام، لاستملاك عقارات السوريين؛ فهو يتيح دخول شركات تطويرعقاري، وشركات مساهمة مغفلة، دون أي ذكر لطبيعة هذه الشركات المجهولة وجنسياتها، والتي ستملك حصصاً ونسباً ومقاسم عن التنظيم، وتؤسس كيانها داخل هذه المناطق التنفيذية، بحجة تنفيذ المرافق العامة والبنى التحتية.
وقد تشهد الأشهر القادمة صراعات بين الحليفين الروسي والإيراني حول حصص كلّ طرف، مع توقعات بتراجع نصيب الطرف الإيراني بعد القرار الأمريكي الإسرائيلي الأخير بإخراجها من سوريا. فالنظام هدفه الانتقام من معارضيه، وروسيا تريد ضرب التجانس الشعبي في المناطق التي ثارت، حتى لا تتمكن من تجديد الاعتراضات على ما ستفرضه من سياسات تفقيرية مستقبلاً، وإيران تتطلع إلى مخيم اليرموك المحاذي لمنطقة السيدة زينب، بعد السيطرة عليه، لتوسيع السياحة الدينية، وهي تريد زيادة نفوذها في سورية عبر البوابة الطائفية.
الحكومة الألمانية عبّرت عن استيائها من القانون، ووصفته “بالغدر”. فألمانيا أكثر القلقين من تلك الإجراءات التي ستقلل فرص عودة المهاجرين، خاصة أنها تدرس إعادة 200 ألف لاجئ سوري كخطوة أولى.
الأمم المتحدة، التي لم تتخذ أي خطوات لإيقاف المجازر ضد الشعب السوري، مازالت تعترف بالنظام الذي يشغل مقعداً لديها، ويصدر المراسيم والقوانين في مناطق وجوده، وبالتالي هي تعترف بشرعيته. رغم ذلك يرى بعض الحقوقيين المعارضين أنّ أي خطوات يقوم بها مواطنون سوريون، لإثبات ملكيتهم، ستعني الاعتراف بشرعية القانون، وأنّه من الأفضل التحرك والقيام بحملات قانونية ودولية وحقوقية وشعبية ضد هذه القوانين (7). فبموجب القانون الدولي، حق السكان في السكن الملائم خاضع للحماية، وهذا يجب أن يشمل ضمانات الحماية من الإخلاء القسري (8).
الموقف الرسمي للنظام يدافع عن القانون في وجه الحملات والانتقادات التي تشن ضده، وأن هدفه المساعدة في إعادة تنظيم المناطق المدمرة والمناطق العشوائية، وأن ذلك سيكون عبر الإدارة المحلية المنتخبة في تلك المناطق، حسب تصريح الرئيس السوري بشار الأسد في مقابلة مع جريدة “كاثيمرني” اليونانية. في حين أن إعلام النظام ينفي ما يقال عن مصادرة أملاك المعارضين. وهذه المصادرة تمت بالفعل عبر المرسوم التشريعي رقم 63 لعام 2012، والذي يمكن وزارة المالية من الاستيلاء على أصول وممتلكات الأشخاص الخاضعين لقانون مكافحة الإرهاب لعام 2012 ونقلها إلى الحكومة السورية. حيث يقدم قانون مكافحة الإرهاب تفسيراً فضفاضاً للإرهاب، ويجرم عدداً كبيراً من السوريين دون محاكمة عادلة.
والمفارقة أن أحمد الشرع، أبو محمد الجولاني، زعيم تنظيم القاعدة في سورية، ما زال يملك منزلاً في المزة بدمشق، وبقالة والده هناك أيضاً (9). ما يعني أن قانون مكافحة الإرهاب الذي شمل معارضين سلميين ونشطاء رأي، لا يشمله!
المراجع
حسب مقالة للكاتب قصي عبد الباري في موقع اقتصاد.
https://www.eqtsad.net/news/article/19667/
حسب تصريح لأحمد كاظم الهنداوي مسؤول الهجرة واللجوء في أوروبا لدى المنظمة العربية لحقوق الإنسان، لموقع اقتصاد في الرابط السابق.
نص المرسوم حسب ما نشر في وكالة سانا السورية للأنباء.
https://www.sana.sy/?p=733959
حسب تقرير لهيومان رايتس ووتش، فإن 50 بالمئة فقط من العقارات مسجلة رسمياً حتى قبل الحرب.
أعلن وزير الإدارة المحلية التابعة للحكومة السورية، حسين خلوف، عن إعداد دراسات لتنظيم بعض المناطق في المحافظات بموجب القانون الجديد، منها مدخل دمشق من مبنى البانوراما حتى ضاحية حرستا. وتدرس محافظة دمشق إدراج المنطقة الصناعية في القابون إضافة لكل من جوبر والتضامن والمزة 86 لإعادة تنظيمها ضمن القانون 10.
حسب تصريح الهنداوي لموقع اقتصاد المذكور أعلاه: “ضرورة عدم الانجرار وراء القانون الصادر من جانب النظام، ذلك سيعطيه شرعية. بقاء الأسد يعني عدم استرجاع أي من الحقوق المسلوبة”.
احتلت حملة التعفيش في مخيم اليرموك حيزاً كبيراً في وسائل التواصل الاجتماعي، وتم تناولها من جوانب متعددة أغلبها أدان العملية التعفيشية والقليل برّرها ومنهم من اعتبرها أقل الخسائر بعد خسائر الأرواح التي لا تعوض.
التعفيش وهي الكلمة البديلة عن غنائم الحرب التي استخدمها العرب سابقاً (ومشتقة من كلمة “عَفش” والتي تعني مفروشات البيت) والفرق بينهما ليس كبيراً، ولكن التعفيش وهو السرقة العلنية بقوة السلاح وتحت سمع وبصر وبمشاركة من هم مكلفون بحماية تلك الممتلكات وهنا تكمن المأساة. كانت إدانة المعارضين للمعفشين هي إدانة للسلطة التي يحملونها مسؤولية حماية هذه المنطقة أو تلك. وهي مدانة فعلاً وتتحمل مسؤولية كل عمليات النهب التي حدثت، ولكن لم تتم إدانة السلوك التعفيشي بشكل عام والذي تفشى بين الفئات المتحاربة منذ بداية الصراع، فلم تتم مثلاً إدانة الفصائل التي نهبت مدينة حلب ومحيطها وفككت معاملها وباعتها لتركيا وكأنّ هذه الفصائل لم تكن مسؤولة عن حماية ممتلكات الناس وإنما السلطة هي المسؤولة. وقد صمت آنذاك العديد من المعارضين أو أنكروا حدوث أية انتهاكات من أصله، وفي كل مرة يتم لوم السلطة فإنها تربح نقطة لصالحها بسبب سوء الخطاب المعارض لها.
النهب هو جزء من اقتصاد الحرب ومن أعراض الحرب القائمة، وبالمحصلة هدف الحروب هو استيلاء القوي على ممتلكات الضعيف ويمكن أن يتم الاستيلاء بطرق متعددة وحرب على مستويات متنوعة: إما عن طريق حرب مباشرة وغزو واستيلاء على مقدرات البلاد بالقوة العسكرية، أو بإبراز القوة والتلويح بها والتهديد بالتدخل إذا تعرضت مصالحها للخطر، أو باختلاق المشاكل وخلق الحروب بين الدول والتي تحتاج إلى سلاح لتكمل حروبها وبالتالي تجني الدول أرباحا هائلة من تجارة السلاح، وأخيراً الحرب غير المعلنة والتي تتمثل باستيلاء العسكر على السلطة التنفيذية في بلد ما وشن غزوات عبر شبكة مخابراتها على من يعترض استيلاء تلك الطبقة على ممتلكات البلد الذي تسيطر عليه. وهذه هي الأخطر لأنها تحاربك باسم القانون الذي يصاغ وفق مصلحتها وما يدر عليها من عائدات.
يمكن أن يكون قانون تأميم لصالح تلك الطبقة الحاكمة بخلاف ما تروج له أجهزتها الإعلامية التي تدعي أن ذلك لمصلحة الشعب. كل القوانين التي تصاغ في هذه البلدان هي لمصلحة الطبقة البيروقراطية الحاكمة وأذنابها.
يمكن أن تصل هذه القوانين إلى حدٍ من الضغط لتفجر الوضع الداخلي إلى مستوى حربٍ لتستعيد الطبقات الثائرة بعضاً من حقوقها المسلوبة سواء كانت حقوقا سياسية أو اقتصادية. ويمكن أن يكون من النخبة المنتفضة بعض من النماذج الحاكمة يريدون أن يصلوا الى امتيازات الحكام السابقين دون إعطاء بقية الثائرين حقوقهم أي مجرد استبدال لص بلصٍ جديد. هذه الحالات تنجح في الوصول إذا كان نجاح التمرد أو الثورة أو الانقلاب سريعاً أو استطاعت النخبة إخفاء مطامعها حتى الوصول الى الحكم كما حدث بمعظم الدول التي حصلت على استقلالها بعد الحرب العالمية الثانية.
حيث يرى البعض أنّ فترة الاستعمار كانت أقل سوءاً مما يحصل على يد أبناء البلد ولكن النهب بقي وربما تطور عبر أسماء براقة وأثمان أكبر رغم كل الدماء التي سالت منتظرة لحظة مغادرة المحتل. المحتل الذي رحل بعد إبقاء عملاء له يقدمون له خدماتهم كما لو كان موجوداً وتبقى جامعاته ومستشفياته هي الأماكن التي يرتادها الحكام الجدد ومنتجات سلاحه هي المشتراة لحماية السلطات الحاكمة وقد يحدث أن يتغير مصدر السلاح بتغير الحكام ولكن يبقى كل شيء كما تركه المحتل دون تغيير. وبالتالي نجد أنّ السوريين مازالوا يحلمون بدولة كما كانت دولتهم عشية الاستقلال.
التعفيش هو كل هذا الذي تفعله الحكومات في عالمنا الثالث والصورة في مخيم اليرموك هي الصورة الأوضح، وللأسف هذه هي ثقافة الاستبداد فالحاكم هو صاحب ومالك كل شيء من أرواحنا حتى ترابنا، لذلك عندما سيطر بعض السوريين على مناطق مختلفة من سوريا أعادوا إنتاج الآلية ذاتها ولكن للأسف لم تكن ردود الفعل بنفس الطريقة.
ما زلنا نحتاج إلى فهم للدولة خارج فهم إمكانية تعفيش السكان، حيث تدير مؤسسات الدولة حكومة مؤتمنة على مواردها ولديها أجر على أدائها لعملها وليست مالكة لتلك الموارد، وأن يكون لدينا حكومة مؤتمنة على إدارة موارد تلك البقعة الجغرافية لا تعفيشها وفق قوانين خاصة مع إتاحة ثغرات كبيرة بتلك القوانين لتعفيش الأموال والممتلكات عبر مؤسسات أمنية أوخارج الطرق المباشرة لمؤسسات الدولة عبر الرشوة للأمن الداخلي وشرطة المرور والمالية والجمارك.
التعفيش الحاصل بمخيم اليرموك هو نتاج ثقافة الخليفة والسلطان والأمير صاحب البلاد. حيث ليس لدينا شيء من ثقافة الدولة الحديثة وما تزال شرائح من شعب هذه المنطقة تهتف بحياة الزعيم حتى يصل لها شيء من مكتسبات التعفيش.
الثقافة التي نحملها عن السلطة والدولة والإدارة هي أصل التعفيش، فالتعفيش في عقولنا حيث نسامح السلطات التي تعفش إذا كنا نواليها ونستنكر نفس الفعل لغيرها، ويجب أن تكون مهمتنا في الحدّ الأدنى استنكار الفعل ذاته. ونحتاج إلى منظومة أخلاقية ثقافية جديدة وإعادة هيكلة شاملة لمؤسسات الدولة (بما فيها القطاع الأمني) كي تلائم أخلاق العصر المتمثلة بميثاق حقوق الإنسان والمواطنة المتساوية وحصيلة التجارب الإنسانية على المستوى العالمي.
عمّت المظاهرات مدن وبلدات سوريا، وبدا كأن أفقاً جديداً ينفتح أمام المجتمع بعد عقود طويلة من الاستبداد السياسي والقهر الاجتماعي. الدفقة الأولى التي ترافقت مع هتافات المتظاهرين أعادت الحياة لمعنى الحرية والكرامة في وجدان الناس ولقيم التضامن الجماعية وكانت الأشهر الأولى من عمر الثورة بمثابة زمن جديد يحاول القطع مع المستنقع الآسن الذي أَغرق المجتمع في الفساد، والذي عممته الدولة الأمنية في سياسة ممنهجة للإفساد ليشمل الجميع حسب قول الدكتور طيب تيزيني. الإفساد العام هذا، تعمّم في مجتمعات تحكمها العلاقات الاجتماعية الريفية العائلية والقبلية والمناطقية، وترافق ذلك مع قيم الفردية والفهلوية والشطارة. الانهيار العام للمجتمع السوري شمل كل المجالات وطال كل المستويات. شكّل هذا الوضع الأرضية التي أثرت في تكوين البنية والشكل التنظيمي للحراك للثوري في طوريه السلمي والعسكري. إن محاولة توصيف هذا التكون تفترض التركيز على العوامل الداخلية التي سمحت للعامل الخارجي فيما بعد أن يأخذ هذا الدور من حيث الحجم والتأثير قبل أن يصير صراعاً إقليمياً ودولياً.
نشوء المجموعة المسلحة
جوبهت المظاهرات بالعنف الشديد، حيث تصاعد القتل وحملات الاعتقال والإذلال وذلك لهزيمة الحراك الاجتماعي ودفعه لحمل السلاح، وليكون الميدان العسكري هو ساحة الصراع والتي تسمح بانتصارالنظام أو إطالة أمد بقائه، فبنية هذا النظام الأمني غير قادرة على خوض صراع سلمي مع الحراك المجتمعي بل هي غير مجهزة ولا تملك الأدوات باعتراف رأس النظام نفسه.
أوّل هدفٍ لحمل السلاح هو حماية المظاهرات السلمية من عنف أجهزة الأمن، وقد بدأ من مجموعات أهلية تحمل السلاح الفردي وأسلحة الصيد، وبدا وكأن النظام وجد ضالته. عمل مهربو السلاح تحت نظر النظام وفُتحت لهم طرق التهريب كاملة بينما حوصرت بلدات وقرى ومنع عنها حتى الخبز وحليب الأطفال! رغم استشعار الناس بخطر السلاح، ورغم رغبة الناس في المحافظة على سلمية الحراك والوعي المبكر لأهمية السلمية التي رُفعت كشعارات وهتافات في مظاهراتهم، فإن حمل السلاح لم يكن خياراً بل طريقاً لا مفر منه لمواجهة العنف المنفلت للنظام.
تشكلت المجموعة المسلحة من الشباب المهمش في نطاق أهلي مناطقي حيث التراتبية في المكانة الاجتماعية حسب مستوى التعليم والعمل. الفئة الأكثر تعليماً كانت منخرطة في العمل الإعلامي والسياسي والتنظيمي في التنسيقيات، والفئة الأقل تعليماً شكلت المجموعة المسلحة وضمت ما يُعرف بـ”القبضايات” أو بـ”الزعران” والشباب المتدين البسيط.
لم يكن هناك إطار فكري أيديولوجي سياسي تنظيمي للجماعة المسلحة في بداية تشكلها بل كان الحامل الوحيد هو الرابط الأهلي المناطقي ومهمتها حماية المظاهرات. ومع ازدياد حجم العنف والدم وبفعل وجود السلاح تعدت مهمة الحماية وعمليات الانتقام من أجهزة الأمن وأدواتها من مخبرين وتابعين إلى /تحرير/مناطق والسيطرة عليها (لا يعدم النظام حجة للعنف الذي مارسه لكن مجرد وجود السلاح سمح للنظام باستخدام أدوات أشد، لم يكن من المتخيل أن تقصف مظاهرة لتشييع شهداء المظاهرات بالطيران الحربي –حدث في السيدة زينب17 /8/ 2012).
تزامن ظهور الجماعة المسلحة مع ازدياد ظاهرة انشقاق الضباط والجنود عن جيش النظام وظهر اسم جامع لكل من يقوم بعمل مسلح ضد النظام هو الجيش الحر. الجيش الحر هو مجموعات منفصلة لا رابط يجمعها سوى الإسم والهدف، وتعتمد المجموعة على بيئتها المحلية للحصول على التمويل من خلال التبرعات وأحياناً على شكل أتاواتٍ فرضت على الميسورين، وحدث كثيراً أن نهبت أملاك عامة وخاصة بحجة تابعيتها للنظام، وضرورة توفير الدعم متجاوزة الصورة الأولى لتشكيل الجماعة المسلحة حيث أفرادها الأوائل قدموا ممتلكاتهم الشخصية لشراء السلاح!
التحق المنشقون عن جيش النظام بالمجموعة المسلحة، وكانت ظاهرة الانشقاق ذات أثر كبير في جوانب عدة فضلاً عن إضعاف جيش النظام وكشف زيف روايته للأحداث. كانت لتمد العمل المسلح بالمحترفين وترفعه لسوية عمل منظم لكن الواقع كان غير ذاك، حيث رفضت المجموعة المسلحة العمل تحت قيادة الضابط المنشق والتخلي عن قائدها الثوري، فظهر شكل مزدوج للقيادة عسكري وثوري، و صراع مستمر على آلية العمل والتنظيم. لم يقبل أفراد المجموعة أن يتحولوا إلى عسكريين تحت إمرة الضابط المنشق في نظام شبه عسكري، يعيد إلى ذاكرتهم مساوىء وذل الخدمة العسكرية في جيش النظام، ولم يقبل القائد الثوري الذي يملك الأسبقية في العمل الثوري من الوافد الجديد المنشق أن ينتزع منه القيادة، وفي بعض الأحيان اتُهم المنشقون بعد الحفاوة التي استقبلوا بها أنهم مدسوسون من قبل النظام لاختراق الثورة.
وعكس ذلك لم يقبل الضابط المنشق العمل المسلح تحت إمرة مدني غير محترف، وبدون نظام وتراتبيه واضحة بين أفراد المجموعة، وبالتالي تحولت المجموعة المسلحة إلى مكانٍ نابذ للمنشق، فهو لا يستطيع البقاء فيه والتعايش معه. ضباط الرتب الدنيا والأصغر عمراً، كانوا أكثر قدرة على التأقلم مع المجموعة، ورغم بروز أسماء لكثير من الضباط المنشقين الذين خاضوا مواجهات بطولية إلا أن دور الجماعة المسلحة تحول من دمج الضباط بصفوفها إلى تأمين عملية الانشقاق وإيصال المنشق إلى مخيمات اللجوء في دول الجوار.
خصصت كل من تركيا والأردن مخيمات خاصة للضباط المنشقين، وهي أشبه بمراكز للاحتجاز، وبحراسة مشددة وشبه قطيعة عن الداخل السوري، وقد ضمت هذه المخيمات آلاف الضباط المنشقين؛ ففي مخيم الراجحي في الأردن وحده كان هناك 2163 ضابطا من رتبة رائد فأعلى، ولا توجد إحصائيات موثوقة للأعداد الحقيقية للضباط المنشقين. كانت هذه سياسة الدول الاقليمية التي تدعي دعم الثورة، وذلك لعدة أسباب، ومنها، وهو رئيسي، ويتحدد بقطع الطريق أمام إنشاء جيش وطني محترف ثوري ويقود العمل المسلح ويصعب استثماره في ظل صراعات النفوذ بين الدول الإقليمية. يمكننا الاستنتاج هنا أن قرار تدمير الثورة السورية، كان هدفاً متفقاً عليه، وهذا حديث آخر.
أسلمة المجموعة المسلحة
قامت المجموعة المسلحة بإمكانات أفرادها والدعم المحلي المتوفر إلى أن فُتح باب التمويل الخارجي الخليجي أساساً وذلك عبر أفراد ومؤسسات إسلامية، وشكل المغتربون السوريون صلة الوصل بينها قبل أن تتحول لسياسة دعم منظم من هذه الدول، وسرعان ما طالت اللحى في المجموعة المسلحة وأتخذت أسماء لها تُعبرعن توجه إسلامي، وتحول القائد الثوري في المجموعة إلى أمير طلباً للدعم. يشمل ذلك المجموعات التي يقودها الضباط المنشقون، ورغم ضآلة عددها لم تسلم من هذا التوجه. إضافة لكل ذلك ظهرت جماعات إسلامية بقيادة إسلاميين إيدلوجيين أطلقهم النظام من سجونه وظهر تنظيم تابع للقاعدة باسم جبهة النصرة؛ كل ذلك شكّل عوامل ضاغطة لتتجه الجماعة المسلحة المتنوعة والكثيرة نحو الأسلمة، والانتقال من الشكل الشعبي “الإسلامي” إلى شكل أكثر راديكالية وتشدداً، فأصبح لكل مجموعة هيئتها الشرعية ونطاق جغرافي تطبق فيه شريعتها، وتتنازع فيما بينها على حدود تلك السيطرة.
إن زمن الانحدار الاجتماعي هو زمن تشكّل المجموعة المسلحة؛ فغربة المجتمع عن العمل السياسي وغياب الإيديولوجيات كإطار فكري عام، وغلبة الشعاراتية في عقود الاستبداد هو الذي دفع المجموعة المسلحة إلى أن تستجيب لمتطلبات الداعم الخارجي الإسلامي التوجه من جهة ومن جهة أخرى أن تقلد وتستعير أدوات المجموعة الإسلامية في التنظيم والعمل، ولا يغفل هنا الدور الكبير للإعلام في تعزيز هذا التوجه.
العلاقة بين المسلح والمدني
سيطرت الجماعات المسلحة على مساحات شاسعة من البلاد، وأضعفت النظام رغم غياب أي تنظيم يجمعها ورغم صبغتها المناطقية كانت امتداداً لبعد وطني برز في المظاهرات السلمية حيث المدن والبلدات تناصر بعضها. ربما كانت معركة مدينة القصير أواخر 2012، آخر مواجهة تحمل بعداً وطنياً شاملاً، حيث وصلت فصائل من حلب ومن دير الزور قاطعة مئات الكيلو مترات للتضامن مع المدينة التي يتحضر النظام وميلشيات حزب الله للهجوم عليها. تغير الأمر لاحقاً، وذلك بعد التحاق المجموعة المسلحة مرغمةً بمجموعاتٍ أخرى نتيجة تركيز الدعم عند مجموعات معينة أو بتهديد السلاح والسيطرة المسلحة المباشرة والإفناء، ولتظهر مكانها الألوية والفيالق والجيوش الإسلامية التابعة بشكل تام للداعم الإقليمي.
كانت خارطة سيطرة هذه الفصائل هي خارطة تقاسم النفوذ بين الدول الإقليمية، ولا يجمعها إلا التداخل والتشابك بين مصالح تلك الدول، وليغدو مكان هذه السيطرة منطقة عمليات مستقلة فعلياً وغير مرتبطة أو معنية بالمناطق الأخرى إلا إعلامياً، كذلك سيصبح مكان سيطرة هذه الفصائل أشبه بإمارة إسلامية تختلف درجة تشددها الديني بين فصيل وآخر، وتدخل في حالة عداءٍ مع مجتمعها المحلي بعد تشكيلها سلطة مستبدة تسيطر على الحياة العامة ومشغولة بمراقبة سلوكيات الناس ونمط عيشهم. لم يشفع للناس أنهم تحت وطأة قصف النظام وحصاره، وزاد الأمر سوءاً عمليات الاغتيال والخطف والاعتقال لكل مخالف للفصيل المسيطر، وأبعد عدد كبير من الناشطين الهاربين من النظام، ليتحولوا إلى لاجئين ولا ملاذ لهم في مناطق سيطرة الفصائل، ومن حاول منهم البقاء كان مصيره الاغتيال او الخطف، (لعل قضية اختطاف أعضاء مركز توثيق الانتهاكات في دوما هي الأشهر). هؤلاء الناشطون الذين لعبوا دوراً كبيراً في تأمين الدعم الطبي والإغاثي، وفي مجالات الإعلام والتوثيق الحقوقي الإنساني والمساعدة في بناء الهيئات المدنية (تجربة المجالس المحلية مثلاً).
بقيت علاقتهم مع المجموعة المسلحة تفاعلية، إذ يقدمون للمجموعة المساعدات والخدمات، وتستجيب المجموعة لاقتراحاتهم وآرائهم حول دور العمل المسلح في الثورة وفي الحفاظ على صورة مشرفة للعمل المسلح بعيداً عن ممارسات بعض هذه المجموعات مثل قيامها بعمليات الخطف على أساس طائفي.
لقد ساهمت المجموعة المسلحة “الشعبية” بانشقاق ضباط وجنود من كل الطوائف الدينية، إذ كانت المجموعة المسلحة رغم الإسم والشكل الديني الذي يوحي بأنها راديكالية متطرفة تتبنى فعلياً مفهوم مجتمعها الشعبي عن الدين، وبقيت جزءاً من مجتمعها الأهلي المحلي، ولم تشكل سلطة منفصلة فيه فكانت مرحلتها هي مرحلة تفاعل وجهود مجتمع الثورة بكامله.
تجارب فاشلة
أمام هذه التحولات حاول بعض الوطنيين الديمقراطيين إنشاء مجموعات مسلحة للحفاظ على هوية الثورة باسم كتائب الوحدة الوطنية، وظلت محدودة التأثير حتى تلاشت بسبب قلة الدعم، ولم تنفع بطولات أفردها أو أسماء كتائبها الوطنية /يوسف العظمة، ابراهيم هنانو/ من تغيير مصيرها المحتوم.
وتبقى تجربة إنشاء هيئة أركان للجيش الحر شكلاً آخر للسيطرة والتبعية الإقليمية والدولية إذا انضمت إليه فصائل ومجموعات متنازعة فيما بينها ولا يجمعها إلا الحصول على التمويل، وبدأت كذلك الخلافات بين الضباط على القيادة وكل منها محسوب على طرف إقليمي إلى أن أصبحت غرفتي الدعم في تركيا والأردن- الموم والموك – هي مقرات القيادة الفعلية لتلك الفصائل ولهذا حديث آخر. وبذلك انتهت الجماعة المسلحة الثورية الأهلية المناطقية، لينتهي معها العمل المسلح ذو الصبغة الوطنية (لعل من المفارقة أن يكون المناطقي دلالة للوطني) وليصير الصراع بعدها إقليمياً دولياً بأدواتٍ محلية.
لا يفارق أبو شجاع دنايي محرر المختطفات الإيزيديات هواتفه المحمولة، وهو يتحرك بسرية وبسرعة تامة بعيداً عن أنظار تنظيم داعش. ينسق بين مجازفي شبكة التحرير التي أسسها، في مدن سورية احتلها التنظيم، الذي سيطر مسلحوه على سنجار في العراق صيف 2014، وسبى أكثر من 7000طفل وامرأة نقلهم في شاحنات من الموصل إلى سورية.
تنهال عليه في كل لحظة عشرات الرسائل والمكالمات الهاتفية، من أهالي الأسرى لدى التنظيم، بعد نجاح الشبكة في تحرير أكثر من 500 طفل وامرأة، ومنهم رغدة التي بيعت أكثر من 16 مرة في الرقة، ودير الزور، والميادين.
عمليات تحرير الرهائن مغامرة وتحدي للموت ومجازفة خطرة، لكنها تمكنت من تحرير عشرات المختطفين، ممن كانوا ضحايا حرب لا ناقة لهم فيها ولا جمل.